الحرية من المنظور المقاصدي: من يضع الحدود؟

تكوين

هناك اعتقاد سائد لدى العديد من الناس مفاده بأن الحرية أمر بديهي، لا حاجة لنا في أن نقضي وقتا طويلا في البحث عن ماهيتها وحدودها ومآلاتها، خاصة وأن الحرية بهذا الإطلاق تخلق جدلا كبيرا إذا ما ربطناها بالكائن الإنساني. إذ أن هذا الأخير هو الوحيد ضمن لائحة الموجودات على هذه الأرض من يمتلك هذه الإمكانية، أو على الأقل يتوفر على ما يجعله يختار أو لا يختار في الكثير من الأحيان، ليس بشكل مطلق، ولكن هو الممنوح هذه الميزة بالمقارنة مع أقرب الكائنات التي تشبهه.

ما هي الجرية

ما الحرية؟ هذا السؤال وتوابعه الكثيرة طرحه جون ديوي[1]، ويبدو بأن الإجابة عنه تحتمل كل الأوجه والأبعاد على أساس أن النظرة إليها تختلف باختلاف السياقات المرتبطة بها. هل هي أمر فطري أم مكتسب؟ هل هي غاية في حد ذاتها أم هي مجرد وسيلة؟ هل هي وسيلة لتحقيق متع معينة أم هي مجردة عن المتعة؟ هذه الأسئلة وغيرها تبين بلا شك بأن الاختلاف الحاصل حول هذا المفهوم ناشئ بالأساس على اختلاف السياقات الإنسانية، والظروف الاجتماعية، والسقف المعرفي الذي يتحرك خلاله الكائن الإنساني في مكان وزمان معينين.

لقد أثبتت التجربة كما يؤكد جون ديوي نفسه بأن كل ما نعيشه من مؤسسات تدعي الحرية، والشعارات التي ترفع في أرقى الديمقراطيات على أساس أن الدول الرأسمالية هي دول للتعبير الحر، والفكر الحر، والإنسان مجرد كلام عابر لا أساس له من الصحة، إذا ما أخضعناه للتجربة الواقعية، أو نظرنا إليه نظرة ثاقبة تستحضر كل المعطيات بعيدا عن ضيق الإيديولوجيا، وضحالة التحيز. فجون ديوي يؤكد وهو الذي عاصر الفترة المزدهرة للولايات المتحدة كقطب رأسمالي مثالي بأن كلما تدبرنا أمر العالم حولنا رأينا أن ما يزعم الناس في بلاد كثيرة أنها مؤسسات حرة كثيرا ما يهمل شأنها وتهمل عن طيب خاطر، وبتحمس ظاهر على ما يبدو أكثر ما تدك أو تحطم.

على ماذا يدل هذا الكلام؟ إنه ببساطة يدل على أن حرية الكلام والتعبير عن القناعات والمعتقدات والأفكار شيء يستحق منا كل النضال والدفاع والمقاومة والمواجهة. فهل نحن أحرار فيما نقول أو نفعل؟ وإذا كانت الحرية المطلقة شبه منعدمة فمن يرسم الحدود؟

  • معنى الحرية:

يبدو سؤال الماهيات من الأسئلة المستعصية في أي سياق ثقافي نريد أن نتحدث عنه، لأن الكثير من المفاهيم نستعملها ونوظفها ونتعامل معها بشكل واقعي، ولكن قلّما نسأل عن ماهيتها، لأن هذا التصور هو من اختصاص الأكاديميين والباحثين والمفكرين والفلاسفة ومن يشتغلون على المفاهيم كما عرف جيل دولوز الفلسفة في كونها هي صناعة المفاهيم. مسألة التعريف والماهية والجوهر دوما أسئلة صعبة وقد تنبه لذلك عبد الله العروي[2] وهو يقارب موضوعا من حجم ما نحن بصدد الحديث عنه، حيث أكد أن شعار الحرية نحمله أفرادا ومجتمعات على حد سواء، وفي مختلف المجالات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية، كأننا نطرحه بتعبير أدق داخل تعبيراتنا وأشكال تواصلنا دون أن نحتاج إلى تبرير أو تأصيل، فهي بالنسبة للكثير منا معطى بديهي لا يحتاج لكل هذا التساؤلات. لهذا يمكن أن يكون البحث الفلسفي في الحرية أمرا تافها، لأنه لا يبرهن، أو يمكن أن يبرهن على الحياة الواقعية. التوضيح الفلسفي فقط يمكنه أن يثبت قدرتنا على تمثل الحرية. فالحرية حسب هذا الطرح الفكري هي مفهوم وشعار وتجربة، لهذا يجب التمييز بين التجربة وبين التعبير عنها، وهذه خاصية من خصائص العنصر الإنساني.

لكن لا بأس من تحديد المعنى اللغوي علنا نسترشد قليلا بما يمكن أن تنطوي عليه هذه الكلمة، فهي لا تخرج عن مجموعة من المحددات:

  • المحدد الأخلاقي: فالحر هنا يأخذ معنى الكريم
  • المحدد القانوني: وهو ضد العبد
  • المحدد الاجتماعي: وكان يستعمل ضد من هو معفى من الضريبة
  • المحدد الصوفي: الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار

هذه بعض دلالات الحرية كما تناولتها مختلف القواميس اللغوية. وإذا أضفنا إليها كلمة التعبير فتصبح الدلالة هنا إظهار الأفكار والعواطف بالكلام، أو الحركات، أو قسمات الوجه.[3]

لكن ونحن نعالج موضوع الحرية المثير لا بأس هنا أن نشير إلى ما أشار إليه سبونفيل[4]، أي أن الحرية تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء؛ لكن هذا الأمر يمكننا استيعابه على أوجه عدة، فهو بداية أن يكون المرء حرا ّ يعني حرية التصرف: أي حرية الفعل المتعارضة مع الإكراه والعائق والاستعباد. لكن هل نحن أحرار أيضاًّ أي الحرية بمعناها الميتافيزيقي، أو الحرية المطلقة، على حد زعم البعض، أو فوق الطبيعية. لعل هذا المعنى، هو المعنى الأكثر إشكالية والأهم فلسفيا. هذا المعنى المثير للجدل يطرح أكثر من سؤال عن أننا أحرار على مستوى الإرادة الإنسانية. إن كل شيء بحسب سبونفيل يخضع للحتمية والسببية، وهي وجهة نظر لها ما يؤكدها من الواقع الفعلي. فحسب هذا الطرح الفكري لا شيء يوجد دون سبب، ولا شيء يولد من عدم، لكل شيء سبب، بالطريقة التي تحدّث عنها الأبيقوريون وعلى حد توكيد الفيزياء الكوانطية اليوم.

  • حرية التعبير بحسب جون ستيورات ميل ومقاصد الشريعة:

تحظى فكرة الحرية لدى فيلسوف الحرية جون ستيوارت ميل[5] بمكانة خاصة، إذ اعتبر ولا زال كتابه عن الحرية مرجعا هاما للتأسيس والتأصيل لحرية التعبير ينير سماء الفكر المعاصر والحديث. لقد كان ميل من بين روَّاد الفلسفة والفكر الليبرالي في القرن التاسع عشر، حيث رسمت كتاباته الفلسفية هموم وعمق اهتمام العالم حينذاك خاصة الكتابة عن موضوع الحرية والتعبير عنها. كان جون ستيوارت ميل مأخوذا بفكرة الحرية إلى أبعد الحدود، فاستندت فلسفته إلى فهم عميق ودقيق لأهمية التعبير والفكر والرأي المخالف والمختلف في تشكيل المجتمع وتطوير حركته الداخلية. لا سيما وأن حرية التعبير ليست شأنا خاصا، بل لها امتدادات واقعية تجعلها شأنا عاما يطور من إمكانيات المجتمع وينميها. وإذا كانت حرية التعبير بهذا المستوى من الأهمية حسب ميل فهذا يعني أن علينا كأفراد أن نحمي هذا الحق في التعبير عن الآراء والمعتقدات والتصورات حتى لو خالفت السائد والشائع داخل بنية فكرية معينة.

لكن ما هي حجج مِيل في التعبير المطلق على الحرية؟

وهل تتقاطع هذه الحجج مع التصور الإسلامي خاصة في الفكر المقاصدي؟

ذلك ما سنحاول أن نتعرف عليه من خلال العناصر التالية:

  • مبدأ الضرر لمِيل

من الحجج التي قدمها جون ستيوارت ميل في معرض استعراضه ودفاعه عن حرية التعبير نجد ما سماه مبدأ الضرر، ومفاد هذا المبدأ أن الإنسان والأفراد عموما لهم الحق في أن يعبروا على ما يشاؤون دون أن يشعروا بالضيق والحرج، حتى يصلوا إلى المرحلة التي يعرضون فيها غيرهم للضرر. وهذا يدل على أن ميل يرى بأن المبرر الوحيد للتدخل في حرية الأشخاص والحد من تعبيراتهم وحرياتهم هي تجاوز حدودهم، وهي المخاطرة بتعريض غيرهم للضرر. وقد اعتمد ميل في دفاعه عن هذا المبدأ على الاعتقاد في أنه من خلال الحفاظ على الحرية الفردية وتقبل الاختلاف ستزيد سعادة المجتمع إلى أقصى حد وسينتج عن هذا أفضل العواقب، لأنه يوفر الظروف التي يتطور في ظلها العباقرة على أفضل وجه.

إقرأ أيضاً: الحرية… الدلالة والمفهوم

وإذا ما أردنا أن نربط هذه القاعدة بما أثبته الأصوليون في مقاصد الشريعة نجد أن العديد منهم قد أشاروا إلى مركزية علم المقاصد وأهميته في البناء الفقهي والتشريعي الإسلامي، فهذا علال الفاسي[6] مثلا يرى بأن المقصد من الشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض والحفاظ عليها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقد دلت مجموعة من الآيات القرآنية على ذلك بحيث بينت أن الاستخلاف في الأرض هو قيام الإنسان بما طوق به من صلاحها، كما أن الإصلاح هنا لا يقصد به فقط الجانب العقدي. بل أيضا إصلاح أحوال الناس. وهذا لن يتأتي إلا بردع المفسدين، والصلاح في الأرض كما قال تعالى:” ولا تعثوا في الأرض مفسدين “. هذا الموضوع نفسه يتكرر مع الطاهر بن عاشور[7] حيث يرى بأن استقراء الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية تفضي إلى أن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد.

وإذا ما ربطنا ما يقوله الأصوليون مع نظرة جون ستيوارت ميل عن مبدأ الضرر تتحقق لدينا إمكانية الجمع بينهما، على اعتبار أن الغاية والهدف الذي ينطلق منه ميل هو نفسه الذي ينطلق منه الأصوليون المقاصديون، فالحرية جزء أصيل من التركيبة الإنسانية، وبها يتحقق وجوده الذاتي، لكن الغاية الكبرى لهذه الحرية لا بد أن تنضبط في الأخير إلى ما يسميه الأصوليون تحقيق الاستخلاف وعمارة الأرض، ويعبر عنه جون ستيوارت ميل بعدم إلحاق الضرر بالآخرين.

  • حجة العصمة من الخطأ

يعتبر جون ستيوارت ميل بأن حرية التعبير إذا ما تم قمعها أو التضييق عليها يعني أن الشخص الذي يُسكت شخصًا آخر لأنه يرى رأيه خطأً فهو يفترض في نفسه العصمة من الخطأ، وهذا يؤدي به إلى اليقين بأن رأيه هو الصائب والراجح والحقيقي. وهي حالة من اليقين التام، أو الوهم التام الذي يتم بموجبه التأكيد على أن ما نشعر به أو نفكر أو نعتقد فيه هو الصواب، وهو الحقيقة المطلقة. ويكمن خطر هذا التصور ومغالطاته حسب ميل أنه على المستوى الفردي نحن نرتكب أخطاءً حتى في المسائل التي لا جدال فيها، وعلى المستوى الجمعي فهناك حقائق قد تبنتها الجماعات لمدة طويلة، واعتقدت في صحتها، مثل دوران الأرض حول الشمس، وأسباب الأمراض والمجاعات، ولكن في الأخير تبين عكس ما اعتقدت به الجماهير والجماعات. فقد كان جاليليو الفرد والوحيد محقًّا، ولكن الجماعة التي قامت بإسكاته كانت واثقة بشكل حصري من خطئه. التفكير من داخل صندوق الحقيقة أو التفكير من داخل النسق الفكري الذي ينشأ فيه الإنسان، هو أكبر مآزق عقلنا. إذ لم يبتكر العقل البشري مكيدة أبشع من مكيدة الحق والحقيقة على حد تعبير علي الوردي. وبدل الانزياح نحو رؤية الآخر بمنظاره الفكري، نتحيز إلى مصالحنا العقلية ونهدر ذواتنا بحثا عن السراب. يحكى أن فارسين من فرسان القرون الوسطى التقيا عند نصب قديم، فاختلفا في لونه. أحدهما يرى أنه أصفر، والآخر يرى أنه أزرق. والواقع أن النصب كان أصفر وأزرق في آن واحد، حيث كان مصبوغا في أحد وجهيه بلون يخالف لون الوجه الآخر. ولم يشأ هذان الفارسان أن يقفا لحظة ليتبينا لون النصب من كل جانبيه. لقد كان كل منهما منصبا على تفنيد الآخر، وإثبات خطئه.

وإذا ما رجعنا للقرآن الكريم نجده يؤصل لهذه المسألة في بعد من أبعادها الإنسانية حين يقول:” قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) سبأ “. هذا يعني أن الإنسان يجب أن ينطلق من قاعدة مهمة وهي احتمالية وجود الصواب في الرأي المخالف، وإمكانية وجود الخطأ فيما نعتقد أو نفكر فيه. هذا الأمر يبدو صعبا على العقل الدوغمائي أو أصحاب العقائد الأرثودوكسية الجامدة، غير أن الآية تؤسس لقاعدة انطلاق مهمة في حواراتنا وتواصلاتنا المختلفة بغية الوصول إلى أهداف مشتركة. وهنا نستحضر أطروحة كارل بوبر[8] المسماة بأسطورة الإطار، فغالبية الناس يرون بأن هناك استحالة التفاهم والتواصل بين الثقافات المختلفة والأجيال المختلفة. هناك فكرة يكاد يؤمن بها الجميع وهي المناقشة المعقولة والمثمرة مستحيلة ما لم يتقاسم فيها إطارا مشتركا من الاقتراضات.

  • حجة العقائد الميتة

كان جون ستيورات ميل يرى بأن التضييق على حرية التعبير من شأنه أن يحول الأفكار والعقائد والتصورات إلى عقائد ميتة. وحينما تتحول العقائد إلى شيء ميت تتحول إلى كارثة إنسانية يعاني منها الفرد والجماعة. معنى ذلك حسب ميل بأن رأيا معينا صائبا، وصحيحا لا يعتريه الشك ولا النقد هو بمثابة قتل للفكرة، والعقيدة, لأن هذا سيؤدي بنا إلى اعتناقه كعقيدة ميتة غير قابلة للنقاش والجدال؛ والأمر الطبيعي هنا هو أننا يجب علينا أن تكون أفكارنا ومعتقداتنا وأساليب تفكيرنا حية قابلة للدفاع والدحض في الآن نفسه.

هذا اليقين الدوغمائي ظل ملتصقا بالتجربة الإنسانية، حكاية تمتد في الزمان والمكان لتجعل الكائن الإنساني كائنا يقينيا إن صح التعبير. هذا اليقين مختزن في الذاكرة الجمعية، والعقل الفردي، وفي كل زاوية من زوايا التفكير الإنساني. يبدو أن رحلة الإنسان لا تنتهي على هذه الأرض، وكأنه يريد أن يؤكد على أنه استثنائي في خلقته، ووظيفته، وربما جنونه. إنّه العقل الإنساني في رحلة البحث عن الجواب، والخلاص، والمعنى، منذ تفتق لحظة الوعي الأولى على هذه الأرض، لا شيء يحدّ إمكاناته، ولا أفق يرسم سقف توقّعاته، ما عدا القلق الذي ربّما يبرر الغاية من التواجد الإنساني. طبعا نحن نقارب اليقين من زاوية أخرى، زاوية تحوي في طياتها مصادر العداء، والكراهية والعدوانية التي يختزلها فعل اليقين. فأن توقن، أو ربما تعتقد، معناه أنك في الخطوات الأولى لممارسة فعل التدمير الذاتي والفردي والجماعي. لكن متى يظهر هذا الدمار، وهذا السلوك العدواني، فالأمر ينتظر الشروط الموضوعية ليتحول إلى حقيقة، وواقع.

  • حجة الصواب الجزئي

لقد انطلق ميل من قاعدة محورية في دفاعه عن الحرية وهي أن هذا الآخر الذي يحمل أشياء مختلفة هنا، ويعتقد بأفكار وتصورات في مجملها تختلف عما نشأنا فيه أو فكرنا من خلاله، يحتمل وجود عناصر من الحقيقة ضمن رأيه ولو بنسبة قليلة. هذا الأمر يدفعنا إلى أن نعيد النظر في طريقة تقييمنا للآراء، إذ في حالة لم نستمع لهذا الرأي، فربما نفقد عناصر الحقيقة الموجودة في رأي المخالف.

وبالرجوع إلى القرآن الكريم ومقاصد الشريعة وغاياتها الكبرى يمكننا أن نتوافق مع ما طرحه جون ستيوارت ميل، فتاريخنا الإسلامي وربما نزعم بأن التاريخ الإنساني عموما مر ولا يزال بلحظات لا يعترف فيها الفرد والجماعة بهذا الآخر، وكأننا نطبق مقولة أننا نهاب من الاختلاف، ونخشاه أكثر مما نخشى غيره، إذ لا نستطيع أن نرى أنفسنا خارج هذا الإطار، وكأننا يراد لنا أن نكون متشابهين في كلِّ شيء، لا مجال للاختلاف هنا إلى الحدّ الذي نبدو فيه كصور تم استنساخها على طبعة واحدة. إنّنا نمشي مغمضي العيون كما قال جمال علي الحلاق، لكنْ للأسف في حركة معكوسة إلى الوراء. ولأنّنا أعداء الاختلاف لم نعد سوى نسخ مكرَّرة وبدون حبر، وكأنّها استنساخ أوراق فارغة دون توقُّف.

هذا المنطق عبر عنه القرآن الكريم بمنطق يمكن تسميته ” منطق لست على شيء “. بمعنى أننا ننطلق من قاعدة إقصائية تلغي الآخر وتعدمه وجوديا وفكريا وجسديا إن استطاعت أن تنفذ هذا الأمر عمليا. لا يمكن أن تنبت هذه الثقافة الإقصائية إلا في إطارات متحيزة ومنحازة ومتواطئة مع عقل جمعي استئصالي مشبع بالكثير من المقولات الإيديولوجية الجاهزة. وإذا ما أردنا أن نتثبت بشكل واقعي من هذا الأمر فيكفي أن نمر على لحظات خلدها التاريخ الإنساني، وحكاها في مختلف الفترات، وسجلها القرآن الكريم شاهدا على هذا الشغف الإقصائي الذي تعاني منه الجموع والحشود. ولنتدبر هذه الآية:” قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب “. بالرجوع إلى تفاسير الآية، وكيف تعامل معها المفسرون القدامي نجدهم يقولون: لعل أصدق شيء قاله اليهود، هو أن النصارى ليست على شيء، وأن أصدق شيء قالته النصارى هو أن اليهود ليست على شيء. لكن لم ينتبهوا إلى تتمة الآية، فقد أضافت شيئا يجب التنبه إليه، والوقوف عنده ونحن نتحدث عن مآلات وخطورة الإقصاء، والتهميش والإلغاء. إنه منطق لست على شيء، المشبع بثقافة الإقصاء للآخر والرمي به خارج أي وجود فكري. ثقافة حاقدة لا ترى الوجود إلا في ذاتها ومسبقاتها ومعارفها ومكتسباتها.

شاهد أيضاً: اختلاف الفقهاء والمتكلمين في مسألة الحرية -الجزء الأول

وبتتبع سياق الآيات نجد بأن قراءة الكتاب أيا كان هذا الكتاب، كونا أو واقعا إنسانيا لا يمكن أن تسمح بمثل هذا التصور لهذا جاء التعقيب:” وهم يتلون الكتاب “. فتلاوة الكتاب ومتابعته وقراءته وتنزيله على أرض الواقع لا تسمح أن نكون إقصائيين ما دامت الإنسانية هي المشترك بيننا. وتستمر الآية في عملها النقدي لطبيعة هذا المنطق لتقف بنا على معترك حاسم وخطير في الوقت ذاته فتقول:” كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم “. فكل من يجهل بقوانين الكون، وطبيعة الخلقة البشرية، وتطورات الفكر البشري هو من ينحو إلى القول بمنطق لست على شيء، ورفعه شعارا يتغنى به، أو يواجه به، أو يناضل من أجله. وعلى من يردد نفس القول عاجلا أم آجلا، أن يتبين حقيقة جهله المركب بهذه السنن الإنسانية والنفسية مهما كان حجمه أو ماهيته، ومهما كان انتسابه الفكري والثقافي.

إذا كانت هذه حجج فيلسوف رائد كجون ستيورات ميل يعبر من خلالها على الحرية المطلقة للإنسان في أن يعبر عما يراه صائبا أو حقيقيا. فما هي حجج الآخرين المعارضين لمثل هذا التصور المطلق لحرية التعبير. وأين نضع الحدود؟

بالنسبة لمن يؤمن كما آمن جون ستيوارت مل بحرية التعبير المطلقة عليه أيضا أن يتأمل مثالًا تخيليًّا طرحه الفيلسوف توماس سكانلون يقول فيه: ماذا تقول في مخترع كاره للبشر اكتشف طريقة سهلة لإعداد غاز أعصاب ذي فعالية عالية من منتجات محلية يسهل العثور عليها؟ بالتأكيد في هذا الموقف سيكون من الصائب منعه من إعطاء الوصفة لأحد أو نشرها بأي طريقة أخرى. كما أورد مثالا حقيقيا آخر عن كتاب: «القاتل المأجور: دليل فني للقتلة المأجورين المستقلين.».

  • قدم هذا الكتاب إرشادات مفصلة لكيفية القتل بحذر والتخلص من الجثث.
  • زادت شهرته عندما استأجر لورنس هورن قاتلًا مأجورًا لقتل ابنه وزوجته السابقة وممرضة ابنه من أجل الحصول على أموال التأمين.
  • اتبع القاتل حرفيًّا التعليمات الواردة في الكتاب عن كيفية القتل كما أوردها الكتاب.
  • حُكم على القاتل بالإعدام، وعلى هورن بالسجن مدى الحياة.
  • رُفعت دعوى قضائية ضد ناشري الكتاب، وأعد الناشرون دفاعًا معتمدًا على التعديل الأول، انتهت القضية أخيرًا بتسوية مالية من جانب الناشرين.

خلاصة القول عندما يقول الإنسان أنه يؤيد حرية التعبير فإن المقصود تحديدا ليس هو حرية التعبير بشكل مطلق. بل فقط بشكل نسبي وجزئي.

قائمة المراجع

[1] – جون، ديوي. الحرية والثقافة. ترجمة أمين مرسي قنديل. مطبعة التحرير، دون طبعة أو تاريخ نشر. ص: 17 .

[2] – العروي، عبد الله. مفهوم الحرية. المركز الثقافي العربي، ط5، 2012, ص: 6.

[3] – https://www.maajim.com/dictionary/%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%B1

[4]– سبونفيل، أندريه كونت. في الحرية. ترجمة حسن أوزال. مؤسسة مؤمنون بلا حدود. ملف PDF

[5] -نايجل، ويربيرتن. حرية التعبير مقدمة قصيرة جدا. ترجمة زينب عاطف. مؤسسة هنداوي، ط1، 2017.

[6] – علال، الفاسي, مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. دار الغرب الإسلامي.ط5، 1993، ص: 45.

[7] – الطاهر، بن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. دار النفائس. دون طبعة أو تاريخ نشر، ص:176.

[8] – كارل، بوبر. أسطورة الإطار في دفاع عن العلم والعقلانية. ترجمة يمنى طريف الخولي. عالم المعرفة، عدد 292، 2003، ص: 59.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete