الإنسان بوصفه إشكاليَّةً في علوم الفهم

 [I] في أوَّلِيَّة التَّساؤل عن الإنسان، وماهيته:

ما يجب أن نتوقف عنده، في التَّساؤل عن الحياة بعامَّةٍ، هو الإنسان. لكن الإنسان مأخوذًا على نحو الحُرِّيَّة، في المعنى الأعم، والأبسط. والأمر، ضمن معانٍ تأسيسية مرتبطة بذاك الذي صار موضوعًا لعلم من العلوم. وإنَّ ذلك مفتوحٌ على صيرورة الاِنتقال من [الإنسان- بوصفه- موضوعًا] إزاء الطبيعة، والطبيعيَّات، إلى [الإنسان- من- حيثُ- الموضوعيَّة Objectivity العِلميَّة الحديثة].

إنَّ المعنى الأعم الذي من شأن الحريَّة، في تناول الإنسان من جهة كونه كائنًا طبيعيَّاً، يشتمل على الأخذ به بواسطة جملة الإمكانات العقلية التي يتوفَّر عليها الإنسان ذاته. لأنَّ الإمكانَ إنَّما هو أوَّل الحُرِّيَّة. لكن، من حيثُ إنَّ الإنسان هذا إنَّما هو موضوع طبيعي، من جهة أولى، وهو واضعٌ للموضوعيَّةِ في الإنسان الطبيعي، من جهة ثانية، وإنَّهُ موضوعٌ قائمٌ برأسه بوصفه مفتوح على الفهم، أو عليه أن يكون كذلك، من جهة ثالثة، فإنَّ، في المعنى الأبسط للحرية، نحن، من جهة كوننا كائنات عالَميَّة على الرَّغْمِ مِنْ أنوفنا، ومن حيثُ إنَّنا ذوات عاقلة، أعني ذوات متسائلة- متفكِّرة- فاهِمَة، على هذا النحو أو ذاك، نتساءَل عن الإنسان، في أوَّلِ بدءِ التَّساؤل عن البداهات التي تقوِّمُ الحُرِّيَّةَ في: -I حياة الإنسان، وتجربته المُعاشة (المعيوشة)، و-II أفكار الإنسان في الداخل، (داخل الذَّات العاقلة)، و-III أفعال الإنسان نحو الخارج (في الواقع المجتمعيّ)، و-IV الوَحدَة المنطقيَّة بين الأفكار والأفعال، التي يؤسس الإنسان عليها وجودَهُ في الهُويَّة، وكينونته في الذَّات.

[II] علم الإنسان، والعلم بالإنسان: في التمايز بين التَّساؤل مَن هو الإنسان؟ والتساؤل ما هو الإنسان؟

إنَّ المعرفة العِلميَّة الحديثة بالإنسان إنَّما هي تقوم على حيثيات وجودية أربعة: إنَّها علم بالإنسان، وفي الإنسان، ومن الإنسان، وللإنسان. إنَّ [في]، و[بـ]، و[لـ]، و[من] إنَّما هي حيثيات أُنطولوجية- إبستيمولوجيَّة تؤسس لنمط من أنماط الفهم العِلميَّة- والفلسفية الحديثة، التي نتجت عن صيرورة الإنسان من الإنسان الطبيعي، إلى الإنسان الثقافي. إنَّ ثُنائيَّة [الطبيعة- والثقافة] لم تكن صيرورة اِنتقالٍ مرتبطة بحياة الإنسان في الخارج فحسبُ؛ بل إنَّها صيرورة اِنتقال أُنطولوجي يخصُّ الداخل. داخل الذَّات العاقلة الحديثة.

وهكذا، إنَّ اِنبثاق علوم الفهم، في أوَّل بدئها، لم يكن ممكنًا لولا الاِنطلاق ببداهة مفادها: إنَّ ثَمَّةَ ضرورة قد ظهرت على السطح تتعلَّق بأن الإنسانَ عليه أن يَفهمَ ويُفهَمَ من جهة كونه نتيجةَ الديالكتيك بين الطبيعة والثقافة، من جهة، ومن جهةِ إنَّه يجب أن ينتقل إلى كونه موضوعًا للديالكتيك هذا، في كل ضروب وجوده، وشروط إمكانه؛ أي بالاِنطلاق من تلك الاِفتراضات والفرضيات Propositions and Hypothesizes التي أخذت على عاتقها وضع الإنسان في الطريق نحو الفهم.

علم الإنسان، والعلم بالإنسان، لم يظهر من خلال الآنثروبولوجيا، ولا من خلال الإثنوغرافيا، ولا من خلال الإثنولوجيا حتَّى. إنَّه ظهر قَبلَ ذلك بكثير. ظهر عندما طرح التساؤل لأول مرة من منظار الإنسان بوصفه كائنًا متوفِّرًا على إمكان أن يُفهم كل شيء بالاِنطلاق منه. إنَّ المَفهَمَةَ Conceptualization لم تكن ممكنة إلاَّ لأنَّ الإنسان كان متوفِّرًا على العقل، ووظائفه التي بالاِنطلاق من الإدراك، والفهم، والوعي، يمكن أن نتساءَلَ عنها في أفق العقلانية الحديثة. إنَّه، متى كان الإدراك اللقاء الأوَّليِّ، اللقاء في الوهلة الأولى بالموضوع موضع التَّساؤل والمساءَلةِ، فإنَّ الفهم يكون على نحو المفاهيم، بناءً وخلقًا وصُنعًا عقليَّاً، وإنَّ الوعي يُصبح فهمًا حاكمًا، واضعًا لجملة المعايير العقلية التي تضع الحدود النظريَّة للموضوعات في العالَم.

وبناء على ذلك، يُصبح العلمُ بالإنسان، أو [العلم- في- ما- هو- الإنسان؟]- متى أُخِذَ العقلُ من جهة كونه كائنًا ثقافيَّاً، أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ- العلمَ بفهم الديالكتيك بين الطبيعة والثقافة الناتج عن وجود الإنسان، على نحو عقليٍّ، والمُنتج لهذا الأخير.

إنَّ التَّساؤل مَن هو الإنسان إنَّما هو يشتمل، داخله، على التَّساؤل ما هو الإنسان. من حيثُ إنَّه تساؤلٌ عقلي قائم على مفاهيم علميَّة، ومعايير عقليَّة، مُمَيِّزةً في كلِّ مرَّةٍ، السبل التي تدخل في عمليَّة إنتاج فهم بالإنسان.

إنَّ ما يمكن أن نتوفر عليه في الوجود البشري في التاريخ، أي الصيرورة المُتصيِّرة Progressive Process التي من شأن إتيان الإنسان إلى الوجود المجتمعيّ، عَبرَ الفعل، الفعل المجتمعيّ المحدَّد قبليَّاً من خلال الفعاليَّة المجتمعيَّة Societal Activity، إنَّما هو، في تواشج بنيوي عميق، يُفهمُ من جهة العقلانية الحديثة Modernism Rationality، بوصفها صيرورة بِنيَة الثقافة المجتمعيَّة، ضمن شروط تاريخية مجتمعيَّة بعينها، أصبحت، بعدَ حينٍ، بِنيويَّةً عالَميَّة. وهذه الأخيرة، يتمُّ اِستجلاؤُها عَبرَ المحطات الأصليَّة الخمس الآتية:

[III] صيرورة العقلانية بوصفها صيرورة بِنيَة الثقافة العالَميَّة:

-I تتضمَّنُ الصيرورة المتصيِّرة معانٍ أربعة دفعة واحدة: هي صيرورة لأنها تنطلق في دراسة الإنسان من الماضي إلى الحاضر، دياكرونيكيَّاً Diachronic، على النحو الذي عَبرَه [يكونُ- الإنسانُ- موضوعًا]، من جهة أولى؛ وهي متصيِّرة لأنها تفهم الإنسانَ وقد صارَ موضوعًا علميَّاً من جهة كونه يُبنى ويُخلق ويُصنع، من جهة ثانية؛ في كلِّ مرَّةٍ يقوم التَّساؤل المختلف الجديد عنه، من جهة ثالثة؛ من قِبَلِ الذَّات الباحثة، أي الذَّات المتسائِلة- المتفكِّرة- الفاهِمَة، وبالتالي الذَّات الواعية وعيًا علميَّاً بذاتِ نفسِها العميقة، من جهة رابعة.

-II يرتبط الفعل المجتمعيّ بالإمكانات الذاتيَّة Subjectivism، والشروط الموضوعيَّة Objectivity التي تتوفَّر، أو يجب أن تتوفَّر من أجل [إتيان- الذَّات- إلى- الخارج]. ولكن، يفهم الإنسان، بوصفه فاعلاً مجتمعيَّاً، ذاته، ومن بَعدُ الهُويَّة الوجودية التي من شأنه، من مصادر وعي ثلاثة على أقل تقدير: إنَّه يفهم طبقاتِ تكوُّنِ هويَّتِهِ اِنطلاقًا من المجتمع، والإنوجاد في المجتمع، من جهة أولى، وهو يتساءل عن ذاته في العلاقة مع العالَميَّة التي من شأنه، العالَميَّة التي تُؤخَذُ على أنَّها وجوده نحو الخارج، والعالَم الذي يتشكَّل لديه بوصفه عالَمًا ديالكتيكيَّاً يأخذ بالتشكُّلِ والتكوُّنِ كما هو، في الوقت نفسه، مأخوذٌ بالتشتُّتِ والتصدُّع والتحطُّم، من جهة ثانية، وهو يعي ذاته، في ضروب الإتيان نحو الخارج على نحو ثقافيٍّ بواسطة، وتوسُّطِ الهُويَّة: الهُويَّة تارةً كوسيلة وأداة في اِرتسام أوَّليٍّ للطريق نحو الخارج (أي بواسطتها)، والهُويَّة تارةً من جهة كونها حقلَ وجودٍ مجتمعي قائم بذاته (أي توسُّطها)، من جهة ثالثة.

-III تتواشج الفعاليَّة المجتمعيَّة مع مفهوم المؤسسة المجتمعيَّة عَبرَ شروط إمكان تَضَعهْا قبليَّاً هذه الأخيرة للذات في أن تكون؛ وتفتح إمكانات الفعل بوصفه قد تم تحديده على نحو بحيث هو، من جهة يتجسَّدُ مجتمعيَّاً، ومن جهةٍ أخرى، يكون متمكِّنًا من التَّساؤل عن ذاتِ نفسه العميقة؛ في علاقة تغذية من الجهتين للذات في أن توجد على نحو الهُويَّة المجتمعيَّة.

-IV تأخذ الذَّات معانٍ عِدَّةٍ في السَّبيل إلى وعيها وعيًا فلسفيَّاً حديثًا. ثَمَّةَ ماهيَّة الذَّات، وثمة بِنيَة الذَّات، وثمة صيرورة الذَّات. نتوفر على ماهيَّة الذَّات عَبرَ وجودِها في الكينونة المجتمعيَّة، أي جملة الإمكانات المتوفِّرة لأنَّ يكون الإنسان أكثر من الهُويَّة، وذلك عَبرَها أيضًا. كما يمكن الحصول على بِنيَة الذَّات من خلال المُكَوِّنات والعناصر التي تأتي من وحدة الإمكانات الذاتيَّة والشروط الموضوعيَّة. كما نظفر بفهم صيرورة الذَّات بتوسُّط المحطات الأساسيَّة التي أسهمت في بنائها. فما هي؟ وكيف نتعرف إليها؟

-V يعني الاِنتقال من التَّساؤل [مَن هو الإنسان؟] إلى التَّساؤل [ما هو الإنسان؟] اِنتقالاً من الهُويَّة إلى الذَّات؛ أي اِنتقالاً من تلك المحدِّدات القَبليَّة Priori للإنسان، إلى الإمكانات التي تتوفَّر لدى الإنسان من أجل قولِ وفعل ما يريد، من جهة أولى،وأوذاوتن وما يفكر به، من جهة ثانية، وما يسوِّغه لنفسه، من جهة ثالثة، وما يفهمه من الخارج، من جهة رابعة. وهكذا، يُصبح مفهوم الهُويَّة، من دون الأخذ بالـ[ميتا- هُويَّة]، مفهومًا ناقصًا في تفاعله مع المُكَوِّنات الخارجية والداخلية التي من شأنه. لماذا؟ لأنه يختزل الإنسان في ما هو قَبليٌّ إزاء الإنسان؛ وليس يكترث بالبَعْدِيِّ الذي يصنعه الإنسان بذاتِ نفسه. وهو، بعبارة صارمة: يتجاوز [الإنسان- في- المنتصف]؛ أي بين القَبْليِّ والبَعْديِّ، على نحو صريح غير آبه بالإنسان مأخوذًا من جهة الفعل.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete