الإسلام في المتخيل المسيحي في العصر الوسيط؛ محاولةٌ لفهم تشكُّل صورة نمطية.

تكوين

كُلَّما حاولنا فهم الغَرْبَ واستيعاب مكتسبات فكره إلاَّ ووَجْدنا أنفُسنا أمام صورة نمطية ما يزالُ وعيُه يستهلِكُها عن الإسلام. الشواهد على ذلك كثيرةٌ ليس أقلّها أهميةً، ولا أظهرها، الخطابات العدائية ضدّ الإسلام، التي ترشحُ على سطح المشهد السياسي والإعلامي في الغرب، ولا تن تستثمر كلَّ ما من شأنه أنْ يكرّس مشاعر النفور والخوف في مختلف مجالات ذلك الوعي. يسهل البحث لهذا المنزع العدواني عن أسباب في الراهن تفسّره كما يطيبُ لبعض الخبراء القول، غير أنّ تدقيق النظر في جينيالوجيا الوعي الغربي بالإسلام سرعان ما يكشف عن تأصُّل هذا الموقف السلبي في “صورة نمطية” تضرب بجذورها في مراحل حاسمة من تاريخ تشكل الفكر الغربي نفسه. يتعلق الأمر بصورةٍ عكست مسار العلاقة المتوترة التي جمعت الإسلام والغرب، واستطاعت أن تجثم بطيفها على مختلف مراحل الوعي الغربي بالإسلام؛ في حضنها نضجت أحكامٌ نمطية عن النبي والدعوة الإسلامية والحياة اليومية للمسلمين؛ ومن رحمها خرجت مواقف عدمية من الإسلام ظلَّت، وما تزال، في جملة البديهيات والمسلمات التي يرتكز عليها الفكر الغربي في تمثله لهذا الآخر الملي والحضاري؛ الإسلام. لا غرابة، والحال هذه، أن يكون تفكيك هذه الصورة أهمَّ سبيل ينبغي أن نسلكه لخلخلة التصورات النمطية عن الإسلام في الثقافة الغربية؛ وإذا كانت هذه الخطوة حاضرة في أبرز المشاريع الفكرية التي نهضت بمهمة نقد الثقافة الغربية ورؤيتها الضيقة إلى الإسلام، كما تشهد بذلك أعمال مفكر مثل هشام جعيط[1]، وإدوارد سعيد[2]، وعبد الله العروي[3]، وعبد الإله بلقزيز[4]، فإنَّ تفكِيك تلك الصورة ما يزال يمثل خطوة ضرورية في طريق إرساء فهمٍ معقول لأشكال سوء التفاهم التي ما تزال ترخي بشبحها على العلاقة الرابط بين العالمين الإسلامي والغربي.

تسعفنا كتابات المؤرخين بتبيُّن مقدار التوتر، وسوء التفاهم، الذي طغى على علاقة الغرب بالإسلام منذ أولى لحظات الصدام بين هذا الأخير والمسيحية في أعقاب الفتوحات الإسلامية[5]، ولا يسع الباحثَ إلاّ أن يقرّ بأنَّ المسار التاريخي لتلك العلاقة يبقى التربة التي نضجتْ فيها الصور النمطية التي كوَّنها كلُّ طرفٍ عن الآخر، والتي استُثْمر في إنشائها مفعولُ المقدس والرأسمال الرمزي للأماكن الدينية، وما تردد كل طرف في توظيف مختلف آليات الدعاية لشيطنة الآخر وتسويغ موقفه العدائي منه. كلّ ذلكَ ما كان له إلاَّ أن ويُوَلِّدَ مشاعِر الحنق والنفور من الآخر، التي لم تترك هامشاً كبيراً لبلورة تمثل هادئ و”مُتعقِّل” له. يقول جورافسكي في هذا المعرض؛ “إنَّ فتْح المسلمين إسبانيا وصقلية، والحملات الصليبية إلى فلسطين، واستيلاء الصليبيين على القُدس، وثأر صلاح الدين الأيوبي وانتصاره عليهم، وطرد العرب-المسلمين من إسبانيا، وسقوط القسطنطينية، وهجوم الأتراك العثمانيين على مناطق البلقان، وتمرد الشعوب الإغريقية والسلافية، كل هذه المصادمات والمجابهات العنيفة أُلبست رداء الدين، والحرب من أجل تعزيز راية الإيمان ضد ‘الكفرة’ (الجانب [الطرف] الآخر). ولهذا فإنَّ مقولات مثل ‘الحروب المقدسة’، أو ‘الجهاد’ ترسخت في وعي ومدارك، وفي لا وعي أتباع الديانتين كأوامر إلهية لا رادّ لها، بل أصبحت فريضة على المؤمنين من كلتا العقيدتين أن يلتزموا بأدائها، والاستشهاد في سبيلها، وُصولاً إلى إلْغاء الطرَف ‘الكافر’ أو ‘إخضاعه’، وإلزامه بشروط مُذلة في كَثيرٍ من الحالات والمواقف”[6]. يعني هذا القول، في جملة ما يعنيه، أنّ الصورة النمطية عن الإسلام كانت تجريداً لمسار علاقة تاريخية هيمن عليها الصراع ورغبة كل طرف في محو الآخر، أو إخضاعه في حال ما تعذر ذلك. ليْس يعْنينا، في هذه الدراسة، الخوض في تفاصيل أحداث تاريخية أمدنا المؤرخون، المتقدمون كما المحدثون، بكتابات بارزة عنها، وإنما نرمي منها إلى رصد أبرز مسارات تشكل الصورة النمطية عن الإسلام في الوعي الغربي، لاسيما إبّان العصور الوسطى، التي تبقى اللحظة التأسيسية لتلك الصورة. يسجل الباحثون أنَّ التمثُّل المسيحي للإسلام في العصر الوسيط شكّل أظهر تجليات التفجر الكبير لعناصر المتخيل في ما يخصُّ إدراكَ الآخر[7]. ولئن كانت الإرهاصات الأولى لذلك التمثل الثاوية في الجدالات اللاهوتية الأولى التي خاضتها المسيحية في المشرق ضد الإسلام[8]، فإنّ وصول المسلمين إلى المناطق الأوروبية، ونجاحهم في السيطرة على جزء مهمٍّ منها، جعلهم يتخذون- من منظور المسيحية الغربية- صورة الخطر الداهم الذي يتهدد كيانها. لذلك يبقى هذا الشعور بالقلق والخوف من الإسلام المقدمة الرئيسة التي يمكن أن نقرأ على ضوئها التمثلات المسيحية عن الإسلام في العصر الوسيط الأوروبي. وقد أتت الصليبية تعبِّر عن هذا القلق الذي ولدته الاندفاعة الإسلامية في ثنايا الوعي المسيحي في ذلك الإبان، وما الصورة الحالكة التي رسمتها عن الإسلام والمسلمين إلاّ تعبير عن ذلك.

لا يبدو أنَّ انقضاء العصور الوسطى المسيحية، وانشغال أوروبا عن المسألة الإسلامية كان إيذانا بتبدد الصورة النمطية عن الإسلام، طالما أننا لا نعدم حضورا لها في مراحل لاحقة من تطور الفكر الغربي؛ في عصر الإصلاح الديني مع لوثر[9]، كما في الثقافة المُمَهدة لظهور الخطاب الاستشراقي الذي تقدم إلى مشهد الفكر الغربي في صورة الدراسة الأكاديمية الرصينة عن الإسلام، رغم أنه لم يستطع القطع، كلية، مع الصورة النمطية[10]. كيف تشكلت تلك الصورة؟ وكيف نفهم قوة حضورها في الثقافة الغربية؟ وبأي معنى تكون مساءلتها مدخلاً إلى خلخلة الأحكام النمطية عن الإسلام اليوم؟

أولاً؛ الإسلام والنصارى؛ في التأسيس للصورة النمطية عن الإسلام.

يُسَمِّي القُرآن المسيحيين بالنصارى؛ فهم أهل كتاب ينتسب الإسلام إلى خط عقيدتهم التوحيدية، ويتقدم إلى مشهد الخريطة الدينية في شبة جزيرة العرب في صورة دعوة تصحيحية لما طال التوحيد من تحريف؛ لذلك لا يتحرج القرآن من الانتهال من الموروث القصصي والتشريعي للعهدين القديم والجديد، ولا تن كتب السيرة ترصد طبيعة العلاقة التي جمعت النَبيَّ برموز النصرانية[11]. وإذا كان الخطاب القرآني عن النصرانية قد اتخذ شكل سجال وجدل معهم حول أسس عقيدتها، فإنّ كتب التاريخ الإسلامي تُطْلعنا على أولى مشاهد المواجهة بين الإسلام والمسيحية في أعقاب وصول الفاتحين العرب إلى القدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. تكشف تلك المصادر عن الاضطهاد الذي مورس على مسيحيي المشرق من طرف المسيحية البيزنطية[12]، ولعلَّ خُضوعهم لنظام ضرائبي قاسٍ يبقى أبرز علامات الحيف الذي مارسته عليهم السلطة الرومانية يبقى هذا الوضع السياسي والاجتماعي مقدمة ضرورية لفهم تلقي المسيحية المشرقية لحركة الفتح الإسلامي؛ فقد رأى المسيحيون المشرقيُّون في الإسلام المنتصر إيذاناً بانعتاقهم من أرباق هذا الاضطهاد[13]. بيد أنَّ هذا التحمس للفتح الإسلامي لا ينبغي أن يحجب عنا ما هجست به نفوس المسيحيين الذين رأوا في انتصار الإسلام علامة فارقة على العقوبة الإلهية التي لحقت بالمسيحية جراء إمعان بيزنطة في اضطهاد الفرق المسيحية المخالفة لعقيدته الرسمية (الهرطقات)، وهذا اقتناع أخذ يرسخ في الأذهان عند المسلمين كما المسيحيين، حيث ينقل لنا الواقدي، في تأريخه لأحداث فتح القدس في زمن عمر بن الخطاب، قول باطريك بعلبك لأبي عبيدة بن الجراح؛ “لقد تيقنت أنّ المسيح قد غضب على أهل هذه المدينة إذ بعث بكم إليها وملَّككم عليها”[14].

هكذا تداخلت في مخيال المسيحيين في المشرق صورة الإسلام المخلص من قبضة التسلط البيزنطي، مع صورة الإسلام المخالف في العقيدة؛ ليتخذ صورة ذلكَ الآخر المِليّ الذي يمكن التعاون معه والانفتاح عليه- لاسيما وأنه لا يجدُ أيَّ حرج في التعايش مع المسيحيين وتبويئهم مكانة مهمة وحساسة داخل مراتب دولته- لكنه هو عينه الإسلام الذي سيُضحي، من منظور المسيحية نفسها، هرطقةً من بين الهرطقات التي ينبغي التصدي لها والردّ عليها[15]. كثيرة هي الأسباب التي يمكن أن تفسر تمسك المسيحيين بتصنيف الإسلام ضمن خانة الهرطقات؛ فالذين احتكروا القول في الإسلام، في الثقافة المسيحية، هم رجال الدين؛ فكان من الطبيعي أن يحضر القاموس اللاهوتي في توصيف الإسلام، وأنْ يتم الصدور عن ذلك القاموس وعن رؤيته إلى العالم والآخر في بناء صورة عن الإسلام. هذا ما يتضح من مفهوم الهرطقة نفسه؛ فهذا المفهوم غالبا ما كان يطلق على كل تأويل مخالف للعقيدة المسيحية المخالفة؛ وما ترددت الفرق المسيحية نفسها في رمي بعضها بهذه التهمة، ممَّا يعني أنَّ المسيحية المشرقية نظرت إلى الإسلام باعتباره شكلا من أشكال الزيغ عن عقيدتها التوحيدية الأصلية. وعندما يصنف يوحنا الديمشقي الإسلام ضمن هرطقاته المائة، فإنَّ ذلكَ كان يعني، من منظوره، أن الدعوة المحمدية ليست أكثر من تأويل شاذ للمسيحية لا يختلف، من حيث حدته وخطورته، عمّا سبقه من هرطقات نبعت من اختلاف فهم المسيحية وتأويل نصوصها.

تمُدُّنا المناظرات التي دارت بين المسلمين والمسيحيين بفكرة واضحة عن الصورة التي ارتسمت في المخيال المسيحي عن الإسلام. فإلى أنّ تلك المناظرات اتخذت طابع نقدٍ جذري للمعتقد الإسلامي كما لسيرة النبي وحياة المسلمين، فإنها أتتْ تعبر عن المكانة التي شغلها العنصر المسيحي في كنف الدولة الإسلامية، لاسيما في العهديْن الأُمَوي والعباسي، وهي عينُها المكانة التي أسعفتهم بإمكانية مجادلة المسلمين والاعتراض على عقيدتهم بمختلف الطرق والوسائل المتاحة لهم في ذلك الإبَّان. ارتسمت، في أعقاب هذه المناظرات والردود، معالمُ صورةٍ سلبية عن الإسلام كان قوامُها الطعن على مشروعيته والقدح في عقيدته واستجهان مظاهر الحياة اليومية للمسلمين؛ والإمعان في شيطنة النبي والتشديد على نبوته المزعومة. على أنَّ خطورة هذه الصورة ليست تكمن، فقط، في فشوُّها في مختلف قطاعات الثقافة المسيحية؛ وإنما في صيرورتها، فيما بعدُ، نبعاً لا ينضب للأحكام السلبية عن الإسلام لم يتوقف الوعي الغربي- المسيحي الروماني كما اللاتيني- في الانتهال منه والاتكاء عليه لصياغة تمثله للإسلام والمسلمين. وسرعان ما ستتخذ الصورة تلكَ طابعاً نمطياً عندما ستصير جزءاً من الأحكام الثقافية اللاواعية المنتظمة للوعي الغربي الحديث والمعاصر كما هو بين من قوة حضورها في الخطاب الاستشراقي.

  • جرت عادة الباحثين في تاريخ التمثل الغربي للإسلام على البدء بدراسة إسهام يوحنا الدمشقي في التأْسِيس لهذا الخِطاب والتقعيد له. ينتمي هذا المفكرُ إلى مرحلة الآباء المؤسسين، وقد كان من أظهر المدافعين عن العقيدة المسيحية ضد خصومها، وضد الهرطقات التي اعتبرها أكبر خطر يتهدد المسيحية. ويبدو أن إقامته بين ظهراني المسلمين، واطلاعه على أدق تفاصيل حياتهم اليومية، مكنه من تكوين صورة عن الإسلام جمعت في تضاعيفها بين العقيدة والشريعة والحياة المعيشة للمسلمين، بيد أن ذلك كله لم يحمله على مراجعة حكمه السلبي عن الإسلام، بقدر ما دفعه إلى رسم صورة نمطية حالكة عنه كان لها أثرها ومفعولها على مستقبل التمثل الغربي للإسلام[16]. لذلك تبقى شهادته على قدر كبير من الأهمية بالنسبة إلى الباحثين اليوم؛ فهي تكشف عن قوة حضور الصورة النمطية عن الإسلام في ذهن رجل عرف الإسلام وثقافته وخبر العيش داخل مجتمع المسلمين وفي كنف دولتهم، بما يعنيه ذلك من اعتراف بقوة تلك الصورة وقدرتها على السطو حتى على مخيلة شخص على درجة عالية من المعرفة بالإسلام وحياة المسلمين.

لا يتردد يوحنا الدمشقي في ضمّ الإسلام إلى خانة الهرطقات[17]. وهو يتعمد، رغم درايته بتفاصيل حياة المسملنين ودينهم، إحياءَ تسميات قديمة عند حديثه عنهم؛ فهُم عنده هاجريون، وسارسانيون وإسماعيليون؛ كانوا يعبدون كوكب الصبح والزهرة، وخرج منهم نبيٌّ مُزيف يدعي تلقيه الوحي بعد أن اطلع، صدفةً، على العهد القديم والعهد الجديد[18]. لذلك كان النبي محمد عنده مجرد شخصٍ مدَّعٍ لنبوة زائفة[19]. يبقى الدمشقي، بخطوته هذه، أوَّل من أرسى دعائم تقليدٍ في نقد الإسلام يعتمد الطعن في القيمة الأخلاقية لأحكامه، خاصة منها تلك المتعلقة بالنساء والزواج، مُشدداً على الطابع الشهواني لتصور الإسلام للمرأة، الذي تقابله عِفَّة المسيحية وتمسُّكها بأخلاق الزُهد. ومتى تذكرنا أنَّ القرآن لم يكن، في عُرف الدمشقي، غير كتاب من وضع النبي محمد، أدركنا أن تعاليم الزواج وأحكام النساء الواردة فيه، والتي وجد فيها خير علامة على شهوانية الإسلام، إنما كانت ترجمةً لميول النبي وشخصيته. بل وسرعان ما يعمم الدمشقيّ حكمه هذا ليشمل المسلمين برمتهم. لا يتعلق الأمر، هنا، برد فعل حانق على الإسلام يمكن أن يحصر في نطاق موقف شخصي، وإنما بالتأسيس لرؤية نمطية ستجثم بطيفها على مستقبل التمثل المسيحي – ومن بعده الغربي- للإسلام.

على هذا النحْو من النظر ستمعنُ المسيحية المشرقية في تَظهير الطابع الشهواني للإسلام، وسيصير هذا الأمر موضوعها الأثير في سجالها مع المسلمين. ففي ردَّه على رسالة عبد الله الهاشمي- الذي يرتفع فيه منسوب التشنيع والقدح والذَّم في الإسلام والمسلمين قياساً بالهرطقة المئة- يشدد عبد المسيح الكندي[20] على شهوانية الإسلام من خلال مراجعته لأحكام الطلاق وتعدد الزوجات، ولا يتردد في الاستشهاد بحادثة زواج النبي من زينب بنت جحش (زوجة زيد بن الحارثة، ابنه بالتبني سابقاً) لإثبات تأصل المنزع الشهواني في شخصية النبي والمسلمين. وسيرا على هدي الدمشقي، يطعن الكندي في نُبوة النبي محمد، ويعتبرها ادعاءً يفتقرُ إلى دليل يثبته، خلافاً لمن سبقه من أنبياء بني إسرائيل[21]؛ وليس محمد عنده غير رجلٍ “نازعته نفسه إلى أن يدعي المُلك والترؤس على عشيرته وأهل بلده”[22]. من آيات هذا الادعاء- حسب الكندي- افتقار الدين المحمدي إلى شريعة تخصه خلافاً لشريعة موسى، ولا يكفي الاستشهاد بالجهاد للخروج من هذا المأزق في نظره؛ فما هو [=الجهاد] غير فعل “القتْل والسفك والسلب والسبي والسّرق”[23]، ولا مبرر لاعتباره جهاداً في سبيل الله كما يرى المسلمون، لأنه، في نظره، جهاد في سبيل السلطان ليس إلاَّ. يثوي، خلف هذا الموقف السلبي من الجهاد، حكمٌ مسبق يزعمُ تماهي الدعوة الإسلامية مع العنف الذي كان، في نظر خصومها، مفتاح نجاحها[24]، لكنه يظل الدليل الأوقع على زيف الدين الإسلامي في نظرهم كذلك[25]. على أنّ هذا الزيف يجد في عملية جمع القرآن وتدوينه دليلا يسنده أيضاً؛ فالكندي يُسلِّم، دون أي تريث، بما كان يروجه خصوم الأمويين من تصرف الحجاج في النص القرآني وتحكمه في عملية جمعه وتدوينه، ممَّا يَكْشِف عن مدى إقدامه على تسخير كل ما بحوزته من معطيات عن تاريخ القرآن ونسف رمزيته. إننا أمام تصوُّر لا يتردَّد في الأخذ من كل الأخبار التي من شأنها أن تفيد في إثبات موقفه السلبي من الإسلام، حتى ما تعلق منها بالتمثلات والحكايات الشعبية، والمواقف السياسية المتحدرة من الصراع بين الأمويين والعباسيين. لذلك يغيب عن هذه الرؤية كل منزع نقدي قد يفيدها في مُسَاءلة صحَّة تلكَ التمثُّلات وفحص صلاحية الأخبار التاريخية التي تستند إليها في “نقدها” للإسلام.

على هذا النحو من النظر ذهب الراهب السمعاني إلى نقد الإسلام في مجادلته للفقهاء المسلمين، حيث كان عليه أن يقارن بين أخلاق الزهد والتعفف كما تبدَّت في شخصية المسيح، والتي سرعان ما ألقت بظلالها على سلوك أتباعه وحياتهم، وبين نقيضها كما جسدته سيرة نبي الإسلام وحياة المسلمين. فقد كان قوام الإسلام، في نظره، “التهديد بالسيف والترخيص في الشهوات البدنية والأقوال السفسطية”[26]. ولا تختلف انتقادات السمعاني للإسلام عن تلك التي وجهها إليه سابقوه؛ فهو يركز على شبقية الإسلام التي تنضح بها أحكام الزواج والوضعية الشرعية للمرأة، كما على اقتران الدعوة المحمدية بالعنف؛ وسرعان ما يجر مجادلته للمسلمين لتخوض في مسألة ألوهية المسيح[27].

  • عاش هؤلاء اللاهوتيون في كنف الإسلام وخبروا حياة المسلمين عن قرب. ولا يسع القارئ في ما ألَّفوه إلا أن يستغرب إمعانَهم في تجاهل كثير من تعالميه وتشريعاته، وتمسكهم بتقديم صورة حالكة عنه تنمُّ –ظاهريا على الأقل- عن جهل كبير به. إنَّ توصيف هذه المرحلة من تاريخ التعرف على الإسلام بـ “الجهل” من طرف الباحثين[28] لا يصدر عن أي ابتخاس لمعرفة هؤلاء اللاهوتيين به[29]، وإنما هو وصفٌ للصورة التي رسموها عنه في المخيال المسيحي رغم درايتهم به. من علامات هذه الدراية اللجوء الملحوظ إلى الآيات القرآنية من أجل تدعيم نقدهم للإسلام كما هو واضح من كتابات ثيودور أبي قرة والراهب السمعاني. لذلك حقّ لنا القول إنَّ هذا الاستدعاء المتكرر للآيات القرآنية لم يتِح لهؤلاء اللاهوتيين إمكانية تفهُّم الإسلام وتجاوز ما تنضح به نصوصه وتاريخه من تناقضات، خلافاً لما يمكن أن نلحظه لدى المصادر السريانية الأرثوذكسية والمصادر النسطورية[30]، التي سعى بعضها إلى تفهُّم الإسلام، كما نلفي عنده نوعا من الاعتراف بمشروعيته الدينية التوحيدية. هذا ما يستوقفنا، على سبيل المثال لا الحصر، في كتاب تاريخ الكنيسة للبطريك ديونيسيوس وفي تاريخ السّعردي، وفي ما كتبه طيموثاوس الكبير عن الإسلام. تعترف هذه المصادر بانتساب الرسالة المحمدية إلى التراث التوحيدي، وهي بذلك تتجاوز اتهام الدمشقي وأبي قرة والكندي له بالوثنية ومجافاة روح التوحيد. ومع هذه الكتابات نكون أمام نوع من الاعتراف الضمني بمشروعية الإسلام، ومحاولة تفهم وقائع تاريخه بعيداً عن القدح في شخصية النبي وحياة المسلمين، لذلك اختلفت مُناظرات أصحابها مع المسلمين، من حيث تمثلها للإسلام وموقفها منه، عن تلك التي خاضها ضده الدمشقي والمنتهلون من رؤيته السلبية إلى الإسلام؛ ففيما كان غرض هؤلاء نسف العقيدة الإسلامية والقدح في صاحبها والتشنيع على المسلمين، رمى أولئك إلى تفهم العقيدة الإسلامية بعيدا عن الصورة النمطية السلبية عنه. نلفي ذلك حاضراً، مثلاً، في محاورة ثيماطاوس الكبير للخليفة العباسي المهدي، ولا يمكن أن ننكر، أيضاً، أن الجدل الذي أثير حول المسيح وحدث صلبه مثَّل مناسبة للتفكير الهادئ في أسس العقيدة التوحيدية حتى بالنسبة إلى المتشددين في الحكم على الإسلام[31]. غير أنّ ذلك كله لم يكن كافياً لمحو الصورة النمطية عن الإسلام في المتخيل المسيحي، وسرعان ما انبعثت بقوة أعنف في المخيال الغربي هذه المرة عندما غدا الإسلام قوة عسكرية وسياسية لا تخفي رغبتها في الوصول إلى أبعد نقطة في أوروبا.

هكذا يمكن القول إن الهاجس الديني كان نقطة ارتكاز الرؤية المسيحية المشرقية إلى الإسلام؛ هذا ما تكشف عنه المجادلات الدينية التي دارت بين المسلمين والمسيحيين، كما تكشف، بالمقابل، عن هامش الحرية التي كانت متاحة أمام النصارى لنقد الإسلام في عقر دار المسلمين، وداخل كتف دولتهم كذلك. لا يهم كثيراً السبب الكامن وراء هذه الحرية، ولا يعنينا، بالتالي، الخوض في مدى صحة اعتبارها علامة من علامات التسامح الذي أبداه المسلمون، سيما في العهدين الأموي والعباسي، مع المخالفين لهم في الملَّة، بقدر ما نكتفي بتسجيل الواقعة التالية؛ رغم ما تمتع به المسيحيون المشرقيون من حرية، ورغم تحمسهم في البداية إلى الفتوح الإسلامية التي خففت من وطأة وضعهم السياسي ومكانتهم الاعتبارية، فإن ذلك كله لم يحل دون خلق صورة نمطية عن الإسلام، قوامها النبوة المزعومة للنبي، وشبقية النبي والمسلمين، وتحريف الدين التوحيدي.

ثانياً؛ صورة الإسلام في المخيال المسيحي الغربي.

ينبهنا الباحثون في تاريخ الصورة النمطية عن الإسلام إلى ضرورة التحوُّط في فهم صورة الإسلام لدى المسيحية البيزنطية، ليس فقط بسبب قلة المصادر المسيحية البيزنطية التي تناولت العرب والمسلمين لحظتئذ، وإنما لأن الصورة تلك كانت، في مجملها، ردّ فعل على وعي قلق بالخطر الإسلامي المحدق بأوروبا، حيث يلاحظ مكسيم رودنسون أنّ المسلمين شكلوا بالنسبة إلى الوعي المسيحي، ولمدة طويلة، خطرا قبل أن يصيروا مشكلةً[32]. فـ “لم يحصل في تاريخ حوض البحث الأبيض المتوسط أن شهدت المنطقة توسعا لامبراطورية ما بالسرعة والمدى اللذين ميزا الفتح الإسلامي (…) انتشر الإسلام في ثلاث قارات في أقلّ من قرن. وفرض نفسه على الثقافات والمرجعيات السائدة في هذه الفضاءات بكل الطرق الممكنة، وغدا تحديا جدياً أمام أكثر من إرادة للقوة، سيما تلك التي كانت لها الغلبةُ على صعيد الشرق الأدنى والبحر المتوسط، وعلى رأسها الإمبراطورية البيزنطية والرومانية”[33]. لا يمكن للباحث أن يذهل عن فرادة الوعي بالذات الذي أفرزته الاندفاعة الإسلامية، بيد أن ذلك لا ينبغي أن يحجب عنا مفعول تلك الاندفاعة في خلق توجسٍ من الإسلام وخطره المحدق بالعالم الأوربي برمته، بعد أن غدا “الإسلام بالنسبة لأوروبا الوسيطة أخطر عوامل الإرهاب والإرهاق، وعلى كل المستويات” على حد تعبير سوذرن[34]. فقد أضفى التوجسُ ذاك على تمثل المسيحية الغربية للإسلام طابعا خاصاً أخرجه من أفق الجدل اللاهوتي الذي تحرك فيه الوعي المسيحي المشرقي كما لاحظ نور الدين أفاية. وهذا ما يعني أنَّ “تعرف أوروبا على الكتابات الدينية والجدلية المناهضة للإسلام تمّ من خلال ‘نموذجها البيزنطي’ بالدرجة الأولى”[35]. وعلى ضوء هذا النموذج يحسُنُ أنْ نفهم كثيراً من الأحكام النمطية التي أعادت المسيحية الغربية إنتاجها في حقّ الإسلام والمسلمين، بعد أن تلقفتها من المسيحية المشرقية كما صاغها يوحنا الدمشقي على وجه التحديد.

فقدت بيزنطة أراضي سورية وفلسطين ومصر، غير أن وعْيَها المسيحي لم يرَ في ذلك دليلاً على تفوق المسلمين كعدو عسكري، بقدر ما وجد فيه علامةً على السخط الإلهي الذي حلّ بالمسيحيين بسبب ما اقترفوه من خطايا. انكفأت بيزنطة على نفسها بعد هزائمها المتكررة أمامَ المسلمين، وانبرت إلى اضطهاد الهرطقات المنتشرة في مختلف أراضيها اعتقاداً منها بأنَّ الهرطقة أشدّ خطرا من العدو الإسلامي. هكذا تم النظر إلى الهزيمة والسقوط بحسابنهما قَدَراً أملاهُ ما أتاهُ المسيحيون من خطايا؛ بيْد أنَّ النهوض واسترداد الأراضي المفقودة ظل، من منظور المسيحية البيزنطية، رجاءً لابد من تحقيقه هو الآخر؛ فهو يمثل الوجه الآخر لقدر المسيحية وخلاصها. لذلك “بدت انتصارات ميخائيل الثالث على العرب، في القرن التاسع، انتصارات الحقّ على الدجل على قول نيكيتاس البيزنطي”[36]. غير أنَّ حروب الاسترداد لم تُسْفر عن نجاحات كبيرة رغم انقسام العالم الإسلامي وضعفه حينها، وسرعان ما نجح سلاجقةُ الروم في تأسيس سلطنة جديدة في آسيا إبَّان القرن الحادي عشر، مكرسين بذلك واقع المواجهة مع المسيحية البيزنطية. كيف وجَّهت هذه الوضعية التاريخية مسارتمثل المسيحية للإسلام؟

أرخى الهوَسُ بالخطر الإسلامي بطيفه على تعرف المسيحية البيزنطية على الإسلام، ولم يكن بمقدور الوعي المسيحي، هذه المرة، الإفلات من قبضة القلق من انتصار المسلمين، الذي حمله على بلورة صورة عن الإسلام أتت تعكس حالة القلق تلكَ، أكثر مما كانت معنيةً بإرادة معرفة تدفعها إلى تشيد معرفة دقيقة بالإسلام. هذا ما يُستشفُّ من مواقف قسطنطين ثيوفانس، وبورفيروجينيتوس (porphyrogénète) من الإسلام، وعندما يعتبر ثيوفانس النيقي، مثلاً، الأتراك “ذئاباً عربيةً”، فإنه يعبر بذلك عن الخلط القائم في ذهن المسيحية البيزنطية بين مختلف مكونات المجتمع الإسلامي وعناصره الاثنية والثقافية. صحيحٌ أنَّ هناك من الكُتَّاب من أظهرَ درايةً أفْضَلَ بتاريخ الإسلام كما يستفاد من حديث بورفيروجينيتوس عن تاريخ الخلفاء الراشدين وبني أمية وبني العباس؛ وصحيحٌ، كذلكَ، أنَّ بعضاً من المفكرين البيزنطيين أبان عن معرفةٍ بالقرآن وأفكاره كما هو الشأن بالنسبة إلى نيكتاس البيزنطي، بيد أن ذلك كله لم يكن كافيا للانسلال من قبضة رؤية يوحنا الدمشقي للإسلام كما يرى دوسيلييه، وسرعان ما سترشحُ على سطح الوعي المسيحي البيزنطي الأحكام القدحية عينها التي أصدرها الدمشقي في حقّ الإسلام والمسلمين. لم يستسغ هذا الوعيُ موقف الإسلام من الأيقونات، فلم ير في إقدام الخليفة يزيد الثاني على فرض مذهب تحطيم الأيقونات على المسيحيين إلا دليلاً على وثنية الإسلام. كما لم يتفهم الوعي ذاك اعتقاد المسملين بأنَّ الله، الواحد الأحد، يخلق الخير والشر معاً، ولم ير في ذلك إلا أمراةً فارقةً على تشبع المعتقد الإسلامي بالمانوية، “وهكذا يصبح القول الإسلامي بأن الله خالق للخير والشر مرادفاً لاعتقاد ماني بثنوية النور والظلمة!”[37]. بل وسرعان ما شاعت عن الإسلام، في هذه الفترة من تاريخ الوعي المسيحي البيزنطي، فكرة فحواها أن الإسلام ليس إلا هرطقة متأثرة باليهودية تسعى إلى القضاء على المسيحية وتعتبر ذلك واجباً دينياً، بما كان يعنيه ذلك من تجييش لمشاعر الحنق والعداء للمسلمين في سياق اتسم باتساع دوائر الفتوحات الإسلامية.

هكذا تناسلت الأدبيات التي رمت إلى شيطنة الإسلام في المخيال المسيحي البيزنطي، والتي انتهل جلها من المسيحية المشرقية ورؤية يوحنا الدمشقي وثيودور أبي قرّة إلى الإسلام؛ مع تسجيل ارتفاع في حدّة القدح والتشنيع والقذف في حق الإسلام والمسلمين، أتاحته مساحات الحرية التي تحرك فيها مفكر كنيكيتاس البيزنطي، وجورج الراهب اللذين لم يعيشا في كنف دولة المسلمين، كما أملته ظروف الهزيمة المُرّة أمام العرب، التي انتهت بفقدان بيزنطة جزءاً من أقاليمها بآسيا الوسطى وجزر المتوسط وأجزاء من قلب الإمبراطورية نفسها[38]. لم يكُنْ صدفةً، والحال هذه، أنْ يتَّسم الموقف من الإسلام بكثير من العداء والميل إلى شيطنته في المخيال المسيحي البيزنطي؛ ولا كان صدفةً، كذلك، أنْ يتفنن هذا المِخيال في نسج حكايات عن الرسول والمسلمين أتَت تكرس موقف الخوف من الإسلام والجهل به[39]. هكذا “تحلُّ الصورة محل الواقع، سيما إذا اقترنت بمشاعر ضدية واندرجت ضمن سياق الصراع على المواقع والمصالح والرموز، صراع يحركه رجال دين وينفذه جنود، وتنتظم حوله حملات دعائية تعطي للآخر صوراً شيطانية، وتجعل منه خطراً محدقاً على العقيدة والوجود”[40]. وعلى مستوى الصورة ينفجر المتخيل ويكرس سطوة الحكايات الشعبية ويذكي مشاعر الحنق والرهاب من الإسلام، وهذا ما تجلى في مكونات تلك الصورة التي يكاد الباحثون أن يجمعوا على إجمالها في أحكام نمطية ثلاثة؛ الوثنية، والعنف والشبقية.

  • يؤكد نورمان دانيال أنّ رجال الكنيسة ركزوا على وثنية الدعوة المحمدية، مقدمين بذلك على فصلها عن التراث التوحيدي، مظهرين التعارض بين سور القرآن وما جاء في العهدين القديم والجديد، وهو ما يحول دون إمكانية الحكم على حقيقة القرآن والنبي محمد[41]. وإذا كان هذا الحكم حاضرا لدى المسيحية المشرقية من قبلُ، فإنّ استدعاءه من طرف رجال الكنيسة اتسم هذه المرة بالانفتاح على المخيلة الشعبية وما تحبلُ به من إشاعات ونكت وأغاني، حيث “برزت، في هذا المجال، ما سمي بـ ‘أناشيد البطولة’، التي كانت تحكي سير الأبطال والفرسان والملاحم، واتخذت من الساراسان Sarrasin أو المسلم موضوعاً لتهييج العامة أو الترويح عليها بتقديم العربي المسلم بكل الأشكال الانتقاصية”[42]. يكفي أن نشير، هنا، إلى أنشودة “رولان” التي تصور المسلمين على أنهم عبدة أصنام، و”غورمون”، و”إيزومبار”، وأنشودة “تتويج لويس”، حتى نقف على درجة تمادي الوعي المسيحي في الحطّ من قيمة المسلم العربي وتزييف حقيقة العقيدة الإسلامية بادعاء بإخراجها من التقليد التوحيدي ورميها بالوثنية، وذلك بغرض تقديمه في صورة كلّ ما هو متناقض مع المسيحية[43]. تتجاوز تهمة الوثنية، في هذا المقام من مسلسل شيطنة الإسلام، دائرة النبي وسيرته الشخصية، لتطال جوهر العقيدة الإسلامية؛ حيث تم تصوير المسلمين في صورة عبدة أصنام في كل الأعمال الأدبية والقصائد. هل كان السبب في ذلك لجوء الوعي المسيحي، اللاهوتي كما الشعبي، إلى الحكم على التوحيد الإسلامي انطلاقا من عقيدة التثليث التي تعتبر جوهر التوحيد المسيحي كما يعتقد سوذرن؟ يبدو أنّ الأمر أعمق من ذلك؛ فقد ترْجَمَ الجمع بين الإسلام والوثنية في هذه الصورة النمطية تخوُّفاً مضاعفاً عند رجال الكنيسة؛ تخوُّفٌ من الإسلام وقوته العسكرية من جهة؛ وتخوُّفٌ من انبعاث الوثنية من جديد. لذلك لا يمكن فهم تمسك السردية المسيحية عن وثنية الإسلام والمسلمين إلاَّ على ضوء الرهاب الناجم عن مواجهة الإسلام باعتباره عدواً وخطراً قائماً.
  • علاوةً على ذلك، لجأت المسيحية البيزنطية إلى ترويج صورة الإسلام العنيف وضخها في ثنايا المخيال المسيحي الشعبي. تأسست هذه الصورة على التناقض المطلق بين أخلاق المسيحية القائمة على المحبة والدعوة الدينية السلمية من جهة، ولجوء المسلمين إلى السيف والقتل من أجل فرض دينهم وسيطرتهم على المخالفين لهم. وإذا كانت المجادلات اللاهوتية في المشرق سبّاقة، كما رأينا، إلى الترويج لهذه الصورة، فإنَّ المسيحية البيزنطية وجدت فيها مَكْمَن إفادةٍ لتسويغ رهابها من الإسلام أولاً؛ وتقديمه بالتالي في صورة العدو الخطر المحيط بمسيحية؛ ولتبرير إعداد الجيوش والحشد لمواجهة المسلمين ثانياً. إننا، هنا، أمام تضخيم وتهويل لصورة الإسلام المحارب والمسلم العنيف، ويلاحظ جون فلوري أن تأثر المسيحية بالإسلام كان في جملة الأسباب التي حملت المسيحية على تغيير موقفها من الحرب في مواجهة الإسلام، بعد أن ظلَّت تزْعُم أنَّ ما يُميِّز نجاح المسيحية الدعوة سِلميَتُها وبُرمُها بكلّ أشكال العنف. يقول أفاية في هذا المعرض؛ “بقدر ما كان الجهاد مبدأ مقرراً في الإسلام، فإن الآلة الدعائية المسيحية أعطت لهذه المسألة بعدا درامياً، لتقديم المسلم في أكثر الصور شيطانية وشراسة ووحشية من جهة، ولتسويغ قاعدة الحرب كوسيلة ضرورية لتنظيم هجوم مضاد على ما نعتته الأدبيات الكنسية بـ “الأراضي المقدسة” ضد الإسلام من خلال الظاهرة الصليبية من جهة ثانية. حاجة المؤسسة الكنسية إلى ذريعة، أو إلى تخيُّلٍ نافع، جعلتها تقدم الإسلام كديانة للعنف، والمسلم ككافر، ومتوحش وصنو للشيطان”[44].
  • إلى صفة الوثنية والعنف، أضافت المسيحية الغربية صفة الشبقية التي أمعن الوعي الغربي في استدعائها كلما تعلق الأمر بالتفكير في الإسلام. وكغيرها من الأحكام النمطية، كانت الشبقية في جملة المسائل التي ركز عليها الجدل اللاهوتي مع الإسلام منذ أولى لحظات المواجهة بينهما في المشرق[45]، حيث صارت الدليل الأوقع على استحالة أن يكون الإسلام رسالة إلهية بالنسبة إلى المسيحيين كما لاحظ نورمان دانيال في هذا المعرض[46]. هنا تتجاوَرُ الانتقائية في التعامل مع أخبار التاريخ الإسلامي مع اللجوء إلى قصص شعبية نسجتها المخيلة الشعبية عن النبي والمسلمين، لترسم ملامح صورة رَجُل شبقي منغمس في عوالم اللذة، وسرعان ما تنعكسُ شبقيته في القرآن وتصويره للجنة، كما في أحكام المرأة ووضعها القانوني داخل المجتمع الإسلامي[47]. أما المسلمون فهم، وفق هذا التصور، قوم يأتون الشذوذ الجنسي، ويجعلون من الجنس أولوية في حياتهم اليومية سيراً على هدي نبيهم.

لسنا بحاجة إلى التأكيد على الدور الذي لعبته المخيلة في نحت رسم هذا المشهد، حيث استثمرت كل أشكال التجريح والدعاية للطعن في مشروعية الرسالة المحمدية، وتقديمها في صورة النقيض المطلق للعفة والزهد[48]. على أنَّ هذا الضرب من المقارنة يبقى أهم آلية ذهنية لجأ إليها المخيال المسيحي الغربي في بلورة تمثله للإسلام، “فالنبي محمد محارب عنيف، في حين أنّ المسيح لطيف ومسالم. ثم إنَّ المسيح ورعٌ وأعزبٌ، أما محمد فهو طالب لذة ومتعدد النساء”[49]. فكُلَّما حاولَ هذا المخيالُ الخوض في مشكلة الشبقية إلا ووجد نفسه ملزما باستدعاء وقائع من الحياة الشخصية للنبي محمد، وهذا ما يفسر الاهتمام بالسيرة النبوية من طرف المسيحيين في ذلك الإبان. وبصرف النظر عن مدى دقَّة معرفة هؤلاء بهذا الموضوع، فإن هوسهم بتشويه صورة النبي ما كان له إلا أن يلقي بظلاله على تمثلهم لأحداث حياته، واللهث وراء كل الأخبار، الصحيح منها والزائف، التي من شأنها أن تكون مادة لتلك الصورة المشوهة. نقرأ لسوذرن في هذا المعرض؛ “أما فيما يتصل بحاة النبي محمد، فإنّ المؤلفين الغربيين ورثوا معلوماتٍ قليلة متحيزة عن البيزنطيين. هذه المعلومات يمكن إيجازها كما يلي؛ محمد رجل مسيحي الأصل، تزوج أيَّماً ثريةً، وكان مصاباً بالصرع. وتحدد هدفه بسحق المسيحية عن طريق اشتراع حرية جنسية واسعة. وعلى أساس من هذه المعالم القليلة (والمضللة) بنى الغربيون في القرن الثاني عشر بناءً ضخما من الحكايا. وقد اعتاد المؤلفون اللاتينيون أن يطرحوا على أنفسهم أسئلةً عن محمد الإنسان، وعن أسباب انتشار دعوته؛ ثم يجيبون عليها بأنه كان ساحراً استطاعَ بسحره وسعة حيلته أن يقضي على الكنيسة في إفريقيا والشرق، وأن يثبّت دينه ويغري الناس باتباعه بحرية جنسية أتاحها لمعتنقي دينه”[50]. لا يتَعلَّق الأمرُ، هنا، بمجرَّد صورة أفرزتها المخيلة الشعبية، وإنما بتفسير “عالِمٍ” فسر به المؤلفون المسيحيون نجاح الدعوة النبوية، حيث كان الاتكاء على صورة شخصية النبي، كما رسَمَها هؤلاء، خطوة لا مَحيد عنها لفهم ذلك النجاح.

إقرأ أيضاًًًًًًًًً: رينه حبشي: فيلسوف الانسان والفكر المتوسّطي

بوسعنا النظرُ إلى هذه الصورة باعتبارها “نتاج الجهل والخيال الجامح، والبغض والكره اللاهوتي، وما هي إلا استجابة للعصور المسيحية الوسطى، وردة فعلها على الموقف المثالي والأنموذجي للإسلام تجاه نبيه” على حدّ قول فرانشيسكو غبريلي[51]، غير أن ذلك لا ينفي أنّ الأدب الشعبي المسيحي قد ذهب إلى أبعد من ذلك في شيطنته للنبي واختراع صورة حالكة عن حياته الشخصية[52].

ولعلَّه سيكون من المفيد أنْ نُشير إلى أنّ هذه الصورة الحالكة عن الإسلام ونبيه لم تكن تعكس، دائماً، طبيعة العلاقات التي جمعت المسيحية الغربية بالعالم الإسلامي؛ إذ يُسَجِّلُ الباحثونَ نوعاً من “الانفراج” في مسار العلاقة بين الإسلام والمسيحية البيزنطية في هذه الفترة التاريخية، وقد أتى ذلك غبَّ الانشقاق الكنسي الكبير بين القسطنطينية وروما، وانطلاق الحملات الصليبية على الإسلام، والاستيلاء اللاتيني على بيزنطة. دفعت هذه الأحداثُ الوعيَ المسيحي البيزنطي إلى مراجعة رؤيته إلى الإسلام، كما نبهته إلى قيام الحاجة إلى بلورة معرفة أدق به كما هو بيِّنٌ من مشروع ترجمة القرآن الذي قاده بطرس المبجل. وعندما يشيرُ المؤرخون إلى واقعة التحالف الذي تمّ بيْن الإسلام وبيزنطة في فترات متقطعة من تاريخ علاقتهما المتوترة، فإنهم يكشفون بذلك عمَّا أفرزته تلكَ الأحداثُ من مستجدات أملت نوعا من التقارب بين الإسلام وبيزنطة[53]. هل كان ذلك كافياً لتجاوز الفجوة السحيقة التي أقمتها المخيلة الغربية المسيحية عن الإسلام؟ لا يبدو أنّ الأمر كذلك، فتداوُل الصورة النمطية عن الإسلام ونبيه ظلَّ أمراً قائماً حتى بعد نهاية الحملات الصليبية، وهو ما نلفيه حتى في مرحلة الإصلاح الديني عند مارتن لوثر كذلك. وقبل هذه المرحلة كانت المخيلة الشعبية الغربية تنضح بحكاياتٍ تم تداولها بين العامة عن الإسلام ونبيه، وقد لعبت تلك القصص والحكايات دوراً مُهِماً في نحت حقيقةِ الإسلام في الوعي المسيحي عامةً. يقول سوذرن؛ “هناك تفاصيل أفظع عن  سيرة النبي وشخصيته لكنها تدخل في باب الأدب الشعبي تماماً؛ من مثل الدور الذي لعبه الثور الأبيض الذي كان يحمل صحف الشريعة الجديدة بين قرنيه؛ ويساعد في إرهاب الناس- ومن مثل الحكايات عن ضريح النبي محمد وتأرجحه بين السماء والأرض مغناطيسياً. أمّا التفاصيل الأسوأ التي تتصل بوفاة النبي وافتراس الخنازير له في إحدى نوبات صرعه؛ فإنها تطويرات مهلوسة وكريهة لبعض أجزاء الصورة البيزنطية عن النبي”[54]

  • أما في فيما يتعلق بالمسيحية اللاتينية فإنَّ ريتشارد سوذرن يرى أنَّ التصوُّر العامّ عن الإسلام لدى المسيحيين الإسبان يبقى “معقولاً وهادئاً، بل وإيجابياً إلى حدّ ما”[55]. بيد أنه ينبهنا، قبل ذلك، إلى ما مرَّ به هذا التصور من مراحل العداء العاطفي للإسلام، وهذا ما يطرح أكثر من سؤال عن هذا الموقف السلبي من الإسلام رغم وجود المسلمين بالأندلس ونجاحهم في تأسيس حضارة فريدة فيه استمرت لقرون عدة. فإذا استثنينا معرفة بعض الإسبان وأهل صقلية بالإسلام، فإنَّ الصورة التي وصلتنا، من طريق الأدبيات اللاتينية، تشي بجهل كبير بهذا الدين وتعالميه وتاريخ حضارته. وعلاوة على الخلط الكبير بين القرآن والحديث في ذهن المسيحيين اللاتينين، فإنَّ جهلهم ذاك اتضح في انتهالهم من قاموس يوحنا الدمشقي في حديثهم عن الإسلام ونبيه. هذا ما نلمسه في تصوُّر مارك الطليطلي، وكيتون، وسان بيدرو للدعوة الإسلامية، عندما يشدِّدُون على اقترانها بالبدعة والهرطقة والعنف، فلا يَرَوْن فيها إلاَّ تحْريفاً فجاً للديانتين التوحيديتين اليهودية والمسيحية[56]. وحتى حدث تعريب القرآن (1143) الذي أشرف عليه أباتي دير كلوني بطرس المبجل لم يكن كافيا، على ما يبدو، لتبديد هذه الصورة السلبية؛ فقد كان الغرض منه مدّ الحركة الصليبية بمعرفة أكثر دقة عن الإسلام، بعدما تبيَّن له أنّ مواجهة هذا الأخير لن تحقّق كل أغراضها إنْ هي اكتفت بالمقاربة العسكرية وأغفلت أهمية البعد الديني والثقافي في مواجهة الإسلام[57].

بيد أن بعض الباحثين يشدّد على وجود اختلافٍ، وإن كان نسبيا، يميز معرفة الإسبان بالإسلام عن غيرهم من الأوربيين بسبب الاحتكاك المباشر بينهم وبين المسلمين في الأندلس. لا يتعلَّق الأمر بمعرفة مكَّنت الوعي المسيحي اللاتيني من الإفلات من قبضة الصورة النمطية عن الإسلام، وإنما بمعرفة كانت “أعلى وأوْسَع ممَّا كان لدى الأوربيين”[58]. فالإسبان لمْ يُجاروا غيرهم من الأوروبيين في اعتبار الإسلام ديناً وثنياً، بل إنَّ “أكثرَ أخبار وأفكار الأوروبيين عن المسلمين في القرون الأولى للعصور الوسطى إسبانية المنشأ”[59]، وهذا ما يشي بمكانة المعرفة الإسبانية بالإسلام والدور الذي اطلعت به في مدّ الوعي الأوروبي بصورة عنه. ما من شكّ في أنّ تواجُد الإسبان المسيحيين في المجتمع الإسلامي بالأندلس يبقى الإطار التاريخي، والمجتمعي، والسياسي الذي ينبغي أن نفهم على ضوئه مواقفهم من الإسلام، حيث يعتقد سوذرن أن المسيحيين “قاسوا تحت وطأة الإسلام المسيطر بالأندلس” وأنه “ربما كان هذا هو السبب في أنهم كانوا الأكثر انفعالاً من بين الأوروبيين بالمسألة الإسلامية”[60]. يشدد هذا الباحث على خاصية وضع المسيحيين في الأندلس إبان الحكم الإسلامي؛ فقد عوملوا معاملة أهل الكتاب؛ فسُمح لهم بالاحتفاظ بمطارنتهم وكهنتهم ورهبانهم وأديرتهم، بل وأتيحت لهم إمكانية تولي مناصب مهمة في الدولة، بيد أنّ ذلك لم يحل دون معاملتهم بصغار حسب التعبير القرآني. علاوة على ذلك، اتسمت وضعية مسيحيي الأندلس بالعزلة عن العالم المسيحي في ظلّ تصاعد الحضارة الإسلامية، التي كادت أن تبتلع الثقافة المسيحية في نظر سوذرن، الأمر الذي أدى إلى ما يصفه بـ الاختناق البطيء للثقافة المسيحية في تلك المرحلة. يقول هذا الباحث؛ “والحقّ أنّ الإحساس بالاختناق البطيء استولى على أفكار بعض المتدينين الإسبان بين عامي 850 و 860 م، فثاروا محتجين ليس ضد الإسلام بشكل مباشر؛ بل ضد رضا العامة المسيحية بالحضارة العربية. وأدى ذلك إلى وقوع ضحايا رأت فيهم اللاهوتية المسيحية شهداء أبطالاً”[61]. يتعلق الأمر، هنا، بحركة احتجاج قادها كل من أوليغيوس وباول ألفاروس Paul Alvarus، وقد كان مدار اعتقادهما على اعتبار “السيطرة الإسلامية هي المُقدمة الضرورية لظهور المسيح الدجال (Antichriste). وقد وجدا أدلَّةَ على ذلك في الكتاب المقدس؛ ولم يكن ذلك صعباً”[62].

يهمنا من هذه الحركة الاحتجاجية- وبصرف النظر عن الصورة القاتمة التي يرسمها سوذرن عن وضعية مسيحيي الأندلس بين ظهراني دولة المسلمين، والتي تبقى مقدمة ضرورية لتسويغ قسوة المسيحية المنتصرة تجاه المسلمين بعد استرداد الأندلس[63]– رفضُها واقع انصهار الثقافة المسيحية في ثنايا الحضارة الإسلامية المهيمنة حينها؛ كما يعنينا منها، أيضاً، انكفاءُ أصحابها إلى الكتاب المقدس (سفر دانيال) للتنقيب فيه عمَّا يدعم اعتقادهم بأنّ الهيمنة الإسلامية ليست إلا علامة قاطعة على أزوف ساعة ظهور المسيح الدجال ونهاية العالم، وهو ما يشي بقوة حضور المتخيل الديني في مواجهة واقع الهيمنة الإسلامية لدى المسيحيين الإسبان. يسهل على الباحث أن يُفسِّر هذا المنزعَ الاحتجاجي بأنه كان ردّ فعل على الإسلام وهيمنته في تلك المرحلة من تاريخ الأندلس وإسبانيا، غير أنَّ ذلك لا ينْفي أنَّ الموقف ذاك كانَ، في جانبٍ مُهمٍّ منه، تعبيراً عن الجهْل بالإسلام السائد بأوروبا والأوساط المسيحية[64].

ثانياً؛ الصليبية والإسلام؛ في تكريس الصورة النمطية.

  • لا يسْتقيمُ الحديثُ عن تمثل المتخيل المسيحي الغربي للإسلام من دون التوقف عند تلك الصورة التي تشكلت عن الإسلام في سياق الحركة الصليبية. بل إنَّ ما يُضفي على الموقف اللاتيني من الإسلام أهميته بالنسبة إلى الباحث ارتباطه بالحملات الصليبية التي شكل انطلاقها لحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين الإسلام والمسيحية؛ فمنذ أن صدَع البابا أوربان الثاني، سنة 1095، بضرورة أنْ يحُجَّ المسيحيون إلى فلسطين والقدس، بات تحريرُ الكنائس الشرقية واسترجاع القدس الغرض الديني المعلن للحملات الصليبية، الذي يخفي في ثناياه أغراضها السياسية والعسكرية[65]. لذلك كان من الطبيعي أن يُهيْمن على الوعي المسيحي، في هذه المرحلة، الميْل إلى شيطنة المسلمين الذين تماهوا مع الكفَّار في خطاب البابا الذي ألقاه في مجمع كليرمون الكنسي. يعني هذا القول، في جملة ما يعنيه، أنّ تلك الحملات كانت مشروعاً بابويا تبنته المؤسسة الكنسية نفسها[66]. وبغض النظر عمَّا إذا كانت ظاهرة الصليبية ردّ فعل الغرب المسيحي على تفوق الشرق الإسلامي، وتعبيراً عن انتفاضة ضدّ مشاعر الإهانة والهزيمة، أم أنها كانت نتيجة تطور الشروط الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والسياسية في أوروبا[67]، فإنَّ ما يعنينا منها هي الصورة التي أفرزها مسلسل مواجهاتها المتكررة بيْن الصليبيين والمسلمين عن الإسلام في المتخيل الغربي. فقد امتدّت الحملات الصليبية عبر ثماني موْجات بين العام 1095 والعام 1270، مترجمةً بذلكَ شعور الوعي الغربي بالوَهن الذي أخذ يدبُّ في أوصال الهيمنة الإسلامية وبداية أفُولها في جنوب أوروبا[68]. وما كانَ للصليبية إلاَّ أن تستثمر الصورةَ النمطية الحالكة عن الإسلام المتجذرة في فكر يوحنا الدمشقي والمسيحية المشرقية، والانتهال من المخيال الديني المسيحي لتجييش مشاعر المسيحيين وموقفهم من المسلمين[69]، مُعيدةً إلى الأذهان الهلوسات النشورية التي سطتْ على المخيال المسيحي منذ نهاية الألفية الأولى ومطلع الألفية الثانية من ولادة المسيح. كلُّ هذه المعطيات عبَّدت الطريق لانبعاث الوعي بالحاجة إلى تَوْحِيد المسيحية الأوروبية المُمزَّقة.

ستشكل الدعوة إلى استرجاع الأماكن المقدسة، “كنيسة الله”[70]، خير تسويغٍ للحملات الصليبية، ويبدو أنَّ الحماس الذي حرّك هذه الموجات كان في مسيس الحاجة إلى استثمار الرأسمال الرمزي لتلك الأماكن، وكذا مفعولَ المشاعر الدينية في صناعة وعْيٍ مأساوِي بالراهن والماضي لدى المسيحيين، ممَّا جَعل الحملات الصليبية تتخذ شكل ردّ فعلٍ على الواقعة الإسلامية واندفاعتها القوية[71]. إلى ذلك كله، برزت حاجة الكنيسةُ إلى نظرية في الحرب تبرّرُ بها مشروعها الصليبي، وهذا ما تجسد بوضوح في مفهوم “الحرب المقدسة” الذي أحلته محلَّ موقف المسيحية المبدئي، المتبرم من العنف بمختلف أشكاله، و”استثمرت الدين، كمجال قدسي لتسويغ الاستراتيجيا العسكرية الصليبية، بل إنها بنحتها لمفهوم ‘جند المسيح’ أعطت لوظيفة المحارب ‘بُعداً روحياً’، وبِخَلطها المقصود بين توفير شروط الحج للمسيحيين وبين ‘الحرب والمقدسة’ تمكنت من تأليب جموع غفيرة من الفقراء، ومن تجنيد مئات الآلاف من الناس والزجّ بهم في حركة عارمة شعارها الصليب، وغايتها الأماكن المقدسة”[72]. ويمكن أن نلاحظ أنّ الصليبية ذهبت بعيداً في الترويج لقرار تحرير القدس من أيدي المسلمين، وارتفعت به إلى مستوى الأمر الإلهي الملزم لكل المؤمنين. هكذا غدا من الصعب التمييز بين المسيحية والصليبية في هذه الفترة من تاريخ المسيحية الأوروبية، بيد أن الثابت بينهما، في ما يتعلق بصورة الإسلام، ذهابهما إلى أبعد حدود في شيطنته واستثمار كل ما بحوزتهما من آليات الدعاية لتشويهه في المخيال الجمعي المسيحي. فكانت النتيجةُ أنْ حلّت صورَة الإسلام محلّ الواقع، واستدعي المفعول النفسي للمقدس من أجل تكريس تلك الصورة النمطية.

انتهت الحملة الصليبية إلى هزيمة أسفرت عن سقوط عكّا بيد المسلمين، وتوالي انتصارات هؤلاء وتزايد تهديدهم لأوروبا، وسرعان ما أمعن الوعي المسيحي أكثر في الحنق على الإسلام تحت وطأة هذا التهديد[73]. ولم يحُل نقد لوثر للكنيسة والبابا، واعتقاده بأن هذا الأخير هو المسيح الدجال الذي يشكل أكبر خطر على المسيحية، دون نقده للمسلمين (الأتراك على حدّ تعبيره)، تحت وقع التهديد الإسلامي لأوروبا[74]. لذلك لم يكن صدفةً أنْ تشكّل هزيمة المسلمين على أسوار فيينا سنة 1683 لحظة انفراج من الكابوس العثماني(التركي) بالنسبة إلى الوعي المسيحي، فقد عنى ذلكَ نهاية رُهابٍ هيمن على ذلك الوعي منذ أن انطلاق الحملات الصليبية، وشكَّل الإطار الفكري لنحت فكرة عدائية ضد الإسلام.

  • يعتبر مونتغومري وات أنَّ الحركة الصليبية كرَّست صورة مشوهة عن الإسلام بسبب رؤيتها الجذرية للاختلاف بين الذات والآخر، وهو الموقفُ عينه الذي يذهب إليه مكسيم رودنسون في تعقبه لمسار التمثلات الغربية للإسلام[75]. حيث تفصحُ كتابات اللاهوتيين المساوقة لانطلاق حملاتها منذ نهاية القرن الحادي عشر عن رغبةٍ قوية في تكريس تلك الصورة وما تحبل به من أحكام مسبقة تكشف عن مدى الجهل بهذا الآخر[76]. لم يُراعِ الذين رسموا تلك الصورة، ممَّن سخَّرتهم الكنيسة، أبسط شروط الدقة والموضوعية في التحرّي عن الإسلام وتاريخه، بل اكتفوا بالتقاط كلّ ما تمَّ الترويجُ له من طرف الثقافة الشعبية حينها، وما كان الغرض من تقصيهم عن الإسلام بلورة معرفة دقيقة عنه، وإنما خدمةُ المشروع الصليبي والسلطة الحاكمة له. قامت الصورة تلك على مسلمات ثلاث سعت المسيحية إلى إثباتها والدفاع عنها بشتى الطرق؛ الإباحية الجنسية؛ والعنف؛ وتحريف الديانتين التوحيديتين[77]. ومرَّة أخرى يتمّ الإمعان في تشويه صورة النبي باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية ومؤلف النص القرآني؛ لنلْفي التركيز على تعدد الزوجات كعلامة على الإباحية الجنسية، ومرة أخرى تستدعى “قصة” زواجه من زينب بنت جحش من أجل التأكيد على أنّه كان يبرر نزواته الجنسية بالوحي، بما يعنيه ذلك من إسقاط صفة الروحانية عن الإسلام وإلصاق تهمة الشبقية به. ومرَّةً أخرى ينزعُ الفكر المسيحي صوب الربط بين الجهاد والعنف، وينظر إلى هذا الأخير بحسبانه مقوماً ذاتيا من مقومات الديانة الإسلامية، التي سيتم تفسير نجاحها وانتشارها كنتيجة طبيعية ومنطقية للعنف الذي قام عليه مشروع الفتح الإسلامي. وسنجدُنا، مرةً أخرى، أمام تهمة الوثنية عينها التي ألفيناها عند المسيحية المشرقية من قبلُ؛ حيث تمَّ النظر إلى رفض ألوهية المسيح وقصة صلبه، والطعن في مبدأ التثليت، كدليل أوقعَ على وثنية الإسلام وتناقضه مع التقليد التوحيدي اليهودي والمسيحي[78].

في هذا السياق السياسي والثقافي المشحون بالعداء للإسلام، ظهر مشروع ترجمة القرآن الذي أشرف عليه بطرس المبجل. ويبدو أن اقتران المشروع بهذا السياق كان في جملة أسباب الحكم عليه باندراجه ضمن مشروع الحملات الصليبية على الإسلام. غير أنّ سوذرن يرى أنّ هذا المشروع يمكن أن يصنف ضمن ما سمّاه حقبة التَعَقُّل والأمَل[79]، التي تقابل، وفق خطة بحثه، حقبة الجهل، بما يعنيه ذلك من محاولة لتفهمه والتنبيه إلى ما يمكن أن يتضمنه من إرادة معرفة بالإسلام واكتشافه. فقد بدأت في مطالع القرن الثاني عشر “تباشير بدايات نظرة علمية شاملة ومستقلة لغرب أوروبا، وكان من نتائج هذه النظرة الجديدة محاولات لرؤية الإسلام بدون أحكام مسبقة”[80]. صحيحٌ أن تلك الصورة لم تكن بالدقة المطلوبة؛ فقد ظل المبجل يشدد على ارتباط “هرطقة الإسلام” بهرطقة النسطورية، مرددا بذلك تصور الدمشقي للإسلام باعتباره هرطقة خرجت عن الصراط المستقيم للعقيدة المسيحية (النصرانية)[81]، بيد أنّ ذلك لا ينفي أن ما أقدم عليه كان خطوة أولى، وضرورية، في طريق التعريف بالقرآن وتوفير ترجمة لمعانيه سرعان ما لعبت تدورها في تعريف الوعي المسيحي بالإسلام انطلاقاً من مصدره[82]، ومن دون الاكتفاء، هذه المرة، بما تحكيه المُخيلة الشعبية وأدبيات الرحلة والجدل اللاهوتي عنه.

اقتنع بطرس المبجَّل، في أعقاب الصعوبات والأزمات التي واجهتها الحملة الصليبية على الأراضي الإسلامية، وخلافا لصديقه القديس برنارد، بمحدودية المقاربة العسكرية ضدّ المسلمين، وما تردد في رفض أن يضطلع الرهبان بأي دورٍ، كيفما كان، في الحروب الصليبية[83]. بل وظلّ ينبه إلى ضرورة التعويل أكثر على التبشير المسيحي من أجل إقناع المسلمين بضرورة التخلي عن دينهم واعتناق المسيحية، معتبراً أنّ هذا هو الحل الجذري والأنسب لطي صفحة الخطر الإسلامي. يقول مخاطباً المسلمين؛ “إنَّني لا أُهاجمكم، كما يفعل كثيرون بيننا بالسلاح. إنني أُوَجِّه إليكم كلماتٍ فقط، بغير عُنفٍ، وبتعقل وهدوء من غير كراهية وبحُب كبير (..) إنني أحبكم، ولذلك أكتب إليكم؛ وبالكتابة أدعوكم لما ينجيكم”[84]. خلف هذه الدعوة السلمية يكمن تخوف المبجل من خطر الهرطقة؛ فلم تغب عن ذهنه “الآثار الفظيعة التي تركتها المانوية في تاريخ المسيحية”، لذلك بدت له المواجهة مع الإسلام أوسع وأبعد من مجرد حرب تخوضها الكنيسة ضدَّ جيوشه، وأنها تحتاج إلى استراتيجية عمل على المدى الطويل. انتهت محاولة المبجل إلى الفشل؛ فلم يفلح في إقناع المسيحيين بجدوى الخيار السلمي والمعرفي في مواجهة الإسلام، وظل معاصروه مقتنعين بأنّ المواجهة العسكرية المباشرة هي الحلّ الأنجع لدفع الخطر الإسلامي، خاصة وأنَّ الإسلامَ كان عند نهاية القرن الثاني عشر خطراً عسكريا قائم الوجود بالنسبة إلى أوروبا. كما أنه يلم ينجح في إقناع المسمين باعتناق الكاثوليكية؛ إذ “بقيَت نداءاته إلى المسلمين حبيسة كلمات اللغة اللاتينية التي لا يعرفونها”[85]. لذلك بدت دعوات بعض اللاهوتيين المؤمنين بالمواجهة العسكرية مع الإسلام أكثر واقعية قياساً بما ذهب إليه المبجل؛ وللسبب عينه، وبدلاً من السير بعيدا في تطوير مشروعه بتدقيق النظر أكثر في ترجمته للقرآن[86]، انكفأ الوعي المسيحي على نفسه، واستدعى مرة أخرى السرديات النشورية التي كرَّست صورة الإسلام المنتصر كعلامة على قرب القيامة ونهاية العالم.

خاتمة؛

تقودنا التحليلات السابقة إلى الإقرار بقوَّة الصورة النمطية التي كوّنها الوعيُ المسيحي عن الإسلام. تشكَّلت تلكَ الصورة في رحِم العلاقة المتوترة التي نشأت بين الإسلام والمسيحية في المشرق أولاً، ثم أخذت، بعد ذلك، في التبلْوُر أكثر عندما اتخذت المواجهة بينهما شكل صراع عسكري وسياسي خلال العصور الوسطى. وقد رأى بعض الباحثين أنَّ الخوْف من الخطر الإسلامي يبقى المقدمة الضرورية لفهم الصورة الحالكة التي رسمها الوعي الغربي الوسيط عن الإسلام والمسلمين. بيد أنَّ انشغال أوروبا عن المسألة الإسلامية، بعيْدَ تبدُّد الخطر الإسلامي، لم يَكُن كافياً لمحو تلك الصورة من المخيال الجماعي الغربي؛ فهي ما تزال تطالعنا في مختلف مجالات الفكر الغربي، يزيدُها التوظيف السياسي والإعلامي حدَّة وكثافةً، خاصة مع تصاعد مختلف صنوف اليمين المتطرف في الغرب، وهيمنة خطابات الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) في مختلف الأوساط الثقافية والسياسية الغربية. وجدت تلك التيارات في الصورة النمطية المتحدرة إلى الغرب من القرون الوسطى نبعاً انتهلت منه كثيراً من مسوغات مواقفها العدائية من الإسلام والمسلمين. لذلك يبقى تفكيك تلك الصورة خطوة لا محيد عنها في طريق مُراجعة الموقف الغربي من الإسلام اليوم، لكنها تبقى- في المقابل- خطوة منقوصة. فمن جهة أولى، يمكن القولُ إنَّ إمعان الخطاب الغربي في تحويل الإسلام إلى موضوع للاستهلاك إعلامي- ينفردُ “الخبراء” بنحت حقيقته في المخيال الغربي المعاصر، بعد أفول عصر التبحر الاستشراقي، واختزال الإسلام، ديناً وحضارة، في ظاهرة الإسلام السياسي- وما ترتب عليه من تطرُّفٍ أفرز كثيراً من مشاعر الخوف المرضي من الإسلام- أقول إنّ ذلك بات يفرض على الباحثين النهوض بمهمة تفكيك تلك الصورة والكشف عن مسارات تشكُّلاتها وتجذُّرها في تاريخ المخيال الغربي، الذي ينبغي أنْ نُميِّزَه، على نحو ما فعل سوذرن، عن تاريخ الفكر الغربي المتعقل[87]. غير أنّ الصورة النمطية عن الإسلام باتت، من جهة أخرى، مادَّة للاستهلاك الإعلامي والتوظيف السياسي[88] الذي ينفلت، في أحايين كثيرة، من قبضة المقاربة الأكاديمية الهادئة والرصينة، وهذا ما يحول دون تبيُّن أهمية “الأكاديمي” ودوره في مواجهة مثل هذا التوظيف وترشيد الوعي بالآخر. يعني هذا القول، في جملة ما يعنيه، أنَّ تفكيك تلك الصورة وفضح خلفياتها التاريخية والسياسية، والكشف عن مسارات تشكلها المفهومي..الخ، كل ذلك ينبغي أن يكون جزءاً من مشروع ثقافي يقوم على الاعتراف بانتساب تلك الصورة إلى التاريخ، وبالحاجة إلى تصحيح الرؤية إلى الآخر لتجاوز معاطب الذاكرة صوب علاقة اعتراف متبادلة بين الإسلام والغرب.

 

 

 

.

 

[1] – هشام جعيط، أوروبا والإسلام؛ صدام الثقافة والحداثة، بيروت؛ دار الطليعة، الطبعة الثالثة، 2007، ص. 11.

[2] – إدوارد سعيد، الاستشراق؛ المفاهيم الغربية عن الشرق، ترجمة محمد عناني، القاهرة؛ رؤية،2008، ص. 114

[3] – عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، الطبعة الرابعة، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، 1998، ص. 117

[4] – عبد الإله بلقزيز، ما قبل الاستشراق؛ الإسلام في الفكر الديني المسيحي، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2021، ص. 45. انظر كذلك؛ عبد الإله بلقزيز، نقد الثقافة الغربية، في الاستشراق والمركزية الأوربية، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2017، ص. 23.

[5] – والتر كايجي، الغزوات الإسلامية الأولى على الأناضول وردود الفعل البيزنطية في عهد الإمبراطور كونسطانس الثاني، ضمن كتاب؛ إيمانويلا غرايبو (وآخرون)، المواجهة بين المسيحية الشرقية والإسلام المبكر، ترجمة شرين حداد، بيروت؛ المركز الأكاديمي للأبحاث، 2016، ص. 119.

[6] – ألكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحية، ترجمة خلف محمد الجراد، الكويت؛ سلسلة عالم المعرفة، 1996، ص. 33.

[7] – محمد نور الدين أفاية، الغرب المتخيل؛ صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، بيروت؛ المركز الثقافي العربي؛ 2000، ص.127.

[8] – عبد المجيد الشرفي؛ في الردّ على النصارى (إلى نهاية القرن الرابع/العاشر)، بيروت؛ دار المدار الإسلامي، الطبعة الثانية، 2007، ص. 151.

[9] – Pierre Oliver léchot, Luther et Mahomet : Le protestantisme d’Europe occidentale devant l’islam au 16 eme et 17 éme siècle, Paris, Cerf, 2021, p. 71.

[10] – سعيد، الاستشراق، ص. 78.

[11] – أبو موسى الحريري، قس ونبي؛ بحث في نشاة الإسلام، بيروت؛ دار لأجل المعرفة، 2005، ص. 24. انظر أيضا؛ ملحم شكر، المسيحية واليهودية المتنصرة في الضاحية العربية-البيزنطية عشية الفتح الإسلامي، بيروت؛ منشورات الجمل، 2020، ص.382.

[12] – Jean Chélini, Histoire religieuse de l’occident médiéval, Paris, Hachette, 1991, p. 77.

[13] – يذكر ميخائيل الكبير (السوري) في حديثه عن الفتح الإسلامي وما مثله بالنسبة إلى المسيحية المشرقية؛ “لم يسمح هرقل للأرثوذكس بالوجود أمامه، ورفض سماع شكواهم عن أعمال التخريب المرتكبة في كنائسهم. ولهذا السبب غيَّر ثأر الله، الذي وحده يملك السلطة على الكلّ…سطوة الرجال الذين لا يريدهم، ومنحها لمن يشاء ورفع إليهم أكثرهم وضاعة، لرؤيته وحشية الرومان الذين أينما حكموا، نهبوا كنائسنا وأديرتنا بوحشية وأدانونا بلا رحمة، لهذا السبب فإن الله جلب من أرض الجنوب أبناء إسماعيل الذين نلنا الخلاص على أيديهم من أيدي الرومان!” يعلق فان جينكل على هذا النص قائلاً؛ “تكررت هذه الصورة عن العرب كمنقذين للمعاديين للخلقيدونية من اضطهاد البيزنطيين من قبل العديد من كلّ من الكتاب السريان الأرثوذكس وكتابات العلماء المعاصرين في القرن السابع، وتقدم الإيمبراطورية البيزنطية على أنها إمبراطورية تتنازع مع نفسها، وبتحديد أكثر، مع أقسام كبيرة من سكانها، وهذا بدوره يبدو سبباً لانهيار الإمبراطورية البيزنطية تحت سطوة العرب في القرن السابع”. جون ج. فان جنيكل، تصور وعرض الفتح العربي في التاريخ السرياني؛ كسف أثر التغيير في الوضع الاجتماعي للمجتمع السرياني الأرثوذكسي على رواية مؤرخيهم؟، ضمن؛ إيمانويل غرايبو (وآخرون)، المواجهة بين المسيحية الشرقية والإسلام المبكر، ترجمة؛ شرين حداد، بيروت؛ 2016، ص. 227-228.

[14] – الواقدي، فتوح الشام، ص. 129.

[15] – الطيهراني وابن سليمان، من المجدل للاستبصار والجدل، وتسبقه دراسة؛ النساطرة والإسلام – جدلية وتأثر، ذكره؛ بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 99.

[16] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ترجمة رضوان السيد، بيروت؛ دار المدار الإسلامي، الطبعة الثانية، 2006 ص.80.

[17] – Jean Damascène, Ecrits sur l’Islam, (présentation, commentaires et traduction par Raymond Le Coz), Paris, CERF, 1992,  p, 211.

[18] – Ibid, p. 70.

[19] – Ibid, p. 212.

[20] – عبد المسيح الكندي وعبد الله الهاشمي، رسالتان في الحوار والجدل بين المسيحية والإسلام في عهد الخليفة المأمون، تحقيق جورج ترتار، دراسة نقدية ومقدمة؛ سحبان أحمد مروة، باريس؛ منشورات أسمار، 2011، ص. 8.

[21] – المصدر نفسه، ص. 181.

[22] – المصدر نفسه، ص.183.

[23] – المصدر نفسه، ص. 280.

[24] – Pierre Oliver léchot, Luther et Mahomet : Le protestantisme d’Europe occidentale devant l’islam au 16 eme et 17 éme siècle, Paris, Cerf, 2021, p. 67.

[25] – يقول الكندي مخاطبا الهاشمي؛ “هل بلغك، يرحمك الله، أو قرأت شيئا من الكتب المنزلة أو غيرها، أن أحدا من الدعاة استجلب الناس إلى مقالته، ودعاهم إلى الإقرار بما جاء به قهرا وكرها، أو ضربا بالسيف وتهديدا بالسلب والسبي؟” المصدر نفسه، ص. 284.

[26]  – مجادلة الراهب السمعاني مع ثلاث فقهاء مسلمين (604) هـ، ص. 50. (ذكره؛ بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 108)

[27] – انظر حول هذه المسألة؛ الشرفي، الفكر الإسلامي في الرد على النصارى، ص.288.

[28] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ص. 36.

[29] – يقول يوحنا الدمشقي متحدثا عن القرآن الكريم؛ “يقول إنّ هناك ألهاً واحدا خالقا للأشياء كلها، ليس من غير نطفة  (Semence) من مريم،  أخت موسى وهارون.  وكلم الله وروحه، يقول في الواقع، قد دخلا في مريم وزرعا يسوعاً، الذي كان نبيا وعبدا لله. واليهود، حسب قوله، أرادوا، انتهاكا للشريعة، وضعه على الصليب بعد الإمساك به، ولم يصلبوا سوى ظله. ويقول إن المسيح نفسه لم يخضع لا للصليب ولا للموت. وقد أخذه الله إلى جواره في السماء” Damascène, Ecrits sur l’Islam, op, cit, p. 107 (ذكره عبد الإله بلقزيز، ما قبل الاستشراق، مرجع سابق، ص. 110). يعلّق بلقزيز على هذا النص قائلاً؛ “واضح، من هذا الاقتباس، أن معلوماته مستقاة من آيات قرآنية بعينها؛ من سورة ‘الإخلاص’ بآياتها الثلاث؛ من الآيتين 171 و172 من سورة ‘النساء’؛ ثم من الآية 30 من [سورة] مريم وما من شك أنَّه قرأ كتاب المسلمين بلغة التنزيل، ولو أنه لم يكتب بالعربية أو لم صلنا شيء منه مكتوب بهذه اللغة”. (الصفحة نفسها)

[30] – بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 113.

[31] – الشرفي، الفكر الإسلامي في الردّ على النصارى، ص. 318.

[32] – Maxime Rodinson, La fascination de l’Islam, Paris, La découverte, 1989, p.85.

[33] – أفاية، الغرب المتخيل، ص. 123.

[34] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ص.37.

[35] – ألكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحية، ترجمة خلف محمد الجراد، مرجع سابق، ص. 71.

[36] – المرجع نفسه، ص. 131.

[37] – بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 139.

[38] – بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 142.

[39] – المرجع نفسه، ص. 139.

[40] – أفاية، الغرب المتخيل، ص. 132.

[41] – Norma, Daniel, Islam et Occident, op, cit, p. 49.

[42] – أفاية، الغرب المتخيل، ص. 134.

[43] – Jean Flori, Radiographie d’un stéréotype : La caricature de l’Islam dans l’Occident chrétien, dans : Maroc-Europe, N. 3. 1992, p. 94. (cité par : Ibid, p. 135.

[44] – أفاية، الغرب المتخيل، ص. 138.

[45] – الشرفي، الفكر الإسلامي في الردّ على النصارى، ص. 236.

[46] – N, Daniel, Islam et Occident, op, cit, p. 63.

[47] – هشام جعيط، أوروبا والإسلام، ص. 14.

[48] – Jean Flori, Radiographie d’un stéréotype, op, cit, p. 103.

[49] – جون فلوري، المرجعُ نفسه، ص. 103 (ذكره؛ أفاية، الغرب المتخيل، ص. 140)

[50] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى، ص. 67.

[51] – فرانشيسكو غبرييلي، محمد والفتوحات الإسلامية، ترجمة؛ عبد الجبار ناجي بغداد- بيروت؛ منشورات الجمل، 2011، ص.67.

[52] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى، ص. 68.

[53] – بلقزيز، ص. 148.

[54] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا قي القرون الوسطى، ص. 67-68.

[55] – المرجع نفسه، ص. 56.

[56] – P, Léchot, Luther et Mahomet, op, cit, p. 41.

[57] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ص. 83.

[58] – بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 158.

[59] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا قي القرون الوسطى، ص. 55.

[60] – المرجع نفسه، ص. 56.

[61] – المرجع نفسه، ص. 59.

[62] – المرجع نفسه، ص. 60.

[63] – “إذا استثنينا حركة ‘شهداء قرطبة’، وما جرته جرأتها على الإسلام ونبيه من ردود فعل إسلامية قاسية، وما أفصحت عنه الحركة تلك من مشاعر البغضاء والعداء، يمكن القول إنَّ مستوى الصدام الثقافي لم يكن، في حالة المسيحية الإسبانية، بالحدة التي كانها ردّ الفعل السياسي والعسكري الإسباني تجاه المسلمين؛ بعد سقوط آخر ممالكهم في الأندلس. كان الصدام الثقافي قابلا للاستيعاب من الطرفين؛ ضمن الحدود التي سمح بها التسامح الإسلامي تجاه عقائد المخالفين، بينما تجاوز الصدام السياسي-العسكري أي إمكاني للاستيعاب مع جموح الإسبان إلى تصفية المسلمين واليهود وتجليتهم بعد فشل سياسيات تنصيرهم القسري! ولا يكاد يشبه هذا الصدامُ، ونتائجه الدراماتيكية الكارثية، سوى ذاك الذي حصل- في عالم الإسلام هذه المرة- إباَّن الحملة الصليبية؛ وهو قاد إلى صدام ثقافي إسلامي-مسيحي أشدّ عنفاً من ذاك الذي عاشته الأندلسُ وجوارها المسيحي”، بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 162.

[64] – المرجع نفسه، ص. 160.

[65] – A, Barbero, Histoire de croisades, Paris, Flammarion,  2010, p. 6.

[66] – أفاية، الغرب المتخيل، ص. 146.

[67] – A, Dupront, Du Sacré : croisades et pèlerinage, Paris, Gallimard, 1987, p. 20.

[68] – من علامات هذا الضعف استرجاع صقلية سنة 1060، ودخول ألفونسو السادس إلى طليطلة سنة 1085.

[69] – منتغومري واط، تأثير الإسلام في أوروبا العصور الوسطى، ترجمة سارة إبراهيم الذيب، بيروت؛ جسور للترجمة والنشر، 2016، ص. 92.

[70] – وفق ما ورد في القانون الكنسي لمجمع كليرمون، فإنّ الأماكن المقدسة المعنية هي كنيسة المهد، وكنيسة القيامة في فلسطين، والكنائس الشرقية في بلاد المشرق. (بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 167)

[71] – نور الدين أفاية، الغرب المتخيل، مرجع سابق، ص. 124.

[72] – المرجع نفسه، ص. 149.

[73] – واط، تأثير الإسلام في أوروبا العصور الوسطى ، ص. 93.

[74] – Léchot, Luther et Mahomet, op, cit, p. 61.

[75] – Maxime Rodinson, La fascination de l’Islam, op, cit, p.35.

[76] – Alphonse Dupront, Du sacré : croisades et pèlerinage : images et langages, Paris, Gallimard, 1987, p. 179.

[77] – بلقزيز، ما قبل الاستشراق، ص. 175.

[78] – N, Daniel, Islam et Occident, op, cit, p. 102.

[79] – المرجع نفسه، ص. 79.

[80] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ص. 80.

[81] – N, Daniel, Islam et occident, op, cit, p. 190.

[82] – R, Blachére, Introduction au Coran, Paris, Maisonneuve, 1947, p. 9.

[83] – لويس صليبا، قاموس الفلسفة المسيحية، بيروت؛ بيبليون، 2016، ص. 93.

[84] – ذكره؛ سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ص. 81.

[85] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ص. 82.

[86] – يشير بلاشير إلى أنّ ترجمة المبجل للقرآن ظلت تمثل المنبع الرئيس لمعرفة المسيحيين بالقرآن لأزيد من خمسة قرون، وهذا ما يؤكد اكتفاء الوعي المسيحي بها وعدم شعوره بقيام حاجة حقيقية إلى التعرف أكثرن وعلى نحو أدق، على القرآن. انظر في هذا الشأن؛ R, Blachére, Introduction au Coran, Paris, Maisonneuve, 1947, p. 9.

[87] – سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ص. 67.

[88] – الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص)، وما أثارته من تباين على مستوى المواقف السياسية للدول الغربية نفسها، يبقى الدليل الأوقع على انحسار قدرة الأكاديمي في مراجعة الأحكام الغربية عن الإسلام وتاريخه

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete