العرب والإستعصاء الديمقراطي…بنية مغلقة أم إشكال تاريخي؟

تكوين

منذ الثمانينيات من القرن الماضي بدا إشكال الديمقراطية كأنه الإشكال الأساسي الضاغط على وعي النخبة المثقفة العربية التي أدركت فوات العالم العربي وتخلفه السياسي والإجتماعي إزاء المد الديمقراطي الآخذ في الاتساع في أكثر دول العالم ، حتى تلك التي اعتبرت دائماً في عداد الدول الخاضعة لأنظمة فردية ودكتاتورية في موازاة عالم يتجه نحو الحرية ، حيث اجتاحت موجة الديمقراطية اوروبا الشرقية واميركا اللاتينية رغم دكتاتورياتهما الشرسة ،وآسيا رغم تنوعها الاثني والديني والثقافي ، وحتى أفريقيا التي تتهم أنظمتها بالبدائية والتقليدية ، فيما ظل الاستبداد والتسلط وانتهاكات حقوق الانسان سمة بارزة من سمات الانظمة العربية مهما اختلفت أشكالها ومسمياتها ،وظلت الدول العربية مقاومة لأي تحوّل ديمقراطي حداثي رغم إقبال العرب الشديد على السلع والتقنيات الحديثة . ورغم انفتاحهم على الغرب والثقافة الغربية منذ عشرينيات القرن التاسع عشر ، لا تزال أفكار كالديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الانسان ، تبدووافدة من خارج التاريخ العربي كأنما  هو قد أقفل دائماً أمام هذه الأفكار وليس لديه استعداد لتقبّلها وتمثّلها . ما عبّر عنه الطاهر لبيب في ” المسألة الديمقراطية في الوطن العربي ” بقوله ” يصعب الاجتهاد في القول إن ما هو مطروح علينا من مشروع مدني ديمقراطي عربي يمكن أن يجد له جذوراً أو سنداً في ما ساد عبر القرون الاسلامية من رؤى الفقهاء ومن أحكامهم الشرعية  والسلطانية ، وفي محصلة ما امتد إلينا منه كمرجعية أساسية ” ،فهل ثمة استعصاء في المجتمع والثقافة العربيين على التحوّل الديمقراطي ؟

ما هي الدولة العربية الاكثر ديمقراطية؟

على خلفيّة هذه الإشكالية التاريخية  تأسست إسهامات النهضويين العرب التنويرية فوضع النهضوي فرنسيس المراش كتابيه ” دليل الحرية الانسانية ” و” غابة الحق ” وكتب رفاعة الطهطاوي ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز ” وعبد الرحمن الكواكبي ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ” وألف خير الدين التونسي ” أقوم المسالك في معرفة احوال الممالك ” وانشأ جمال الدين الافغاني” العروة الوثقى ” حيث  رأى الطهطاوي أن ” الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الاحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على انسان ، بل القوانين هي المعتبرة والمحكمة ” . ورأى الافغاني أن ” الأمة التي ليس لها في شؤونها حل ولا عقد وانما هي خاضعة لحاكم واحد إرادته قانون ومشيئته نظام ، فتلك أمة لا تثبت على حال واحدة ،فتعتورها السعادة والشقاء ويتناولها العزل والذل ” ورأى الكواكبي أن ” سبب الفتور هو تحوّل نوع السياسة الاسلامية حيث كانت نيابية اشتراكية ، أي ديمقراطية تماماً ” واعتبر المرّاش الغاية من وجود الدولة النظر الدائم إلى الصالح العام وتحقيق الديمقراطية الاجتماعية ، فالشرائع والقوانين يجب أن تجري على الجميع ” من دون ادنى امتياز بين الاشخاص أو تفريق بين الاحوال ”

من جديد يعود هاجس الديمقراطية ليصبح أكثرالهموم اقتحاماً للوجدان العربي في مرحلة التحوّلات الدرامية المثيرة في الواقع العالمي ، بعدما توارى مرحلياً ، أواسط القرن الماضي ،وراء جلبة الشعارات القومية والايديولوجية . فمنذ اواخر السبعينيات اخذت تتوالى الندوات المخصصة لمسألة الديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني في العالم العربي ، وعقدت في الثمانينيات والتسعينيات  ندوات عدة لهذه الغاية ، كان اولها في المغرب عام 1981 ثم في قبرص 1983وعمان 1989وعقدت في القاهرة ثلاث ندوات في الاعوام 1990 و1991 و1992كما عقدت ندوتان لدراسة اشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني  في العالم العربي ، في بريطانيا وكندا ، وواكب كل  هذه الندوات كمّ  كبير من المحاضرات والابحاث والدراسات في الدوريات والصحف العربية .

الديمقراطية في العالم العربي

هكذا أعيد بإلحاح طرح السؤال الكبير ، القديم المتجدّد ،هل يمكن بناء الديمقراطية الكاملة في العالم العربي ؟ ما هي العقبات التي تواجه هذه العملية ، وكيف يمكن أن يكون للديمقراطية مستقبل في بلادنا ؟

تنطوي هذه التساؤلات على إشكاليات لا تزال تربك الفكر العربي منذ بدء النهضة العربية . فليس من اتفاق إلى الآن حول مفهوم الديمقراطية ،وليس من تفاهم حول النموذج الديمقراطي الواجب تبنيه، وليس من تصوّر واحد حول مستقبل الديمقراطية ، حتى ليمكن القول إن إشكالية الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر تتوزعها إشكاليات معقدة ومتشعبة ،إشكالية التعريف واشكالية النموذج وإشكالية المستقبل ،إن على مستوى النخبة أو على مستوى الشعب .فطوراً تطرح الديمقراطية منزوعة من جذورها الفلسفية الليبرالية ومن فضائها التاريخي العلماني لتتحوّل إلى آلية إنتخابية مفرغة من مضمونها ، ما يبرر التنصّل من مرتكزاتها العلمانية ، تلك القائمة على حرية الفرد ومركزيته وحقوقه الطبيعية ومرجعيته المطلقة في السياسة والتشريع. وتارة يتم الخلط بينها وبين التغريب ، واعتبارها بالتالي تهديداً للذات والهوية ومرادفاً للإلحاد والشذوذ والضلال . ثمة من يرى تماثلاً بين الشورى التراثية والديمقراطية ذاهباً إلى أن قيم هذه الأخيرة – الحرية والمساواة والتسامح والقبول بالآخر_هي من صميم الاسلام ، وثمة من يرفض ربط الديمقراطية بالعلمانية منادياً بشطب شعار ” العلمانية ” من قاموس الفكر العربي.بعض النخبة يرى أن الديمقراطية مستحيلة من دون مجتمع مدني ومؤسسات تتمتع بشرعية جماهيرية حقيقية تقوم على ادراك مصالح غالبية الجماهير في كل مرحلة من مراحل التطور، وبعضها يرى أن الديمقراطية ليست عقيدة وانما هي منهج يتمكن بواسطته المجتمع من تجاوز تناقضاته سلمياً ، وبالتوافق من دون الاخلال بالتظام والمؤسسات . فيما يرى آخرون أن الديمقراطية نظام فرعي في عقيدة ليبرالية هدفها الحقيقي خدمة المصالح الرأسمالية وتعميم قيمها في عملية اختراق مدروسة لمجتمعات العالم الثالث من اجل طمس هويتها واعاقة تنميتها والحاقها بالمراكز الرأسمالية .

في موازاة هذا الاختلاف والتناقض حول مفهوم الديمقراطية لدى النخبة تطغى “الشعاراتية” وعدم الوضوح على المشروع الديمقراطي لدى الشعب . فالانتشار الذي حقّقته الفكرة الديمقراطية في أذهان الجماهير لم تواكبه رؤية عميقة وواضحة لمفهومها، إذ لا يزال يختلط مع مفهوم المشاركة والوطنية وقد اتخذ تفسيرات مختلفة في مراحل تاريخية معينة وظروف اجتماعية ،ففسرت الديمقراطية أحياناً بالنضال الوطني ضدالاستعمار ،واحياناً بنضال المعارضة ضد الجكومة ، واحياناً أخرى بنضال فئة ضد فئة أو جماعة ضد جماعة داخل مؤسسة او حزب او جمعية. فهي دائماً مهددة أو دفاعية . أما أن تكون في حد ذاتها هدفاً اجتماعياً او منهجاً لتجاوز إشكالية التنمية والتخلف ،فهذا مازال إلى الآن طموحاً بعيد المنال ،ولا زالت الديمقراطية فكرة ضبابية في وعي الجماهير تحتاج دائماً الى آخر تفسر به وتستمد منه ضرورتها .

وليس انقسام النخبة والشعب حول النموذج الديمقراطي الواجب تبنيه أقل تعقيداًمن انقسامهما حول تعريف الديمقراطية . فثمة في النخبة من يتبنى النموذج الليبرالي الغربي بالكامل ، باعتباره الاكثر ملاءمة لظروفنا ،فهو يتمتع بالعالمية من حيث استيعابه لتجارب البشرية كلها ومن صلاحه لكل الامم والشعوب ، وقدأثبت صدقيته  وفاعليته بالمقارنة مع أي نموذج آخر . فهو إذن النموذج الوحيد وليس ثمة نموذج غيره .وثمة من لا يزال يراهن على النموذج الماركسي اللينيني رغم فشله الذريع كونه يؤمن المساواة الطبقية والرفاه الاقتصادي .وفي مواجهة هذه النماذج كلها يطرح الاسلاميون الديمقراطية الاسلامية بديلاً حضارياً واقعياً قابلاً للحياة ، بعد الاحباط الذي منيت به كل الديمقراطيات الاخرى، الليبرالية والشمولية والشعبوية.

إزاء هذا الاختلاف والتناقض حول المفهوم والنموذج وانقسام النخبة الى احزاب وحركات وتيارات متعارضة ومتباعدة في الرأي نتساءل: أي مستقبل للديمقراطية في العالم العربي ؟ وكيف يمكن ” دمقرطة ” المجتمع العربي الذي ما فتىء يتعثّر في طلب الحرية منذ بداية نهضتنا الحديثة إلى الآن؟

إزاء الرؤية التشاؤمية القدرية التي تزعم رفض العرب والحضارة العربية للحداثة من منظور يتضاءل معه الفعل الانساني وتسقط إرادة التحول والتغيير في أسرالضرورة وحتميات التاريخ الراكدة حيث المستقبل هو الماضي وكلاهما حاضر أبدي مقرّر ،والإنسان العربي رهين هذا الحاضر مهما حاول الفكاك من أسره وعبوديته .

في مقابل هذا التصور لبنية المجتمع العربي والتاريخ العربي والفكر العربي نطرح تصوراً آخر لا ينفي وطأة التاريخ العربي وثقله وذهنياته وأعرافه وسلطويته والولاءات الضيقة التي تتنازع إنسانه ، ولكنه مع ذلك لا يطمس الواقع الصراعي المتناقض والمتجدد لهذا التاريخ الذي لا يمكن حصره في أطر استنتاجات ايديولوجية تحيله الى مقولات ثابتة وجامدة .

إن المجتمع العربي لا يخضع للرتابة والجمود والنمطية التي تستسيغها الإيديولوجيا التبسيطية باعتبارها سماته الثابتة الأساسية والتاريخية . فالتاريخ العربي لم يكن سلطوياً دائماً، ولا كانت طاعة الاستبداد سمة من سمات المجتمع العربي من عصر الى عصر ، ولا كان تناقض الولاءات هو دائماً الغالب والمهيمن على الولاء الوطني والولاء القومي .

عرف التاريخ العربي الثورة والرفض والخروج على الطاعة ، وكذلك عرف الفكر العربي الإبداع والإنعتاق من مقولات التقليد والسلفية .

إن السلطوية التي يسوقها أصحاب النظرية الحتمية والرؤية السكونية في وجه التحول الديمقراطي العربي تسقطها كذلك تاريخية مجتمعات الحداثة اذ لم تحل سلطوية هذه المجتمعات ولا خضوعها للإستبداد على مدى قرون طويلة من تحولها من السلطوية والإستبداد الى الحداثة والديمقراطية .

أجل ثمة ذهنيات في تاريخنا تتعارض مع الديمقراطية ، ثمة بنية سلطوية سكونية ترفض مفاهيم الحداثة والفرد والمجتمع المدني ، ثمة ولاءات قبلية وطائفية وعشائرية وعائلية تعيق بناء “المواطنية ” و”الفرد المواطن ” ، ثمة تراث طاعة وتبرير للطغيان . ولكن ذلك كله ليس في نظرنا أمراً فوق التاريخ بل هوأ مر تاريخي يمكن تقويضه وخلحلته والإطاحة بثوابته ومسلماته وألا فما معنى أن نفكر ونكتب ؟ هل اقتصر دورنا على رثاء الامة واعلان اليأس من نهضتها؟ وإذا كانت هذه مهمتنا فالأحرى بنا تأكيد مقولة عبدالله القصيمي في الستينات “أدعو الكتّاب إلى الإنتحار ” .

اننا على عكس النظريات والإيديولوجيات السكونية نرى أن المجتمع العربي بنية مفتوحة على كل الإحتمالات ليست الديمقراطية أقلها ، بل إنه كذ    لك مدى مشرّع لرياح التغيير التي ستسقط معها كل أوهام الثبات والجمود والحتميات المستعصية .

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete