الاعتدال أو الإمساك بالعصا من الوسط في خطاب النساء الرائدات: ملك حفني ناصف نموذجا

تكوين

لئن عُدّت صفة الاعتدال خصلة تميّز أفعال المرء أو أحواله أو أقواله بل تعادل الفضيلة وتمنحنا شعورا بالطمأنينة إزاء من تحلّى بها فإنّها تغدو مناط حيرة وعدم ارتياح إذا كانت صفة لخطاب يسعى في منهجه إلى الإمساك بالعصا (الموضوع) من الوسط. فمن الأسئلة التي يثيرها: هل هو خطاب مهزوز يخشى تبنّي الموقف الحاسم؟ أم هو خطاب حكيم يحرص على التوازن بتجنّب الوقوف على طرف نقيض؟ هل يمكن لذاك الخطاب أن يكون دقيقا متبصّرا وقد رسم غاياته وحدّد مرجعيّاته منذ البدء أم هو انتقائيّ تعتوره ثغرات الاقتطاع والترميق فتجعله فاقدا للتناسق مع مستجدّات الواقع ومقتضيات المعقول؟  هل يمكن أن نحكم على ذاك الخطاب وكأنّه نتاج مستقلّ عن النسق الثقافي الذي نشأ فيه وحظي بمراقبة مؤسّساته؟ ولعلّ السؤال الأخير هو الأهمّ في نظرنا عندما تكون قراءتنا موجّهة إلى الخطابات النسائيّة الرائدة ذات الطابع الاجتماعي في أواخر القرن التاسع عشر، فهي خطابات قلقة تتأرجح بين التمرّد على الأعراف السائدة من جهة واستنكار مظاهر تقليد الآخر الغربي من جهة أخرى منبهرة بالآخر الغربي تارة ومعتزّة بسير أمهات المؤمنين وسيّدات العرب تارة أخرى. فهل يكون ذلك التردّد سببا في الحكم على جلّ أولئك الرائدات بالبقاء في منطقة الظل من تاريخ الفكر النسوي رغم خرقهنّ سمت الصمت واكتسابهنّ سلطة القلم ولو بأسماء مستعارة[1]؟ لِم لَم يكن بإمكان ذاك القلق أن يشكّل منطلقا مناسبا لنسويّة عربيّة خالصة propre بل محلّيّة مصريّة؟

ملك حفني ناصف

هذه الفرضيّة خامرتنا عند اطّلاعنا على كتاب “نسائيّات”[2] وهو مجموعة مقالات وخطب الكاتبة المصريّة ملك حفني ناصف (1886 ـ1918) التي سخّرت قلمها للمطالبة بجملة من حقوق النساء في حدود ما نصّت عليه الشريعة الإسلاميّة، ولئن كانت نهجتها التوفيقيّة مشاكلة لما قدّمه رفاعة رافع الطهطاوي (1801 ـ 1873) وقاسم أمين (1865 ـ1908) فإنّ ما يحسب لها هو عدم اكتفائها بمطلب حقّ التعليم بل تطرّقها إلى مسائل كانت محظورة حينذاك وتتعلّق بنقد العوائد لا سيّما ما خصّ مؤسّسة الزواج مثل سنّ الزواج وتوزيع الأدوار فضائيّا[3].. إضافة إلى أنها كانت أقلّ تمجيدا للمرأة الأوروبيّة وقد عرفتها سيّدة مرافقة للعدوّ الإنجليزي المستعمر، وكان اهتمامها مسلّطا على نموذج المرأة المصريّة الريفيّة بهدف إنصافها، وهو منطلق غير مألوف في فكر الرائدات. لكنّ المسيرة الفكريّة لناصف كانت قصيرة زمنيّا وملتزمة بسقف الرؤى الإصلاحيّة لأعلام النهضة من الرجال مثلما أشار إليه أحمد لطفي السيد في تقديمه للكتاب إذ قال: “وقصارى القول: إن باحثة البادية قد أجادت كل الإجادة في أن جعلت أساس بحثها تقرير المساواة، لا على جهة الإطلاق، بل في حدود الاعتدال والدين”[4].

ورغم ما يحيل عليه هذا التنويه من تواؤم رؤى ناصف مع مواضعات النسق الثقافي السائد في تلك الحقبة فإنّه ينطوي على إعجاب بنجاحها في بناء خطاب متوازن يطالب بقدر ما يُلزم ويدين المجتمع بقدر ما يدين النساء. ولعلّ في اتّزان مواقفها النقديّة استراتيجيّة لتفادي الإقصاء أو العقاب الرمزي الذي كان يسلّط على الرائدات وبحثا عن تموقع في الساحة الفكريّة التي سيطر عليها رجال النهضة فلا تُرشق بتهمة الجنون أو الابتذال والتقليد[5].. غير أنّ اعتماد هذه الرؤية المعتدلة في مسائل اجتماعيّة حارقة مثل المساواة والحجاب والأحوال الشخصيّة.. قد يُعدّ أيضا ضربا من المهادنة التي توهن الخطاب النقدي وتنأى به عن الإشكاليّات الحقيقيّة أو هو طريق ثالث للمراوغة لا المواجهة. فإذا تأمّلنا نقدها طبقات النساء المصريّات تبيّنا أنّه لم يكن إلّا للإشادة بنساء الطبقة التي تنتمي إليها على الرغم مما تناثر عبر مقالات الكتاب من تلميحات لمظاهر الظلم والغبن التي تعرّضت لها عبر دفعها إلى الزواج في سنّ مبكّر ومن شيخ متزوّج..

ماذا فعلت ملك حفني ناصف؟

لقد أعربت ناصف عن تفضيلها نساء الطبقة الوسطى لالتزامهن بما نصّت عليه المنظومة الأخلاقيّة الإسلاميّة من تجنّب الاختلاط بالرجال فتقول: “في كل أمة ثلاث: العامة والخاصة والوسط، وأصحّها آدابًا فيها كلها على الإطلاق الوسط [..] وطبقة الوسط، وهذه دائمًا أحسن الطبقات آدابًا وأكثرهن حشمة ووقارًا”[6]. ولئن لم يكن هذا الرأي جديدا إذ وُسمت هذه الطبقة في العهود الإغريقيّة بأنّها أساس المدينة نظرا إلى امتثالها للقوانين والسلطة فإنّنا نعتقد أنّ موقف الكاتبة يمتح من مفهوم دينيّ إسلاميّ هو “الأمّة الوسط”[7] ثمّ إنّ “وسط الشيء أفضله وأعدله ” أو هو التوسط بين الغلو والتفريط أي العدل الضامن للتوازن الاجتماعي وحافظ للتماسك، وانعدام العدل يخلق الفتنة والنقمة الاجتماعيّتين. ويبدو ذاك الاعتدال مشروطا بالحفاظ على النظام الجندري واحترام الحدود التي تفصل بين الجنسين وهو ما ينعدم في الطبقتين العامّة والخاصّة “متى عرفنا ذلك التقسيم وقارنَّا بين درجة اختلاط النساء في كل طبقة برجالها علمنا تمامًا أن الأكثر اختلاطًا هن الأشد فسادًا”. وينسجم موقفها مع إشعاع رجال الطبقة الوسطى في تلك الآونة فجلّ روّاد النهضة كانوا من أبنائها ومنهم الطهطاوي وعلي مبارك ومحمّد مظهر.. علاوة على عدد من الرائدات مثل نبويّة موسى. وربّما اتّفق موقفها مع تجربة النهضة الأوروبية إذ كان للطبقة الوسطى دور رئيسي في التغيير السياسي والاجتماعي والفكري غير أنّنا لا نعثر على أيّة إشارة إلى ذلك بل كانت ناصف حريصة على الانطلاق من خصوصيّة الواقع الاجتماعيّ العربيّ عامة والمصريّ خاصّة وفي هذا السياق أكّدت على تميّز نموذج المرأة المصريّة الريفيّة: “قارن بين المرأتين المدنية والقروية تجد فرقًا هائلا في الصحة والأخلاق؛ فبينا تنشأ  الأولى خمولا عليلة تجد الثانية مفتولة الذراعين طاهرة السرية والسريرة، تمشي الأولى في الطريق محتجبة، ولكنها غير محتجبة عن أعين السفلة وألسنتهم فيغازلونها على قارعة ً الطريق، وهي تمشي الهوينى متبخترة، أما القروية فإنها تلوح عليها دائما ملامح الجد والنشاط، فإذا مشت خارج بيتها تجدها تسرع الخطى لا تلوي على شيء، وهي لا تغطي وجهها، ولكن هل يجسر أحد على معاكستها؟”[8].

ومعنى إعجابها بالمرأة الريفيّة القويّة هو أنّ إمكانيّات التغيير لا تحتاج إلى البحث بعيدا وقصارى الحاجة إلى الآخر يتمثّل في النموذج التركي الذي يجسّد صورة الاعتدال أو الوسط على حدّ قولها: “إنّ حبس المصريّة السالفة تفريط وحرّيّة الغربيّين الآن إفراط ولا أجد أصلح ما نقتبس منه إلّا حالة المرأة التركيّة الحاضرة فإنّها وسط بين الطرفين ولم تخرج عمّا يجيزه الإسلام وهي مع ذلك مثال الجدّ والالتزام.” فما يجمع بين المصريّة والتركيّة في ذاك الطور هو الهويّة الدينيّة التي لا تمنع من تحقيق مسار تغيير معتدل يحفظ تماسك المجموعة ولا يثير مخاوفها مادام الأنا يعي تموقعه من الآخر الغربيّ.

وفي المقابل عبّرت ناصف عن حذرها من مظاهر التقليد الأعمى للآخر الغربي عامّة والأوروبيّات خاصّة إذ أنّ طريق الإصلاح لوضع المرأة الشرقيّة لا يكون باستنساخ مبتذل ومشوّه لنموذج الغريب مثلما يجسّده ما طرأ على مظهر المصريّة من تغيير: “إذا خرجت إحداهنّ عمدت إلى أحسن الثياب فلبسته وأثقلت نفسها بالمصوغات وأفرغت عليها زجاجات العطر والطيب [..] تجعل من وجهها حائطا تنقشه بالدهان وتصبغه بمختلف الألوان وتتكسّر في مشيتها كأنّها الخيزران..” وتتعدّد مثل هذه الصوّر الكاريكاتوريّة المشحونة بعلامات ارتباك الهويّة وبحضور مخيف لثقافة الدخيل ممّا يهدّد وحدة “الأمّة” واجتماعها وهو ما برّرت به ناصف أسباب حذرها: “لكنّ مجموع الأمّة غير مستعدّ له الآن”. فالحاضنة الغربيّة التي كانت النموذج هي في الان نفسه قوّة استعماريّة والوقوع تحت طائلة السلطة الثقافيّة للمستعمر لا يؤدّي إلّا إلى دعم سيطرة قوى الهيمنة.

لقد كان إمساك ملك حفني ناصف بالعصا من الوسط ضرورة فرضتها آنذاك طبيعة العلاقات مع الأوروبي الاستعماري. ولئن بدا البعد السياسيّ والخوض في شأن النضال الوطني غائبا عن خطابها فإنّ قراءة عميقة في مستوى علاقات السلطة التي تجلّت عبر مختلف مقالاتها تكشف عن وعي الكاتبة بضرورة توخّي الحذر في تغيير منوال الهيمنة الاجتماعيّة الذي يحكم على المرأة الشرقية بالسلبيّة والخضوع. فالانسياق نحو تقليد الغربيّة لا يعني إلّا مزيد الهيمنة الأوربية لأنّه لا يتجاوز شكلا من أشكال التحديث المستورد الذي يزيد من سطوة الآخر اقتصاديّا وثقافيّا. وليس في التشبث الطفوليّ بالمعايير والقواعد الاجتماعيّتين مسلكا أسلم نحو التغيير المنشود لأنّه ليس إلّا وليد رؤية مغالطة تقوم على إنكار سيرورة التبادل الاجتماعي وما يصحبها من خرق متفاوت الدرجات لما عُدّ من الثوابت والمسلّمات. ولذلك يكون التدرج في الإصلاح الاستراتيجيّة الأنسب بل آليّة دفاعيّة عن النفس من خطر الوقوع بين فكّي ثنائيّة (الانغلاق/ الانبتات) ومهما كانت محدوديّة أفق ملك حفني ناصف فإنّها بلا شكّ أبانت عن وعي نسويّ مبكّر بضرورة أن تسعى النساء لأن يكنّ مستقلّات لا تابعات وأن النجاح في ذلك لا يكون إلّا باكتساب هويّة تتّسم بالاختلاف عن نموذجي الدخيل والأصيل معا.

المراجع:

[1] ـ عرفت بعض الرائدات بأسماء مستعارة من قبيل ملك حفني ناصف التي صدرت مقالاتها تحت اسم باحثة البادية ومي زيادة التي استعملت اسم عائدة وايزيس كوبيا في جملة من المقالات الصحفية

[2] ـ صدر هذا الكتاب أوّل مرّة سنة 1910 بتقديم من أحمد لطفي السيد مؤسّس حزب الأمّة (1873ـ 1963). اعتمدنا النسخة الصادرة عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014

[3] ـ تنقد ناصف إلزام الجنسين بأدوار غير قابلة للتبادل أو التعاون وتبريرها بأسباب دينيّة وطبيعيّة لتحويلها إلى مسلّمات: “لو أنّ آدم كان اختار الطبخ والغسل وحوّاء السعي وراء القوت لكان ذلك نظاما متبعا الآن ولما أمكن أن يحاجّنا الرجال بأنّا خلقنا لأعمال البيت فقط ” ص80.

[4] ـ م.ن: ص12

[5] ـ تقول جليلة طريطر: “هكذا تمكّنّ عمليّا من فرض أولويّة سلطة رمزيّة تعصمهنّ من تهم الإسفاف والتنمّر والتهديم وترفع عنهنّ الحجب المعنويّ” مرائي النساء دراسات في كتابات الذات النسائيّة العربيّة تونس، الدار التونسيّة للكتاب، 2021، ص54.

[6] ـ ملك ناصف: نسائيّات، ص17

[7] ـ ورد هذا المفهوم في الآية 143 من سورة: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” وقد اتّفق المفسّرون والفقهاء على اقتران هذا المفهوم بقيمة العدالة والخيريّة التي شاءها الله للأمّة الإسلاميّة.

[8] ـ ملك ناصف: نسائيّات ص69.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete