الحداثة بين الأحادية والتعددية

أكبر مشكلة تواجه الباحثين المختصين في نقد الحداثة، بهدف ترشيدها، هو أن النتيجة تكون عكسية، وذلك باختزال الحداثة في كل ما هو سيئ بالتركيز على مساوئها وتضخيمها، الى درجة تنسي وجهها الإيجابي والمضيء. وهذه المشكلة ترتبط بجمهور من القراء الغارقين في الانتماءات الأيدلوجية التي تردد مقولة الغزو الفكري، وهي مقولة تتزاحم في الأذهان مع الغزو العسكري، فكلاهما يتم مقابلته بالرفض، في غفلة على أن الأفكار لا حدود لها وأن الفكر من مميزاته أنه إنساني بطبعه. مع الأسف عند فئة من القراء، يتم التعاطي مع مختلف المؤلفات التي انتقدت الحداثة بمعزل عن الوعي المعرفي والمنهجي الذي يفضي إلى الترشيد والبناء، والتفكير في نموذج حداثي أكثر رشدا وأكثر إنسانية.

تختزن الحداثة الغربية تصورات الذات الغربية بأنها هي مركز العالم، وللآخر في الهامش الملحق بالمركز، ووفقا لتصورات كبار الفلاسفة الأوربيين مثل ديكارت وسبينوزا وكانط وهيكل… استندت الحداثة في تصوراتها على مبدأ العقلانية والحرية وقد ترتب عن هذه الأسس اتساع رسالة التنوير، بخروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه ومن حالة العجز في استخدام عقله، وفقا لتعبير كانط. ورغم أن الحداثة تتضمن جوانب إيجابية فهي تتضمن جوانب سلبية قاتلة في حاجة إلى تبيينها وتسليط الضوء عليها من خلال الفصل بين الحداثة كمعطى فلسفي وبين منجزاتها في العلم والتكنولوجيا وأدواتها في التنظيم الإداري والمؤسسات… فمن إيجابيات الحداثة؛ أنها غيرت وجه العالم، وحررت الانسان من كثير من المسلمات والتصورات الخاطئة التي حل محلها الفهم العلمي، كما أنها ساهمت بشكل كبير في تنظيم المجال العام ببسط مختلف القوانين والإجراءات الخاصة بذلك، وحسَّنت بشكل كبير من الوضع الاجتماعي والمعاشي والصحي والطبي لمختلف فآت المجتمع… الحداثة تميل الى الشفافية وكشف كل ما هو مخفي بالاعتماد على مختلف الوسائل والأدوات العلمية في مجال الطبيعة والانسان والمجتمع. وهذا لا يعني أن الحداثة سليمة من العيوب وبأنها لا تؤثر بشكل سلبي على جزء من إنسانية الانسان وكينونته.

ويعتبر نيتشه من بين النقاد الأوائل للحداثة فهو أول طعن في الحداثة محذرا من وجهها الرديء، بقوله: احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته، احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل أفرادا طيعين، خانعين، مستعبدين، يعيشون كالآلات، احذروا من هذه الدورة الطاحنة للمال ورأس المال والانتاج الذي يستهلك نفسه بنفسه، احذروا من عصر العدمية الذي سيجيئ لا محالة. إذ لا يكفي أن تسقطوا الآلهة القديمة لكي تُحِلُّوا محلها أصناما جديدة، لا يكفي أن تنهار الأديان التقليدية لكي تحل محلها الأديان العلمية، فالتقدم ليس غاية بحد ذاته إنما هو وسيلة لإسعاد الانسان.[2] ولكن المشكلة عند نيتشه أنه لم يقدم رؤية ومنهج قيمي وأخلاقي بديل يجعل للحداثة حدود ومجال معقول يحفظ للإنسان حريته ويحيل بينه وبين الاستعباد والخضوع لسلطة المال والإنتاج من أجل الإنتاج ذاته الذي يفرغه من محتواه الإنساني ويحوله إلى إنسان مستهلك شبيه بالآلة، حينها يفقد التقدم الغاية التي بشر بها وهي اسعاد الإنسان ورفاهيته، وهذا وجه من وجوه الحداثة اليوم. مع العلم أن نيتشه قد انتقد الدين بالأخص الذي عايشه، والأخلاق في نظره نسبية كلها ولا مطلق فيها، وبهذا يكون نيتشه على وعي بما يمكن أن تؤول إليه الحداثة، وفي الوقت ذاته فهو فاقد للثقة من إمكانية ترشيدها وتخليقها، وهذا فراغ منهجي في تصورات نيتشه. وانطلاقا من فلسفة نيتشه ستواجه فلسفة الحداثة كثافة في النقد والمراجعة والتحليل من لدن جمهور من الفلاسفة والمفكرين من بينهم هيدغر ودريدا وألان تورين…

سقطت الحداثة في فخ تشيئ الإنسان بتزايد الانغماس في كل ما هو مادي، وإهمال كل ما يتعلق بالجوانب الروحية في الإنسان المرتبطة بقيمته العليا وأبعاده الأخلاقية… وهذا ما جعل الإنسان يضيع في دائرة الاستهلاك المفرطة وهذا يعني أن الحرية التي كانت شعارا لفكرة الحداثة قد انتهت إلى سجن للذات وعبودية الاستهلاك…

قيمة الحرية في الفكر الحداثي وهي أسمى قيمة تعلي من شأن الإنسان، تم إقبارها في القرن العشرين بفعل الاستعمار والاحتلال الاربي لمختلف بلدان العالم. مع الاسف “مشهد اللقاء الاستعماري؛ لم يكن لقاء بقدر ما كان غزوا وهيمنة ودهس للناس وأساليب حياتهم”[3] وقد لعب الإعلام دور تحويل الإنسان إلى كائن مستهلك لا يفكر إلا من خلال جانبه البيولوجي. فانقلاب أسس الحداثة بتحول الحرية إلى عبودية والعقلانية إلى غرائزية هو ما تعبر عنه فلسفة ما بعد الحداثة التي أصبحت تمثل الدعاية الفكرية للنزعات الفوضوية ذات الطابع التشاؤمي. الحداثة بشكل مباشر أو غير مباشر فهي في قفص الاتهام، من وراء إنتاج القوميات المدمرة التي كانت أوروبا أحد ضحاياها في الحرب العالميتين السابقتين… بل أن ما يجري اليوم في العالم من حروب تقودها أنظمة ترفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان… فضلا على تدمير الطبيعة باستغلالها المفرط غير الواعي.

من بين المشكلات المنهجية للحداثة هي تمركزها حول ذاتها وحول نموذج واحد ونسخة واحدة يتم الرجوع إليها، بينما في الواقع ينبغي الوعي بأن الحداثة حداثات منها الصالح والطالح مع الأسف “الحداثة جعلت من الغرب مركزا للتقدم يجب محاكاته، وأن النسخ المقلدة له لا يمكن أن تصل إلى درجة نقاء الأصل، بما يحقق مزيدا من العنصرية والتمركز حول النزعة الأربية، ويحدث هذا تماسا مع موقف الغرب مما يحدث في الشرق الأوسط اليوم، والذي يصل في معظم الأحيان إلى حد التطابق مع الموقف الاستعماري، بصورته الفجة، والتي يحاول إخفاءها بالتجمل، ولكن تكشفه أطماعه لدعم مصالحه “[4] ولهذا علينا أن نعي بأن فكر ما بعد الحداثة؛ لا يمكن بحال أن يقدم نفسه بديلا عن فكر الحداثة لكونه فكر لا يقدم نفسه كمرشد أو ناقد للحداثة من مطباتها بقدر ما هو صورة  واعية وكاشفة لسلبياتها.

اختزال الحداثة في نموذج الغرب لوحدة، مضرة بروح الحداثة، لأن فكرة الاختزال تعد من بين المشكلات التي تواجه الفكر النقدي. الاختزال له أوجه متعددة من بينها اختزال مختلف المعاني والتصورات والتوجيهات بالرجوع والعودة إلي الزعيم، القائد المطلق، الذي تكون كلمته فوق الجميع، وهي مشكلة تظهر بادية في الأحزاب الأحادية التي لا تقبل إلا بنفسها فقط، إذ يُختزل الشعب في الحزب ويُختزل الحزب في الزعيم، فلا مجال على الإطلاق للاختلاف مع مختلف القرارات التنظيمية الحزبية، لأن ذلك يعني خيانة الحزب وخيانة الحزب في حد ذاتها خيانة للشعب وللأمة. هذا النموذج من الاختزال عاشته أوروبا بالأخص قبل الحرب العالمية الثانية مع الحزب النازي أو حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني، وكذلك الحزب الشيوعي السوفيتي الذي عمر وانتهى بنهاية الاتحاد السوفياتي، ولا ننسى بأننا في العالم العربي قد قلدنا هذا النموذج من الاختزال السياسي بصورة سيئة.

عندما نختزل الحداثة في النموذج الغربي؛ ماذا يعني هذا، يعني أن هناك نموذج واحد للحداثة، لا يعترف بمختلف النماذج الأخرى، فهو يرى بأن كل ما يقبل عليه هو الصواب، وليس له القدرة ليعترف بأخطائه، وكل من خرج عليه أو انتقده ينظر إليه بعين الريبة والخيانة، وهو غير مرغوب فيه، وهذا هو وضع خطاب كل من انتقد الحداثة الغربية في الدول الغربية، بمعنى أن الغرب يتمادى في أخطائه وفي نزعته الاستغلالية والحرص على مختلف مصالحة حتى ولو كلفه ذلك سفك دماء الأبرياء كما حدث في العراق وفلسطين…

عندما نفكر في الحداثة علينا أن نفكر فيها بمنطق التعدد والتنوع “الحداثات”، بدل اختزالها في نموذج الحداثة الغربية الذي لا يرى التعدد إلا من داخله فقط، بالقول بالحداثة الاربية والحداثة الأمريكية…وتجاهل الحداثة العربية والحداثة الإسلامية…والإعراض عن الاعتراف بفكرة تعدد أنواع الحداثة سيزيد من تأزم واقع الحداثة، لأن واقع الحداثة شيء، ورح الحداثة شيء آخر، فالذي يهمنا نحن هو روح الحداثة؛ وينبني على ثلاثة مبادئ: مبدأ الترشيد، مبدأ النقد، مبدأ الشمول.[5]

 

المراجع:

[1]  كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2] نقلا عن، فتنة الحداثة، قاسم شعيب، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، ط.1. 2013م، ص. 25

[3]  جير مندر ك بامبرا، إعادة التفكير في الحداثة، ترجمة ابتسام علام وحنان محمد حافظ، مراجعة أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط.1، 2016م، ص. 33

[4] نفسه، ص- ص 7-8

[5]  طه عبد الرحمن، روح الحداثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط.1، 2006، ص. 19

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete