التعبيرات الدينية ومحدودية اللغة: نموذج النبي موسى أو العالَم من خارج النص

تكوين

تقديم:

تحاول هذه المقالة أن تستطلع العلاقة بين الذَّات والعالَم خارج النص الدِّيني، رغم التأريخ لهذه العلاقة داخل النص الدِّيني ذاته؛ ما يكشف، قدر الإمكان، عن علاقة هذه الذَّات باللغة الدِّينية بصفتها الوسيط المعياري بين المُقدَّس والواقع، أو بصفتها الوسيط المعياري لنقل المُقدَّس إلى الحيز الزماني والمكاني الذي تتمثله الذَّات الإنسانية وتتبنَّى سياقاته.

قصة سيدنا موسى

وفي سبيل تحقيق أفضل نتيجة للغاية من هذه المقالة، فقد اخترتُ جزءاً من سيرة النبي موسى كما وردت في العهد القديم أو في التوراة في المرة الأولى، وكما وردت في النص القرآني في المرة الثانية؛ تحديداً الجزء المُتعلق بقصته عندما ذهب للقاء ربِّهِ لتلقِّي الألواح التي تحوي التعاليم الجديدة لبني إسرائيل. وهذا الاختيار ليس للمقارنة بين النصين: التوراتي والقرآني، بل لغاية الكشف عن الإمكانات التي تنطوي عليها اللغة الدينية التي نقلت إلينا تجربة النبي موسى، وصارت جزءا من السياق اللغوي للنصّ الديني.

ماذا قال الله تعالى لموسى عليه السلام؟

أولاً: القصة في الإصحاح الرابع والعشرين من سِفر الخروج في العهد القديم (التوراة):  

“وَقَالَ الرَّبُّ لمُوسَى: “اصْعَدْ إِلَىَّ الْجَبَلِ، وَكُنْ هَنَاكَ، فَاُعْطِيَكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتَعْلِيمِهِمْ”. فَقَتمَ مُوسَى وَيَشُوعُ خَادِمُهُ، وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى جَبَلِ اللهِ. وَأَمَّا الشُّيُوخُ فَقَالَ لَهُمُ: “اجْلِسُوا لَنَا ههُنَا حَتَّى نَرْجعَ إِلَيْكُمْ، وَهُوَذَا هَارُونُ وَحُورُ مَعَكُمْ، فَمَنْ كَانَ صَاحِبَ دَعْوَى فَلْيَتَقَدَّمْ إِلَيْهِمَا”. فَصَعَدَ مُوسَى إِلَى الْجَبَلِ، فَغَطَّى السَّحَابُ الْجَبَلَ، وَحَلَّ مَجْدُ الرَّبِّ عَلَى جَبَلِ سِينَاءَ، وَغَطَّاهُ السَّحَابُ سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ دُعِيَ مُوسَى مِنْ وَسَطِ السَّحَابِ. وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَدَخَلَ مُوسَى فِي وَسَطِ السَّحَابِ وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً”[1]

فهذه الدَّعوة التي تلقاها موسى للقاء ربِّه وتلقِّي كلامه المُنصَّص في الألواح، استلزمت تحضيراً تخارج عن اللغة، وتجاوزها. فقد طُلبَ من موسى أن يصعد إلى الجبل ليُعاين هناك، في ذلك الحيز الجغرافي العالي والمُشْرِف، حضور الإله في الزمن. لكن تلك المُعاينة استلزمت ستَّة أيام من تحضير النبي الموسى المحكوم بالفناء أو بناموس الزمن، لكي يشهد في اليوم السَّابع حضور الإله. فقد انطوى هذا التحضير على تغطية الجبل بالسُّحُب، مع ما يحتمله وجود السُّحُب في المخيلة الإنسانية من جَمَالٍ مُشوِّشٍ للذهن، نتيجة عدم القدرة على الإبصار بشكل جيد أثناء معاينته وشهود حضوره. فالسُّحُب الكثيفة حالة جميلة إذ تُغطِّي الآفاق، لكنه نوع من الجَمَال الوحشي الذي يشوّش الذهن ويفقده القدرة على التمييز، إذ تنعدم القدرة على تمييز الأشياء بشكلٍ جيد، وتزداد هذه القدرة على عدم التمييز عندما يتواجد المرء وسطها أو في مركزها. ولربما كان هذا الاستمرار في حضور السُّحُب، وما تنطوي من إمكان مُرْبِك، لمدة ستة أيام مقصوداً لتهيئة موسى لما هو أعظم، وهو حضور الإله الخالد في الزمن الفاني، والذي حدث، أي حضور الإله أو تجليه في الزمن، بالفعل في اليوم السَّابع. “وَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ دُعِيَ مُوسَى مِنْ وَسَطِ السَّحَابِ”، وعندما حدث التجلِّي الإلهي في ذلك المكان، “كَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ”.

إنَّ الحادثة المركزية بين النبي موسى وربّه، حدثت خارج اللغة، أي في العالَم؛ وإنْ نُقِلَت إلينا عبر اللغة. ما يُوحي بأنَّ ثمة شيء تنطوي عليه علاقة الإنسان بالوجود خارج الأُطُر التي يمكن أن تصطلح عليها اللغة، حتى ولو كانت لغة دينية، لا سيما إذا ما نُظِرَ إلى الحادثة المسرودة، سواء في العهد القديم أو في النص القرآني، كما حدثت في لحظتها الأولى، أي قبل تأريخها في النص الدِّيني. لكن قبل أن نُفصِّل أكثر في هذه النقطة، لنرى تجليات الحادثة الموسوية كما وردت في النص القرآني أيضاً.

قصة موسى في القرآن

جاء في الآية 143 من سورة الأعراف:

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة الأعراف، الآية 143)

فطلب موسى برؤية ربِّه، لم يُقابل بالرفض مباشرة، بل بالخضوع لامتحان، كخطوةٍ تمهيدية، يختبر قدرة النبي موسى على تحمُّل رؤية ربه دون تبعات وأضرار، قد تفضي به إلى الموت. لذا حدث التجلِّي الإلهي على الجبل، فنُسف الجبل من مكانه، فعرف موسى أن لا طاقة له على تحمُّل رؤية ربِّهِ جهاراً نهاراً، لذا اكتفي بحضوره المعنوي، فالآيات الواقعية دلَّت عليه، بما كاد أن يُهلك موسى. فالحدث المركزي، أي عملية الوصل بين موسى وربِّه، حدث خارج اللغة، أي في العالَم، لكن هذا الحدث أو هذه التجربة بالأحرى وصلت إلينا عبر اللغة في النص الديني. فالأساس، أو الجذر التواصلي بين موسى وربِّهِ، تمَّ بناء معماره في العالَم، وليس في النص، إذ لم يكن ثمة حضور للغة، فهي تجربة خارج المعرفة أصلاً. العالَم كما هو، أو بصيغته الموضوعية بعيداً عن أي مقاربة معرفية له من قبل الذَّات. فالحيز المكاني [جبل سيناء] استطاع أن يستوعب الحضور الهائل والمصيري للإله في الزمن، رغم ما حلَّ بهذا الحيز المكاني من نسف كامل أو دَكٍّ كامل وفقاً للمفردة القرآنية: {…فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا…}. لكن هذا الحضور استعصى على الحيز المعرفي للنبي موسى، إذ لم يجد آلية عقلية تستطيع استيعابه، لذا تَرَكَ الأمر لجسده، الذي عاين انعكاس الحضور الإلهي على الجبل المدكوك، فخَرَّ الجسدُ صريعاً أو مصعوقاً بالأحرى: {…وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا…}. وعندما استفاق، وبدأ يعي ما حدث، سَلَّمَ بحضور رَبِّهِ تسليماً إيمانياً {…فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ…}. بمعنى أن حضور الإله في العالَم لم يصل موسى مُباشرة، بل عبر وسط الحيز الجغرافي، أي عبر موجود من موجودات العالَم، فالجبل هو الذي تلقَّى الموجة الأولى من الحضور الهائل للإله، وما وصل النبي موسى من هذا الحضور أربكه إرباكاً شديداً، أفقده وعيه وأنامه، ما جعله يُؤمن، عندما استفاق ووعى ما حدث، بهذا الإله وحضوره، إيماناً كاملاً.

إقرأ أيضاً: قصّة موسى والراعي … كيف يتكلّم البشر مع الله؟

لكن المفارقة أنَّ هذه الحادثة حدثت بصيغتها الأولى هي حادثة خارج نطاق اللغة، أي لم تكن اللغة هي الوسيط المعياري لنقل التجربة الروحية التي حدثت بين موسى وربّه، بل توسَّطَ العالَم أو أحد موجوداته [الجبل] تلك العلاقة، ما يجعل النص الذي أرَّخَ لتلك الحادثة يتجاوز ذاته، حتَّى وإنْ كان مُحمَّلاً بحمولات دينية كبيرة. لكن قبل التقدُّم أكثر في تبيان ذلك، دعونا نسأل سؤالاً، يمكن أن يكشف لنا الإمكان اللغوي للنص الديني، ممثلاً بتجربة النبي موسى مع ربِّهِ:

هل هذه التجربة تجربة خاصة بالنبي موسى، أم هي عامة يمكن أن تطال أي مؤمن؟

هذا السؤال بحاجةٍ، لتوضيح سياقاته، إلى تفصيل في نقطتين مركزيتين:

النقطة الأولى: أنها تجربة خاصة بموسى حصراً. أعني أن الحادثة المركزية، كما وردت في النصِّين التوراتي والقرآني، والتي حدثت في زمن مُحدَّد [ربما قبل الميلاد ببضعة قرون] وفي مكان مُحدَّد [جبل سيناء أو طور سيناء] وبإزاء شخص مُحدَّد أيضاً [النبي موسى]؛ هي تجربة خاصة بالنبي موسى تحديداً، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، تعميم تفاصيلها التي حدثت معه في المرة الأولى، على أي أحد في العالَم.

لكن السؤال المُتشابِك مع هذه النقطة، ويمكن أن يكشف لنا أكثر عن الإمكانات التي تنطوي عليها هذه الحادثة: لماذا حدثت هذه التجربة مع النبي موسى على نحو مخصوص؟ وهل كان لدى النبي موسى مُشكلة من نوع ما [مشكلة معرفية أو لغوية تحديداً] تجعله ينتقل من المرحلة المعرفية في معاينة حضور الإله، إلى مرحلة المُعاينة ضمن تجربة حسيَّة؟

للإجابة على هذا السؤال يمكن أن نستعين بالرؤية التي قدَّمها المفكر السوداني “محمد أبو القاسم حاج حمد”[2] في كتابه (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والطبيعة والإنسان)، ونرى إلى أي حدٍّ يمكن أن تخدم السياق الذي تبني له هذه المقالة. لبلورة فكرته عن العالمية الإسلامية الثانية[3]، فَرَّقَ “محمد أبو القاسم حاج حمد” في كتابه المذكور، بين التجربة الحسية للنبي موسى وتجربة الوعي المحمدي، وسأعمل هنا على نقل وجهة نظره فيما يتعلق بالتجربة الحسية للنبي موسى، لما له من علاقة بفكرة المقالة التي تفترض أن النص الدِّيني، وإنْ كان مسطوراً في لغة ما بما هي وسيط بين الإنسان وإلهه، فإنَّ هذا النص يحتمل وسيطاً آخر بين الإنسان وإلهه إلا وهو العالَم. ففي الحديث عن التجربة الحسية للنبي موسى كتب “محمد أبو القاسم حاج حمد”:

شاهد أيضاً: قصة مقتل عثمان ابن عفان، علي إبن أبي طالب، والحسن إبن علي

“كان موسى يرى الأشياء في ظاهرها، وقد كان جوهر العقائد في عصره هو تجلّي الله بالخارق من أعماله، وتجسيد إرادته بطريقة ملموسة. لم يكن المنظور الغيبي لفعل الله –دون خرق للعادة- وفي إطار شروط الزمان والمكان طريقة الرسالات السابقة في فهم العلاقة بالله، فكان لا بد من تطوير وعي الأنبياء بهذا الجانب المهم في بناء الحركة الكونية وعلاقة الله بتصريفها. وكان لا بد أن يأتي الدرس لموسى الذي يتلٌّى عن الله كلمات مباشرة عبر الحسّ المباشر، أي التجربة المرئية، ليدرك الصلة بين عالم الحركة الظاهرة وعالم الغيب، لا كصلة بين عالمين منفصلين يوجد في أحدهما الله الذي طلب موسى مرة رؤيته عياناً: {وَلَّما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُر إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَاني وَلَكِن انظُرْ إِلَى الجَبَل فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ فَلَّمَا تَجَلَّى رَبُّهُ للْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّل الْمُؤْمِنِينَ (143)} (سورة الأعراف)، ولكن كعالم واحد ممتد في بعضه، بحيث يبدو وضعنا الأرضي مظهراً لحقيقة أكبر منه تحتويه وتفعل فيه. كان على موسى أن ينتقل من رؤية البعد الواحد في الحركة الموضعية إلى البعد غير المرئي –البعد الغيبي، وكان على موسى أن ينفذ إلى هذا البعد الغيبي عبر البعد الموضعي نفسه بما تعطيه تجربته”[4]

سيدنا موسى والخضر

ولغاية الحفر عميقاً لوجهة نظره، كما يراها حاج حمد، فقد عزَّز منظور النبي موسى الحسي للعالَم، من خلال قصته مع العبد الصالح، إذ عجز موسى عن إدراك الغاية غير المنظورة من أفعال العبد الصالح، لأنه كان يرى في الوجود محض تجربة حسية.

“فعلم موسى (خبري): {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68)} (سورة الكهف). والعلم الخبري هو العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر، وهو في حال موسى المعلومة السمعية أو النقلية أو المعلومة الموضعية. وتلك ثقافة عصره. أما علم الرجل الصالح، فهو علم متعلّق بفهم الأمور في حقائقها عن الله”[5]

ربما يكون ما طرحه “محمد أبو القاسم حاج حمد” وجيهاً بطريقة أو بأخرى، لناحية أنه يُقدِّم إجابة لسؤال: لماذا حدثت مثل هذه الحادثة مع النبي موسى تحديداً. فموسى وفقاً لحاج حمد كان يتجلَّى في التجربة الحسية، أكثر من تجليه في الوعي العقلي. لذا كان طبيعياً أن يطلب رؤية إلهه رؤية حقيقية، عيانية، وجاهية. لذا حدث الاختبار لقدراته وإمكاناته في مشهدية التجلي الإلهي على جبل سيناء، ووضعه أمام حالة شديدة وقوية من الإرباك المُهْلِك. لكن هذه النقطة المتعلقة بخصوصية الحادثة لناحية حصرها في النبي موسى تحديداً، لا تشرح لنا كيف يتعامل معها المؤمن مرحلة ما بعد قراءتها في النصِّ الديني؛ وهذا ما سأفصِّلُ فيه فوراً.

النقطة الثانية: أنها صارت جزءاً من النصِّ الديني، لذا صارت، في مرحلة ثانية، برسم المؤمنين بذلك النص. أي أنَّ سياقات هذه الحادثة تجاوزت النبي موسى كفرد خاض تلك التجربة وعاين تفاصيلها؛ إلى المؤمنين عامة، بما أنها أصبحت جزءاً من الكِتاب الذي يؤمنون به ويقرأونه بشكلٍ دائم. فالحادثة المركزية خاصة بالنبي موسى، لكن دلالات هذه الحادثة عامة.

النقطة الأولى، من النقطتين المركزيتين أعلاه، تقول إنَّ الحادثة في مستواها الأول هي حادثة ما قبل توثيقية؛ أي أنها وقائعها جرت في زمان ما ومكان ما وبإزاء شخصية ما، بعيداً عن أي سياق معرفي. والنقطة الثانية، تقول إنَّ الحادثة أصبحت جزءاً من النصِّ الدِّيني، لذا صارت جزءاً من وعي المؤمنين بهذا النصّ.

في المستوى الأول من الحادثة، يُنظر إليها على أن لا وسيط لغوي توسَّطَ العلاقة بين الذَّات والعالَم الذي تجلَّى فيه الإله. وفي المستوى الثاني، لا يمكن النظر إلى الحادثة والعلاقة بين الإله والإنسان التي جرت أحداثها في العالَم أو في بقعة مُحدَّدة من العالَم إلا عبر الوسيط اللغوي الذي تجسَّدَّ في النص الديني.

لكن السؤال المطروح ها هنا، هو: هل ينطوي هذا الوسيط اللغوي على أي إمكان خارج اللغة؟ أو ما هي دلالات حادثة تجلِّي الإله للنبي موسى بالنسبة للقارئ؟ هل يكتفي بقراءة النصِّ، أم ثمة احتمالات أخرى له؟

نعم، ثمة احتمالات أخرى له، إضافة إلى الاكتفاء بقراءته. فالقراءة، أي قراءة النص القرآني، بحدِّ ذاتها إنجاز على المستوى الإيماني. ففي الحديث النبوي: “من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف” [حديث حسن صحيح، جامع الترمذي (سنن الترمذي). والغالبية من الناس تبقى في مستوى القراءة، أذ تبقى اللغة هي، كما هي متجسدة في النص، الوسيط المعياري الأمثل بين الإنسان وربِّهِ. لكن دائماً ما تمَّ البحث عن دلالاتٍ أخرى، بما لا يُلغي دلالة القراءة بحدِّ ذاتها. واحدة من هذه الدلالات هي التي تحدَّثَ عنها “محمد أبو القاسم حاج حمد”، لكنها بتقديري بقيت ضمن السِّياق اللغوي للنص الدِّيني، أي أن الدلالة التي أرادنا حاج حمد أن نتوصل إليها بقيت داخل النص. لكن أنا أقول إنَّ حادثة النبي موسى انطوت على بُعد آخر خارج اللغة، أو يمكنني الاصطلاح عليه بأنه انتقال من ما هو معرفي قارٌّ في النصِّ، إلى ما هو جَمَالي منثور في العالَم. أي أنَّ دلالة النص تتجاوز النص ذاته، ليس بالعودة إلى الحادثة المركزية من حيث هي كذلك، لناحية أنها خاصة بالنبي موسى؛ بل لانطواء تلك القصة على علاقة هائلة بين ما هو إلهي وما هو إنساني، لكن خارج حدود اللغة، أي في العالَم ذاته قبل أن تُقاربه اللغة في نصٍّ ديني.

تاريخياً، احتكمت رؤية الإنسان المُتدين للوجود وموجوداته، إلى ما تُمليه السياقات اللغوية للنص الدِّيني. بمعنى أن المتدين، لا يمكنه النظر إلى أي: 1– فكرة. أو 2- شخص. أو 3- شيء، في الوجود، إلا وفقاً لما جاء في نصِّهِ الديني؛ أو وفقاً لما يُمليه عليه نصه الدّيني حصراً، ما يجعل منه ابناً باراً لذلك النصّ. فهو إذ يتعامل مع: 1- فكرة ما مثل فكرة الخلايا الجذعية، فإنَّ تعامله معها يخضع، بشكل حاسم ومبدئي، لاعتبارات النص الديني وموقفه منها، تحديداً عبر الوسطاء، لكي لا تزلّ يده أو يُخطيء عقله أو يسهو لسانه، ويقع في عواقب وخيمة بالتالي، ليس في العالَم الفاني فحسب، بل وفي العالم الأبدي أيضاً. وهو إذ يتعامل مع: 2- شخص ما، مثل أن يكون بوذياً هذا الشخص، فإنه يتعامل معه وفقاً لما يُمليه ويفرضه عليه نصه الدِّيني، لكي يبقى في منطقة الأمان الهُويَّاتي. وهو إذ يتعامل مع: 1- شيء ما، مثل نجمة في السماء، فإنه ينظر إليها محكوماً باشتراطات نصّ الدِّيني الذي يؤمن به، وليس كما هي، أعني تلك النجمة، في حقيقة الأمر. فالنص، والحالة هذه، مرجعية مبدئية وقصوى بالنسبة للمتدين، إذ لا يمكنه النظر إلى أي شيء في العالَم إلا بمنظار النص. ففي ذهن المتدين من جهة، وواقعه العملي من جهة ثانية؛ النص معمار قدسي هائل، وهو، أي المتدين، مُقيم فيه بشكلٍ أبدي، من لحظة الميلاد إلى الأبد في العالَم الآخر. لكن في حادثة النبي موسى ساعة أراد رؤية ربِّه، احتمال تجاوزي لمركزية النص بما هو وسيط بين المُتدين والعالَم، من صغرياته إلى كبرياته، أو من عالم ما تحت الذرة إلى عالم ما فوق المجرة. ثمة إمكان في الحادثة للخروج من النص، ومُعاينة العالَم كما هو، بما يجعل من حادثة موسى حادثة عابرة أو حادثة مُـتجاوزة لسياقاتها اللغوية إلى حالتها البكر، ليس لناحية تكرار تجربة الوصل بين ما هو إلهي وما هو بشري كما حدث مع موسى، بل في النظر إلى العالَم كما هو، دونما اشتراطات مسبقة من النص، أو دون توسّط من النص في النظر إليه. أي أن التجربة الموسوية هي تجربة ما قبل لغوية، لكن المفارقة أن هذه التجربة وصلتنا عبر نصٍّ ديني، تَوَسَّطَ رؤيتنا ليس لتلك التجربة فحسب، بل للوجود برُمَّته أيضاً. لكن المفارقة، مرة أخرى، أنَّ تلك التجربة تنطوي على إمكان تجاوزي للنص، أي أنها تدعو المرء إلى التواصل مع الوجود وموجوداته مباشرة، بعيداً عن الارتهانات المبدئية للنص. وهذا مؤشِّرٌ على قوة العالَم وحضوره خارج نطاق اللغة، لا سيما أن اللغة إبداع بشري حديث، مقابل عالَم مُوغل في قِدمه. فهو، أي العالَم، ينطوي على موجودات تستعصي على اللغة، أي أنها تستعصي على العقل أساساً، بما أن اللغة هي إحدى النتاجات المعرفية للعقل مرحلة ما بعد الوعي والعمليات العقلية العليا. فحالة الإرباك الشديد التي حدثت لموسى نتيجة مُعاينة: السُّحب كما في العهد القديم (التوراة)، أو النور كما في النص القرآني، أهلكته. فالجَمَال الفائق فيما تمت معاينته من قبل النبي موسى، تجاوز الأُطُر العقلية التي يمكن لأي لغة أن تُقاربه. فالنص وإنْ كان وسيطاً بين القارئ الحالي وحادثة موسى من جهة، ومُحمِّلاً هذه الحادثة بحمولات دينية مقدسة، إلا أنه ينقل القارئ إلى ما خارج النص، أي إلى العالَم. وبرأيي أن هذه الإزاحة اللغوية لما هو خارج اللغة أصلاً؛ متعلقة بالنقطة المركزية في الحادثة الموسوية [نسبة إلى النبي موسى]، لأنها خرجت، في لحظتها الأولى، من إطار ما هو معرفي وقرَّت في سياق جَمَالي أبهرَ موسى وأربكه، بل صعقه[6]، وفقاً للنص القرآني. أي أنه كينونته لم تتحقَّق، وفقاً لمواضعات تلك الحادثة، في سياق معرفي أساساً، بقدر تحقُّقها في سياق جمالي، استعصى على أي تأطير لغوي، ما أودى بموسى إلى الاغتباط المُهلك، الذي كاد أن يميته! ولربما اتفق ذلك الحضور الهائل للجمال مع متلازمة ستندال Stendhal Syndrome التي تُصيب المرء عندما يتعرَّض أو يُشاهد جمالاً أخاذاً أو فائقاً، كالذي عاينه ستندال[7] نفسه يوم أن زار فلورنسا في العام 1817م. لكن من المفارقات اللافتة أنَّه أرَّخ لتلك الغبطة أو النشوة التي أصابته بالكلمات! “كنت في حالة من النشوة من فكرة الوجود في فلورنسا بالقرب من الرجال العظماء الذين رأيت مقابرهم، واستمتعت بتأمل الجمال البديع، لدرجة أنني شعرت عند نقطة معينة بمشاعر سماوية. كأن كل شيء يتكلم بشكل جلي لروحي. آه، لو أنسى ما حدث، لقد كان قلبي يخفق بشدة، ورويدا رويدا بدأت أفقد إحساسي بالحياة، ومضيت وأنا أخشى أن أخرّ مغشيا عليّ في أي لحظة”. أي أنَّ ما وصلنا من تجربة ستندال وصلنا عبر اللغة، لكن التجربة الحقيقة حدثت خارج اللغة. وهذا هو الإمكان الكبير الذي تنطوي عليه حادثة النبي موسى، فهي حادثة ذات ثلاثة أبعاد:

ما أهم القيم الإسلامية في قصة موسى عليه السلام؟

البُعد الأول: مُتعلق بالحادثة الأصلية التي حدثت لموسى، وعاين فيها حضور ربّه حضوراً في العالَم، وليس في النص.

البُعد الثاني: مُتعلق بتلقي المؤمنين لتلك الحادثة عبر النص الديني. فاللغة التي سُطِّر بها النص الذي أرَّخ لتلك الحادثة هو الوسيط بين تلك الحادثة معرفتنا بتلك الحادثة.

البُعد الثالث: مُتعلق بتجاوز النص الذي أرَّخَ لتلك الحادثة، والدُّخول في العالَم لمعاينته بعيداً عن النص. مع التأشير أن هذا التجاوز لم يأتي من فراغ، بل من طبيعة الحادثة الأصلية، التي تجلَّت في الجَمَالي أكثر من تجليها في المعرفي.

فهذه الحادثة، أبانت عن إمكان ينطوي عليه النص، تحديداً عن الإمكان التواصلي بين الذَّات والعالَم بشكلٍ مُباشر، بدون وساطة النص. فمرحلة ما بعد القراءة، لمن أراد بلوغها، مُتاحة منذ اللحظة الأولى، فهي تُخرج القارئ من النص وتُدخله مباشرة إلى العالَم لمعاينته واكتشاف كنوزه كما هي، دون اشتراطات مُسبقة تفرضها الطبيعة القُدسية للنص الديني.

إقرأ أيضاً: قصة ابني آدم وجدل القرآن والإنسان

المراجع:

[1]  العهد القديم، سفر الخروج، الإصحاح الرابع والعشرون.

[2]  “محمد أبو القاسم حاج حمد” مفكر سوداني، ولد سنة 1941م، وتوفي سنة 2004م. اشتهر بمؤلفاته في حقل الدراسات الإسلامية، التي منها: (منهجية القرآن المعرفية: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية) وكتاب (إبيستمولوجيا المعرفة الكونية: إسلامية المعرفة والمنهج) وكتاب (الحاكمية). لكن الكتاب الذي حقَّق له حضوره الكبير في حقل الدراسات الإسلامية هو: (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة).

[3]  ثمة فرق بين رؤية المفكر السوداني “محمد أبو القاسم حاج حمد” كما اصطلح عليها في كتابه (العالمية الإسلامية الثانية). وبين رؤية المفكر السوداني، أيضاً، “محمود محمد طه” كما اصطلح عليها في كتابه (الرسالة الثانية من الإسلام). الذي أُعدم سنة 1985م، بعد أن أُتهم بالكفر والرِدَّة.

[4]  محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، دار الساقي، بيروت، ط3، 2012، ص 278.

[5]  المرجع السابق، ص 279.

[6]  جاء الصعق على عدَّة معانٍ في التفاسير، منها الغشي ومنها الموت. ذكر الطبري في تفسيره: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} قال: مغشيًّا علـيه. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، قال: زعم السديّ، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أنه قال: تـجلـى منه مثل الـخنصر، فجعل الـجبل دكًّا، وخرّ موسى صعقاً، فلـم يزل صعقاً ما شاء الله. حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً } قال: مغشيًّا علـيه. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { فَلَـمَّا تَـجَلَّـى رَبُّهُ للْـجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قال: انقعر بعضه علـى بعض. { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً }: أي ميتاً. حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً }: أي ميتاً.

يمكن العودة إلى تفسير الآية 143 من سورة الأعراف في كتاب (تفسير البيان في تفسير القرآن) للإمام الطبري. ويمكن العودة إلى النسخة الإلكترونية من التفسير على الرَّابط التالي:

https://www.altafsir.com/Tafasir.asp?tMadhNo=0&tTafsirNo=1&tSoraNo=7&tAyahNo=143&tDisplay=yes&Page=5&Size=1&LanguageId=1

[7]  ستندال كاتب وروائي فرنسي، اسمه الأصلي هو ماري هنري بيل Marie Henri Beyle  ولد في العام 1783 وتوفي سنة 1842م. عُرف أكثر ما عُرف بتحفته الأدبية رواية (الأحمر والأسود).

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete