الاجتهاد والحضور في العالم

تكوين

الاجتهاد مفهوم شامل

ينبغي أن نتفق بأن مفهوم الاجتهاد، مفهوم عام وشامل، صحيح بأن المصطلح يأخذ حمولته من بذل الجهد، والجهد هنا يتصل بدرجة أولى بملكة العقل والوجدان، في فهم الواقع ومقتضياته، ومتطلباته، وفي فهم الماضي واستشراف المستقبل، الجهد في التفكير في استثمار مختلف الطاقات والإمكانات من أجل المصلحة العامة للوطن وللناس جميعا، الاجتهاد ينبغي متكاملا وحاضرا في مختلف مجالات الحياة، الاجتهاد في فهم أمر الدين، الاجتهاد في الأدب والفلسفة، الاجتهاد في السياسة، الاجتهاد في مختلف العلوم والفنون…

ما هو معنى الاجتهاد؟

موضوع قديم وجديد في الثقافة الإسلامية، قديم بالنظر لمختلف القامات العلمية التي قالت بكلمتها في مختلف القضايا، على طول تاريخ الثقافة الإسلامية، وجديد بالنظر لمقتضيات الحاضر المتجدد، والمتحول والذي يختلف عن الزمن القديم في كل شيء، صحيح بأن أمر الاجتهاد يتسع ويضيق بين فترة زمنية وأخرى، إلا أنه لم ينقطع ويختفي بالمرة. عندما يحضر أمر الاجتهاد في مقدمة المجتمع فذلك يفسح المجال للعناية بمختلف الآراء ووجهات النظر، والحوار فيما والنظر إلى مكا هو فيه مصلحة للصالح العام، وذلك بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وعندما يكون المجتمع أمام الاجتهاد، يعطي عموم الناس بظهورهم للمستقبل ويقبلون على ماضيهم وينسون حاضرهم، وقد نشبه هذه المسألة بالعربة والحصان، الحصان يتمثل في الاجتهاد الذي يجر ويأخذه المجتمع إلى مقامات أفضل مما هو عليه، مقامات الرقي والازدهار… وعندما يكون المجتمع أمام  فعل الاجتهاد، فهي حالة العربة أمام الحصان إذ تتوقف الحركة والمسير.

المجتمعات التي يتقدمها العلم والمعرفة والسؤال، فحالها يكون أفضل بكثير من المجتمعات التي لا تولي اعتبارا للمعرفة ولسؤال والبحث العلمي، فالتنمية في مختلف المجالات تقترن بالعلم والمعرفة، وإلا أنها ستكون تنمية مغشوشة جسدا بدون روح، ستكون تنمية تابعة مستوردة ولا قدرة لها على الإبداع وعلى تجديد ذاتها، لأنها تفتقد القدرة على الإمساك بمختلف المعلومات اكتشافا واستيعابا وإبداعا وتجديدا… يحظى ذوي الاجتهاد والابتكار في مختلف مجالات المعرفة، بالعناية بأفكارهم ومخترعاتهم النظرية منها والعملية، والتقنية منها وغير التقنية، من لدن المجتمع في المجتمعات التي تعلي من قيمة الاجتهاد، وفي المجتمعات التي لا تولي قيمة للاجتهاد تجد فيه مختلف الأفكار ومشاريع الاختراع على الهامش، ولا أحد يهتم بشأنها إلا فيما هو نادر.

  • الاجتهاد في الثقافة الاسلامية

البحث في موضوع الاجتهاد في الثقافة الإسلامية، بالإمكان تقسيمه الى مرحلتين، مرحلة ما قبل النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ومرحلة ما بعد النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فتجدد الاجتهاد في فهم الواقع ومتغيراته؛ في العالم الإسلامي، بدأ بشكل فعلي مع  أواخر القرن 19م مع كل من الطهطاوي (1801ـ-1873م) وجمال الدين الأفغاني (1838 – 1897م) والكواكبي (1854 -1902م) ومحمد عبده (1889-1905م) وعلى طول الفترة اتي تفصنا عن محمد عبده حتى اللحظة الراهن؛ طرحت الكثير من الرؤى ووجهات النظر؛ وتشكلت الكثير من المشاريع الفكرية التي أغنت المكتبة العربية الإسلامية، بغض النظر عن المشارب الفكرية لتك المشاريع التي تباينت وجهات نظر النقاد والقراء في تقييمها، إذ بالإمكان التمييز بين ثلاث اتجاهات بشكل عام:

أ ـ الاتجاه الذي كانت ملاحظة القراء والنقاد عليه بكونه يتصف بالمبالغة في الارتباط بما قال به الأقدمون، بمعزل عن متطلبات الواع الحالي ومقتضيات العصر؛ إذ لا فائدة بجلب فتاوي ما قال به الأقدمون للإجابة على أسئلة العصر؛ وقد بقي المحسوبين على هذا الاتجاه مقتصرين على مناهج طرق الأقدمين في فهم الشرع والشريعة، وقد يكون الأمر أسوأ عند هؤلاء؛ عندما يكون جلب تلك الفتاوى بدون مراعات اختلاف الزمان والمكان. وقد ساهم هذا الطرح في تعطيل الاجتهاد كما أنه من العوامل التي جعلت جمهور عامة الناس يعتقدون بكون الحل يكمن في تاريخهم وماضيهم بمعزل عن حاضرهم، وقد كان لمختلف كتابات الإسلاميين وذوي نزعة الإسلام الساسي حضور في هذا الاتجاه.

ب ـ الاتجاه الذي رآه جمهور القاعدة من القراء بكونه متأثرا ومنحازا إلى المنظومة الفكرية الغربية بمعزل عن مراعات متطلبات وخصوصيات المحيط الثقافي والاجتماعي الإسلامي؛ تأثرا منهم بالمنهج اللبرالي والاشتراكي من حيث الفهم والتحليل؛ وهذا الاتجاه يعاني  من مشكلة تقليد ونقل  ما عليه بيئة جغرافية لصالح بيئة أخرى مع عدم مراعات الفرق؛ ويكون الأمر هنا أسوأ عندما يتم تجاهل تبيئة الأفكار والمفاهيم تبعا للخلفية الدينية والثقافية والتاريخية التي يختص بها العالم الإسلامي عن غيره؛ و بإمكاننا القول أن هذا ما جعل هذا الاتجاه يعرف تعثرا في الانتشار وصعوبة في أن يشكل حلا لمشكلات الواقع؛ وفي هذا تفويت لفرصة الاجتهاد تبعا لمتطلبات ومقتضيات الواقع؛ ومن البديهي جدا أن المحسوبين على هذا الاتجاه بكونهم يتفاوتون على المستوى المنهجي والمعرفي من حيث وعيهم بالخصوصية الثقافية والحضارية والدينية للعالم الإسلامي.

ج ـ اتجاه المشايع والرؤى الفكرية التي اتصفت  بالوعي باستحضار الخلفية الثقافية والحضارية للعالم الإسلامي؛ وفي الوقت ذاته الوعي بما عليه العصر من روح العلم والمدنية؛  فضلا على الوعي بالتمييز بين العلم والمدنية من جهة؛ وبين الخلفية الايدلوجية الكامنة من ورائها العلم والمدنية تبعا للبيئة التي تشكلت فيها من جهة أخرى، وبهذا فسحت المجال لنفسها بانتقاد ما قال به الأقدمون وتجاوز آرائهم واجتهاداتهم، وفي الوقت ذاته العمل انتقاد المدنية المعاصرة وتعريتها وإزالة لباس القداسة عنها، وهذا أمر يترتب عليه إفساح المجال أمام انخراط الفكر العربي والإسلامي في الحركة الفكرية العالمية، من حيث النقد والإرشاد والتوجيه والاستفادة في الوقت ذاته؛ بالعمل على فهم الخطاب القرآني تبعا لمقاصده العالمية والكونية، بدلا عن الفهم المحلي الذي يكتفي بالفهم الموروث.

لكن مع الأسف المشاريع المحسوبة على هذا الاتجاه؛ والكتابات فيه لم تكن بالشكل الكافي؛ وفي تقديرنا أن هذا الطرح ينبغي الاعتناء به ونحن نتحدث عن الاجتهاد المعاصر. ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا أن الاتجاهان السابقان بدون جدوى بل على العكس من ذلك؛ فلها الكثير من الفائدة وتعد لبنة أساسية يبنى عليها في ترشيد حركة الاجتهاد.

تعمدنا ألا نذكر نمذج من مختلف الكتاب والمؤلفين، بقصد أن لا نتحيز لطرف على طرف آخر، علما بأن الكثير من مؤلفاتهم خاصة المشهورة، معروف عند المختصين والدارسين، والحقيقة أن الدارسين اليوم أمام تراث معربي، وهو تراث أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، لأن ما يميز القرن الذي نحن فيه (القرن الواحد والعشرين) أنه قرن الثورة المعلوماتية والإنترنت بامتياز، فالزمن الحضاري الذي يظللنا اليوم زمن تميز بيسر بلوغ المعلومات التي يتعذر على الفرد الواحد الإحاطة بها بشكل كامل؛ وقد كان لهذا اليسر والاتساع المعلوماتي أثر مباشر وغير مباشر في ذوبان مختلف الحدود بين كل الفئات والمجتمعات على كوكب الأرض؛ سواء كانت حدود باسم ما هو ديني أو باسم ما هو قومي أو لغوي أو جغرافي…وهو أمر حول العالم إلى شبه قرية صغيرة يتواصل فيها الناس بشكل سهل جدا ويتبادلون مختلف المعطيات اليومية التي تعني مختلف مجالات الحياة اليومية.

متى بدأ عصر الاجتهاد؟

  • الاجتهاد وراث القرن 20

نحن اليوم علينا أن نستثمر التعامل مع تراث القرن العشرين وتراث أواخر القرن التاسع عشر، إن فرطنا في العناية بهذا التراث فذلك يعني أننا، سنفقد جزءا كبيرا من الخيط الناظم في طبيعة تشكل واقعنا كما هو الآن في نظرتنا الى ذاتنا وإلى الآخر، بالضرورة أن نعود إلى البدايات، بدايات تعاملها وتفاعلنا مع الحضارة الحديثة، ينبغي أن نقف عند حالات الاندماج بيننا وبينها، ونقف عند لحظات التعارض بيننا وبينها، من جهة تصورنا إلى العالم والإنسان والتاريخ والذات والهوية…الكل اليوم يحضر في العالم من خلال ما يميزه عن الآخر، ويستفيد في الوقت ذاته مما لدى الآخر، والأمثلة كثيرة في هذا المجال، إذ تحضر الصين واليابان في العالم من خلال ذاتها وحضارتها، وفي الوقت ذاته من خلال الآخر أي الحضارة الحديثة، لم يلتحق الصينيون واليابانيون إلى تاريخ أمة من أمم الغرب، مثل بريطانيا وألمانيا، من أجل بناء الحضارة وما شابه ذلك، بل على العكس من ذلك، تحضر الصين اليوم في العالم بإرثها الحضاري، كذلك نحن العرب لا مانع بيننا وبين الحضور في العالم كفاعلين ومتفاعلين معه، لا فائدة من استعداء العالم، ينبغي أن نتخلى عن مختلف وجهات النظر التي تستعدي العالم والحضارة لأن ذلك يدفع في اتجاه التخلي عن الاجتهاد، ولا حضور في العالم، بما يخدم مصالحنا ويحل مختلف مشاكلنا دون اجتهاد.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete