الشباب والوعي بضرورة الفكر في التخصُّصُ بوصفه هُويَّةَ المعرفة

[I]

تكوين

لا مفرَّ من التخصُّص. ولا مفرَّ أيضًا من التكوين العلميّ عَبرَ التعلُّم والتدرُّب على التعلُّم، من قِبَلِ الشباب ذات الإرادة الحُرَّة. التدرُّب يكون على أساس التعلُّمِ، أي الاِستعداد للتعلُّم على نحو نفسي وأخلاقي وعلمي؛ عَبرَ الوعي باِنتشار الجهل والتجهيل في المعرفة السريعة والإعلامية المأخوذة بالتَّمَظهر والاِستعراض Showing، وبها. الشاب اليوم، مأخوذًا بنماذج الوعي العالَميَّة، يفهم نفسه، ويعي ذاته، ويشعر بوجوده، على أنَّه يمتلك كل معارف العالَم عَبرَ اِمتلاكه لهاتف ذكي. إنَّ هذا الأخير، من جهة تمكينه على القيام بالبحث عن أي معلومة بكبسة زر، هو يتوفَّر على إمكان أنْ يعلِّمَ على الجهل، ويُجهِّل، بالإضافة إلى أنَّه يمكن أن يكون، ضمن أطر اِستعماله المنضبط علميَّاً وآكاديميَّا، مصدرًا مهمًا من مصادر المعرفة.

[II]

أزمة الهوية

إنَّ ممارسات التجهيل عَبرَ المعرفة السريعة إنَّما هي ضرب من تجاوز تامٍّ للعقل العلميّ الحديث. لماذا؟ لأنَّه يمتلك كل المعارف العالَميَّة عَبرَ الغوغل. لكنَّهُ يجهل أن معارف العالَم كلها لو اِجتمعت معًا، جمعًا مجموعًا، في عقله لا تنتج إلاَّ تشويهًا للمعرفة، تشويشًا للعقل، معرفته هو، وعقله هو، ورداءَةً في تناول الموضوعات في العالَم، قائمة على الخلط السابق إلى العقول اليوم، وفوضىً قائمة على الجهل بصيرورة الاِنتقال من الذَّات العادية- اليوميَّة إلى الذَّات الباحثة، أي المُتسائلة، ومن بَعدُ المتفكِّرة، ومِنْ ثَمَّ الفاهِمَة، على نحو علمي عالميّ.

[III]

ضروب [الجهل- والتشويه- والفوضى] هذه تنتج عقولاً، في أفضل الأحوال، يمكن أن تكون غوغليَّة- فستفوديَّة؛ ولا تبلغ مستوى البناء، وإعادة البناء التي من شأن المفاهيم والنظريات والمناهج العِلميَّة. لأنَّ هذه الأخيرة إنَّما هي تقوم على القطون لسنوات طويلة في خط الاِنتظام البنيوي، والسير عليه، والتوقف عند محطاته، في الآكاديميا الحديثة، ضمن ثُلاثيَّة [الأرضيَّة الإبستيمولوجيَّة للمعرفة العِلميَّة- وموضوع المعرفة العِلميَّة- ومنهج المعرفة العِلميَّة]؛ على نحو التحديث، وما بعد التحديث، في كلِّ مرَّةٍ من جديد.

بين معرفة الحقيقة والمعرفة عنها

[IV]

إنَّ التخصُّصَ مفهومٌ مؤسِّسٌ لكل ضروب التفكير، وإنتاج المعرفة، وهو في الوقت نفسه، يضع حدودًا واضحة للمعرفة، في مواجهة الفوضى. إنَّ المعرفة الفوضوية، معرفة الشباب المستعجل، والمثقفين المأخوذين بمواقف آيديولوجية، أو اِتِّخاذ موقف من موضوع ما، والصحفيين والإعلاميين الذين لا يفعلون غير اِستنساخ الواقع، لا تنتج إلاَّ خرابًا مجتمعيَّاً وتمزُّقًا في الهُويَّة الوجودية للشباب. وبالتالي نصبح أمام إنسان مهزوم في وجوده، متخلِّعٌ في كينونته. إنَّ الشاب الذي يمارس كل ضروب المشاركة في حفلة الفوضى هذه، ولا يعي غرقه في مستنقع المعارف العادية، والذي لا يلتزم بنداء الواقع، فكرًا وممارسة، لا يبقى ضحيَّةً فكرية فحسبُ؛ بل يُفهم، بعدَ حينٍ على أنَّه قد شارك في ظلام الفكر العربيّ، وتعتيمه بعد.

[V]

هكذا تندلع صراعات وحروب فكرية، رافعةً رأسها من خلال مواقف وأحكام آيديولوجية منغلقة على الهُويَّة، الهُويَّة الذاتيَّة، أو الجماعاتية، أو المجتمعيَّة حتَّى، لا أوَّل لها ولا آخر. وهي في أحسن الأحوال تخلط بين معرفة المثقف، والصحفي، والإعلامي، من جهة، ومعرفة شباب هاو مستعجل، مشوش الذهن وفوضوي في ضروب تفكيره، من جهةٍ أخرى، ومعرفة فكرية رصينة مسؤولة إزاء المستقبل، من جهة ثالثة. وهكذا، إنْ اِستمر الوضع كما هو، وبما هو، وممَّا هو، ولما هو، سنكون أمام خرابٍ يُنتجُ خرابًا، وبنى نفسية مأزومة لا تُسهم إلاَّ في تدمير ذاتها. إنَّه الفكر المراهق الجديد الذي علينا أن نعيد تربيته، وتعليمه آداب العلم والتعلُّم والتفكير؛ ضمن قوانين وتشريعات آكاديمية واضحة، جامعة مانعة؛ وبالتالي ضرورة تعليم آداب أن يكون. ولكن كيف يكون ذلك؟ وعلى هَدي أيَّة محطات تفكير وفهم ووعي؟

بناء المعرفة

[VI]

إنَّه يكون عَبرَ الوعي السابق إلى ضروب بناء المعرفة، وإنتاجها. الوعي الذي يُبنى ويُصنع ويُخلق من خلال التوقف عند المفاهيم الآتية، على أقل تقدير:

-I بِنيَة التفكير العربيّ التي تتضمَّنُ وحدة المفهوم والواقع، و-II مُهمة التفكير العربيّ التي تقوم على بناء الأواصر بين جيل الأجداد والآباء، من جهة، وبين جيل الأبناء، من جهةٍ أخرى، على قاعدة الاِنفتاح على التغيُّر والتحوُّل والتبدُّل، وبالتالي زحزحة مستويات الفهم، وطبقات الوعي، و-III هدف التفكير العربيّ الذي يتمثَّل بإنتاج معرفة تُقدِّمُ مساهمة في بناء المفهوم العالمي، والنظرية العالَميَّة، والفرضية العالَميَّة، وبالتالي الفكرة العالَميَّة التي تفتح إمكان الحوار مع العالَم؛ على نحو علاقة مع العالَم جديدة؛ و-IV مسؤولية التفكير العربيّ التاريخيَّة إزاء الإنسان والمجتمع التي تتمثَّل في الاِنفتاح الرُباعي على: IV-I- الاِعتدال في بناء الأبحاث العِلميَّة على نحو واقعي، IV-II- والاِعتدال في تناول الآيديولوجيات المختلفة والمتعدِّدَةِ والمتنوِّعةِ التي تمارس تباينها في العلاقة مع الأنا الخاصَّة بالبحث والباحث، IV-III- والاِعتدال اِنطلاقًا من فهم جديد يمتحن التَّساؤل عن الذكاء الاِصطناعي بوصفه بديلاً عن العقل، IV-IV- والاِعتدال في الوجود في السايبر على أنَّه نمط من أنماط الوجود في العالَم الذي لا يمكنه أن يختزلها كلها فيه.

[VII]

لكن هذه السلاسل السَبَبِيَّة- العِلِّيَّة، في الغالب، تصطدم بعقبات معرفية- مجتمعيَّة تنتجها ضروب فهم بعينها للمعرفة الدينية. إنَّ ماهيَّة المعرفة الدينية، أي معرفة الدِّين في تأرُّخ التاريخ، في إطار واقعنا العربيّ، إنَّما هي- بعبارة مباشرةٍ من دون أيَّة مواربة ومراوغة- ماهيَّة رجل الدِّين. إنَّه بمباشرةٍ يُحدِّدُ ماهيَّة المعرفة الدينية، والنَّظر في الدِّين، والتساؤل عنه، ضمن ضروب تعيين وتحديد متفق عليها بين أفراد الجماعة العِلميَّة. إنَّ التَّساؤل الأكثر جذرية، في هذا السياق، إنَّما هو التَّساؤل عن التجديد اِنطلاقًا من رجل الدِّين. وبتساؤل بسيط: كيف يفكر عقل رجل الدِّين بالتجديد؟

يتوقف رجال الدِّين عادة عند مفهوم التجديد، على نحو التجديد من الداخل؛ أي داخل إطار المعرفة الدينية، في الموضوع والمنهج، والأرضية المعرفيَّة التي لهما. ولكن إذا نحن أردنا أن نطرح التَّساؤل الجذري عن التجديد، تجديد المعرفة الدينية بعامَّةٍ، والخطاب الديني المغلق بخاصَّةٍ، علينا أن نجدِّدَ التَّساؤل نفسه، في أنَّه تساؤل، وفي كيف أنَّه تساؤل؟.

الفيلسوف واللاهوتي: من القلق المعرفي إلى الخوف من المعرفة

أن نتساءل عن المعرفة الدينية معناه أن ننطلق من معرفة قبلية بعينها. وهي غالبًا، عند المؤسسات الدينية تُحدَّدُ من جهة كونها معرفة لا بُدَّ من أنْ تكون دينية. وأن نتساءل عن المعرفة الدينية، اِنطلاقًا من أي جهة أو مدرسة فكرية لديها نظرة مناهضة للدين، معناه أن ننطلق من معرفة قبلية تفهم الدِّين على أنَّه سلب. ولكن في الحقيقة، لا يقوم التَّساؤل الأصليّ عن التجديد في المعرفة الدينية، من دون الوعي بأسس التجديد الثلاثة، على أقل تقدير، الآتية:

-I لا معنى للتجديد ومنه، من دون فتح الإمكان للثورة الفكريَّة- العِلميَّة داخل المعرفة الدينية. أعني من خلال زحزحة طبقات الفهم، ومستويات الوعي الجامدة التي أنتجت واقعًا مزريًا على أصعدة عديدة.

-II يُفهم التجديد من اِتجاهين. اِتجاه [التجديد- من- الداخل] وهذا يقع على عاتق المعرفة الدينية نفسها، من خلال ثُنائيَّة [النقد- والنقد المضاد] التي فيها؛ والاِتجاه الثَّاني يتمثَّل بـ[التجديد- من- الخارج]. أعني، الاِنطلاق من تجارب عالَميَّة في تناول المعرفة الدينية، وتجديدها عَبرَ العلوم المجتمعيَّة والإنسانية الحديثة وما بعد الحديثة. ومن جهة أن هذه الأخيرة لا تقوم إلاَّ على الفلسفة مأخوذةً كعلم الحقيقة الرابطة بين الأفكار البنَّاءَة والواقع، فإنَّ التجديد، في هذا الضرب من فهمه وممارسته، يُصبح وعيَ التجديد نحو الثورة على كل ما يقع [على- الضِّدِّ- مِنْ- الإنسان] في العالَم.

-III إنَّ وعي التجديد يتضمَّنُ، دفعةً واحدة، معانٍ ثلاث، في وحدة واحدة: تجديد الوعي، والأنسنة أو التأنسُن Humanism، والواقعية في العالَميَّة. أعني أننا، نحن العرب، والمسلمين، من خلال إعادة بناء الإشكالات والإشكاليات الفلسفيَّة- والسوسيولوجية التي تربط بين الواقع المجتمعيّ في الحاضر، وبين ما يتجسَّدُ فيه من تاريخنا، وتأرُّخ تاريخنا، وتراثنا المُتَّفق عليه، أو حتَّى المختلف عليه، يمكننا أن نبلغ مستوى تجديد الوعي بذاتِ أنفسنا العميقة. ولا ثَمَّ تجديدَ وعيٍ من دون اِستنهاض علوم المجتمع والإنسان الحديثة داخل المعرفة الدينية التي لنا بعامَّةٍ.

[VIII]

المعرفة الدينية

وأشير في أنسنة المعرفة الدينية، إلى ضربين من الاِنطلاق بالتساؤل عنها: أوَّلاً التَّساؤل الذي ينهض على أوَّلِيَّة الإنسان على المعرفة، وثانيًا التَّساؤل الذي يُبنى من خلال الذَّات العارفة التي تجد في ذاتها مسؤولية تاريخية ومجتمعية إزاء الواقع المجتمعيّ في بلداننا العربيَّة. لا أتكلم هنا، ولست معنيَّاً أيضًا بالحديث، عن آراء فردية تريد أن تُصبِح شاذة أو نابتة، كتلك التي تذهب إلى دحض الدِّين من جذره، وتبلغ، عَبرَ غياب الوعي بالعلاقة الديالكتيكية (صعودًا ونزولاً) بين المفهوم والواقع، التي تنتج بناءً وإعادة بناء المفهوم والواقع في كلِّ مرة، تلك الذَّوات الأنانية غير الواعية وغير المسؤولة أيضًا، مستوى التبشير بآرائها وقناعاتها. بل ما أشير إليه إنَّما هو، يختلف، أشدَّ الاِختلاف، عن ضروب الأخذ بالتجديد على أنَّه فعلٌ معرفيٌّ- فكريٌّ فحسبُ؛ بل إنَّما هو واقعيٌّ أوَّلاً وقبل كل شيء. على ذلك، أشير في المعنى الثَّاني للتساؤل عن التجديد إلى بناء أرضيَّة واقعيَّة- مجتمعيَّة للتساؤل عن تجديد المعرفة الدينية. وأعني به، التَّساؤل عن أربعة أشياء معًا: -I ما هي القوانين والتشريعات التي تفتح إمكان التَّساؤل عن المعرفة الدينية، وتصون التجديد فيها، والمجدِّدَ لها؟ وهل ثَمَّةَ إمكان لتجديد هذه القوانين والتشريعات، أم لا؟ كيف ذلك؟ ولماذا؟ -II ضمن أي حقل من حقول المعرفة الدينية يقوم التَّساؤل ويكون؟ هل هو ينطلق بالتساؤل عن وظيفة المعرفة الدينية في حقل التربية مثلاً؟ أو في حقل التعليم؟ أو في حقل الشرعية المجتمعيَّة للسلطة؟ أم في حقل المشروعيَّة القانونيَّة لها؟ أم في حقل العلاقات الدولية بين الدول؟ أو في حقل علاقة الثقافات والحضارات فيما بينها؟ وهكذا دَوالَيك. -III الواقع في التَّساؤل عن تجديد المعرفة الدينية يتضمَّنُ معنى الاِصغاء لنداء الواقع، وتجسُّدها فيه، وكيفيَّة تجسُّدها. معنى ذلك هو أنَّه على التَّساؤل ألاّ يتوهم واقعًا مُضافًا إلى الواقع الأصليّ، لا وقوع له، ولا وجود. -IV لا معنى لمنهج التجديد، من دون تجديد المناهج، وإعادة تجديدها، في كلِّ الأحايين.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete