السلطة والحقيقة: جدلية التداخل بين الروحي والزمني…محمد أركون نموذجاً

تكوين

إن دراسة الخطاب السياسي في الإسلام تحيلنا إلى ضرورة مراجعة مفهوم السلطة من الزاوتين التاريخية والفلسفية، من أجل بلورة رؤية نقدية تُسهم في تظهير فهمٍ جديدٍ للتداخل الحاصل بين البعدين الروحي والزمني في المجتمعات العربية الإسلامية. لقد حوّل الخطاب السياسي الدين إلى أداة طيّعة يتمّ استخدامها في الدفاع عن شرعية السلطة الحاكمة، وفي تبرير أهدافه الدنيوية. من هنا نجد محمد أركون يتحدّث عن “الأثولوجيا السياسية” في الإسلام، وهو يقصد بها تشكّل خطاب خاص باللاهوت السياسي، يصعب معه الفصل بين السلطات السياسية من جهة، والسيادة العليا الإلهية من جهة أخرى. لذا كان التوقّف عند كيفية خلع علماء الدين طابع القداسة بواسطة “السيادة العليا” على السلطة السياسية، أمرٌ لا بدّ منه من أجل نقد مفهوم السلطة، وفهم جدلية العلاقة بين الروحي والزمني، وبين السيادة الإلهية والسلطة البشرية. نذكر هنا كيف أبرز محمد عابد الجابري في سياق درسه للعقل السياسي العربي كيفية توظيف الأمويين لإيديولوجيا الجبر دعما لحكمهم، وكيفية استفادة العباسيين من الأدبيات السلطانية الفارسية تثبيتاً لمفهوم طاعة الملك، وتكريساً للمبدأ القائل بأن إرادة الملك من إرادة الله.

يرى وجيه قانصو في هذا السياق أن “استناد السلطة إلى خطاب الحقيقة، يعني أن نشاطها ليس فعل قمع فحسب، بل هو أيضاً فعل إنتاجٍ للواقع، وتشكيلٍ مستمرٍ للفرد والمجتمع، عبر إنتاج سياسة عامة للحقيقة تجسّد رهانات السلطة السياسية والاجتماعية، وتُشرف على تداولها وحمايتها وتضع الآليات والحوافز التي تسمح بتمييز المنطوقات الصحيحة من الخاطئة، وتنشئ إجراءات لتوزيعها وترويجها، وتبتكر التقنيات والإجراءات المعترف بها للحصول عليها”.[1] وفي إطار درسه “للديني والسياسي في السياقات المعاصرة”، يقول عبد الإله بلقزيز إن “أياً من الظواهر الاجتماعية والإنسانية – والعلاقة بين السياسة والدين واحدة منها – لا يكتسب المعنى عينه إن تغيّرت الشروط التي يقع فيها. ليست المسألة الإفادة أو الضّرر متولّدة، إذن؛ من هذا الحد أو ذاك، من حدّي العلاقة، وإنما هي تنجم من العلاقة عينها بوصفها حاصل تفاعل عنصرين تكوينيين، والعلاقة هذه متنوعة النتائج بتنوّع أوضاعها الناتجة من تغيّر سياقات اشتغالها”.[2]

إن التداخل بين العاملين الديني والسياسي في المجتمع أمرٌ أشار إليه محمد أركون في أكثر من مؤلّف، وهو لا يخصّ المجتمعات الإسلامية من دون سواها. “فالسياسي يقع في قلب العامل الديني، والديني يقع في قلب العامل السياسي، لأن الديني هو المكان الذي يتحقّق فيه التقديس عن طريق الشعائر والطقوس والاحتفالات. وإذا ما قرأنا التوراة والأناجيل والقرآن قراءة أنتروبولوجية حديثة تبيّن لنا بكل وضوح ذلك التمفصل البنيوي الفعّال بين العاملين السياسي والديني، وذلك على مستوى المرحلة التأسيسية للأديان”.[3]

من هنا، وانطلاقاً مما تقدّم، سوف تحاول هذه الورقة البحثية أن تجيب على الأسئلة الآتية:

هل يمكننا اليوم، بعد بلورة مشاريع نقدية عدّة، من بينها مشروع محمد أركون، أن نقارب جدلية العلاقة بين السلطة والحقيقة في المجتمعات العربية الإسلامية من منظور جديد؟ وهل أن الفصل بين الروحي والزمني أمرٌ صعبٌ طالما أن مقولة: الإسلام دينٌ ودنيا، ما زالت راسخة في الأذهان؟ وأي دور ممكن أن تلعبه العلمنة في هذا الخصوص؟

1- بين السلطة والحقيقة:

جدلية العلاقة بين السلطة والحقيقة تقودنا إلى أن نطرح في البداية مع محمد أركون الأسئلة الآتية: “طبقاً لأي شروط يقبل أعضاء المجتمع سلطة ما ويخضعون لها؟ وكيف أصبحت هذه السلطة شرعية؟ (…) كيف خُلعت عليها المشروعية؟”. وفي سياق درسه للعلاقة بين الدالات الثلاثة: دين، دولة، دنيا، سأل مشكّكاً:”هل يمكن للبشر أن يقبلوا بأن يتسلّط عليهم بشرٌ آخرون، ويتحكّموا بحياتهم كمصائر روحيّة مثبتة ومُحدّدة من قبل الله؟ (…) كيف وضمن أيّة شروط، يمكن للسلطة التي يتحكّم بها شخص واحد، أو مجموعة أشخاص، أن تصبح سيادة عليا مرتبطة بسيادة الله ذاتها وتسيطر على القلوب والنفوس عبر الكلام الموحى؟ كيف يمكن لشخص بشريّ، أو عدّة أشخاص أن يتوصّلوا الى إيهام الآخرين بأنّهم يحكمون باسم الله ويُمثّلون الله على الأرض؟”[4]

لفتنا في هذ السياق ما أورده وجيه قانصوه حول السلطة، فاعتبرها بمثابة “علاقة لا مجرّد قوة مسلّطة من خارج الجماعة على الجماعة. هي لا تعمل وحدها، ولا تنتج خطابها وبناها واستراتيجياتها بفعل تأمل خالص لذاتها. هي ليست جحوهراً، بل قوة إجرائية تعمل داخل حقل تتجاذب فيه القوى وتتداخل الطاقات وتتوزّع الإمكانات، وتمارس داخل مجموعة علاقات متحركة بين قوى غير متساوية في قدراتها”.[5] يبرهن قانصوه أنه من الوهم أن نفترض وجود حقيقة ما خارج علاقتها مع السلطة، كما أنه من باب الوهم أيضاً أن نفترض حقيقة ما لا سلطة لها. “فداخل نظام الحقيقة، تتفاعل وتتصارع أهواء ورغبات وعلاقات قوى”، والسلطة من جهتها تقوم بترجيح معنى على آخر، وتغليب قيمة على أخرى، “ولا يعنيها الكشف عن معنى خفي أو استعادة لحقيقة كائنة في أصل منسي، لأنها ترى نفسها هي المعنى وهي الأصل”.[6]

من هنا، كان حصر السلطة بجهة معينة، يعني فرض مفهوم ٍمحددٍّ للحقيقة واستبعاد كل ما سواه، وهذا ما يولّد الصراعات بين معايير مختلفة، وتصوّرات متناقضة، ومفاهيم مغايرة للمسألة الواحدة. لذا لم يقتصر قيام السلطة، بالنسبة إلى قانصوه، في المجال الإسلامي “على السلب أو القمع أو الإلغاء، بل أنتجت هذه السلطة معايير ومعارف وأطر علاقات تماثل طبيعتها ونشاطها”. وأشار إلى ترافق قوة السلطة مع “إيديولوجيا تتعالى بالسلطة وتجعلها فوق متناول الناس وخارج دائرة نشاطهم، بحكم كونها شيئاً لا بشرياً، يأتي ويذهب بمسببات خفية خارج إدارة البشر ورغبتهم”.[7]

يلتقي هنا قانصوه مع ما سبق أن برهنه أركون في دراساته حول العلاقة بين الإسلام والسياسة، أو بين ما يسمّيه بـ”السيادة العليا الإلهية والسلطة الساسية”، وهو ما أثبتته التجربة التاريخية التي أفادت بأنه “لا يمكن أن توجد مشروعية لأي سلطة إن لم تكن تتمتّع بهيبة عليا مستبطنة عفويا أو أوتوماتيكياً من كل فرد من أفراد المجتمع. وهي مستبطنة بصفتها مرجعية عليا ونهائية مرتبطة بالحقيقة المطلقة”.[8] لذا، وانطلاقاً مما تقدّم سوف نقف عند نقطتين توضحان رؤية أركون النقدية لجدلية العلاقة بين الإسلام والسلطة: الأولى، تطرح المخيال بين الهيبة العليا والسلطة السياسية، في إضاءة على أهمية دور الأسطرة وتغذية المخيال للتمكن من بسط السلطة، والثانية، تفكّك العلاقة بين السيادة العليا الإلهية والسلطة السياسية بعيداً عن النظرة اللاهوتية التي سيطرت إبان القرون الوسطى، وبعيداً أيضاً عن النظرة الفلسفية-السياسية التجريدية التي جاءت بعد النظرة اللاهوتية.

  

2- المخيال بين الهيبة العليا والسلطة السياسية:

 اعتبر محمد أركون أن كل جماعة استلمت السلطة كانت ترى نفسها أنها بحاجة ماسّة إلى تسويغ شرعيّتها عن طريق التقرّب من النص التأسيسي والنموذج الذي يحمله. راحت كل سلطة تدعّي وتصرّ على أنها هي وحدها التي تنتج الحقيقة وتحميها، وهي تستند في ذلك إلى الدين الذي يمثّل الحقيقة المطلقة التي يجب على الجميع الخضوع لها. لذلك حاول أركون أن يفكّك العلاقة التي تربط بين السيادة العليا من جهة، والسلطات السياسية من جهة أخرى، فالسيادة العليا الآلهية كانت تمنح المشروعية الضرورية للسلطة السياسية لكي تصبح مقبولة عند الفاعلين الاجتماعيين. لقــد اعتنـى بالبحــث مليّــاً في خلفيـّـات الصراع على السلطة بين السنّة والشيعة، واعتبر ان الأساس لم يكن دينياً بقدر ما هو سياسي-اجتماعي، وهو يرى في هذا المجال أن “الشيعة والسنّة قد تنافسوا في صراعهم المتبادل على الإخراج المسرحي للتراث الذي خلّفه محمد وذلك من أجل تحديد وإيجاد سلطة مقبولة من قبل كل المسلمين ثم ممارسة هذه السلطة. ان دراسة تركيباتهم الايديولوجية وألاعيبهم واعتبارها بمثابة إخراج سينمائي أو مسرحي (mise en scène) وليس نقلاً أميناً وصحيحاً للحقائق المؤسِّسة هو شيء أساسي جداً من أجل القيام بنقد فلسفي وبالتالي تاريخي لمفهوم السلطة في الإسلام”[9]. من هنا انتقد إقحام الدين بهذا الشكل في السياسة وجعلَه أداة طيّعة في الدفاع عن كل مذهبٍ وتسويغ شرعيّته. تحدّث في هذا المجال عن الأتولوجية السياسية أي عن تشكيل خطاب في اللاهوت السياسي.

استعان أركون بدراسات عدّة للمجتمعات التقليدية فلحظ أن المشروعية العليا فيها تتعلّق بشخصٍ “كارزمي” يلعب دور الوسيط لـ”معنى رمزي” يتموضع في عالم علوي، لكي ينقل هذا المعنى إلى الكائنات البشرية بطرق شتّى. انطلاقاً من ذلك، تُولّد هذه الصيرورة الاعتراف بـ”مديونية المعنى”[10] تجاه هذه الشخصية الكارزمية. هذا الاعتراف سوف يزرع “في كل وعي فرديّ الشعور بأننا مديونون له بشيء ما. وينتج عن ذلك إطاعة كل فرد لأوامر الزعيم دون نقاش”.[11] يطبّق أركون هذه النظرية عند درسه مرحلة ظهور الإسلام، إذ يشير إلى وجود “مجموعة من المؤمنين اتبعت شخصاً يُدعى محمد. وهو قائد كارزمي ذو هيبة وهالة شخصية لا تُنكر. إنه ينتمي إلى النموذج الأعلى لأنبياء الله ورسله داخل تاريخ النجاة”.[12] تمكّن محمد من خلق علاقة جديدة مع الله بواسطة خطوتين تدشينيتين ترتبطان ببعضهما بعضاً:

– إعلان الحقيقة المطلقة بتعابير لغوية مميّزة باللغة العربية.

– دفع المجموعة التي تبعته إلى الانخراط في تجارب محسوسة على الصعيد الاجتماعي والسياسي والمؤسساتي.

هكذا فقد “حوّل الوحي الأعظم الحياة اليومية العامة للمجموعة المؤمنة به إلى لغة رائعة علوية سماوية رمزية متعالية. ثم فصل هوية هذه المجموعة ومخيالها عن هوية ومخيال الجماعات الأخرى المعادية في قريش وغير المعتنقة للدعوة الجديدة (وهم مدعوون في القرآن بالكفار والمنافقين وأعداء الله والضالين والأعراب أو البدو)”.[13]  دشّن القرآن في نظر أركون مخيالاً جماعياً واجتماعياً وثقافياً جديداً، ولغة جديدة، ورمزانية جديدة في التاريخ العربي، الأمر الذي أنتج نظاماً جديداً من المعاني “والدلالات الحافة” التي تحيط بالمعنى الحرفي للألفاظ. هذا ما سيلعب دور القوة المحرّكة للتاريخ. من هنا جاء إصراره على ضرورة العلم بأن المادة المعنوية للكلمات والدلالات ليست في الأصل عبارة عن رؤية تجريدية تاقت إليها روحٌ مثالية تحلم بما هو أكمل وأفضل، إنما يتعلّق الأمر بتبلور تاريخي للأحداث المشتركة التي عاشها جميع الذين تبعوا محمد وآمنوا بدعوته. ويشير في السياق عينه إلى أن الأفراد، أو الفاعلون الاجتماعيون، لا يميّزون بين أصل الهيبة والمشروعية وبين السلطة السياسية التي تفرض إطاعتها باسم هذه الهيبة العليا تحديداً. هناك قوة جبّارة للخيال يمكنها أن تقوم بـ “خلق شخصيات رمزية وأنماط عظمى من الفهم والتفسير انطلاقاً من أحداث شتّى وأشخاص عاديين جداً بدءاً من المراحل الأولى. ثم يتحوّلون إلى رموز كبرى وتصورات جماعية ضخمة مُشكّلة للمخيال الاجتماعي”.[14]

يلفت اركون الانتباه إلى أن الخطاب النبوي لا يبقى محلّقاً باستمرار “على العلو الشاهق نفسه”، بمعنى أن مستوى الكلام التدشيني الكمالي الأولي لا يبقى هو نفسه، بل “يهبط أحياناً إلى مستوى الكلام العادي أي إلى أنماط الخطاب العادية للتواصل (عندئذ يتحوّل إلى خطاب تشريعي، وسردي قصصي، ومدائحي، وجدالي حربي كلامي، ومستخدم لأسلوب المحاجات ومحاولات الإقناع)”.[15] من هنا التركيز على عملية التداخل بين ما هو روحي وما هو زمني ابتداء من النص نفسه. فالتشريع ينهمّ بتنظيم الحياة اليومية، ورسم أطر تعاطي المؤمنين بين بعضهم بعضاً. لذا كان على أركون التنبيه إلى الدور الذي لعبه التاريخ السياسي، والاجتماعي، والثقافي لـ”مجتمعات أهل الكتاب” كافة. يتعلّق الأمر إذاً بعملية تقديس قد حصلت على أساس عقيدي ديني وسياسي لا ينفصم. لحظ أركون أن “لا سلطة دون هيبة دينية عليا تخلع عليها المشروعية”، وأشار إلى أن “السبب العميق والرهان الأكبر والنهائي للمجادلة الحامية السنية الشيعية يكمن بالضبط في ضرورة خضوع السلطة السياسية للمشروعية الروحية الدينية العليا المتولّدة عن سلطة خارقة للطبيعة أو فوق الطبيعة (من وحي، وتنزيل، وإلهامن، وولاية، ووصاية). وهي سلطة محصورة بالأنبياء والأئمة”.[16]

أودّ أن أختم هذه الفقرة بنص لمحمد أركون يعبّر فيه عن العلاقة الكامنة بين الروحي والزمني، بين الديني والمجتمعي من زاوية التعمّق في الفهم النفسي للإنسان، لكي ينتقل مباشرة إلى ما هو أبعد، إلى سؤال الميتافيزيقا، نجده يقول:  “إن الإنسان يقبل أن يُطيع ويتفانى ويُلزم حياته عندما يشعر بـ”مديونية المعنى” تجاه كائن طبيعي أو فوق طبيعي أي خارق للطبيعة. إنه يطيع عندئذ عن طيب خاطر إعجاباً بهذا الكائن وتقديراً له. وربما كانت المشروعية القصوى أو العليا لدولة ما هي التي دفعت بمجموعة ما أو طائفة ما أو أمة إلى قبول سلطتها وإطاعتها. إن أزمة المعنى ابتدأت عندما راح كل فرد يُعلن أنه يُشكّل بذاته مصدر كل معنى حقيقي. وفي مثل هذه الحالة، لا تعود هناك أي هيبة عليا متعالية يُطيعها البشر. وعندئذ تحلّ العلاقات السلطوية المحضة محل علاقات التبادل للمعاني الرمزية. وعندئذ السؤال الذي يطرح نفسه هو: تجاه ماذا أو تجاه من نشعر بـ”مديونية المعنى”؟ وهل بقي أحد لكي نشعر تجاهه بهذا الشعور؟ هل بقيت ذروة عليا ما تستحقّ أن نخضع لها ونطيعها عن طيب خاطر؟”.[17]

3- السيادة العليا الآلهية والسلطات السياسية:

هناك مسألتان مهمّتان في مجال تفكيك الخطاب السياسي العربي الإسلامي، نتوقّف عندهما في سياق بحثنا المستمر في خصوصية المنهج النقدي الأركوني. هاتان المسألتان هما: أولاً، السيادة العليا الآلهية والسلطات السياسية، وثانياً جدلية العلاقة بين الدين والمجتمع أو بين الروحي والزمني.

يعتبر أركون أن كل سلطة تحتاج إلى سيادة عليا أو مشروعية، أكانت هذه السلطة دينية أو علمانية. ولا يمكن الفصل فيما بين السلطة ومشروعيتها بشكل جذري، بمعنى ان الفصل بشكل قاطع ما بين العامل الديني المتمثّل بالسيادة العليا والعامل السياسي المتمثّل بالسلطة السياسية أمر عسير. لقد سيطر الوحي إبّان القرون الوسطى على السلطة السياسية وكان بمثابة السيادة العليا، فمارس دوره كمصدر وحيد لكل حقيقة متعالية. مع مرور الزمن حلّ حق التصويت العام محلّ الوحي باعتباره مصدر الحقيقة والمشروعية، عندما راحت سلطة الدولة تفرض شرعيتها من خلال طرقها الخاصة.

يطرح أركون في هذا السياق السؤال الآتي :”باسم ماذا، وباسم من يقبل إنسان ما أن يقدّم الطاعة لإنسان آخر يتمتّع بممارسة السلطة؟”[18] ويجيب انطلاقاً من مفهوم “مديونية المعنى” الذي تحدّث عنه الباحث الفرنسي مارسال غوشيه (Marcel Gauchet) . ان هذا المفهوم يعني قبول الإنسان بملء إرادته ان يطيع شخصاً آخر يروي عطشه لكي يتوصّل إلى “معنى مليء”. فالطاعة هنا داخلية تنبع من عمق الذات وليس من أمر خارجي ضاغط. هكذا تصبح السلطة هنا سيادة عليا ومشروعية مطلقة، لا تلجأ إلى القوة والعنف من أجل أن يعترف الناس بها ويخضعوا لها. لقد استمدّ الحكّام عبر التاريخ مديونية المعنى من معطى الوحي في المجتمعات المسيحية كما الإسلامية، وهم اليوم يحاولون أن يحصلوا عليها انطلاقاً من التصويت العام. يضيف أركون شارحاً دين المعنى:”أنا مدينٌ بالمعنى الحقيقي الذي أعيّنه لحياتي، مدين لسلطة روحية تغدو مرشداً ودليلاً، وأرتضي طاعتها. اني استبطن أوامر المرشد وأنصاع لسلطته ما دامت هذه السلطة تمارَس في حدود المعنى الذي أعلنه لي من حيث هو سلطة روحية”[19].

يشير إلى العلاقة الداخلية التي تربط بين المؤمن والسيادة العليا التي تضفي المشروعية على أوامر المرشد وسلطته، فتصبح مقبولة وفاعلة إلى حدّ. لذلك كان من الضروري البحث في عمق هذه العلاقة واكتشاف أثرها في مسار التاريخ الذي يُصنع عن طريق القوة. في كل مرة كان حاكم ما يستلم السلطة، كانت المشروعية تُخلع على سلطته من خلال البحث عن مديونية للمعنى في مكان ما. من هنا أهمية دراسة مشكلة الخلافة والسلطنة في المجتمعات الإسلامية حيث خلع علماء الدين القداسة على السلطة السياسية من خلال السيادة العليا.

هكذا أصبح للخليفة حضور مقدّس، يفرض الطاعة على الجميع، ولا يجوز المساس بسلطته أو التعرّض لها. إن ما قام به كمال أتاتورك عام 1924 من إلغاء لنظام السلطنة العثمانية في تركيا وفرض للنظام العلماني، قد خلّف نقمة وحزناً عميقَيْن في مختلف أرجاء العالم الإسلامي. أما ما حقّقه، في المقابل، الإمام الخميني عام 1979 في إيران عند استلامه السلطة فقد نتج عنه ارتياح كبير. يلحظ ان الخليفة بالنسبة إلى المسلمين يمثّل شخصاً آلهياً وليس بشرياً، بخاصة في ما يتعلّق بعامة الناس، والمشروعية التي ينعم بها مصدرها آلهي في نظر المؤمنين الذين يقدّمون الطاعة بشكل عفوي، ومن دون نقاش.

هكذا تشكّلت الأمة في الإسلام من الرعية المسلمة التي اعترفت بالسلطة المركزية، وأسّست كياناً جوهره ديني يرتبط اعضاؤه بإخاء روحي يدعمه الحاكم. يرى أركون أن وعي الأمة هو وعي أسطوري بشكل أساس، يغذّيه حضور الزعيم الروحي المقدّس. كلّما كان الزعيم الروحي أميناً في تأدية وظيفته كوكيل للنبي، كلما كان تأثيره فاعلاً في نفس الأمة. لذلك لم يكن له أي سلطة تشريعية، بل عليه أن يسهر على تطبيق شريعة الله المنـزلة بشكل دقيق وحازم.

أن الكلام على الحاكم والسلطة في الإسلام قد جعل أركون يميّز ما بين ثلاثة: الخليفة والإمام والسلطان. فالمصطلح الأول يعني نائب النبي الذي يقوم في قيادة المؤمنين أثناء الصلاة وتحديد اتجاه مكة. والسلطان هو الشخص الذي تنحصر مهامه في ممارسة السلطة السياسية، فوظيفته دنيوية. هكذا يمكن ان نلحظ ان الخليفة والإمام يقومان بمهام روحية وزمنية، أما السلطان فيمارس السلطة الزمنية التي اكتسبها بفضل القوة، والتي لا يمكن لها ان تستمرّ من دون القوة. كما انه يشير إلى “أن اعتبار خلافة محمد مجرد مسألة تخص المشروعية القانونية، والتقيّد بضرورة استمرار الدولة بعد وفاته، هذه الدولة التي تكمن مهمّتها في الدفاع عن الأولوية النطرية للأمة، أقول ان اعتبار المسألة كذلك يعني تقليص  مفهوم النبوة وتخفيضاً من قدرها”[20]. يريد من خلال ذلك أن يُبرز الفرق بين السيادة الآلهية والسلطة البشرية، فهو يعتبر أن هناك فرقاً شاسعاً بين الأولى التي تنتمي إلى مستوى التعالي، وبين الثانية التي تنتمي إلى مستوى العمل البشري. لا يجوز التعاطي مع النبوة بصفتها مسألة حكم أو نظام دولة يحقّق الاستمرارية والخلافة. ينتقد هذا التصوّر للنبوة إذ يعتبرها أرقى من ذلك جداً، إذ الفرق كبير بين النبي والخليفة الذي يعتبره مجرّد حاكم. فاعتماد التصوّر السياسي للخلافة من شأنه أن يُحدث قطيعة مع “المقصد التأسيسي الأعلى” الذي يتضمّنه الوحي. لقد رسّخ القرآن في أعماق كل مؤمن مناقشة محتومة لا يمكن التغاضي عنها كما لا  يمكن التوصّل إلى حلّ لها. إنها مسألة التناقض بين السيادة الآلهية/والسلطة البشرية.

من هنا يأتي تركيز أركون على نقد الفقهاء الرسميين الذين خلعوا صبغة القداسة أو المشروعية الدينية الآلهية على الخلافة. يذكر من بينهم الفقيه الشافعي الماوردي (متوفي عام 456 هـ) الذي ألّف كتاب “الأحكام السلطانية” حيث يذكر القواعد المثالية التي كانت السنّة قد طبّقتها في تعيين الخليفة للشرع، والمحافظة على سلطته. كما يلحظ أن الماوردي قد حذف عن قصد الكثير من الأحداث التاريخية التي لا تخدم مصلحة السنّة، مما أدّى إلى الطعن بالقواعد التي ذكرها. لقد أراد أن يخلع الشرعية على كل الخلفاء الأمويين والعباسيين الذين استلموا السلطة بالتسلسل، فاعتبرهم جميعاً متحدّرين من قريش. فقاعدة استمرارية الخلافة تشكّل أمراً أساسياً جداً لدى السنّيين. كذلك، حذف الماوردي من كتابه كل “الأحداث التاريخية السلبية” التي من شأنها أن تطعن بصورة الخلافة. لقد فعل ذلك كلّه من أجل المحافظة على صورة الخلافة وهيبتها لدى المؤمنين، ومن أجل تقديم صورة متعالية ومثالية عن الخلافة. “فهذه الطريقة في التركيز على بعض الوقائع التاريخية وحذف بعضها الآخر تشكّل إحدى السمات الأساسية للمتخيّل الديني لكل الفقهاء المتكلّمين من كل المذاهب”[21].

عمل الفقهاء والمتكلّمون بجهد من أجل تدعيم الصورة المثالية للخلافة عند جماعة المؤمنين، وهم يهدفون من خلال ذلك إلى المحافظة على الأولوية الشرعية للخلافة في مواجهة ما تتعرّض له من تعدّيات وانقلابات عسكرية. فالمهمّ هو تأمين استمرارية  الخلافة أكثر من معالجة النواقص التي تصيبها بسبب ضعف الخلفاء البشري، وقوة الصراع على السلطة. اعتمد الفقهاء في معالجتهم لمسألة الشرعية على العقائد الإيمانية بالدرجة الأولى، وعلى المبادئ التي استمدّوها من الأخلاق العامة للشخص – بخاصة في ما يتعلّق بموضوع العدالة – وعلى كيفية ممارسة الخلافة كما هم يريدون التحدّث عنها. بتعبير أخر، يرفض الفقهاء الاعتراف بأن الخلافة ناتجة عن أمر واقع خضع لقوة سياسية واجتماعية محدّدة، إنما يحاولون أن يقنعوا المسلمين بأنها ناتجة عن تحديد مسبق من قبل ذروة عليا تتمتّع بالمشروعية والكفاءة، كذروة القرآن، والحديث، والإجماع.

اعتبر أركون “أن الخلافة ليس لها أي مشروعية دينية آلهية بحدّ ذاتها، وإنما استُولي عليها عن طريق القوة ثم خُلعت عليها المشروعية بعدئذ من قبل الفقهاء الرسميين”[22]. قدّم قراءة تاريخية لمسألة طالما أضفي عليها طابع التقديس والتعالي، لذلك لن تُقبل قراءته بسهولة. فهو يكشف عن الصبغة الدينية التي يخلعها الفقهاء على السلطة السياسية التي تمارس عملها بمعزل عن القواعد الشرعية وبعيداً عن القدسية.

عاد أركون إلى الوراء، إلى فترة دعوة محمد وتبشيره ونضاله لكي يبحث في كيفية انبثاق السيادة العليا في الفكر الإسلامي. رأى أنه كان على محمد أن يعمل على ترسيخ سيادته وسيادة الوحي التي جوبهت بالرفض والمعارضة حينذاك. لذلك، بدأ يشرح الوحي ويمارس سيادته من خلال أعماله اليومية، محاولاً الانتصار على معارضة جماعتين: الوثنيون العرب من جهة،  وأهل الكتاب اليهود والنصارى من جهة أخرى. أشار إلى أن أصالة هذه العملية تكمن “في ذلك الربط الاستثنائي الفريد من نوعه بين الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية الناجحة لمحمد وبين خلع التسامي والتعالي مع التفنّن باستخدامهما”[23]. لقد أثّر أسلوب النبي هذا في الجماعة التي تبعته وانخرطت معه في حركة خلاّقة، تدعمها عملية الترميز الغني. إن اعتماد القرآن ترميز الوجود البشري وأساليبه قد أدّى إلى اتساع انتشاره وتأثيره على معاصريه وعلى الأجيال التي أتت بعده. فالقرآن قد عبّر بشكل رمزي خاص به عن مختلف الأمور الدنيوية والمادية والتاريخية.

من المهم أن نشير في هذا المجال إلى ان السيادة العليا الرمزية يلزمها عامل الوقت والتكرار، والقيام بالشعائر والطقوس لكي تترسّخ قوياً. كما أنها تحتاج إلى استبطان الصيغ الأدبية والفنية باعتبار أنها معايير متعالية من قبل الجماعة المؤمنة التي تسهم في إنتاج التراث، ويُسهم التراث في إنتاجها أيضاً. ويصرّ في هذا المجال على أنه في بداية الدعوة الإسلامية، كانت سيادة النبي أو هيبته ظاهرة بشكل محسوس من خلال حضوره وعمله في المجتمع، ومن خلال اعتماد الخطاب القرآني الأسلوب البلاغي الغني بالرموز. إنما بعد أن مات النبي انقسمت هذه السيادة إلى فرعين: القرآن والحديث. ومن ثم سوف يُجمَع القرآن والحديث ويُسجّلان كتابة، ويكوّنان مجموعة نصيّة تشكّل أساس التراث الكتابي الإسلامي. لقد استفادت الدولة من السيادة العليا للنصوص الكتابية، فاستعانت بها لكي تمارس سلطتها السياسية والثقافية.

مرحلة النبوة محمد أركون

من هنا جاء تمييز أركون بين مرحلتين: مرحلة النبوة ومرحلة الدولة الأموية. خلال فترة انبثاق القرآن والحضور الفاعل لشخص محمد كانت الأولوية معطاة لتحديد السيادة والمشروعية، ومن ثم كان العمل على نشرها واستبطانها واعتبارها آتية من الله توجّه أعمال النبي وأحكامه، وتضفي عليها الشرعية. فالسيادة العليا في ذلك الحين كانت تسبق الممارسة الفعلية للسلطة من الناحية الأنطولوجية والزمنية.

لقد اهتمّ النبيّ من خلال تبشيره في مكة بتثبيت سيادة الأوامر والتعاليم الآلهية. أما في زمن الخلفاء الراشدين فقد ساعدت الذاكرة الجماعية للصحابة، والمناخ الثقافي الذي كان سائداً في المدينة على حماية القيم التي سادت أيام النبي والمحافظة عليها ولو بشكل جزئي. لكن الصراع الذي نشأ وقوي  بين المفاهيم التقليدية والعصبيات التي عرفها المجتمع العربي قبل الإسلام من جهة، وبين الرؤيا الجديدة التي بلورها القرآن من جهة أخرى، ان هذا الصراع قد كشف عن اتّساع مقاومة التاريخ الأرضي المادي لهذه الرؤيا الجديدة، وأظهر حجم الضغوطات التي مارسها التاريخ الأرضي على الجهود المبذولة من أجل تسامي الوجود البشري وتعاليه. وما مقتل عمر، وعثمان، وعلي إلا خير دليل على مدى ثبات ظاهرة العنف في مختلف المجتمعات البشرية، وعلى محدودية السيادة العليا التي فرضتها أديان الوحي.

إن هدف أديان الوحي كان يكمن “في السيطرة على العنف الطبيعي الأزلي الموجود في أعماق كل شخص بشري وذلك بواسطة عملية التسامي الأخلاقي والتصعيد الروحي لدوافعه وغرائزه”[24]. كان ذلك وضع السيادة العليا في المرحلة النبوية والمرحلة التي تلتها مباشرة، أي مرحلة الخلفاء الراشدين. أما في المرحلة الثانية، مرحلة الدولة الأموية والعباسية من بعدها، فقد استجدّ حدث هام يكمن في أن الدولة هنا نشأت على أثر العنف والصراع الدموي. هكذا تبلورت المراتبية الأخلاقية-الروحية التي سادت في المرحلة النبوية، “هذه المراتبية المتعلّقة بالمعادلة التالية: سيادة عليا/ سلطة سياسية. أصبحت الأولوية للسلطة السياسية القائمة على العنف واستخدام العنف لكي تفرض نظامها الاجتماعي والسياسي المثبّت والمرسّخ من قبل الفئة الاجتماعية المنتصرة”[25]. فالدولة تستغلّ ذروة السيادة العليا لكي تسوّغ سلطتها، لأنها بحاجة إلى الشرعية الذاتية. من هنا يمكن التحدّث عن “الإيدولوجية الرسمية” التي تموّه المنشأ التاريخي للدولة وتتلاعب به وتفرض بدلاً عنه صورة محدّدة عن السلطة الشرعية.

سلطة النبي وسلطة الدولة

يبدو واضحاً لدى أركون الفرق بين سلطة النبي وسلطة الدولة في ما بعد. فالسيادة العليا للنصوص المقدّسة أسّست سلطة النبي وسوّغتها، كما أن حضوره الفاعل جذب الاتباع والأنصار بشكل عفوي وطوعي. أما الوضع مع الدولة الأموية والعباسية فكان معكوساً، إذ ان السلطة السياسية هي التي تتلاعب وتتحكّم بالنصوص لكي تقول ما يناسبها ويُسوّغ وجودها ويُثبت شرعيّتها. بدلاً من اجتذاب الناس إليها طوعاً، كانت تفرض الانتساب إليها عن طريق القوة والعنف. لذلك تحدّث أركون عن الإيديولوجيا الرسمية، ويعتبر أن هناك عملاً أساساً لكل ايديولوجيا هو: “تشويه العملية الحقيقية لمجرى التاريخ من أجل المحافظة على تأييد الشعب لصورة منمذجة ومثالية عن الشرعية”[26]. فاللغة الدينية مجازية رمزية منفتحة على مختلف الاحتمالات والمعاني، وبإمكانها أن تقبل كل أنواع التأوين في التاريخ، لكن الدولة هي التي تتدخّل وتحدّ من عمق اللغة الدينية وغناها الرمزي فتحوّلها إلى قوالب جامدة. وهي تقوم أيضاً بتشويه الأصل  الحقيقي والتاريخي للأحداث، وتجبر الناس على الاعتقاد بأن  الأرثوذكسية هي الدين المستقيم وما يخرج عنها يُرمى في الضلال. إن الأرثوذكسية بفرعيها السنّي والشيعي هي بمثابة الدين الرسمي الذي نشأ نتيجة التعاضد والتضامن ما بين رجال الدين والدولة. رأى أركون أن للسيادة العليا كما تظهر في نصوص التراث ثلاثة أوجه:

“1 – الجانب الإيديولوجي الذي يُستخدم لتقوية الصورة الشرعية للدولة الرسمية ولتذكير الحكام بنوعية الحكم المثالي الذي ينبغي تقليده دوماً.

2 – الجانب الأسطوري والمؤسطِر الذي يتمثّل في الخلق الأدبي للشخصيات النموذجية الكبرى للسيادة العليا وذلك بواسطة إسقاط كل الفضائل وصفات الكفاءة العالية على الشخصيات التاريخية من أمثال: محمد، وعلي، وعمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر، الخ…

3 – والجانب الثالث يخصّ السيادة العليا أو الهيبة الشخصية الأصلية والدولية المرتبطة بالشخصية التي اعتيد على استخدامها لبناء نموذج مثالي يُحتذى مثل شخصيّة محمد وعلي وجعفر الصادق، الخ…”[27].

إن هذه الأوجه الثلاثة تُسهم إلى حدّ بعيد في ترسيخ السيادة العليا، بخاصة الجانب الثالث منها الذي يعتبره أركون الأكثر عمقاً نظراً إلى تأثيره في التشكيلة التراتبية للذاكرة الجماعية. من هنا كان لا بدّ من التعمّق في البحث من أجل الكشف عن مختلف العناصر الإيديولوجية والأسطورية التي دخلت في تركيبة هذه الشخصيات التراثية، والتوصّل إلى الشخصيّة التاريخية الحقيقية. كل ما هو أسطوري أصبح ضرورياً من أجل التعمّق في سائر جوانب السيادة العليا. هكذا نجد أن عملية تكثيف التاريخ وحصره في التراث الذي سوف يسيطر بدوره على التاريخ، إن هذه العملية، قد بدأت منذ وفاة النبي وهي تتضمّن بالعمق مسألة الصراع الدائم بين التراث/والبدعة. فالصراع القائم بين التراث من جهة والبدعة من جهة أخرى يُظهر جلياً التوتر الحاصل بين مشروعية القيم التراثية التي هُضمت من جهة، وبين سلطة الأفكار والاكتشافات والأحداث التي لم تُهضم بعد من جهة أخرى. بصياغة أخرى، إن الصراع بين التراث/والبدعة يكشف لنا عن الصراع بين التراث/والحداثة.

نخلص إلى القول، إن السلطة السياسية كما عرفتها المجتمعات الإسلامية هي، بالنسبة إلى أركون، بحاجة إلى تحديد جديد انطلاقاً من العلاقات الواقعية المادية التي تربط بين السلطة وبين الفضاء الاجتماعي الذي تهتمّ به وتشرف على أموره. أما أشكال السلطة السياسية فهي عديدة، منذ العصور الأولى ولغاية اليوم، هناك: الخلافة والإمامة، والسلطنة، والإمارة، والمملكة، والجمهورية. من الضروري تحديد تشكيلة الدولة في كل حالة على حدة، بعيداً عن النظرة اللاهوتية التي سيطرت إبان القرون الوسطى، وبعيداً أيضاً عن النظرة الفلسفية-السياسية التجريدية التي جاءت بعد النظرة اللاهوتية، وهي “تكتفي بتسوية شروط خضوع مجموع الفقهاء لسيد السلطة وصاحبها. ونعلم أن صاحب هذه السلطة كان دائماً مؤقتاً أو عرضة للاحتجاج والمعارضة أو حتى لا يمتلك من السلطة إلا اسمها”[28].

أشار أركون في هذا المجال إلى أن ذروة السيادة العليا الشرعية لم تتجسّد في الواقع أبداً، إنما وجودها كان ذهنياً في عقول المؤمنين. يمكن لنا أن نلمس هذا الوجود الذهني من خلال الانتظار الأخروي لدى الجماعات التي تحلم بمجيء المهدي لكي يبسط العدل، ومن خلال المفكرين المسلمين الذين عملوا على بلورة الشروط الضرورية لوجود الخلافة-الإمامة بشكل مثالي. هكذا يمكن حصر السيادة العليا المثالية في الأذهان فقط وليس في الأعيان.

إن الكلام على السيادة العليا الآلهية وعلاقتها بالسلطات السياسية يؤدّي لدى أركون إلى طرح إشكالية الروحي والزمني وإمكانية الفصل بينهما نهائياً أو التوفيق في ما بينهما، كما أنه يفضي إلى معالجة مسألة العلمنة والديمقراطية والحركات الأصولية. سوف نتوقف في ما يأتي عند كيفية مقاربة محمد أركون لمجمل هذه الإشكاليات التي شغلت حيّزاً مهمّاً من مشروعه النقدي.

4- من توظيف الدين في السياسة إلى نقد ايديولوجيا الكفاح:

ركّز محمد اركون في سياق تفكيكه للعقل الاسلامي وحفره في طبقات الثراث على وظيفة الأدلجة التي أنتجت الكثير من النصوص والتأويلات، وحرّكت الجماهير، وتحكّمت في المجتمعات على مرّ التاريخ الإسلامي في حقباته المتعدّدة. حاول أن يبرز الى أي مدى تمّ توظيف الدين في السياسة والمجتمع، من أجل غايات لا علاقة لها بالدين، مما أدّى إلى تغذية المخيال الإسلامي وتدعيمه وتوجيهه نحو أنماط معرفية محدّدة. ميّز بين المخيال الديني والدين، إذ ان مصطلح الدين في اللغة العربية مشحونٌ بالمعاني المقدّسة التي يصعب استخدامها بسهولة في التحليل. فباستخدامه للمخيال الديني يبتعد عن المصطلحات الآتية: المطلق، والمقدس، والتعالي، والتنزيه، الخ…التي يحتويها لفظ الدين.

أشار إلى عملية “التنافس على المعنى” بشكل عام، فالجميع يطلبونه، وتدّعيه مجمل الفئات الاجتماعية التي تبحث عن هويتها. كما أن المذاهب الفكرية تتنافس في طريقها نحو اكتشاف المعنى الحقيقي، ومن ثم فرضه على الآخرين. ويقصد بالمعنى هنا، ذاك الذي يتمّ اشتقاقه  من المصدر التشريعي الأعلى، وهو الذي من شأنه أن يؤدّي الى المعنى الكلّي والأخير. هكذا فعل الفقهاء ورجال الدين سابقاً، كذلك فعلت أيضاً الأنظمة الماورائية الكلاسيكية حين توهّمت بأنها توصّلت الى المعنى الكلي وقبضت عليه. أما اليوم، فلم يعد من السهل القبول بذلك والادعاء بامتلاك المعنى الحقيقي. ثم إن الاقتناع بوجود معنى كلّي، منجز، نهائي، وأخير بات أمراً في غاية الصعوبة.لا بل كل من يدّعي امتلاك المعنى بكليّته، وحده من دون سواه، يُدحض ادعاؤه ويُنتقد بصفته نوعاً من الايديولوجيا. ويحدّد هنا معنى الايديولوجيا قائلاً: “نقصد بالإيديولوجيا هنا تلك الإرادة التعسّفية لفئة ما أو حتى لقائد ما في نشر معناه أو “قِيمه” لكي تشمل الجميع أو تسيطر على الجميع. بل أن  تعبير ” البحث عن المعنى” أصبح هو نفسه مشبوهاً: بمعنى أصبح يُعتبر كايديولوجيا مقنّعة تهدف إلى إعادة الأنظمة اللاهوتية والميتافيزيقية القديمة إلى سابق عهدها، أي اإى ممارسة وظيفتها في تبرير إرادات القوة والتوسّع والهيمنة”.[29]

يبدو جلياً هنا مدى وعي أركون لقوة عمل الإيديولوجيا ولكيفية استثمارها في أكثر من مجال.إنه يرفض حتى استخدام عبارة “البحث عن المعنى” ويستبدلها بـ”رهانات المعنى”، لكي يبتعد قدر المستطاع عن المسلّمات اللاهوتية والميتافيزيقية. يريد من خلال استخدام لفظ “رهانات” الإشارة الى “انخراط كل متكلّم عن طريق خطابه في لعبة الصيرورة الكبرى للعالم. إنه منخرط على هيئة اللاعب تماماً. فلعبة صيرورة العالم تشبه اللعبة بالمعنى الحرفي للكلمة. بمعنى ان سيرورتها معرّضة في كل لحظة لمتغيرات الصدفة التي ينبغي على كل لاعب أن يدمجها في حساباته من أجل أن يسيطر عليها في تدخلاته او لعباته المتتالية”.[30]

نلحظ هنا أن الإشارة الى “اللعبة” في عملية البحث عن المعنى تهدف الى تشريع الأفق، وعدم سجن الفكر داخل الأطر الضيقة، إنما ترك الأمور إلى الصدفة، إلى ما هو غير منجز، ولا متوقع. هذه من أبرز صفات الباحث النقدي الذي لا يرسم مسبقاً نهاية مساره الفكري إنما يترك البحث يقوده كما الصدفة في اتجاه المعنى.هذا ما ينافي الممارسة الإيديولوجية ويبرز مدى انخفاض سقف تحرّكها. يربط أركون في هذا السياق بين الإيديولوجيا والسلطة، أي بين إرادة المعرفة وإرادة السلطة، ويشير إلى التقاطع بينهما كما فعل ميشيل فوكو. ينفي أن يكون هناك فصلٌ قاطع وجازم بين الرغبة في المعرفة والرغبة في  السلطة وفق اعتقاد النظرية المثالية التقليدية.

ايديولوجيا الكفاح

لقد أردت في ما سبق التوقف عند مفهوم اركون لمصطلح الإيديولوجيا قبل ان أبدأ بالبحث في مصطلح “ايديولوجيا الكفاح”.المتتبّع لنصوص أركون يلحظ تعدّد استخدام المفردات التي تشير إلى نفس المعنى تقريباً، فهو يذكر “إيديولوجيا النضال”، و”إيديولوجيا التحرير”، و”إيديولوجيا المواجهة”، للدلالة على الصيغة المعاصرة لمفهوم الجهاد. إنه يعمّق النظر في دور الإيديولوجيا الفاعل لدى العقل الديني كما العقل السياسي، من دون أن يلفت الانتباه الى تورّط العقل الفلسفي والعلمي بها، لأن البراءة الكاملة من الإيديولوجيا غير موجودة على الأرض.

يلحظ أن “الإسلام قد أصبح بدءاً من القرن التاسع عشر على صعيد النواحي التاريخية والاجتماعية والثقافية عبارة عن مجموعة متكاملة من التصورات والأفكار- القوى التعبوية التي تجيّش الجماهير. وقد زاد من تضخّم هذه الصورة ضرورة تشكيل ايديولوجيا كفاحية لمقاومة الفتوحات  الاستعمارية، والهجمات الاستعمارية.”[31]

اعتبر أن هذه الايديولوجيا قامت بالضغط السلبي على أي مقاربة تاريخية للمجتمعات العربية الإسلامية منذ القرن التاسع عشر لغاية اليوم. ثم أشار إلى أن هذه “الإيديولوجيا الكفاحية” أصبحت لدى العديد من المفكرين العرب نوعاً من الذريعة التي تستخدم من أجل تغطية الضعف المنهجي، وفقر المضمون المعرفي الذي يتمّ انتاجه. هذا الأمر قد أدّى إلى ” تعطيل حركة الفكر والاستعادة النقدية للمشاكل العديدة التي بقيت في دائرة المستحيل التفكير فيه، أو اللامفكر فيه داخل الفكر العربي والإسلامي. فكل استعادة نقدية للمشاكل المزمنة المطروحة على هذه المجتمعات تعتبر كفراً أو زندقة، وتعرّض صاحبها لأبشع الاتهامات من قِبل جهات عديدة لا تزال مسيطرة سوسيولوجياً(أي عددياً)”.[32]

شدّد ايضاً على عدم الاكتفاء بالقيام “بجرد وصفي” للأحزاب والتشكيلات الإيديولوجية التي برزت منذ القرن التاسع عشر لكي يتمّ التعرّف على الرؤى السياسية المعاصرة في المجال الإسلامي والعربي. سبق أن قام بهذا العمل المستشرقون والطلاب العرب الذين حضّروا الدكتوراه  في الغرب. تشمل هذه الايديولوجيات الاتجاهات الآتية: “الاتجاه الليبرالي التحديثي، الاتجاه التحديثي الاشتراكي، الاتجاه الديني الإصلاحي، الاتجاه الديني المتشدّد أو المتزمت”.[33]

أشار اركون إلى أن هذه الإيديولوجيات هي عبارة عن انعكاس لمجموعة الانقطاعات المفصلية الرئيسة التي حدثت في مجال أنظمة “الانتاج والتبادل”. ولحظ أنه لغاية القرن التاسع عشر ظلّت الدولة- الأمة مسيّرة من قبل الخليفة ومن ثم السلطان فالامير والوالي. كلّهم قاموا بالمحافظة على ” صيغة واحدة في تقسيم الفضاء السياسي والاجتماعي للامبراطورية أو الدولة إلى قسم” متوحّش”، أو ما يُدعى في المغرب “ببلاد السباع” والى قسم مدجّن تسيطر عليه الدولة المركزية ويدعى “ببلاد المخزن”.[34]

المهم في هذا التقسيم الذي أشار إليه أركون أنه في كلتي الناحيتين تأسّست مراتبيات وتفاوتات اجتماعية وترسّخت إلى حين المرحلة المعاصرة. تجلّت هذه التفاوتات من خلال “موازين القوى وعلاقات الهيمنة والاستغلال”، لكنه تمّ طمسها تحت غطاء “التبادلات الرمزية للخدمات”. ويشير إلى أنه تمّ خلع الصياغة الأخلاقية والدينية على المؤسسات والأحكام القانونية والعادات والتقاليد مما زاد من “حدّة القيمة الرمزية المقدّسة للعنف الممارس على أرض الواقع بواسطة الدولة وموظفيها…”.[35]

هنا تكمن خطورة الأدلجة التي تحوّر الواقع وتتلاعب بالحقائق لتفصّلها على قياس الظرف الراهن، ومصالح القوى المسيطِرة، وذلك على حساب المستضعفين الى أي جهة انتموا. يجدُ في هذا السياق أنه من الضروري التوقّف عند هذه التلاعبات التي تمكّنت من تجييش الجماهير ضمن ما يسمّيه أركون بـ”إيديوليجيا الكفاح”، وكشف النقاب عنها في إطار قراءة نقدية رصينة.

يعتبر أركون أن “إيديولوجيا الكفاح” ترجمة معاصرة أو معلمنة لمفهوم الجهاد وهي قد نشأت وانتشرت زمن الاستعمار، واستمرّت حتى اليوم بدرجات متفاوتة. البداية كانت تحت راية النضال القومي العلماني، أما اليوم فهي تحت راية النضال الإسلاموي الأصولي. أي أن “إن إيديولوجيا الكفاح والصراع لا تزال تحول حتى الآن دون انتشار الحداثة الفكرية في أرض العرب والإسلام. بمعنى آخر، فإن الطابع الكفاحي- النضالي الذي لا يمكن لأحد أن ينكر دوره وأهميته في بعض الفترات لا يزال يتغلّب حتى الآن على الطابع المعرفي أو الابستمولوجي المحض. وبالتالي فالفكر النقدي محجّم بالضرورة في كل المجتمعات العربية والاسلامية.”[36]

انطلاقاً مما تقدّم، اعتبر أن مسألة العلاقة بين الإسلام والديمقراطية غير مطروحة ضمن منظورها الصحيح في جو مشحون بالتوتر والانفعال، وبعيدٍ عن التروي والعقلانية والنقد. ثم إن هذه المسألة وقعت تحت ضغط ما يسمّيه بـ”المغالطات التاريخية”، أي الافكار التي يتمّ إسقاطها على الماضي بهدف استنتاج خلاصات تخدم واقعاً معيّناً، أو إرادة محدّدة. المقصود هنا “أيديولوجيا الكفاح” أو “الخط التبجيلي والتبريري السائد في العالم العربي والاسلامي. بمعنى أنهم لا ينفكون يرددون بأن الاسلام قد عرف الديمقراطية قبل الغرب والعصور الحديثة. وهذا اسقاط محض”.[37]

المشروع النقدي محمد أركون

لذلك نجد أركون منخرطاً في مشروعه النقدي من أجل تفادي إسقاط الحاضر على الماضي، وكشف أكبر قدر ممكن مما قد حدث من تلاعب في تظهير الحقائق والتعاطي معها، في ما يتعلّق بطبيعة العلاقة بين الديني والسياسي، اخترت نصاً له في كتابه ” الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة “، يرصد فيه مسار “ايديولوجيا الكفاح”، فيجد أنه قد بدأ منذ الولادة ولغاية الآن مروراً بعدة حقبات. سوف أتركه يصف لكم ما حدث، يقول:” الإسلام كدين ( أي كجملة من الطقوس الشعائرية والعقائدية التي تهدف الى تقريب النسان من الله ) ما انفك طيلة تاريخه أبداً، أي منذ ولادته وحتى اليوم، يُستخدم من قِبل الفاعلين الاجتماعيين، أي المسلمين، كأداة. أقصد بأنه استُخدم دائماً كأداة لإيديولوجيا الكفاح التي كانت تُدعى بالجهاد سابقاً. فقد استُخدم كأداة كفاحية من أجل توسّعه الأوّل وفتوحاته ( 632-750 تقريباً ) ، ثم استُخدم كأداة كفاحية ضد حملة استرجاع إسبانيا في الاأدلس والمغرب الكبير. ثم استُخدم كأداة كفاحية ضدّ الصليبيين في منطقة الشرق الأوسط. ثم استخُدم كأداة كفاحية من أجل توسّعه الثاني في العصر العثماني الأوّل وحتى الهزيمة الكبرى أمام الأوروبيين (…) عام 1572. ثم استُخدم في ما بعد كأداة للحماية الذاتية بعد القرن السابع عشر. ولكن الكفاح لم ينته بعدئذ. فها هي الحركات الإسلاموية (أو الاصولية) تنشّطه من جديد في عصرنا الراهن عن طريق استخدام نتف متقطّعة من المعجم الديني القديم والعقيدة التقليدية الموروثة. إنها تستخدمه ضد الأنظمة الحاكمة والدول القومية والإمبريالية ( أي التوسعية ) التي يمثّل الصرب آخر تجسيد لها”.[38]

نلحظ في هذا النص أن المؤلف يشدّد على أن النضال والجهاد يحتاجان إلى إيديولوجيا تبرّرهما، وقد واكبا تاريخ الإسلام منذ بداياته التوسعية. فالانسان، هذا الكائن التوّاق للحياة وللعيش بسلام، ما الذي يجعله يذهب إلى الحرب والقتال وبذل الدماء، مبتعداً بذلك عمّن يحب وعمّا يبغي تحقيقه في حياته؟ بتعبير آخر، هذا الإنسان المتوجّه نحو ساحة النضال، حيث يمكنه أن يخسر كل شيء، لا بل أثمن ما يملك، أي نبض الحياة الذي فيه، ما الذي يجعله مقتنعاً بقرار كهذا؟ ما الذي يدفعه إلى الموت؟ إنها منظومة الأفكار التي استُخدمت من أجل إقناعه برؤية محدّدة للحقيقة وبطلان ما سواها. إنها الإيديولوجيا التي تمكّنت من تغيير القناعات والخيارات وبالتالي المسارات الفردية كما الجماعية.

من هنا لحظ أركون مدى صعوبة المقاربة التحليلية لما يسمّيه بـ ” المغامرة التاريخية ” بسبب كثرة ما تحتويه من خيوط وعوامل مختلفة. يقابل ذلك فقر وندرة في المعلومات والتحليلات المفيدة. فالوضع القائم اليوم، كان سائداً من قبل، ولم يخضع للتحليل الجاد والرصين. إن مراكز القرار الغربية تواصل استراتيجية الهيمنة على العالم، كما يواصل المناضلون الرافضون لتلك الهيمنة رفع الصوت والاحتجاج في أكثر من مكان.

كيف قرأ أركون، انطلاقاً مما تقدّم الحالة المعاصرة على صعيد تحليل “ايديولوجيا الكفاح” وأبرز التداخل بين الفكر والسياسية، وبين الدين والمجتمع؟

5- إيديولوجيا الكفاح في الزمن المعاصر:

تشهد المجتمعات الإسلامية المعاصرة صحوة دينية مميّزة توقف أركون عندها لكي يدرس أسباب نشوئها وازدهارها، لينتقد في ما بعد خطابها الايديولوجي. رأى أن الثورة الإسلامية مثلاً هي ردّ فعل قامت به الجماهير الفقيرة في وجه حكومات ما بعد الاستقلال التي اتّبعت سياسات تنمية فاشلة لمدة ثلاثين سنة. لقد قام بقراءة سوسيولوجية من أجل تفسير الواقع، فرأى ان الجماهير الفلاحية والبدوية قد سُلبت “من لغاتها وتقاليدها الموروثة وتوازناتها البيئوية وعصبياتها الدموية بعد ان هاجرت إلى المدن واقتلعت من جذورها وشكّلت حزام الفقر أو مدن الصفيح حولها”[39]. من هنا كان الارتباط الوثيق ما بين عامة الشعب والحركات الأصولية، وما التحدّث عن الظاهرة الشعبوية إلا إشارة إلى مدى الضغط الذي يرزح تحته الشعب، والى كيفية محاولته للخروج منه عن طريق العصبية والعنف.

نودّ أن نشير هنا إلى ما ألمحَ إليه أركون في أنه مع بداية فترة الاستعمار وسقوط السلطنة العثمانية ترسّخ الشرخ بين الغرب والعالم الإسلامي بشكلٍ واضح. ففي حين كان نظام الآلة والاقتصاد الصناعي ينطلقان في مسيرة تطوّرية ملحوظة، مما أدّى إلى عملية نهوض وتوسّع الحضارة المادية في الغرب، كان الوضع مغايراً من الناحية الإسلامية. فالسلطة المركزية كانت في حال تفسّخ وتراجع، مما انعكس على انهيار المؤسّسات وتدهور الأوضاع السياسية كما الاقتصادية.

هذه الحال أفرزت رؤى سياسية جديدة في العالم العربي الإسلامي لكي تتمّ عملية مواجهة الأوضاع المستجدّة والتحدّيات الراهنة. يلحظ أركون أن قوة الغرب وتقدّمه كشفا للمسلمين عن الفرق بين المجتمعين على أكثر من صعيد. من هنا راح العديد من المفكرين يعملون جاهدين على البحث عن كيفية التصدّي لمسألة التأخّر، والانحطاط، والضعف، وسوء التنمية. والكل يعلم أن الانقسام كان واضحاً بينهم، هناك مفكرون ليبراليون درسوا في أوروبا انخرطوا في عملية التثاقف والتفاعل الحضاريين على نحوٍ متدرّج. وهناك من ناحية أخرى، الاتجاه الإسلامي الذي ينادي بالعودة إلى سيادة السلف الصالح والعودة الى التعاليم الإسلامية الأولية. من هنا يأتي مصطلح السلفية الذي أطلق على الاصلاحيين المنتمين إلى هذا الاتجاه.

سجّل اركون ملاحظتين انطلاقاً من مراقبته وتحليله لهذين الاتجاهين اللذين تطورا بشكل متوازٍ ومتصارع، وانطلاقاً أيضاً من المواقع التي احتلّتها الحركات الاسلامية منذ السبعينيات.

الملاحظة الاولى: اتفق الاتجاهان على الرغم من الاختلافات بينهما على الأهداف الكبرى للنضال التحرّري والوطني الذي عمّ المجتمعات العربية والإسلامية منذ القرن التاسع عشر. لقد انتشرت العاطفة القومية في مواجهة الواقع الاستعماري، فتحدّث المثقفون عن الوطنية، واستعادة الهوية، وإحياء التراث. كما عملوا على تحمّل مسؤولية الثقافات الوطنية من خلال الاهتمام بها وإحيائها. كذلك جيّشوا أنفسهم في سبيل تحرير الأراضي العربية المحتلّة. هكذا راحت “إيديولوجيا الكفاح” في الحقبة المعاصرة ” تتردّد على كافة الألسن، وتشغل كل الخطابات، بل إنها تشغل حتى الشعر والأدب الروائي، مثلما تشغل ذلك الإنتاج الإيديولوجي الشاسع الواسع. ولكن القوة التجييشية والتعبوية لهذه الخطابات ليست هي في الحدّة نفسها لدى التحديثيين المنفتحين على الثقافة التاريخية وحتى على النقد التاريخي، أو لدى العلماء من رجال الدين ذوي الثقافة التقليدية الأكثر اهتماماً بالتبشير والتبجيل الديني”.[40]

استنتج أركون من خلال هذه الملاحظة أنه كان هناك تلاقٍ بين مختلف القوى الاجتماعية-الثقافية حول القومية، والوطنية، الأمر الذي أسهم في إنتاج الانتفاضة الوحدوية في سنوات الخمسينيات والستينيات تحت راية الناصرية والبعث. أشار في هذا السياق إلى أن الاتجاه الناصري كما البعثي قد ركزا على فكرة العروبة أكثر منه على الإسلام في نضالهما. لكن نكسة عام 1967 أدّت إلى زعزعة أركان الإيديولوجيا الاشتراكية العربية. فبنتيجة الخيبة من الرؤيا العلمانية والقومية بُنيت آمال أخرى في اتجاهٍ مغاير، ألا وهو الإسلام، والإيديولوجيات الإسلامية.

الملاحظة الثانية: إن الأجوبة التي قدّمها الخطاب الإسلامي على تحدّيات الحداثة كانت أكثر فعالية من أجوبة الناصرية والبعث على الصعيدين الاجتماعي والإيديولوجي. لقد ركّز الخطاب الإسلامي على مسألة الهيمنة التي مارسها الاستعمار، كما شدّد على إشكالية التنمية مبرزاً مدى التأخّر وازدياد الفقر الأمر الذي يعني حياة المسلم مباشرة. فالتوقّف عند كل من الهيمنة والتنمية قد زاد من فعالية الخطاب، بخاصة بعد أن أصبحت الاحوال الاجتماعية والثقافية ملائمة لتشجيع “الرؤيا المهدوية” و” الحركات الإسلامية ” في آن.

اعتبر أركون أنه بعد نزوح سكان الأرياف إلى المدن سعياً وراء عيشٍ كريم، تزايد كثيراً عدد سكان هذه المدن، مما ادّى الى تفاقم الفقر والعوز وتردّي المستوى المعيشي. هذا الوضع قد شجّع الى حد بعيد انتشار الإيديولوجيات والحركات الدينية. هكذا ” راح العاطلون عن العمل، والمهاجرون إلى المدن، المقتلعون من جذورهم، يقدّمون أرضية مناسبة جداً لشعارات العدالة والتحرير ضمن منظور ديني أخروي. فهؤلاء الذين لا أمل لهم بأي مستقبل بمَ يتعلقون وبأي شيء يستعصمون إن لم يكن بالتراث والدين؟”.[41]

أشار كذلك إلى أن الخطاب الإصلاحي منغرس عميقاً في التاريخ الاسلإمي منذ زمن من خلال المخيال الجماعي، وهو يعود الى زمن ابن حنبل الذي ناضل ضد ما تمّ تصنيفه بـ”الانحرافات الدنيوية العلمانية للخلافة” أيام المأمون. وأضاف أن ” الحركات “الاسلامية” الاحتجاجية الراهنة ليست بنت الساعة، وإنما هي وليدة زخم تاريخي طويل، ومن هنا سرّ قوتها وقدرتها على التعبئة والتجييش”.[42]

اعتبر أركون أن قوة الخطاب التعبوي الإسلامي تكمن في عملية الربط القوي بين المنظور الأخروي والممارسات الشعائرية، كما بين الأفكار الأخلاقية القديمة ونزعة الاحتجاج السياسي المبرّرة بشدّة. يعتمد في قوله هذا على ما قدّمه الخطاب الذي أنتجته الحركة الإصلاحية السلفية ونشرته منذ القرن التاسع عشر، وما تلاها من خطاب مع الإخوان المسلمين، ومن ثم الحركات الإسلامية المتشدّدة في الحقبة الراهنة. لحظ من خلال منهجه التحليلي الذي يربط الحاضر بالماضي لكي يفهم كلا منهما في ضوء الآخر، أن هناك استمرارية راسخة، على صعيد الاحتجاج والدعوة إلى النضال، ليس فقط بين الحركة الإصلاحية السلفية والإخوان والحركات الإسلامية الحالية، إنما بينها وبين موقفين أكثر قدماً: الأول يعود الى ما كان يمثله الإسلام السني الرسمي في الدعوة إلى طاعة السلطة القائمة حتى ولو كانت جائرة، لأنها أفضل من الفوضى. والثاني ينحصر في موقف الخوارج ومن ثم الإسماعيليين الذين رفضوا السلطة القائمة وتمرّدوا عليها.

إن تركيز اركون على التواصل والاستمرارية بين الماضي والحاضر في التاريخ الإسلامي يهدف أيضاً إلى الرّد على الباحثين الغربيين الذين لا يميزون بين الموقف التحديثي والموقف المتزمّت، فيضعونهما جنباً الى جنب. لذلك نجده يصرّ على ضرورة العودة الى منهج الحفر عن الأسباب العميقة التي تربط بين ما يحدث اليوم وما حدث سابقاً، عند ذاك يتمّ فهم أسباب الانبعاث المفاجئ لنمط التفكير الديني القديم، والرؤية الإسلامية المتطرّفة. كذلك شدّد في ما يتعلّق بالمنهج على ضرورة العودة إلى “دور الحركات والتشكيلات الجماعية وأهميته في بلورة وانتشار الاحزاب والتشكيلات الايديولوجية أكثر مما نركّز كل الانتباه على دور الزعماء المؤسّسين” مثلما يفعل معظم المستشرقين.

يرى أركون أن جمال الدين الافغاني ومحمد عبده لم يتعرّضا إلى نفس الضغوط المعيشية وحاجيات الجماهير الشابة التي نشهدها اليوم من حولنا، أي أنهما كانا أقل تعرّضاً من زعماء الحركات السياسية-الدينية المنتشرة بكثافة في المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة. لذلك يجدهما قد تمكّنا من ” أن ينشرا ويطوّرا عقلانوية براغماتية تتيح هضم وتمثّل الأفعال والأفكار الجديدة التي ولدتها الحداثة. (…) لهذا السبب نجد أن اليقينيات الدوغمائية المتشدّدة التي يرفعها عالياً بكل صخب وقوة المناضلون الإسلامياتيون الحاليون والتي تسيطر على موقفهم ورؤيتهم لا تسمح لنا أن نستشهد أمامهم بهذا المقطع المرِن والمنفتح لمحمد عبده:

” يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام، وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قرّرها الشرع الإسلامي. ولا يُسوّغ لواحد منهم أن يدّعي حق السيطرة على إيمان أحد، أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره”.”[43]

إن خيار أركون لهذا النص بالتحديد له دلالة نقدية واضحة، فالمؤلّف هو زعيم حركة إصلاحية سلفية، وهو ينتقد الادعاء باليسطرة على إيمان المسلم والتحكّم في أمور العبادة من قبل رجال الدين بعامة. أراد أن يعيدنا الى السؤال الذي يطرحه غالباً: باسم من، وباسم ماذا، يتمّ التحكّم بكل هذا؟ إنه يبغي طبعاً الكشف عن آليات التلاعب بالسلطة والسيطرة على المؤمنين، وسوقهم الى حيث لا يريدون. اإه يرى في هذا الموقف ” حداثة عقلية وفكرية حقيقية ” ومن الصعب دحضه لاهوتياً. لكن ليس من السهل أن يدافع عنه أحد اليوم في غمرة ما تشهده المجتمعات العربية والإسلامية من حراك وسط مناخ إيديولوجي مشحون بمبادئ الثورة الإسلامية. ويخلص إلى القول بأن ” تاريخ المرحلة “الثورية”(أقصد الثورة العربية، ثم الثورة الإسلامية) قد عقب المرحلة الطويلة للنهضة. وهو يشكّل دلالة على التراجع المتدرّج للفكر التحديثي والعلماني الذي حلّت محلّه الرؤيا الدينية الأرثوذكسية. هذه هي الحقبة الأساسية التي ينبغي التركيز عليها في ما يخصّ التطورات التي حصلت طيلة السنوات الماضية “.[44]

إن التوتر الحاصل في عدد من المجتمعات الإسلامية يدعو المحلّل الى التوقّف والسؤال عن السبب. هنا تكمن في نظر أركون النقطة الرئيسة التي يجب التركيز عليها. لذا نجده يشير إلى أكثر من سبب، نبرز الأهم في ما يأتي:

– وصول الجماهير الشعبية إلى السلطة، في حين لم تكن تحلم سابقاً بذلك لأنها كانت مكتفية بواقعها المتواضع مع الإمكانيات المحدودة.

– تضخّم واتّساع المناخ الإيديولوجي الذي يُسهم في تجييش الجماهير.

– تفكّك مختلف الشبكات التضامنية الكائنة بين الناس، وتفكّك “الشيفرات الثقافية” أي الأعراف والتقاليد الثقافية السائدة والموروثة عبر الأجيال. كذلك هناك “تفكّك وانحلال الطقوس الشعائرية والأنظمة الرمزية للتصوّر والإدراك”[45]. فبعد أن كان هناك تماسك عميق بين الناس، وشعور بالهوية الجماعية، وأمل كبير بالخلاص، انحلّ كل ذلك ولم يعد أمام الشعب سوى الانخراط بالحركات الإيديولوجية التي تشكّل الملجأ الأمين.

– عمليات الاقتلاع من الجذور، وما حدث من هجرة كثيفة للبشر باتجاه ضواحي المدن حيث انتشرت البيوت الفقيرة المحرومة من تدبير الأمور السياسية الخاصة بالحياة اليومية. إن تشتيت الناس وتهميشهم يؤدّي إلى اعتمادهم العنف كسلاح فعّال بإمكانه أن يُسمِع صوت الجماهير الشعبية التي يعذّبها الحرمان.

– التزايد السكاني الملفت الذي تعبّر عنه أعداد الشباب الذين يتخبّطون بالهموم المعيشية اليومية، وهم قد نموا وكبروا في مناخ مشحون بـ”ايديولوجيا الكفاح”، بعيداً عن الأفكار الليبرالية التي تبلورت نتيجة عصر الأنوار.      – النقد القاسي الذي وجّهه المناضلون الإسلاميون ضدّ قلّة من المثقفين الليبراليين إذ اتهمونهم بالخيانة والرضوخ للغرب.

– إن الإسلام المعاصر “واقع تحت تأثير العولمة الكاسح مثله مثل غيره”[46]. فكل الأديان الحيّة قد تأثّرت بالحالة الجديدة التي طرأت، ولا يمكن الرجوع عنها.

– الفرق بين الصراع في الأمس والصراع اليوم، إذ أن ” المعارك الثقافية التي جرت في العشرينيات من هذا القرن بين الليبراليين والإسلامياتيين كانت تنتهي بانتصار الأولين، فإن العكس هو الذي حصل بشكل متزايد منذ العام 1970 “.[47]

–  قصر الفترة التنويرية وانحسار الفكر التاريخي العربي من دون أن يؤسّس معرفياً للفكر النقدي، إذ “لا تزال عملية افتتاح هذا الجانب من المعرفة والفكر تشكّل مهمة غير مفهومة بل ومطعوناً فيها من قِبل الممارسة الحالية للفكر الإسلامي والفكر العربي”.[48]

– سوء تطبيق المنهجية التاريخية التي ازدهرت في أوروبا أبّان القرن التاسع عشر من قِبل مثقّفي عصر النهضة أدّى إلى انفجار الحركات الأصولية لأنه لم يتمّ تفكيك التراث ودرسه بعمق. إن عدم البحث الدقيق في التراث، وعدم فهمه بكل أبعاده في عصر النهضة، أمران مهمان نتج عنهما انفجار الحركات الأصولية بعنف. يؤكّد أركون في هذا المجال أنه لو تعرّض التراث العربي الإسلامي “لمسح تاريخي شامل ولإضاءة نقدية – تاريخية شاملة لما حصل ما حصل لاحقاً. هذه بدهية ينبغي ان يتأمّل فيها المثقفون العرب المعاصرون (…). لو نجح التنوير الإسلامي، لما ظهرت الأصولية وملأت الشارع والبيت والمدرسة والجامعة وكل شيء…”[49].

– رفض الفكر الفلسفي ومحاربته، الأمر الذي يوسّع تدريجياً دائرة اللامفكر فيه. “هنا سوف تحصل المعركة الأساسية للفكر التنويري العربي والإسلامي إذا ما أتيح لها أن تحصل يوماً ما”.[50]

نلحظ هنا كم أن الهمّ المعرفي ظاهر في قراءة أركون للواقع السياسي، فالرهان قائم دائماً على الفكر النقدي، والقراءة التاريخية، والفكر الفلسفي، إذ ان في ذلك سبيل الى رسم خارطة طريق تؤدّي بنا الى التحرّر مما يعيق عمل الفكر الحر. إن كان من نضال يجب القيام به، فهو بالطبع على هذا الصعيد. لكن ما يقوم بالسيطرة قوياً على الفكر والمجتمع هو نوع من ” إيديولوجيا طوباوية وردية محرّكة للجماهير من أجل مواجهة الغرب والرّد على تحدّيه. وهي بالتالي لا تهتم كثيراً بتقديم برامج دقيقة لإصلاح المؤسّسات وتنبيه المواطنين للمطالبة بحقوقهم المدنية وتحرير المجتمع المدني لكي تفقد الدولة ” احتكار العنف ” على حدّ تعبير Max Weber”.[51]

6- في تفكيك الحركات السياسة:

بعد أن رأينا كيفية تحليل أركون لمفهوم إيديولوجيا الكفاح، يمكننا أن نورد انتقاده للحركات السياسية التي نشطت في المجتمعات العربية الإسلامية، للإشارة إلى مدى التداخل بين السياسة والدين، أو بين الإسلام والسلطة في الحقبة المعاصرة.

اعتبر أركون أن الحركات السياسية تعمل على المستوى العاطفي من خلال تجييش الجماهير من دون التوجّه فعلا نحو المشاكل المطروحة ومحاولة حلّها. انتقد عملية الأدلجة التي تقوم بها، وما تتطلّبه من تحوير وطمس وبتر للحقائق الاجتماعية والتاريخية والنفسية التي من شأنها أن تلقي المزيد من الضوء على الواقع، وتسهم في بلورة مفاهيم ومقاربات جديدة أكثر في عملية التعاطي مع الثراث ومع الواقع في آن.

كذلك انتقدها لأنها ” إذ ألقت على كاهل الإسلام مسؤولية كل الأعمال المنقذة والمخلّصة للشعب من همومه وآلامه قد خلقت نوعاً من الأقنوم الضخم الذي أنساها حتى الله مؤلف هذا الدين بحسب المنظور الأكثر أرثوذكسية “.[52]

إن من يقرأ نص أركون وكيفية تحليله للحركات السياسية في الإسلام يلحظ أنه يرصد بدقّة نتيجة عملها وينتقدها على هذا الأساس. يمكننا أن نختصر ملاحظاته النقدية بالنقاط السبع الآتية:

1-  انحجاب علم اللاهوت والالهيات عن الساحة الثقافية الإسلامية.

2- تقلّص دائرة التفكير في الأخلاق والسياسة والفلسفة الى حد بعيد.

3- انقراض العلم والعقل والفكر الحر.

4- قيام التركيبات الإيديولوجية التي أنتجتها هذه الحركات ببناء إسلام بروميثيوسي يتّخذ صورة الفاعل المحرّك لكل التاريخ، صورة المهيمن على كل مشروع بشري.

5- تصوير الإسلام كمصدر لا ينفذ لكل الحقائق، وكمولّد معصوم لكل الحلول .

6- النيل من الله الأساس المطلق الذي لا يمكن التحدّث عنه خارج نطاق الإسلام.

7- جعل الله مجرّد مرجعية شعائرية طقسية، ينتظر تحديداته وصفاته من الصيرورة التاريخية للإسلام.

انطلاقاً من النقطة السابعة، لفتنا كيف يفهم أركون الله من خلال النص الذي نحن في صدده، والوارد في كتابه: الإسلام الاخلاق والسياسة؟ يرى أن الله هو:

– الأساس المطلق

– موضوع التعلّق والبحث العقلي والروحي الظامئ.

– المطلق المتعالي الذي لا ينغمس في مادية التاريخ.

من هنا يمكن أن نفهم النقد الذي وجّهه إلى أدبيات وسلوك الحركات السياسية في الإسلام لأنها تمكّنت من أن تسيء الى فكرة التعالي والتنزيه الواردة في القرآن. وهذا أمر في غاية الأهمية يكشف لنا مقدار انغماس هذه الحركات في قضايا السياسة وشؤون المجتمع أكثر من انهمامها بالمسائل اللاهوتية والماورائية الصرفة. نشير في هذا السياق إلى ما توصّل إليه اركون وأعلنه في أكثر من مؤلّف بأن العلمنة، والأمور الدنيوية باتت تجتاح المجتمعات الإسلامية، كما الخطابات الدينية، وهي تشكل حيّزاً كبيراً منها بالمقارنة مع نسبة الانشغال باللاهوت والفلسفة.

انطلاقاً مما تقدّم، يمكن أن نلحظ مع أركون أن اجتماع أكثر من عامل سلبي ساعد على تحجيم الأطر الاجتماعية للمعرفة في مختلف البلدان العربية والإسلامية. “بمعنى أن المجتمع نتيجة أزماته وفقره وهمومه لم يعد يستطيع أن يفتح صدره للفكر الحر والنقدي، وإنما فقط للفكر الأصولي التقليدي الموروث أباً عن جد. هذا هو السبب الذي أدّى إلى نجاح الأصوليين، وليس عبقريتهم أو اكتشافاتهم العلمية الخارقة في مجال الفكر الإسلامي”[53].

نشير على صعيد المنهج إلى أن أركون لم ينتقد ” إيديولوججيا الكفاح ” التي أفرزتها الحركات السياسية في الإسلام من أجل النقد فقط، إنما الهدف الأساس يبقى معرفياً. يستخدم التاريخ كما علم الاجتماع والمنهجيات الحديثة، ليس رغبة بالهدم، إنما من أجل تسليط المزيد من الضوء على ما تمّ اخفاؤه ضمن دائرة اللامفكر فيه. لم ينتقد لكي يُشهر سلاحه في وجه أحد، همّه معرفي، ومنهجه علمي. هدفه الإسهام في تحرير الفكر مما يُعتقد أنه الحقيقة. من هنا نجده ينظر الى هذه الحركات متفهّماً دورها لأنها تقدّم في النهاية “الملجأ والملاذ”، “المأوى والمخبأ “، “الحجة والتعلّة”، ” الوسيلة والعذر لتاريخ معقّد مليء بالمشاكل والآلام “. يخلص إلى القول: “إن الفكر الذي يستخدم هذا الإسلام الفعّال والمحرّك للجماهير بعيد عن التبصّر الحاذق والروح العلمية المنفتحة. إنه لا يسيطر على المعطيات الإكثر أهمية للتراث الاسلامي الكلي، وإنما يستخدم تراثاً مجزوءاً ومبتوراً، ويعتبر أنه يمثّل كل الاسلام! كما أنه لا يعرف الآفاق المنفتحة للحداثة العقلية السائدة حالياً في العالم المعاصر. أقصد الحداثة التي يبلورها ويغنيها يوماً بعد يوم النقد العلمي والابستمولوجي الذي تمارسه مجموعة العلميين الدولية”.[54]

7- خلاصات وآفاق:

بعد أن توقفنا في النقاط السابقة عند كيفية درس محمد اركون لآليات التمفصل والتقاطع بين اللاهوتي والسياسي وتأثير كل منهما في الآخر، يهمّنا هنا أن نشير إلى ما توصّل إليه بخصوص تلاعب السلطات السياسية بالسيادة العليا والاستفادة منها لمصالحها الخاصة. هذه المسلكية خير دليل على تقاطع الروحي والزمني في المجتمع. فالسلطات السياسية الإسلامية هي سلطات زمنية دنيوية تحكمها إكراهات المجتمع والتاريخ، ويسيطر عليها صراع الفئات المتنافسة وموازين القوى، على الرغم من إدّعائها القداسة، ومحاولتها خلع رداء المشروعية الدينية المثالية على نفسها. إن القراءة التاريخية للأحداث تظهر أن السلطات السياسية “قد حسمت الأمور على أرض الواقع بالقوة أولاً ثم لجأت بعد ذلك مباشرة إلى تكوين إيديولوجيا كبرى للتبرير والتسويغ. ان ادّعاءها لمشروعية فوق بشرية أو خارقة ليس إلا وسيلة لا تزال فعّالة من أجل تدعيم ذاتها وإرهاب الخصوم وتسفيههم”[55].

إن البحث في مسألة العلاقة بين الإسلام والسياسة، وفي الجدلية القائمة بين العامل الروحي/والعامل الزمني أو السياسي، قد فرض على محمد أركون التحدّث عن العلمنة وبالتالي عن الحركات الأصولية التي تحقّرها لكنها في الواقع تسير نحوها بخطى واضحة، ومن دون أن تعي ذلك. هذا ما حاول أن يبيّنه في مختلف أبحاثه، بخاصة عندما نجده يركّز على السيادة العليا الآلهية وكيفية استغلال السلطات السياسية لها. لقد أشار إلى ان السلطات السياسية الإسلامية هي زمنية دنيوية تخضع لمشروطية المجتمع والتاريخ، وتتأثّر بصراع الفئات التي تتنافس فيما بينها. إن كل الادّعاءات بالقداسة التي أطلقتها وحاولت من خلاها أن تضفي على نفسها غطاءً من المشروعية الدينية العليا، لم تغيّر شيئاً. فالتاريخ واضح يظهر أنها قد قامت بحسم الأمور لمصلحتها بالقوة في المرحلة الأولى، ومن ثم باشرت بتأسيس إيديولوجيا التسويغ. ان ادّعاء السلطات السياسية أنها تمتلك مشروعية خارقة تفوق البشر، ما هو إلا وسيلة ناجحة تمكّنها من تثبيت نفسها ومحاربة خصمها وإرهابه. ان هذه الوسيلة لا تزال مستخدمة حتى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وذلك بسبب افتقار هذه المجتمعات للحداثة المادية والعقلية، وبسبب الضغوط الخارجية التي تمارسها الامبريالية، وازدياد التفاوت الطبقي في الداخل، وسيطرة المجاعة والأوبئة والحروب.

لحظ أركون أن ادّعاء المشروعية ما زال فاعلاً حتى في المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة، نظراً إلى أسباب عديدة أبرزها تأخّر هذه المجتمعات مادياً ومعرفياً، وممارسة الضغوط الامبريالية الخارجية، وتزايد التمييز الطبقي في الداخل وانتشار الحروب والأوبئة والمجاعات. يعتبر انه من الضروري ان يكشف الباحث عن مختلف التلاعبات التي حصلت عبر التاريخ وهي لا تزال مستمرّة، تفعل فعلها في عمق المجتمع. ان إطلاق الأحكام عشوائياً والقول بأن الإسلام لا يفصل بين الروحي والزمني، وهو بالتالي دين مغلق في وجه العلمنة، دليل واضح على عدم اعتماد القراءة التاريخية المنفتحة عندما يتعلّق الأمر بدراسة الفكر الإسلامي. لقد بحث مفكرنا مطوّلاً في إشكالية العلمنة وإمكانية حصولها في المجتمعات الإسلامية، كما برهن على ان هذه المجتمعات عرفت العلمنة سابقاً، وهي اليوم تسير نحوها من دون ان تشعر بذلك.

إن مسار البحث يمكن أن يكشف لنا كم أن الفكر الأركوني توّاق الى التحرّر من كل ما يعيق العقل عن ممارسة اجتهاداته وتأويلاته. إنه فكر نقدي يرمي إلى كشف ما يشوّه عملية التفكّر من أي مصدر أتى. إن النتيجة المباشرة لهذه الطروحات كانت إن جوبهت بالرفض من الجهتين: العربية الإسلامية، والأوروبية الغربية. من الجهة الأولى جاء الاتهام بالكفير وبالخروج عن السراط المستقيم، أما من الجهة الثانية فقد جاء تصنيفه والحكم عليه بالأصولي المدافع عن دين يبرّر العنف. فالمفكر النقدي الحر يعيش وحيداً بعيداً عن من يهلّل له من حوله، ويمدح انتاجه ويعظمه، ومن دون أن يتمّ تلقّي أفكاره وطروحاته والتفاعل معها بالجدية المطلوبة.

فالكلام على التحرير، واستعادة الحقوق المهدورة، والنضال في سبيل ذلك يرسم له أركون طريقاً مغايراً عن الذي سبق أن قدّمه خطاب “إيديولوجيا الكفاح” والحركات السياسية في الإسلام.

سنحاول في هذه الخاتمة تحديد ابرز النقاط التي من شأنها بالنسبة إلى أركون تحقيق المبتغى، إن على الصعيد المعرفي أو السياسي.

يرى أركون أنه كان هناك تحرير أول من الاستعمار، وهناك سعي لتحرير ثان من الأنظمة التوتاليتارية. لكن شروط نجاح التحرير الثاني تكمن في مسار متكامل، نعرضه في ثماني نقاط:

1- السعي إلى الاكتساب السريع للثقافة الحديثة التي تتعلّق بحقوق الإنسان والديمقراطية.

2- بلورة رؤيا سياسية لمفهوم التضامن بين الشعوب، وبخاصة بين الشعوب المستعمِرة والمستعمَرة سابقاً، بخاصة وأن هذه الأخيرة تتعلّق بـ”الاديان التقليدية من أجل استعادة الأمل الاخروي بالنجاة”.[56]

3- تحميل مراكز القرار المحلية والدولية مسؤوليّتها في ما يتعلّق بالوضع الراهن المأزوم.فعلى العقل الحديث أن يتحمّل مسؤولية الإرث التاريخي الثقيل الذي أنتجته مرحلة الاستعمار.

4- البحث في الأسس السياسية والاخلاقية للممارسة الاقتصادية الانتهازية التي يتّبعها الغرب عن طريق عقد الصفقات التجارية والتنافس على أسواق الدول النامية، الأمر الذي نتج عنه التحكمّ في مصير شعوبها.

5- التوقّف عند دراسة الفلسفة السياسية التي تهتم منذ أفلاطون وأرسطو بتفحّص الأسس الأخلاقية لكل عمل سياسي. هذه الإشارة موجّهة إلى الغرب أيضاً الذي حجّم العامل الأخلاقي على حساب العامل المادي والنفعي.

6- مناقشة البعد الفلسفي لكل ممارسة لسياسة القوة، من قبل أي كان، مع إلزام كل طرف مشارك بأن يضع نفسه موضع النقاش وزعزعة القيم الخاصة به، مما يؤدّي إلى إمكانية ظهور خيارات فلسفية غير التي نشهدها تتصارع باسم “الهويات القاتلة”، حسب تعبير أمين معلوف.

7- إن نهاية الإرهاب مرهونة بسياسة صائبة للعقل على المستوى العالمي.

8- إن أفضل ما يمكن فعله تجاه ضحايا الإرهاب يكمن في تحمّل الجميع مسؤولية البؤس العالمي الذي يزيد من حالات الضعف التي تصيب حياة البشر والتي لم تعرف أي حضارة أو فلسفة كيفية القيام بدورها، وذلك من خلال البحث عن الكرامة والعدالة والمحبة.[57]

في الختام،

هناك اذا بالنسبة الى أركون معركة فلسفية يجب القيام بها للخروج من الوضع القائم، تليها معركة أخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وذلك في سبيل تحديد مفهوم الشرعية. شرعية من يحق له أن يحدّد الحقيقة ويطلق الدعوة إلى الجهاد ويكفّر الآخر. من أين أن تأتي الشرعية التي تخوّل السلطة القائمة أن تتحكّم بمصير البشر وتقودهم إلى حيث لا يريدون في إطار شروط الطاعة للحكم ؟ إن مشروعه النقدي يصبّ في هذه الخانة: الكشف عن مصدر الشرعية، هذا الموضوع الذي لا يزال يُصنّف ضمن دائرة اللامفكر فيه . إنه يصرّ على أن “كل مسألة الشرعية في المجالات السياسية والحقوقية والأخلاقية واللاهوتية والفلسفية قد تسيّبت تماماً منذ المعارك الكبرى الأخيرة التي نشبت في العصر الوسيط بين الغزالي ومحاوريه الكبار من أمثال ابن رشد. أما ابن خلدون (…) فإنه لم يفعل غير أخذ العلم، مع وضوح في الرؤية، بالقوى السياسية-الاجتماعية الميكانيكية التي كانت تقود كل أسرة حاكمة إلى نهايتها المحتومة بعد ثلاث مراحل تتكرّر عبر المسار ذاته: ظهور، توسّع، انحطاط “.[58]

إن التفحّص النقدي لاستخدام الشرعية، بخاصة في المجال السياسي، يجب أن يأتي، من وجهة نظر أركون، بعد أن تُخضع النظم اللاهوتية والفلسفية والحقوقية التي أسست شرعيات عدّة، لتحقيقات تاريخية وأنتروبولوجية تنزع عنها المنحى الرمزي والخرافي. ويرى أن ” العديد من الأنظمة في العالم العربي المعاصر لا يمتلك أية شرعية: إنها تفرض على “رعايا” يبحثون عن صفة المواطنين “شرعيات مقوننة” اضطهادية. ويعود الفضل إلى الأنظمة الديمقراطية في رعاية النقاشات والاحتجاجات في مسائل الشرعية”.[59]

كذلك، تجدر الغشارة أخيراً إلى الطلاق الحاصل بين الأخلاق والسياسة الذي لفت النتباه إليه أركون في اكثر من مؤلّف، وهو يلحظ أن هناك تراجعاً مستمراً للخطاب الأخلاقي في السياق العربي الإسلامي، في حين أنه “يحظى بقبول واسع في المجتمعات التعدّدية”.[60]

نخلص إلى القول إن الشرعية الأساس التي ينطلق منها أركون ويعترف بها، هي شرعية العقل الحر المستقل الذي يقبل الانخراط في النقاش المستمر مع العقلانيات الأخرى المختلفة. إنها عبارة عن استنفاد للجهد الفكري الذي يقوم بمراجعة نقدية لمختلف أوجه الشرعية السابقة. وهي بالتالي تنتج عن “إجماع الحوار الحر” الذي يدور بين سائر الأطراف، من دون الخضوع إلى قرار قسري مفروض من أي جهة كانت.

قائمة المصادر والمراجع:

[1] – وجيه قانصو، الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ، دراسة في مراحل التكوين الأولى، بيروت، دار الفارابي، ط1، 2016، ص 53.

[2] – عبد الإله بلقزيز، الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي، بيروت، منتدى المعارف، ط1، 2015، ص 61.

[3] – محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1995، ص 91.

[4]  محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسّياسة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، ط1،  1990، ص 71.

[5] – مجيخ قانصوه، الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ، م.س. ص 52.

[6] – وجيه قانصوه، الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ، م.س. ص 53.

[7] – وجيه قانصوه، الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ، م.س. ص 54.

[8] – محمد أركزن، حين يستيقظ الإسلام، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 2019، ص 51.

[9]  –  أركون، محمد. تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م.س. ص 268

[10]“مديونية المعنى والدلالة”: آلية عميقة تحدث عند “جميع المجتمعات البشرية مبنية على نظام معيّن. إنها مبنية على مراتبية هرمية من القيم   والقوى المفروضة والمُحافظ عليها من السلطات السياسية”.[10] (مارسيل غوشيه، خيبة الامل في العالم).

[11] – محمد أركون، حين يستيقظ الإسلام، م.س. ص 51-52.

[12] – محمد أركون، حين يستيقظ الإسلام، م.س. ص 52.

[13] – محمد أركون، حين يستيقظ الإسلام، م.س. ص 52.

[14] – محمد أركون، حين يستيقظ الإسلام، م.س. ص 53.

[15] – محمد أركون، حين يستيقظ الإسلام، م.س. ص 142.

[16] – محمد أركون، حين يستيقظ الإسلام، م.س. ص 174.

[17] – محمد أركون، حين يستيقظ الإسلام، م.س. ص 60.

[18]  – أركون محمد. العلمنة والدين، الإسلام المسيحية الغرب، م.س. ص 64 – 65

[19]  – أركون، محمد. نافذة على الإسلام، م.س. ص 34

[20]  – أركون، محمد. نـزعة الأنسنة في الفكر العربي، م.س. ص 610

[21]  – أركون، محمد. الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 136

[22]  – أركون، محمد. م.ن. ص 137

[23]  – أركون، محمد. الفكر الإسلامي قراءة علمية، م.س. ص 165

[24]  – أركون، محمد. الفكر الإسلامي قراءة علمية، م.س. ص 167

[25]  – أركون، محمد. الفكر الإسلامي قراءة علمية، م.س. ص 167 – 168

[26]  – أركون، محمد. الفكر الإسلامي قراءة علمية، م.س. ص 168

[27]  – أركون، محمد. الفكر الإسلامي قراءة علمية، م.س. ص 169

[28]  – أركون، محمد. قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 125 – 126

[29] – محمد أركون، الاسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1995، ص 24.

[30] – محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، م.س. ص 25.

[31] – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 64.

[32] – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 64.

[33] – محمد اركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 159.

[34] – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 159.

[35] – محمد اركون، الأسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 159.

[36] – محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، م.س. ص 8-9.

[37] – محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، م.س. ص 9.

[38] – محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، م.س. ص 95.

[39]  – أركون، محمد. قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 157

[40] – محمد أركون، الأسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 161.

[41] – محمد اركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 161.

[42] – محمد اركون، الإسلام الأخلاق والسايسة، م.س. ص 162.

[43] – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص163 حيث يذكر محمد عبده، الإسلام والنصرانية، القاهرة، ط3، ص 59.

[44] – محمد اركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 164.

[45]  – أركون، محمد. الإسلام الأخلاق والسياسة، ص 135.

[46]  – أركون، محمد. الإسلام الأخلاق والسياسة، ص 170

[47] – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 164.

[48] – محمد اركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 165.

[49]  – أركون، محمد. الإسلام الأخلاق والسياسة، ص 171.

[50] – محمد اركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، ص 165.

[51] – محمد اركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، ص 167.

[52] – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، ص 168.

[53]  – أركون، محمد. قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 172

[54] – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 168

[55]  – أركون، محمد. الفكر الإسلامي قراءة علمية، م.س. ص 12

[56] – محمد اركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، م.س. ص 162

[57] – محمد أركون وجوزف مايلا، من منهاتن إلى بغداد، ما وراء الخير والشر، ترجمة عقيل الشيخ حسين، بيروت، دار الساقي، ط1، 2008، ص 152-153.

[58] – محمد أركون وجوزف مايلا، من منهاتن إلى بغداد، م.س. ص 277.

[59] – محمد أركون وجوزف مايلا، من منهاتن إلى بغداد، م.س. ص 166-167

[60] – محمد أركون وجوزف مايلا، من منهاتن إلى بغداد، م.س. ص 167.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete