التدين العقلاني: من سلطة النص إلى أنسنة الخطاب

حينما يتدين الإنسان يصبح ملزما بالانخراط في المنظومة الدينية التي تبناها واقتنع بها، كما يصير عاجزا عن إدراك الحقائق خارج صندوق التفكير الذي تبشر به منظومته. وتشترك جميع أنماط التدين في هذا المعطى، على أساس أن السمة الملازمة لكل تدين هي الوجوب والثبات كما شرحناه سابقا. غير أن الخطورة التي قد تتضمنها بعض أنماط التدين، هو هذا الالتباس الحاصل بين الدين والتدين، أو لنقل هذا التماس الكبير بين مكونين ومجالين لكل منهما دائرة اختصاصه. فالدين هو مجال المقدس، والوحي والثبات والإلزام. أما التدين فهو الممارسة العملية لكل القيم والعقائد والسلوكات الدينية المنبثقة أساسا من دين محدد. وإذا كان هناك تماس شديد بين الدين والتدين، أخذت الممارسة الدينية شكلا مقدسا لدى الكثير من الناس، وبالتالي تأخذ أشكالا أكثر تطرفا وتشددا، على اعتبار أن الممارسة الدينية التي تنطلق من قاعدة مقدسة، تفرز لنا ما يسمى بالعنف المقدس، الذي يشكل في نهاية المطاف النهاية التراجيدية لما يسمى بجنون الإيمان.

انطلاقا من التداخل الحاصل بين التدين كممارسة عملية للدين، والدين كمعطى متعال في الزمان والمكان، يمكننا أن نقول بأن الإنسان له هذا الحق أن يختار ما يشاء من أنماط التدين الموجودة، على أساس أن ذلك مكفول  له بمقتضيات القانون الإلهي والأرضي، وكل المواثيق التي وافقت عليها الإنسانية منذ فجر انطلاقتها الأولى. ولكن حينما يصبح هذا التدين عبءا على كاهل العقل الإنساني، ومثارا لخلق الكراهية والعداوات الإنسانية المجانية، كأنْ يفرض حقائقه على الناس بالإكراه والقوة والعنف، أو يمحي كل أوجه الاختلاف التي خلق عليها الله مظاهر الكون المتعدد والمتنوع، أو يصادر حق الإنسان في التعبير والتفكير والفهم، هنا يصبح التدين ممزوجا بقوة الإكراه والجبر، ومصطبغا بلبوس القداسة التي تفرز لنا واقعا يحول الساحة الإنسانية إلى حالة احتراب أبدية من أجل البقاء والهيمنة والسيطرة الإيديولوجية. وعند هذا الحد يمكن أن تصبح الوظيفة الأساسية للتدين، هي نفسها ما تقوم به الإيديولوجيا إذا ما اعتمدنا تعريف مانهايم نفسُه لها حيث قسّم معناها إلى قسمين: معنى جزئي: والمقصود به دلالة الكلمة على أنّنا نتخذ موقفا متشكّكا اتجاه التصورات التي يتقدم بها خصمنا، إذ نعتبرها تمويهات واعية تخفي الطبيعة الحقيقية لوضع لن يكون الاعتراف بحقيقته متفقا مع مصالح هذا الخصم. أما المعنى الكلِّي فهو أنْ نوضّح سمات وتركيب البناء الكلّي لعقلية ذلك العصر أو هذه الجماعة[1]. هكذا انطلاقا من هذا التعريف يمكننا أن نتبين بأن التدين قد يتحول بفعل عوامل الزمان والمكان، وتأثير الفكر والثقافة والاجتماع إلى إطار مقدس يصعب تجاوزه، أو نقده وإصلاحه. وهو ما يشير إليه التعريف خاصة في المعنى الجزئي للإيديولوجيا، وهو معنى مناقض لما أسس له دو تراسي، حين اعتبر الإيديولوجيا علماً شارحاً أو ما بعد علم meta science  أيْ علم العلم، وقد ذهبَتْ إلى أنّها قادرة على تفسير من أين جاءت العلوم الأخرى، وعلى تقديم تسلسل أنساب علميّ للفكر[2]. وإذا كان التدين يقوم بما تقوم به الإيديولوجيا، فلن يخرج عن هذه الوظائف الأساسية وهي: التجمّع ralliment. ثانيا: التبرير justification. ثالثا: الإخفاء. رابعا: التعيين désignation. خامسا: تجويز الإدراك autoriser la perception[3].

وعليه إذا وصلنا إلى النقطة التي نحاول أن نقوم فيها بالتمييز بين الدين والتدين في ممارساتنا الدينية، فحينذاك يصبح لزاما علينا أن نطرح السؤال التالي: على ماذا يتأسس التدين الإيديولوجي أو التدين الذي يقوم بوظائف الإيديولوجيا؟

  • التدين وسلطة النص:

ليس النص نسقا لغويا أنشأه الفراغ، أو كائنا تعبيريا يحمل خطابا منفصلا عن جذوره الثقافية والفكرية والاجتماعية. إنه خطاب موجه إلى متلقيه بعناية وفي بعض الأحيان بالكثير من الرهبة والخوف. لأن النصوص كما كل الأشياء لا تحمل قداستها من داخلها، ولكن الإنسان من يضفي على النصوص هذه القداسة، أو تلك الدناسة. ولكي نفهم الأمر بشكل جيد يلزمنا المرور على ما كتبه روجيه كايواه عن العلاقة التي تربط الإنسان بمجالي المقدس والمدنس[4]. فالتصورات الدينية في عمومها لا تخرج عن قاعدة التعارض بين عالمين يعيش في حضنهما الكائن الإنساني، عالم من الحرية لا يفرض على الإنسان التزاما أخلاقيا أو عقديا، وبالتالي لا يؤثر في مسألة خلاصه الأبدي، وعالم آخر مليء بالرهبة والخوف، يشل قدرة الإنسان، ويحكم قبضته عليه انطلاقا من مجموعة من الالتزامات والقواعد والأصول. هذين العالمين بالرغم من أنهما يتحركان في مساحة مختلفة ومتعددة، غير أن روجيه كايواه يؤكد على صعوبة الفصل بينهما، بمعنى أن هناك تداخلا كبيرا في بنيتهما إلى درجة التماهي والذوبان. هنا يصبح المقدس تلك القاعدة التي يبنى عليها السلوك الديني، وتمنحه خاصته النوعية، وتفرض على المؤمن شعورا متميزا بالاحترام يحصن إيمانه ضد روح النقد. كما تجعله بمنأى عن الجدل العقيم، بوضعها إياه خارج نطاق العقل. فيصبح المقدس تلك الفكرة التي تتمركز حولها الظاهرة الدينية، إذ أن الدين في نهاية المطاف هو المجال الذي يتم فيه تدبير المقدس.

لكن كيف تنشأ هذه القداسة؟ وما هي مميزاتها؟

القداسة هي الشيء الوحيد الذي لازم الكائن الإنسان منذ بداية تشكل الظاهرة الدينية، فالأشياء، والأزمنة والأمكنة والموجودات على اختلافها وتنوعها كلها كانت مظاهر للقداسة، ولهذا يؤكد الباحثون في هذا المجال بأن ليس هناك ما لا يصلح أن يكون مجالا مقدسا. لأن المقدس ليس صفة كامنة وثاوية في الأشياء ذاتها، بل نحن من نضفي على هذا الشيء أو ذاك طبيعة مقدسة، ويمكننا أن نقول بأن المقدس يشبه الهبة أو الأعطية التي يمنحها الإنسان ويضفيها على الأشياء، حتى أن رجلا هنديا من داكوتا، مثل ذلك للسيدة فلتشر FLETCHER  بقوله:” كما إن الطائر المحلق في الأجواء يتوقف ليبني عشه، والإنسان السائر يتوقف حيث يطيب له التوقف، كذلك الألوهة جعلت من الشمس مكانا نتوقف فيه، ومن الأشجار والحيوانات وأماكن أخرى. ونحن إنما نتضرع إلى هذه كلها لأن بلوغنا مكان توقف المقدس، يخولنا أن نستمد منه العون والبركة “[5]. هذا يجرنا إلى قضية مركزية تحدث عنها جيرار برونر وهو يصف ظاهرة التطرف والعوامل الكامنة وراءها، حيث أكد على أنه مهما كان التقدّم المحرز في المعرفة الإنسانية، فإنّ الفرد يظلّ ما كان عليه دائماً؛ أي فرداً محدود القدرات على المعرفة بحدود لا يمكنه تجاوزها، ولا إمكانيّة لأيّة علاقة للإنسان مع العالم إلاّ بطريقتين: المعرفة أو الاعتقاد. بمعنى آخر أنّ أحد التجلّيات الكبرى للعقل الإنساني هي محدوديته، وعدم قدرته على التحوّل لعقل محض لثلاثة أسباب: أوّلاً: عقولنا محدودة الأبعاد، لأنّ وعينا منحصر في مساحة محدودة وحاضر أبدي، وهو ما يمنعنا في الكثير من الأحيان من الوصول إلى المعلومة الضروريّة لإصدار حكم متوازن. ثانيا: هو محدود أيضاً ثقافيّا، لأنّه يفسّر المعلومات على أساس تمثّلات سابقة. ثالثا: هو محدود معرفيّاً، لأنّ قدرتنا على معالجة المعلومات ليست لانهائيّة، ولأنّ تعقّد بعض المسائل يتجاوز إمكانيّات الحسّ السّليم لدينا.

هذه المحدودية الإنسانية في أبعادها الثلاث هي ما تجعل من القداسة والتقديس أمرا ممكنا، وأمرا ملازما للظاهرة الإنسانية حتى في العصر الذي تحول فيه العقل البشري إلى عقل علمي في الكثير من تجلياته. فبماذا يتميز المقدس؟

  • الحظر والمنع: لأن الإنسان لم يترك شيئا إلا وقدسه، أو جرب تقديسه من العوالم كلها، فقد كان فعل التقديس هو فعل اختياري إنساني يبدي من خلاله الإنسان تصرفات تبعث في النفس مشاعر الرهبة والإجلال، فالمقدس دوما محفوف بطابع المحظور والممنوع والخفي، وعليه يفترض أن يكون هناك تباعد بين الدنيوي والمقدس من أجل مصلحة الدنيوي، وسلامته واستمراريته.
  • المقدس مصدر كل فاعلية: هناك علاقة تربط الإنسان بالمقدس، مفادها أن فعل التقديس يمتزج دوما بطابع الخوف والرهبة، بدليل أنه يعزو له كل المصائب التي تواجهه، أو يجعله حلا من الحلول لكل الآمال التي يرجو تحقيقها. وهذا الأمر يدل على أن الاعتقاد السائد لدى الكائن الإنساني اتجاه المقدس جعله ينظر إليه من زاوية أنه مصدر كل فاعلية، بمعنى أنه يتمتع بقدرة جذب سحرية، وقوة إغراء، وأقصى درجات الخطر.
  • طاقة خفية على الإدراك: وهو ما تمت الإشارة إليه سابقا بكون المقدس من خلال هذا المنظور يشكل طاقة خطيرة وخفية، لا يسع المرء إلا الخضوع لهيبتها وجبروتها، لهذا كانت المشكلة الوحيدة التي تواجه من يريد الوقوف في وجهه والسيطرة عليه، هي كيفية استمالة هذه الطاقة وتوجيهها بالأسلوب الذي يقي الإنسان المواجه من مغبة المقدس وخطورته. فهو قوة لا تقبل التدجين، وعصية على الترويض، لا تقبل التجزئة ولا التقسيم.
  • الهيمنة على الدنيوي: بفضل نظام الحظر والمنع الذي يتميز بهما المقدس، يخضع الدنيوي لهيمنة المقدس، والتهديد الكامل له بالتدمير، وفي الجهة المقابلة هناك دوما محاولة الاستيلاء على ميزة القداسة والإحلال مكانها من طرف الدنيوي، وفي بعض الأحيان محاولة تجريد المقدس من قداسته والانحلال هو نفسه في العدم. هذا الصراع الأبدي بين المقدس والدنيوي يجعل المهمة صعبة لمن يحاول أن يقيم علاقة متوازنة بينهما، هنا تتدخل الطقوس للتنظيم وخلق مساحات تحد من حالة الاحتراب بينهما، والطقوس نوعان على حد ما قرره روجيه كايواه[6]: الأول: إيجابي يتولى مهمة تحويل طبيعة كل من الدنيوي والمقدس بحسب حاجات المجتمع، والثاني: سلبي يحاول أن يحافظ على كينونة المقدس والدنيوي ضمن مجالاتهما الحيوية دون أن يحدث بينهما احتكاك أو صدام. والطقوس في نهاية المطاف لا تخرج عن طقوس التقديس، أي إدخال أشياء إلى عالم القداسة، وإضفاء السمات القدسية على مظاهر هذا العالم، أو طقوس الإبطال أو التكفير، وهي تحويل المقدس من مجاله الحيوي إلى مجال يخرج فيه من حالته المقدسة إلى الدنيوة أو الدناسة.
  • النظام والالتزام: حينما يقدس الإنسان الأشياء يتبع الإنسان منطقا صارما اتجاهها، وذلك بالالتزام بنظام المقدس، واحترام محظوراته وممنوعاته. وإذا ما تأملنا الطريقة التي يخضع بها الكائن الإنساني أمام مقدساته، نجد بأن الغاية منها هو حفظ النظام الكوني، ولأن النظام الكوني الطبيعي مكمل للنظام الاجتماعي، فإن أي مس بالنظام الكوني هو مس بالنظام الاجتماعي والعكس صحيح. لهذا نرى بأن أي مس بالتشريع الديني يرى فيه الكهنوت الديني مسا بالنظام العام ورغبة في إثارة البلبلة والفتنة.

هذا على مستوى تقديس الأشياء، والدوافع الكامنة وراءها، وإذا عدنا لثقافتنا النصية، فسنجد بأننا نحيى في صلب ثقافة مجدت اللغة والنص على حساب العقل والتعقل والتنوير والتغيير. هذا التمجيد هو نفسه إضفاء الطابع القدسي على موروث ثقافي روائي أنشئ في زمان ومكان معينين، وفق ظروف وسياقات اجتماعية وفكرية ونفسية استجابت لمتطلبات الواقع المعيش. ولكن كيف تقدس النص، بالرغم من أن هناك فاصلا زمنيا كبيرا بينه وبين متلقيه، هنا يمكننا أن نطرح التساؤلات التالية: كيف يديم النص سلطته علينا؟ وهل النص يحمل حقيقة موضوعية في ذاته، أم من خارجه؟ وهل النصوص ذات بعد واحد أم هي مجرد إمكانات واحتمالات لا حدود لها؟

هنا نستحضر ما كتبه علي حرب[7] حول النص والتباساته، والكيفية التي يمارس بها علينا سلطته العلوية والمقدسة، ولكن ضمن استراتيجيات لا بد من الكشف عنها بشكل يحقق الغاية والاختصار.

  • التدين النصي خطاب تمويهي: تمارس النصوص والروايات المختلفة في السياق الثقافي الإسلامي نوعا من التمويه المقصود، هذا التمويه ينحدر من قاعدة أصيلة تتميز بها كل النصوص، وهي كل أن خطاب نصي هو خطاب حاجب. أي أنه يحجب الكثير من الأشياء في الوقت الذي يوهمنا بأنه يقول كل الأشياء. لهذا فوظيفة الناقد للنصوص الملتبسة بطابع مقدس وديني هو الكشف عن البداهات الكامنة وراءها، والدوافع المحركة لرواتها، والآليات التي تختفي وراءها كل المحركات الإنسانية. فمثلا هناك مقولة مشهورة تؤكد بأن الإنسان كائن عاقل، فهذا هو منطوق المقولة، ولكن الشيء المخفي داخل هذا النص هو أن هذه المقولة تخفي بهيمية الفرد وحمقه. كما أن هناك من يؤمن بأن العقل الإنساني هو عقل محض، وهذا يخفي حدسيته أو حسيته، معنى ذلك أن فعل النقد أو وظيفة الناقد في هذا الصدد يجب أن تنصب على الكشف عن الآليات التي يختفي وراءها الخطاب وقواعده.
  • النصوص سواء: بما أننا نتحدث عن النصوص، فإن ذلك يمنحنا عدم التمييز بينها، لأن كل النصوص سواء، بالرغم من تعدد مجالات اشتغالها، واختلاف الموضوعات التي تقاربها. فقاعدة كل النصوص سواء هي قاعدة تؤكد أننا أمام بنية لا يمكن التمييز بينها إلا من خلال بعض الجزئيات والتفاصيل الصغيرة. وهذا هو دور المشتغل بالنصوص، والناقد لها. هذه الكينونة يلزم أن ننظر إليها دون أن نحيل إلى مؤلفها أو واقع خارجي كما تؤكد الفلسفة التفكيكية في أبعادها المختلفة. وهذا ما أكده علي حرب وغيره من التفكيكيين العرب، حينما قالوا بأن النص لا يشير إلى الواقع أو يحيل إليه، فالنص الذي يكون بهذه الشاكلة لا أهمية له، لأنه ينتهي بنهاية الواقع الذي يحيل إليه. فنحن لا نرجع إلى مقدمة ابن خلدون مثلا لكي نتعرف إلى الواقع الذي عاصره المؤلف، بل لكي نفهم الواقع المعاصر الذي نحياه في اللحظة الآنية. هذا يعني أننا حينما نربط النص بالواقع فإننا نقوم بإهدار كينونته.

وربما هذه الإشارة التي أكد عليها علي حرب، قد تم التطرق إليها مع العديد من التفكيكيين الغربيين، خاصة أنه لا ينكر أنه من أتباع هذا المذهب ورواده الكبار في العالم العربي والإسلامي، بل ألف فيه كتابا سماه بهكذا أقرأ ما بعد التفكيك. هنا يمكننا أن نسلط الضوء على هذه الفلسفة ونجلي بعضا من أبعادها المهمة في قراءة النصوص. باختصار شديد يعد مفهوم التفكيك إحدى النتائج الأساسية لما يطلق عليه البعض فترة ما بعد الحداثة، وهي فترة تميزت بالتشكك في كل شيء، وحينما نتحدث عن فترة ما بعد الحداثة لا بد أن نمر على المساهمة الكبيرة التي قام بها جان فرنسوا ليوتار[8] إذ يقول في كتابه «حالة ما بعد الحداثة» أننا نعيش الآن في حقبة تمر فيها «النصوص السردية الرئيسية» المشرَّعة بأزمة وتشهد تراجعًا. وإذا أردنا أن نتحدث عن الفلسفات الكبرى والنصوص السردية الكبرى فيمكننا أن نقول عنها أنها تتميز بمجموعة من السمات نختصرها على الشكل التالي:

  • اعتبار التاريخ تقدمي
  • اعتبار المعرفة شيئا يحررنا
  • اعتبار أن هناك وحدة خفية تجمع بين جميع أشكال المعرفة

أي أن ليوتار يعتبر بأن فترة ما بعد الحداثة فترة اعتراضية اعتراضا حادا على كل السرديات الكبرى، بما فيها السرديات الخلاصية، أو التي تبشر بنهاية حالمة للواقع البشري، بدءًا من الخلاص المسيحي إلى اليوتوبيا الماركسية، والسردية التي تتناول انتصار العلم. إذن من خلال هذا المنظور الفكري، فالتفكيكية مذهب يؤمن بفكرة نسبية الأشياء وعدم إطلاقيتها؛ وهنا يمكننا الإشارة إلى أن محاولة إيجاد مفهوم للتفكيكية هي محاولة تكتنفها مجموعة من الصعوبات، لسبب بسيط كما يقول كريستوفر باتلر هو أن محاولة تعريف التفكيكية يتناقض بالأساس مع أحد مبادئها الرئيسية؛ وهي إنكار إمكانية الوصول إلى تعريفات حقيقية أو نهائية. لأن كل التعريفات هي في نهاية المطاف تلاعبً تعريفيًّ إضافيًّ باللغة. لكن هذا لا يمنعنا من أن نضيء على بعض جوانب التفكيك ومميزاته ورؤيته للأشياء والمحيط، وسنحاول الاختصار قدر الإمكان حتى يسهل الاستيعاب.

  1. رفضت التفكيكية السماح لأي نشاط فكري أو نص أدبي أو تفسير لهذا النص أن يخضع للتنظيم عبر أي تسلسل هرمي تقليدي من المفاهيم.
  2. تمكَّنت التفكيكية من خلال اضطلاعها بتلك المهام من الإخلال بتنظيم النص، والطعن في صحةِ ما اعتبره البعض مجرد تحديدات «اعتباطية» لمعناه؛
  3. قضية موت المؤلف قضية محورية ومعناها هو أن التلاعب اللغوي بالنص أو تفسيره ينبغي أن يكون بمعزل عن أيٍّ من النوايا المفترضة لدى المؤلف.
  4. الاهتمام بالمؤلف سيؤدي إلى منح امتياز للطرف الخطأ.
  5. المعاني بالنسبة لهم تتولد من القارئ، وبإعلان «موت المؤلف» نكون قد قضينا على المؤلف باعتباره المالك الرأسمالي البرجوازي الذي يسوِّق معانيه.
  6. موت المؤلف يحرر النص من قبضة المؤلف، فيكون النص هنا قد طبقت عليه كما يقول باتلر قواعد الديمقراطية كي يلهو به الخيال كما يشاء.
  7. التفكيكيون يهتمون بالمجاز كشكل من أشكال التلاعب اللغوي وهي قراءة أبدع فيها الكثير من الفلاسفة كنيتشه وأفلاطون اللذان كانت قراءاتهما ترى بأن ما يبدو حرفيًّا في ثنايا اللغة هو في الحقيقة مجازي.
  • حقيقة النص: يرى علي حرب بأن النص أيا كانت طبيعته هو علاقة جديدة، أو إمكانية أخرى مع الحقيقة أو ما يعتبره الإنسان حقيقة. لأن الحقيقة من خلال المنظور التفكيكي ليست شيئا جاهزا يمكن الإمساك بها، أو التعرف على جوهرها، وإنما هي كل إمكانية يخلقها النص نفسه. بتعبير آخر، النص لا يبحث عن الحقيقة، إنما يفرض حقيقته. من هنا يصبح النقد هو انتقال من نص الحقيقة إلى حقيقة النص. وهذا الأمر سيدفع بالضرورة إلى نقطة أكثر أهمية مما قلناه، وهي أنه لا مجال للتخطئة والتصويب في مقاربة النصوص. هنا يمكننا فهم ما قام به الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، فما حاول نقضه من كلام الفلاسفة مثل ابن سينا والفارابي كان أقوى من أن يتهافت، أي صمد وما زال يفرض نفسه علينا ويحثنا على قراءته والتفكير فيه.
  • استراتيجية النص: لكل نص من النصوص استراتيجياته، لهذا كثيرا ما نتساءل: لماذا سكت هذا النص عن هذا الأمر أو ذاك، ولم يفصح عنه؟، فالنص لا يسكت فقط لأن مؤلفه لا يرغب في الإيضاح، أو يخاف سلطة أو عقاب، أو له مبررات تربوية وأخلاقية. بل النص يسكت لأن السكوت سر من أسراره، فكل نص له فراغاته وصمته، وله زلاته وأعراضه، وله ظلاله وأصداؤه. وهذه هي استراتيجياته الخاصة من الحجب والإخفاء. فمثلا حينما يقول الأصوليون وكل الحركات الإسلامية بأن الحكم لله، فهذا القول يمارس حجبا مضاعفا، فهو يخفي طبيعة السلطة وناسوتيتها. كما يحجب رغبة القائل بهذا الكلام بسط هيمنته على من يوجه إليهم الخطاب. وأخيرا يحجب ذاته أي كون النص يمارس سلطته على القارئ أو المتلقي. وفي الخطاب الماركسي فهو يدعوك إلى محاربة الإمبريالية والهيمنة لكن ينسى بأنه يمارس عليك نفس الإمبريالية، أي إمبريالية المقولات والتصورات.
  • دوافع عقلنة الدين:

حينما نريد أن نتجاوز سلطة النص، وبالتالي إخضاعه إلى منطق التفكيك للكشف عن بداهاته، ومنطلقاته الأولى، والبحث عن الاستراتيجيات التي يختفي وراءها خطاب، فسنجد بأن ضرورة عقلنة النصوص، أو تأويلها إلى حيث المصلحة والمقاصد الشرعية والإنسانية تغدو أكثر إلحاحا من ذي قبل، لأن دوافع عقلنة الدين لم تعد مسألة نظرية لا علاقة لها بالواقع، بل هي جزء أصيل من أجزاء هذا النظام النصي الذي نتحدث عنه، ويمكننا أن نختزل دوافع عقلنة الدين، والسير به إلى أفق النظام والتسامح والتعايش الفكري والثقافي الإنساني فيما يلي:

  • حالة التعصّب: يقصد بالتعصّب الحالة التي يتمسك بها الشخص بأفكاره وعقائده ومشاريعه، معتمدا في ذلك على نزعة تدميرية تستطيع أن تدمر كل شيء، وتحرق كل سبل التواصل بين بني الإنسان. لقد عبر عن هذه الحالة النفسية والفكرية المحامي الفرنسي إبان الثورة الفرنسية بقوله:” إنّنا كالحقيقة لا نلين صامدين متجانسين، وأقول: إننا تقريبا كالمبادئ لا نطاق[9]“.
  • حالة التقديس لكل مجتمع مقدساته، ولكل جماعة بشرية ما تعتبره محلا للاحترام والتقدير، بل يمكننا أن نقول بأن المجال الديني هو المجال الذي يتم فيها تدبير المقدس بشكل كبير. لكن بالرغم من أن العلاقة بين الإنسان والمقدس هي علاقة جدلية تتجاوز حدود المعقول والمنطق، غير أن المقدّس هو الشيء الوحيد، والسمة البارزة لكل الأفكار الدينية، والنصوص المقدسة، حيث تحمي هذه القدسية كل فكر من سهام النقد، فيتم الشّعور والإحساس بحصانة المؤمن من كل ما يهدد كينونته ووجوده الذاتي والنفسي. لهذا يقول هنري كوربان بأن المقدس هو الفكرة التي يتمحور حولها الدّين. فالأساطير والمعتقدات تحلّل مضمونه على طريقتها، والطّقوس تستخدم خصائصه، والكهنة يجسّدونه والمعابد والأماكن المقدّسة والصّروح الدّينية توطّده وتجذّره في الأرض ومنه تنشأ الأخلاق الدّينية. الدّين هو المقدس”[10].
  • حالة التخلف الفكري والثقافي: وهذه الحالة تدوم كلما هيمن الوعي الأسطوري والخرافي على البنية الذهنية والفكرية للإنسان، وهي نفسها الحالة التي عانت منها المجتمعات الأوروبية إبان العصور الوسطى، أو عصور الظلمات،وتتداخل فيها أشكال التفكير، خاصّة الفكر الخرافي الأسطوري. وعبر عنها جاك لوغوف[11] بأنها تتميز ب:

– هيمنة العقيدة اللاّهوتية على العقل.

– صورة الإنسان المتشائم الخائف من الذنوب والخطايا

– الزّهد في الحياة واحتقارها، واعتبارها دار عبور إلى الحياة الحقيقية

– هيمنة العقلية الرّمزية أو الخيالية على وعي الناس

المراجع:

[1] – مانهايم، كارل.(1980). الإيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة. ترجمة محمد رجا عبد الرحمن الديريني.(ط1). شركة المكتبات الكويتية. ص: 247.

[2] – هوكس، ديفيد.(2000). الإيديولوجية. ترجمة إبراهيم فتحي. المجلس الأعلى للثقافة. ص: 45.

[3]الإيديولوجيا. إعداد وترجمة. محمد، سبيلا. وعبد السلام بنعبد العالي. دار توبقال للنشر. ص: 53/54.

[4] – روجيه، كايواه. الإنسان والمقدس. ترجمة سميرة ريشا. المنظمة العربية للترجمة. ط1، 2010. ص: 35.

[5] – المرجع السابق. ص: 37 .

[6]  نفس المرجع. ص: 41.

[7] – علي، حرب. نقد النص. المركز الثقافي العربي،ط4، ص: 5.

[8] – كريستوفر، باتلر. ما بعد الحداثة مقدمة قصيرة جدا. ترجمة نيفين عبد الرؤوف. مؤسسة هنداوي، ط1، 2016، ص: 19 .

[9] – شوفييه، برنارد. المتعصبون. ترجمة. قاسم المقداد. دار نينوى. ط1. 2017. ص: 106.

[10] – روجيه، كايواه. المرجع السابق. ص: 36.

[11] – هاشم، صالح. (2005). مدخل للتنوير الأوروبي. (ط1). بيروت. دار الطليعة. ص: 18

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete