العقل العربي بين الأخلاقي والديني عند الجابري

العقل العربي بين الأخلاقي والديني عند الجابري

تكوين

إن الأخلاق عند ماركس هي صناعة الطبقة المهيمنة  من أجل استغلال الفقراء، في حين أن الأخلاق عند نيتشه هي حيلة ابتكرها الضعفاء ليتساووا مع الأقوياء. ففي ظل هذا التنافس الشديد على تعيين الأخلاق بين الفلاسفة، سنبحث سوياً في مجال الأخلاق الدينية، وذلك بحسب المفكّر المغربي محمد عابد الجابري، خصوصاً في كتابه “العقل الأخلاقي العربي”[1]، من أجل تحليلها ونقدها، من نواحٍ عدّة: تاريخية، واجتماعية، وفكرية، وفلسفية. سنحصر القضية بالطرح الآتي: هل هناك خطاب أخلاقي ديني عند العرب؟ فاللغة العربية تخلو من تعبير “الضمير الأخلاقي” conscience moral، وهو المَلَكة التي تصدر عنها الأحكام التقويمية والأخلاقية، أي كل ما يؤسّس للأخلاق وخطابها[2]؛ كما أن “التأليف العلمي” في الأخلاق عند الموروثين العربي الخالص والإسلامي الخالص تأخّر كثيراً، إذ إن إنجاز أي عمل في هذا المجال اتّصف بالعلمية ابتداءً من القرن الخامس هجري[3]؛ هل هذه المعطيات اللغوية والتاريخية تنفي قيام أي خطاب أخلاقي خاص بالعرب والمسلمين؟

ما هو العقل الاخلاقي؟

لذا، أردنا أن نبحث في الأخلاق الدينية، وذلك بهدف إيجاد خطاب علمي أخلاقي ديني، ورأينا أن مشروع الجابري، وهو معاصر، قد يجيب بقدر المستطاع على هذه الإشكاليات المطروحة، وعلى هذا الأساس سيتمحور هذا البحث حول ستة أقسام وهي:

– المنهج الذي اعتمده الجابري؛ سنقوم بالتوقف عند الخطوات المنهجية التي سيّرت عمل الجابري؛

– أبرز ما ورد في كتاب “العقل الأخلاقي العربي”، وسنضمّن هذا القسم قراءة لمختلف الموروثات، ما عدا الموروث الإسلامي الخالص الذي سنتناوله في القسم الذي يليه؛

– الموروث الإسلامي الخالص، حيث سنورد أهم المؤلفات التي صنّفها الجابري انطلاقاً من انتمائها إلى هذا الموروث، أو من اعتبارها مدخلاً إليه، ومن ثمّ أهم المعايير التي اعتمد عليها  في هذا التصنيف؛

– الموروث الصوفي بحسب قراءة الجابري؛

– الأخلاق السياسية وعلاقتها بالدين، وسنتوقف في هذا القسم عند نظرية الفصل بين الدين والسياسة عند الجابري، بالمقارنة مع المستشرقين، كذلك سنتوقف عند القيمة المركزية عند الفرس بحسب الجابري وهي الطاعة،  وذلك بسبب وروردها في المؤَلَّف مرّات عدّة؛

– نقد ومراجعة لكتاب “العقل الأخلاقي العربي” انطلاقاً من بعض المستشرقين.

أولاً: المنهج الجابري في مقاربة العقل الأخلاقي

أردنا في هذا القسم أن نبحث في منهج الجابري الأخلاقي، خصوصاً أننا وجدنا اختلافاً واضحاً بين المنهج الذي اعتمده في درسه للأخلاق، من جهة، والمنهج الذي درس من خلاله التراث العربي، من جهةٍ أخرى. والمُراد من ذلك، هو موضعة المنهج الأخلاقي ضمن منهجه العام، لنستطيع قياس مدى الانحراف عن توجّهه العام، فيكون بذلك أحدث تغييراً في مواقفه، أو أن هذا التغيير يتمّ بحسب موضوع دراسته. لذا سنرسم جزءاً من المسار العام عند الجابري من خلال دراسة قامت بها نايلة أبي نادر[4]، وبعدها سنقارنها بالمنهج الأخلاقي الذي نحته في كتابه “العقل الأخلاقي العربي”.

  • منهج الجابري بعامة

بحسب نايلة أبي نادر، يبحث الجابري في تجديد التراث من خلال ما يسمّيه بـ”التجاوز العلمي الجدلي”، أي أن يقوم المفكِّر العربي بتحديث التراث من داخله، وذلك عبر استرجاعه بشكلٍ لا يبقى فيه غريباً عن المعاصرة، أي بإدخال الحداثة إليه، فيُحافَظ عليه عند تجاوزه. إنه مشروع نقدي، يقوم على معرفة التراث، وإعادة قراءة ما هو متوفّر منه في ضوء “المفاهيم والمناهج الحديثة” وبعدها “يُصار إلى تدوينه من جديد”. لم يبقَ الجابري على مستوى “البحث الوثائقي”، ولا على مستوى “الدراسة التحليلية”، بل دعا إلى تأويل جديد لموضوعه، وبحث جديد عن معنى مقبول به في البيئة التي نشأ فيها الموضوع “المقروء”، والبيئة التي تعيد قراءته معاً[5]. ولكن هذا المشروع يستوجب “إحداث قطيعة مع الفهم التراثي للتراث”، وذلك بغية “تحقيق الاستقلال الذاتي”، وإلاّ تغرق الذات العارفة في الموضوع وماضيه، أي في أنها تبحث عن ركيزة لها تعزّز مواقفها، فتقع في إحدى السلفيات الدينية، أو الإستشراقية، أو الماركسية[6].

في ضوء ما ذُكِر، نرى أن الجابري لم يلتزم بالمنهج الذي دعا إليه في تحديث التراث العربي. بل قام بتمجيد كل ما يتعلّق بالموروثين العربي والإسلامي على حساب بقية الموروثات، ومن دون أي نقد يُذكَر. كما اعتبر أن هذه الموروثات هي التي دخلت على الموروثين العربي والإسلامي عند الأزمات الأخلاقية. لقد ذكر الجابري بأنه حصر المناهج التي سيستخدمها بـ”التحليل التاريخي، والمعالجة البنيوية، والطرح الإيديولوجي”، وأنه وحّد بين مفهومي التكوين والبنية، بعكس حالة الفصل بينهما عند البحث في “العقل النظري”، ليكون البحث في بنية القِيَم الثقافية العربية هو درس وتحليل تكوين العقل العربي، علماً بأن هذا التغيير في المنهج من متطلّبات الموضوع الذي يعالجه، أي الأخلاق[7].

بعد البحث في منهجه العام، والمنهج الذي استخدمه في معالجة موضوع الأخلاق، نرى أنه من الأفضل التحقق من مجال بحثه.

  • مجال بحث الجابري في كتاب العقل الأخلاقي العربي:

يرى الجابري أن هناك نوعين من الأخلاق، وهما “الأخلاق المطبّقة” وهي العادات الأخلاقية التي تمارسها مجموعة ما تنتمي إلى نظام قيمي معيَّن، من جهة، و”الفكر الأخلاقي”، وهو “الكلام المنظّم المكتوب الداعي إلى تطبيق نوع معيّن من الأخلاق”، من جهةٍ أخرى، وعلى أساس هذا التمييز، يصبح مجال بحثه “الفكر الأخلاقي”، وليس مجاله الأخلاق المطبّقة، بخاصةٍ أن هذا النوع من الدراسات يدخل ضمن الحقل الاجتماعي والأنتروبولوجي . بناءً على التوجّه الذي اختاره، تقوم دراسته على مبدأين، أحدهما ينظر إلى “العقل الأخلاقي العربي” على أنه “عقل جماعي”، من شأنه أن “يوجّه سلوك الجماعة”، خصوصاً أن هذا السلوك لا يقتصر على الناحية العملية، بل يتخطّاها إلى الناحيتين الفكرية والروحية. وهنا، يلعب الفرد دوراً هاماً وهو أنه يشكّل عضواً في هذه الجماعة، لكنه لا يؤسس لهذا النظام بمفرده، بل إن هذه القِيَم لا تخصّه وحده، إنما هي سِمة خاصة بالأفراد المنتمين إلى نفس هذا المحيط الاجتماعي. إنطلاقاً مما تقدّم، يتأسس نظام القِيَم من أجل “تدبير الجماعة” أو السياسة، على اعتبار أن هذا النظام هو الذي يوجّه سلوك الجماعة، وهذا هو المبدأ الثاني. كما تتمثّل هذه الجماعة بالدولة، أو بمجموعة دينية، أو صوفية، أو نخبة اجتماعية، أو فتوّات، أو جماعات مهنية؛ وتحظى كل مجموعة منها بنظام قِيَم خاص بها، وهو عبارة عن أخلاق، وأعراف تتميّز بها كل مجموعة منها. مع العلم بأن الدول القديمة كانت منفصلة عن المجتمع، لأن كل مجتمع يحتوي على عدّة دول، ولدى كل دولة منها قِيَماً خاصة بها تدير شؤون الأفراد الخاضعين إلى سلطتها[8].

بعد البحث في منهج الجابري، نتوقف عند البحث في مضمون كتابه “العقل الأخلاقي العربي”.

  أسس العقل الأخلاقي العربي عند الجابري

بعد أن تكلمنا على المنهج الذي اعتمده الجابري في درسه للعقل الأخلاقي العربي، نرى أنه من الأفضل أن نبحث في مضمون هذه الدراسة، من خلال نشأة العقل الأخلاقي العربي عنده، والموروثات الرئيسة لهذا العقل، واللحظة الأولى لأزمة القِيَم، وأخيراً المراجعة والنقد لهذا المضمون.

  • نشأة العقل الأخلاقي العربي:

يحدّد الجابري “العقل الأخلاقي العربي” بأنه “نُظُم القِيَم في الثقافة العربية الإسلامية”[9]. ويبرّر استخدام الجمع، أي “النُظم” بدلاً من “نِظام” على اعتبار أن الحضارة العربية تحتوي على العديد من القِيَم التي لا تندرج ضمن نِظام واحد، بل إنها مجموعة نُظُم متعدّدة بطبيعتها، تتمظهر من التعددية في المجالين المعرفي والسياسي. وعلى الرغم من هذه التعدّدية في النُظُم، إلاّ أنها متلاحمة في ما بينها، ومندمِجة، مما يسمح للباحث باعتماد لفظ “عقل” بالمفرد، إلاّ أنه “عقل متعدّد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته”[10]. ويشرح الجابري التعدّدية في التكوين على أن هناك عدة موروثات ثقافية تتفاعل في ما بينها لتؤسّس الثقافة العربية، كما أن كل موروث منها تشكّل “امتداداً لثقافات مكتملة وراسخة”[11].

كما يحدّد الجابري خمس موروثات على أنها الأساس في تكوين العقل العربي، ويبحث في كل منها على حِدة، وكأنّ كل موروث لا يتأثّر بغيره، عند نشأته بالأساس، وعند تفاعله مع الآخرين، فتبقى “قيمته المركزية” نفسها على الرغم من التلاحم مع قِيَم أخرى. سننتقد هذه الفكرة بعد التوقف عند اللحظة الأولى للتفاعل مع الموروث الإسلامي الخالص. أما الآن، فسنتكلم على الموروثات الثقافية وعقولها، وفقاً لما وردت لدى الجابري.

  • الموروث العربي الخالص:

يتضمن هذا الموروث القِيَم التي سبقت الإسلام واختلاطه ببقية الموروثات، وقد خصّص له فصلين في كتابه. إن العقل في هذا الموروث ينظر إلى الأشياء على أساس أنها منتظِمة ضمن قِيَم معيَّنة. كما أن نظام القيَم يشكّل معياراً ينظر هذا العقل  بواسطته إلى هذه الأشياء. بالإضافة إلى هذه النظرة المعيارية التي تجعل من “العقل أساساً للأخلاق”، إن مصطلح “عقل” نفسه، وما يشتقّ منه، وما يتمحور حوله من تعابير، في مدوّنات الثقافة العربية، قد أسهم في بناء العلاقة الضرورية بين العقل والأخلاق، وبالتالي لا ينحصر دوره في الإستدلال على “وجود الله من خلال مخلوقاته”، بل يتعدّاه إلى لعب دور أخلاقي في “التمييز ما بين الخير، والشر، والحسن، والقبيح، والحق، والباطل”.

كما يتوصّل الجابري إلى فكرة مفادها بأن الموروث العربي الخالص هو منفتح على جميع الحضارات والأديان، وذلك باعتماده على مقولة “خذ الحكمة أنى وجدتها”، ليصبح عقلاً قوياً يخصّ الجميع، في حين أن نقطة ضعفه تكمن في أنه عام، فيكون ضعيفاً بفقره كما يقول المناطقة: “كلما زاد الماصدق extension ضعف المفهوم compréhension، والعكس صحيح”[12]. كما جعل الجابري المروءة هي القيمة المركزية لهذا الموروث[13]. ويأتي الموروث الإسلامي الخالص مباشرةً بعد الموروث العربي، لكن بسبب أهمية الموروث الإسلامي بالنسبة إلى موضوعنا، سنخصّص له قسماً خاصاً به لاحقاً. لذا، سنتوقف عند الموروث الفارسي.

  • الموروث الفارسي:

يتمثّل هذا الموروث بالقِيَم الأجنبية الوافدة إلى الحضارة الإسلامية من خلال سياسات وسلوكات ثقافية، منها ترجمة الكتب، ونقل العادات، والآداب. يعيّن الجابري العقل بحسب الموروث الفارسي بأنه الطريق أو السبيل الذي يوجّه الإنسان نحو الفضيلة، فيلتقي بالموروث العربي الخالص الذي جعل العقل مشرِّعاً أخلاقياً يتخطّى به كل ما هو ذاتي، لأنه عقل موضوعي. أما الاختلاف فيكمن في” أن العقل هو غريزة تحتاج إلى تربية”. وهنا يأتي دور الأدب، بحسب ابن المقفع، في اعتباره غذاءً له، علماً بأن الأدب عند الفرس هو “النطق الذي يحثّ على الأخلاق الفاضلة. وهو مأخوذ عن إمام سابق، من كلام أو كتاب”[14]. ويعتبر الجابري أن ابن المقفّع هو المروّج الأول لهذا الموروث من خلال كتبه “كليلة ودمنة”، و”الآداب بين الأدبين الكبير والصغير”، و”رسالة الصحابة”. وليس ابن المقفع الوحيد الذي تأثّر بالموروث الفارسي، بل يدرس الجابري عدّة مؤلفين كابن قتيبة في كتابه “عيون الأخبار”، وابن عبد ربه في كتابه “العقد الفريد”، والماوردي في كتابه “نصيحة الملوك”. وتشكّل “الطاعة” القيمة المركزية لهذا الموروث[15]، وسنعود إليها لمراجعتها لاحقاً في دراسة الأخلاق السياسية وعلاقتها بالدين. كما أن هناك عدّة مفاهيم رئيسة في أخلاق الموروث الفارسي، كـ”الظاهر الجذّاب”، و”الباطن” الذي يُروَّض من خلال السياسة والأدب[16]، وشهوة البطن، وشهوة الجنس[17]. بعد التكلّم على الموروث الفارسي، ماذا عن الموروث اليوناني؟

  • الموروث اليوناني:

ينقسم إلى قِيَم يونانية خالصة، وقِيَم يونانية-رومانية. عند الفكر الأفلاطوني، إن النفس تحتوي على قوة شهوانية في البطن تطلب الملذات، وفضيلتها العفة؛ وقوة غضبية في القلب، وفضيلتها الشجاعة؛ وقوة عاقلة في الرأس، وفضيلتها الحكمة. أما العدالة فتشكّل الفضيلة العليا بالتفكّر، وبالتالي يصبح العقل مصدر الأخلاق. علماً بأن هذا التوجّه تبناه الفارابي في نظرته إلى المدينة الفاضلة. أما بالنسبة إلى فكر أرسطو، فتتعيّن الفضيلة بين رذيلتين، خصوصاً أنها تشكّل وسطاً بين أمرين متعارضين، كما هو الحال عند الشجاعة التي تكون حلاً وسطاً بين التهوّر والجبن. ولكن تعيين هذا الوسط يحتاج إلى العقل العملي، لاسيما أنه غير ثابت، بل يتغيّر بحسب كل حالة. ويختلف هذا العقل عن العقل النظري في أن العقل العملي لا يحتاج إلى البرهان، خصوصاً أن مجاله هو الخبرة والتجربة وليس اليقين[18]. يبتعد هذا الموروث عن موضوع بحثنا، لذا اعتمدنا الإيجاز فيه، وسنتوقف عند الموروث الصوفي.

  • الموروث الصوفي:

وهو أجنبي ولا يعترف بأصوله. وينسب خطابه إلى باطن أو حقيقة الدين. تلعب الإرادة دوراً هاماً عند المتصوفين في الأخلاق، بدلاً من العقل العربي، والفارسي، واليوناني. فالمتصوّف له أخلاق خاصة به يدعوها بـ”آداب السلوك”، وله معرفة خاصة لا تحتاج إلى البرهان لأنهم “أهل عرفان” لاسيما أن مسارهم هو السلوك نحو “الكشف الإلهي التام والفناء في الألوهية” بواسطة رياضات تطهِّر الذات من الشهوات الدنيوية، ومجاهدات تحتاج إلى الإرادة.

ولكن هناك فرق بين الإرادة بالمعنى العام حيث تتّجه النفس إلى منفعتها وبالتالي تتّجه نحو العقل، من جهة، وبين الإرادة عند المتصوّف، من جهةٍ أخرى. علماً أن هذه الإرادة تميل إلى “الإقبال بالكلية على الله” بواسطة القلب وانجذاباته نحو الله (الميل، ثم الولع، ثم الصبابة، ثم الشغف، ثم الهوى، ثم الغرام، ثم الحب، ثم الودّ، ثم العشق، ثم الإتحاد أو الغاية القُصوى)، فتمتنع عن الإرادة العامة. وعلى الرغم من إختلاف أخلاق المتصوِّفين عن الأخلاق العربية إلاّ أن الأخلاق العملية في التصوّف قد دخلت في العديد من الموروثات الحاضرة في الثقافة العربية، لاسيما الموروث الإسلامي الخالص[19]. كما تشكّل “أخلاق الفناء” القيمة المركزية لهذا الموروث[20].

أما تفاعل هذا الموروث مع الموروث الإسلامي الخالص يعود إلى أزمة القِيَم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وذلك بحسب الجابري، في حين نرى بدورنا أن هذا التفاعل يعود إلى عهد الدعوة الأولى، وهذا ما سنتكلم عليه لاحقاً. فمن خلال قراءتنا للجابري، نرى أن نشأة كل موروث، والتغييرات الحاصلة فيه قد تمّت بمعزل عن الموروثات الأخرى، أي من دون أي تفاعل بعضها بين بعض. ولكنه جعل هذا التفاعل عند إختلاط الشعوب في ما بينها، عند الفتح العربي لها، متناسياً أن هناك تفاعلات، أقلّه بين الموروثات الصوفية، واليونانية، والفارسية قبل دخول الإسلام إلى هذه الحضارات.  فأين تكمن اللحظة الأولى لهذا التفاعل عنده؟

  • اللحظة الأولى لأزمة القِيَم:

يتمثّل هذا التفاعل بين الثقافات بالنسبة الى الجابري من خلال “الإحتكاك، والتداخل، والتلاقح، والمنافسة، والصراع” في ما بينها، فينتج بالتالي “محصلة اعتبارية”، خصوصاً أن التنافس باقٍ بين نُظُم القِيَم على صعيد “الواقع المعيش”، ما يؤدّي إلى قلق دائم على صعيد القِيَم في المجتمعات العربية. هذا لا يعني أن الصِراع يبقى على أوجّه، بل أن هناك مراحل زمنية يتضمنها هدوء نسبي في بعض النواحي، وتنافساً في نواحٍ أخرى. ويصف الجابري هذا الصِراع بالأزمات على صعيد القِيَم، وقد تتّصف بـ”الخروج عن النِظام القائم” من الناحيتين المادية والروحية، أو بشكل “أزمة نفسية تضرب الكيان الفكري والروحي للشخص الواحد”، كما هو الحال عند عدّة مفكرين شعروا بهذه الأزمة كالمحاسبي، وابن الهيثم، وأبي الحسن الأشعري، والغزالي. ناهيك عن آخرين لا نعرفهم سبق أن شعروا بهذه الأزمة الروحية[21].

فإذا، يرى الجابري أن الإحتكاك بين الثقافات يولّد صراعات وأزمات بوتائر مختلفة، فمتى تكوّنت اللحظة الأولى لهذه الصراعات؟

تتمثّل اللحظة الأولى لأزمة القِيَم عند الجابري بأحداث ثقافية، سياسية، اجتماعية، واقتصادية:

– فقد رأى الجابري بأن عمليتي التداخل الثقافي بين المجموعات، والإدخال الإرادي بواسطة الترجمة هما اللحظة الأولى لنشأة أزمة القِيَم. وعقبت عملية الترجمة، ولو بشكلٍ متأخِّر، ظاهرة التأليف أو الكلام في هذا المجال عند البيئة المستقبِلة لهذه القِيَم، والذي يصفه الجابري بالعمل الأصيل، بعد تجاوز مرحلة ردّ الفعل على هيمنة القِيَم الأخرى. إن أسباب إدخال قِيَم أجنبية إلى الحضارة العربية، واللجوء إلى هذه القيَم حتى قبل التدوين، هي الحاجة إليها لاسيما أن القِيَم العربية كانت تمرّ بأزمة ساعدت على تسريب القِيَم الغريبة[22]. كما أن هذا المجال بقي خارج دراسة المسلمين لأنهم لم يحتاجوا إليه على أثر دراستهم للعلوم الدينية التي تتضمن بدورها أحكاماً وأخلاقاً، كما أن عدم الفصل بين الأحكام والأخلاق في القرآن أسهم في إهمال هذا العلم، فاكتفوا باعتبار القرآن كتاباً أخلاقياً.

– بالإضافة إلى الأزمة الثقافية-الأخلاقية، برزت أزمة سياسية-اجتماعية-اقتصادية على أثر توزيع غير عادل لغنائم الحرب في عهد عمر بن الخطاب، فأصيب المجتمع الإسلامي بأزمة قِيَم تتمثّل بانقلاب على مستوى السلوكات الاجتماعية من الناحية الاقتصادية، حين ازداد بنو قرَيش، وبنو أميّة، وبنو هاشم ثراءً، ومنهم من تمّ تعيينه في مراكز الحُكم من دون أن يحملوا القِيَم الإسلامية. في المقابل، شهد المجتمع ردّة فعل على هذه السلوكات، قام بها صِحابة مستَضعَفون، فأصبحوا بمثابة ضمير ديني يحتجّ على الوضع الاجتماعي التي آلت إليه الدولة الإسلامية. من جهة ثالثة، كان هناك طرف ثالث لم ينخرط في هذا الصِراع، فتبنى موقفاً حيادياً. وما زاد من تأجّج الأزمة قتل عثمان بن عفّان، لينقسم حينذاك الناس بين مؤيّد لتحقيق العدالة بموته، وبين مؤيّد لمبايعة علي بن أبي طالب، وبين محايد ومعتزل السياسة ليشتغل في أمور العلم والعبادة. ولم تقتصر الأزمة على الصِراع السياسي بل تعدّته إلى توظيف الأحاديث لصالح كل طرف من الصِراع عبر تفسيرها بحسب ما يناسب كل طرف، لأن الحديث يعطي سنداً وشرعيةً دينية. بالإضافة إلى الصِراع على تفسير الأحاديث، يتمظهر الصراع على المستوى المعرفي، عند تبنّي معاوية “الليبرالية”[23]، وحرية الكلام، والتعبير، والتفكير؛ مما أتاح للفقهاء، الموالين للسلطة أو معارضينها، بإعطائهم حرية الكلام والتعبير. كما أسهمت “الليبرالية” في تحييد النخب الفكرية والدينية عن الصِراع السياسي، والثورات العسكرية التي كان يقوم بها الخوارج، وأعطت الأمويين امتيازاً سياسياً حين استمدّوا شرعيتهم من الله أو إرادته عبر عقيدتهم الجبرية، تعارضها عقيدة تنويرية عند مناهضي سياستهم[24].

سنتوقف عند الموروث الإسلامي الخالص باعتباره الموضوع الأساس في هذا البحث.

ثالثاً: الموروث الإسلامي الخالص

لقد فَصَلنا الموروث الإسلامي الخالص عن بقية الموروثات، خصوصاً أنه يشكّل المحور الأساس لموضوعنا، وهو علاقة الأخلاق بالدين عند الجابري.

تاريخياً، بدأ التمييز بين “أحكام الشريعة” وبين “مكارم الشريعة” في الفكر الإسلامي في وقت مبكر، وقد أدّى إلى التمييز بين الأحكام الشرعية التي تبحث في استنباط الأحكام وكيفية تطبيقها، من جهة، وبين الأداب الشرعية التي تُعتَبر ملحقاً للأحكام الشرعية لأنها تكرار لما ذكره السلف، من جهةٍ أخرى. ولكن الفقه لم يلعب دوراً بديلاً عن علم الأخلاق، بل احتاج الفقهاء إلى درس هذا المجال من خلال نظرة المسلمين إلى هذا العلم؟ خوفاً من التوجّهات الأخلاقية الوافدة من خارج الإسلام؛ خصوصاً أن النص الديني حافظ على مجال الأخلاق مستقلاً بذاته، على الرغم من أنه يحيط بجميع جوانب الحياة؛ وأن الدين هو ليس المصدر الوحيد للأخلاق، ولو كان يشكّل أحد مصادرها، بل إن العقل هو الذي يُصدر أحكاماً أخلاقيةً[25]. وقبل أن نبحث في المؤلفات الأساس لهذا الموروث، سنتناول القيمة المركزية لهذا الموروث، وأهمية العقل فيه.

  • القيمة المركزية للموروث الإسلامي الخالص:

إن القرآن الكريم والحديث الشريف يشكّلان مرجعيتين لهذا الموروث بشكلٍ حصريّ، مما جعل كل الثقافات الوافدة إليه تتساكن مع هذا الموروث الثقافي، وتتعايش معه، من خلال التخلّي عن كل ما يتعارض مع الأخلاق الإسلامية. إن القيمة المركزية للموروث الإسلامي الخالص هي “المصلحة” أو “العمل الصالح”[26].

ويشكّل العقل في هذا الموروث الثقافي أساس الأخلاق، وذلك بحسب النصوص القرآنية، والسُنة، والقياس، والاعتبار (العبور من الجهل إلى العلم). ففي الآيات القرآنية التي تتكلم على العقل، هناك عدة انتقادات للأشخاص الذين لا يميّزون بين الخير والشر بواسطة العقل، علماً أن النصوص تستخدم أدوات الحس، والقلب، والعقل “على مستوى واحد” من أجل التمييز بين القبح والحسن، خصوصاً القلب لأن العقل بالنسبة إلى المسلم من “أفعال القلوب”.

هذا على مستوى النصوص، أما على مستوى علم الكلام، فقد استخدم المعتزلة العقل من أجل الردّ على الجماعات التي لم تدخل إلى الإسلام، فلم تكن مسألة الشرع مهمة عندهم لأنهم لا يؤمنون بالإسلام أصلاً. لكن الأشاعرة أخذوا ما يلائمهم من المعتزلة، وتركوا المبادئ الأخرى، لأن الجماعات التي كانوا يناقشونها هي جماعات مسلمة. فقد ميّز المعتزلة والأشاعرة معاً بين “عقل غريزي موهوب”، أي الأفكار الفطرية، من شأنه معرفة “أصول المقبحات، والواجبات، والمحسنات” وهو ضروري، كالكذب، والظلم، والنهي عن الحسن، من جهة، وبين عقل مكتسب، يُستدَل به إلى الأشياء القبيحة بحسب الشرع، كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، من جهةٍ أخرى. على الرغم من أهمية العقل عند المتكلمين، والفلاسفة المسلمين، فهو يبقى أداة أو وسيلة من أجل “اكتساب العلوم والقيام بما كلف من أفعال”[27]. لكن الإختلاف في ما بين المعتزلة والأشاعرة يكمن في العلاقة بين مدى “التمييز بين الحسن والقبيح”، من ناحية، وبين “وجوب الإلتزام بالحسن واجتناب القبيح”، من ناحية أخرى. لقد اختار المعتزلة المبدأ القائل بـ”العقل قبل ورود السمع”، في حين يميل أهل السنة إلى الشرع الذي يحددّ الحلال ليفصله عن الحرام، والاّ لا نفع من النبوة. وتختلف نظرة المعتزلة إلى النبوة عن أهل السنة حيث أنها تشكّل وسيطاً يمتحن به الشعب، وهي اللطف الواجب من أجل سعادة الإنسان[28].

  • المؤلفات الثانوية للأخلاق في الموروث الإسلامي الخالص:

يرى الجابري أنه ما يثير الجدل هو قلّة المؤلفات الفكرية التي تدرس الأخلاق الإسلامية على أنها أخلاق “العمل الصالح”.علماً بأن الخطاب القرآني يكرّر عبارة “العمل الصالح” بصيغٍ عدّة، مما جعل هذه العبارة قيمة مركزية في الأخلاق الإسلامية. فالتقوى هي أساس جميع الأديان، وهي تتجسّد بـ”العمل الصالح” في الدين الإسلامي، لا بالإيمان فقط.

كما وجد الجابري أن الخطاب الأخلاقي في الموروث الإسلامي ينقسم بين ثلاثة توجّهات، أولها يتمثّل بأخلاق متأثرة بالموروث الفارسي؛ والثاني متأثّر بالموروث اليوناني؛ والثالث غير متمذهب، يستحقُّ أن يُدعى بـ”الأخلاق الدينية”، وذلك لقلّة تأثّره بالموروثات الأخرى. إن هذه التوجّهات هي:

– توجّه يستحضر الموروث الفارسي، ويقوم بأسلمته؛ كما عند الماوردي، وذلك في كتابه “أدب الدنيا والدين” الذي جمع بين التحليل والاستنباط في المجال الفقهي، وبين أدب المرويات للبرهان على القضايا المطروحة في الكتاب، وبين القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، وأقوال الصحابة. فقد جمع الماوردي في مضمون هذا الكتاب بين ثلاثة موروثات، الموروث العربي الخالص عبر تأثّره بالبستي، والموروثين الإسلامي والفارسي[29]. ولكن من ناحية بنيته، فقد أتت منسجمة مع الموروث اليوناني. وتكمن أهمية هذا الكتاب في التمييز بين عقل غريزي يعرف الخير والقبح (يقتصر دوره على التمييز بينهما فقط من دون اختيار السلوك الملائم)؛ وآخر مكتَسَب يتطوّر بحسب الإستخدام، وبكثرة التجارب الإنسانية. أما بالنسبة إلى العلاقة بين العقل والدين، فيهتمّ العقل بالعلم والمعرفة لاسيما علم الدين الذي هو أحد مستلزمات كل مؤمن، بخاصةٍ أن الدين هو “وليد حاجة اجتماعية”، وبالتالي يبقى العقل وعلومه الأخرى عاجزين تماماً عن إداء كل ما هو أخلاقي، على الرغم من أهميتهما في المجتمع. بالإضافة إلى العلوم العقلية، وعلم الدين، يحتاج الإنسان إلى الأدب من أجل الإبتعاد عن الرذيلة، بواسطة “أدب طلب العلم” واكتساب المعرفة بالتعلّم والتعليم، من جهة، و”أدب الدين” لمنفعتهم من ناحية الحصول على النعمة الإلهية، من جهةٍ أخرى. من هنا، تبرز علاقة تآلف بين الشرع والعقل، خصوصاً أن العقل لا ينافي أحكام الشرع[30].

وعلى الرغم من التأثيرات العديدة التي دخلت على كتاب “أدب الدنيا والدين”، فقد اعتبر الجابري أن مشروع الماوردي هو مجرَّد بداية لأخلاق إسلامية، وليس أكثر من ذلك[31]؛

– تيّار آخر يبحث في الأخلاق الإسلامية من خلال الفلسفة اليونانية، وموروثها الثقافي، كما في كتاب “الذريعة إلى مكارم الأخلاق” للأصفهاني: فقد جعل السعادة هي الغاية الوحيدة في الدنيا والآخرة، ويتمّ بلوغها عبر العقل الذي يشكّل نعمةً خلقها الله للإنسان. انطلاقاً من تحليله للإنسان، توصّل إلى الحلّ الإغريقي وهو أن الإنسان مركّب من ثنائية الجسم والنفس، وهذا هو التجريد عند الأصفهاني. أما في الواقع، فيكون الإنسان اجتماعياً من خلال “عمارة الأرض”، و”عبادة الله”، و”خلافته على الأرض”؛ علماً بأن هذه الأهداف تعطي الكمال للإنسان، فيتميّز هنا عن الفلاسفة الذين يرون الكمال عبر التعلّم، وعن المتصوّفين الذين يطلبون “الفناء بالله”، وعن الفرس الذين يميلون إلى الطاعة[32].

كما يرى الأصفهاني أن خلافة الله على الأرض تحتاج إلى عمل يقوم به الإنسان ليستحقها. علماً بأن السياسة هي التي تجسّد هذه الخلافة، وهي تتكوّن من سياسة الإنسان لنفسه ولبدنه، من جهة، ومن سياسة أهل بلده، من جهةٍ أخرى. على الرغم من هذا التمييز، إلاّ أن الإنسان لا يصلح أن يحكم غيره إذا كان غير مسؤول عن سياسة نفسه، وعن تهذيبها، وعن طهارتها، مزيلاً بذلك كل رجس عنها، أكان رجساً بدنياً يُدرَك بالبصر، أو رجساً في النفس يحتاج إلى البصيرة لاكتشافه، وإلى تعلّم التمييز بين الحق والباطل، وإصلاح الشهوة عبر العفة، وإصلاح الحمية، من أجل إصلاح النفس عند حصولها على العدالة والإحسان. ويبقى إصلاح الشهوة هو الأصعب بين الإصلاحات الثلاثة، خصوصاً أنها الأقدم في “تكوين الإنسان” وسائر المخلوقات. أما مسألة القمع فهي ضرورة عند الإنسان لاسيما أن هذه المسألة هي التي تميّز الإنسان عن باقي المخلوقات، بإماتتها، أو قهرها، أو قمعها، وبخاصةٍ أنها بهيمية، وتُصرفه عن الآخرة، في حين أن هوية الإنسان تتّصف بالحرية والربانية. ولكن الشهوة تبقى في الإنسان، فهو محتاج إليها للعيش، كالغذاء، وحب النساء، والبنين، والذهب، والخيل، على أن لا تقود الإنسان، بل يكون العقل هو الربّان في اختياراته، لأنه يختار الأفضل، والأصلح؛ بالنسبة إلى الشهوة والهوى. إنطلاقاً مما تقدّم، تصبح الشهوة محمودة في ما يخصّ القوّة التي خلقها الله في الإنسان، من جهة، ومذمومة وفقاً لأفعال البشر، من جهة أخرى. أما الهوى فهو “الشهوة الغالبة” وهو إرادة الإنسان التي تستتبع الفكرة، خصوصاً أن هذه الفكرة تتموضع بين العقل والشهوة بحسب ارتقائها أو تواضعها[33].

ويقوّم الجابري مشروع الأصفهاني على أنه يضاهي الموروثين اليوناني والفارسي، على الرغم من أنه متأثر بهما، ولكن تنقصه المنهجية، أو “آلة العلوم”، أو بحسب الغزالي “معيار العلم”[34].

إنطلاقاً مما تقدّم، نجد أن الجابري قد ميّز بين مؤلفات علم الأخلاق تأثّرت بالموروث اليوناني، من جهة، وبين مؤلفات أخرى استقت من الموروثات الفارسية، من جهةٍ أخرى. واعتبرها خارج مجال الخطاب الإسلامي الأخلاقي الخالص. فتراه يبحث عن مؤلّفين ينتمون إلى الموروث الإسلامي الخالص، وقد وجد ضالته بعد سنوات من البحث. ولكن قبل البحث في المؤلّفات الأخلاقية الموروث الإسلامي، تجدر الإشارة إلى أن الجابري درس نصوص المحاسبي، على أساس أنه  أول مؤلِّف في هذا المجال، وهو غير متمذهب، بعكس تلاميذه، وذلك على الرغم مما قيل فيه إنه متصوّف، بل إنه مختلف عن معاصريه، وقد غرّد خارج سربه[35]. وبعد المحاسبي، سنحلّل الغزالي باعتباره غير متمذهب أيضاً بحسب الجابري.

– أعدّ المحاسبي مؤلّفه في عصر الصراعات السياسية بين الأمين والمأمون؛ وعصر الصراعات الكلامية بين المعتزلة، وأهل السنّة، والشيعة، وعصر تأسيس المذاهب الفقهية، والتمذهب. وتمظهرت الأزمة الأخلاقية بكثرة الرفاهية والتساهل على حساب الدين الذي أصبح من المظاهر[36]. أما بالنسبة إلى العقل فيميّز المحاسبي بين معنيين له في كتاب “مائية العقل”، وهما المعنى في الحقيقة والمعنى في المجاز:

أولاً- بالنسبة إلى المعنى في الحقيقة، يصبح العقل من خلاله موهوباً، أي أن معنى العقل في الحقيقة هو “غريزة” إلهية رّسخها الله في معظم خلقه، من دون أي اكتساب لها بين الناس، بل يعرّفها هؤلاء بالعقل. وهنا، تكمن في مفهوم العقل معنى حرية الإرادة، بعكس الجبرية الصارمة عند المتصوِّفة. لذا، يلعب العقل دوراً في معرفة الضرورات العقلية المُستَخدمة في البيئة والمجتمع كمعرفة الأشياء التي تحيط بالإنسان، ودوراً آخر في التمييز بين الحق والباطل، (من الناحية الأخلاقية)، وبالتالي يكون الإنسان مسؤولاً عن أفعاله، فلا يكون الله ظالماً.

ثانياً- بالنسبة إلى المعنى المجازي للعقل، فهو “فهم البيان” عند كل شخص يمتلك ذوقاً، أو ديناً، فيُسمّى عاقلاً، وسلوكه يُدعى عقلاً، خصوصاً أن هذا السلوك يُقَيّد بالعقل بحسب معنى مصطلح عقل عند العرب. لم يقتصر المعنى المجازي على سلوكات الفرد وفهمه للبيان، بل تعدّاه إلى فعل التقويم نفسه للأشياء في الدنيا والآخرة، وذلك وفقاً “للبصيرة والمعرفة”. فتكون بذلك مخافة الله في الآخرة هي فعل تعقّل عبر طاعته، واليقين بقوله ووعوده، ومعرفة الدين والفقه واجتناب ما طلب الإمتناع عنه، من خلال فهم القرآن[37].

بدورنا، نرى تشابهاً كبيراً بين طرح المحاسبي وطرح الماوردي، خصوصاً من ناحية قِسمة العقل، ودور كل جزء منه في حياة الإنسان، فليس علينا أن ننكر مدى تأثير التفاعلات الثقافية والأخلاقية، بما فيها الموروثات الثقافية، حتى أصبحت مندمجة في ما بينها، ويصعب الفصل بينها، كما فعل الجابري، فيكون مشروعه مستحيلاً، ولم يتحقق أصلاً.

أما بالنسبة إلى علاقة الإنسان بالله فيرى المحاسبي أنها تقوم على الأخلاق الدينية أو العبادة الباطنية، وتتضمن “حقوق الله الواجبة”. كما أنها تتجلّى بالتقوى على “مستوى العبادة الظاهرة”، أي تتعلّق بالحواس والجوارح؛ وهي تتجلّى أيضاً على “مستوى العبادة الباطنة”، أي أنها تخصّ الضمير[38]. وخلص الجابري إلى أن المحاسبي قد أسّس لعلم الأخلاق الإسلامي من خلال “علم الآخرة” باعتبار هذه الأخلاق “أدب الدين”، متخذاً القرآن الكريم مرجعية وحيدة لها. ولكنه أهمل آداب الدنيا التي تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من الأخلاق الإسلامية[39].

أما بالنسبة إلى موضوع الأخلاق عند الغزالي، فنجده يعرّف الخلق بأنه “عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة”. يشبّه اكتمال الصورة الظاهرة باكتمال الصورة الباطنة، إذ إنه جعل الأركان الأربعة وهي “قوة العلم، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، وقوة العدل بين القوى الثلاثة” أساساً لاكتمال حسن الخلق. هذه الأركان مصدرها أفلاطون، وقد شرحها الغزالي وفقاً للآتي:

– قوة العلم، وهي قوة للتمييز بين المتناقضات، وفيها تكمن الحكمة التي تجسّد رأس الأخلاق الحسنة. ويكون الإفراط عند استعمالها خبثاً في الحالة الفاسدة، أما النقصان منها يكون بُلهاً؛

– قوة الغضب، وهي خاضعة للحكمة في حالة الخلق، ويسمّى الاعتدال فيها الشجاعة، فتكون الزيادة فيها تهوّراً، والنقصان منها جبناً؛

– الشهوة، وتتشابه مع قوة الغضب، ويكون الاعتدال فيها العفة، وإلاّ أصبحت شرهاً في طرف الزيادة، وجموداً في الطرف الآخر؛

– تبقى قوة العدل التي تضبط قوة الغضب في النفس وشهوتها بواسطة العقل والشرع. لذا، يصبح أي طرف رذيلةً، ما عدا العدل، لأنه ليس هناك من رذيلة في الزيادة منه، أما نقيضه فهو الجور. أما أساس نظرية الإعتدال فهو أرسطوطاليس[40].

كما توقف الجابري عند تحليل نِتاجات الغزالي كتابي “ميزان العمل”، و”إحياء علوم الدين” لأنهما يجسّدان فكره الأخلاقي، على الرغم من عدّة اختلافات في ما بينهما:

أولاً- يتميّز كتاب “ميزان العمل” بأنه خِتام نِتاجات الغزالي الفلسفية، ويعتمد على موضوعات، ومنهجية، وتصنيفات، وبنية مأخوذة من الموروث اليوناني. وتكون السعادة نقطة إنطلاق عنده، ثم ينتقل إلى تحليل النفس، وملَكاتها، والهوى، والفضائل؛

ثانياً- بالنسبة إلى كتاب “إحياء علوم الدين”، فهو يؤسّس للتصوّف كبديل عن الفلسفة. على الرغم من أنه يريد الغزالي به “نهاية الفلسفة”، إلاّ أنه لم يبتعد عن الموروث اليوناني من ناحية الإعتماد على البنية الفلسفية للتحليل، متأثراً بالتصوّف، وبالحارث المحاسبي، بعكس مشروعي الماوردي والأصفهاني في الأخلاق[41]. لذا، يتبيّن للجابري أن الغزالي قد تأثّر بالأصفهاني، من خلال جعل هدف كل إنسان السعادة. أما الإختلاف فيكمن في اعتماد الأصفهاني على نظام معرفي، وهو البيان، مما جعل إستخلاف الله الإنسان على الأرض من أجل إدارتها، خصوصاً أن الحياة على الأرض ليست مجرّد رحلة نحو الآخرة، بل لها “قيمة ذاتية”. في حين أن الغزالي قد اختار منحى آخر في نظامه المعرفي، وهو مقتبَس عن المتصوفين، أي العرفان، وقسّم المصالح بين دنيوية، والمقصود منها الفقه من أجل عمارة الأرض، على الرغم من أن موقفهم تجاه الحياة هو “الزهد والإعراض عنها”، من جهة؛ وبين أخروية، وخصّ بها “علم المعاملة” من أجل المكاشفة وليس من أجل صلاح الدنيا كما هو الحال عند الماوردي والأصفهاني، من جهةٍ أخرى[42]؛

بشكلٍ عام، يرى معاصرو الغزالي أنه لم يستقرّ على مذهب واحد، كما طلب تبنيّ مذهب أرسطو بعكس تيّارات التصوّف، حتى قيل فيه أنه “صوفي مع المتصوّفة، فيلسوف مع الفلاسفة، أشعري مع الأشاعرة”. ولكن الغزالي يعتقد بأن للـ”مذهب اسم مشترك لثلاث مراتب”:

-“التعصّب لمذهب ما في المباهاة والمناظرات”، من خلال الجدل، ونقد الفلاسفة، والباطنيين، والمتكلمين غير الأشعريين؛

– الصنف العملي وهو ما “يسار به في التعليمات والإرشادات”. يرد هذا الصنف في نِتاجاته الفقهية، والمنطقية، وكتبه في الأصول، والعقيدة الأشعرية. علماً بأن كتابي “ميزان العمل”، و”إحياء علوم الدين” ينتميان إلى هذه المرتبة، خصوصاً أن موضوعي الكتابين لا يحتويان شيئاً مما يدعوه “علم المكاشفة”، على الرغم من ربط كتاب “ميزان العمل” بأخلاق العقل، كما في الموروث اليوناني، وكتاب “إحياء علوم الدين” بأخلاق الدين؛

-“علم المكاشفة”، وهي تتخذ طابعاً هرمسياً من ناحية الإعتقاد بما ينكشف من نظريات لطالب التصوّف[43].

بعد أن حلّل الجابري الغزالي، يخلص إلى المؤلف الوحيد الذي اتخذه معياراً للموروث الإسلامي الخالص وهو العز بن عبد السلام الذي سنتوقف عنده.

  • العز بن عبد السلام المؤلف الرئيس للموروث الإسلامي الخالص:

يرى الجابري أن العز بن عبد السلام[44] متأثر بالمحاسبي والماوردي معاً، وذلك حين قام بتلخيص كتبهما. لكنه تخطّاهما في ما خصّ “المصالح” و”المقاصد”، وأسهم في ذلك بوضع أخلاق إسلامية محضة، بعيداً عن الموروثات الأخلاقية الأخرى، أي الفارسية واليونانية والمتصوّفة، ويتشابه في هذا المجال مع المحاسبي، معتمداً على القرآن الكريم وحده. لقد رفض كل دمج بين الأخلاق العربية-الإسلامية والفارسية، أي نِتاجات الأخلاقية الخاصة بالعامري، ومسكويه، والماوردي، من جهة؛ وكل محاولة توفيق بين الأخلاق العربية-الإسلامية واليونانية، عبر أسلمة الأخلاق اليونانية، كما هو الحال عند الأصفهاني. فقد اعتمد العز بن عبد السلام على القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، وذكر ذلك في أول كتاب “شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال”. كما درس الأخلاق النظرية في الكتاب نفسه بواسطة مفاهيم رئيسة في علم الكلام (الذات والصفات والأفعال)، في حين أنه بحث في الأخلاق العملية عند إعداده لكتاب “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” على أساس “جلب المصالح ودرء المفاسد”؛  متجاهلاً في ذلك الموروثات الأخلاقية غير الإسلامية[45]. كما يرفض الجابري تعيين كتاب “شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال” على أنه خاص بالتصوّف والزهد، ولو تمّ فيه التعويل على لغة التصوّف والزهد؛ خصوصاً أن مواده مستقاة من الموروث الإسلامي المحض. لقد أحدث العز بن عبد السلام قطيعة بين الموروث الإسلامي، من جهة، والموروثين اليوناني والفارسي، من جهةٍ أخرى. فقد تأثّر معظم سابقيه بالنظرية اليونانية، من ناحية قمع النفس العاقلة للنفس الشهوانية من خلال النفس الغضبية؛ أو بالتصوّف من خلال قمع النفس عن متاع الدنيا، كما لو أن الفلسفة والتصوّف متشابهين في الطبيعة ومختلفين بالدرجات، أي بإخضاع النفس للعقل أو لله، فتكون البنية الميتافيزيقية واحدة، وهي يونانية أساساً[46].

لقد درس العز بن عبد السلام الأخلاق الإسلامية في ضوء “العمل الصالح” أو “المصلحة” كما يعرّفها الفقهاء. كما أن هناك علاقة بين “المصلحة”، و”الظن”، و”الفقه”؛ وهي أن الفقه “مبني كله على الظن”، وذلك في مجال الحكم على السلوك إذا ما كان صالحاً أم فاسداً. فيعمل المفكّرون في الآخرة، وأهل الدنيا معاً، ويختارون سلوكاتهم على أساس حسن الظن، وبالتالي تقوم الأخلاق في القرآن الكريم على “الظن القوي الصادق في الغالب. أما بالنسبة إلى المعرفة، فيعتبرها العز بن عبد السلام بأنها “أشرف اللذات وخصوصاً لذات الدارين”. كما أن دور العقل هو الأساس في الأخلاق عنده، إذ إنه يعرف ماهية المصالح الدنيوية، وأسبابها، وأهدافها، فيكون بذلك هو المؤسِّس للأخلاق قبل “ورود الشرع”، وبخاصةٍ أنه يميّز بين المصالح الدنيوية، ويبحث عنها، ويقدّم الأرجح منها على المرجوحة، من جهة؛ وبين المفاسد، لدرئها والابتعاد عن الأفسد منها، خصوصاً الراجحة منها على المصالح المرجوحة، من جهةٍ أخرى. أما بالنسبة إلى مصالح الآخرة، فهي تسبق مصالح الدنيا عند “الأولياء والأصفياء” معاً. علماً بأن الناس يميّزون بين المصالح والمفاسد عبر الشرع، في حين أن التمييز بينهما عند الأمور الصعبة فيحتاج إلى “الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس”[47].

بعد أن توسّعنا في عرض الموروث الإسلامي الخالص، خصوصاً أنه يشكّل أساساً في بحث الجابري، من جهة، وفي موضوعنا، من جهة أخرى، نرى أنه من الأفضل درس الزهد والتصوّف عند الجابري.

رابعاً: الموروث الصوفي

اعتبر الجابري أن التصوّف، أو الزهد، وما ينتج عنه من “أخلاق الفناء” هما سلوكان يعارضان “أخلاق الحياة في القرآن”، وعقيدة التوحيد معاً، خصوصاً أن وحدانية الله وتعاليه عن مخلوقاته، بما فيها الإنسان، تصبح موضوع نقد في التصوّف، إذ أنه يعتبر أن هناك “إتحاد” أو “وحدة” بين الله والإنسان حتى الفناء. كما أن الفناء قد يكون وافداً من الموروث الفارسي، أو اليوناني، أو الروماني، أو المسيحي، وهو موقف فردي حين يتمظهر بالجانب النظري، في حين قد يكون موقفاً جماعياً عند ميله إلى الجانب العملي[48]. أما بالنسبة إلى مصطلح “السائحين” الذين ذكرهم القرآن الكريم في سورة التوبة 112، فهم يختلفون عن المتصوفين الفرس القاطنين في الكوفة والبصرة، أي مناطق تعارض نفوذ الأمويين، خصوصاً أن التصوّف الفارسي قد نشأ تاريخياً بنتيجة ردّة فعل على المبادئ الفارسية التي تميل إلى الزواج، والثراء من أجل “إيقاع النظام الكسروي في أزمة المال والرجال”. وبالتالي، إن التصوّف هو سلاح استقدمه أعداء معاوية من الفرس لمحاربته، رداً على سياسته التي اعتمدت بدورها على الثقافة الفارسية للحكم. فالتصوّف سلوك سلبي نحو الحياة، يعتمد على الغيبية من أجل محاربة الأعداء بعد الهزيمة الحربية، فيكون هذا الميل غير منحصر بتأثير الرهبنات المسيحية، بل هو ردّة فعل سياسية. ويبرهن الجابري هذه العلاقة بين السلوك السلبي عبر التصوّف، من ناحية، وبين الواقع السياسي المرير، من ناحية أخرى، بواسطة ظاهرة انتشار التصوّف في الكوفة والبصرة بعد مقتل الحسين، وما رافقها من سلوكات جماعية تتمثّل “بالبكاء، والبكّائين، وحديث الجنة والنار، والتوبة، وظهور جماعة التوّابين” وغيرها من الظواهر الجماعية التي تميل إلى التصوّف[49].

إن أزمة القِيَم التي تكلمنا عليها سابقاً، والحروب الأهلية، والإقتتال بين الصحابة شكّلت جميعها عوامل أوجدت بدورها أزمة على مستوى الضمير الديني، فجعلت القِيَم الصوفية تنتشر وتلقى ترحيباً، بعيداً عن القِيَم المحمدية، في المجتمع الكوفي، إذ أن التصوّف هو بمثابة “حياد” و”إعتزال” عن الحياة السياسية، رافقه الخوف من الآخرة. لذا، تأثّر التشيّع بالزهد، ليصبح التصوّف في بادئ الأمر، ثم بعد فشل الثورة الشيعية انفصلت ظاهرة التصوّف عن التشيّع متأثرين بالموروثين الفارسي والهرمسي. أما بالنسبة إلى البصرة، فقد ظهر التصوّف كردة فعل على اللا تديّن، والإباحية، واللا أخلاق، وبالتالي إنه نوع من حب الله، كما هو الحال عند الحسن البصري المتصوِّف السني. ومن هنا، يبحث الجابري في العلاقة بين التصوّف والشيعة التي تتّصف بالمنافسة السياسية، من جهة، وبين التصوّف والسنّة الأشعرية على أنها علاقة فيها مصالحة في المفاهيم كالبيان والعرفان، وفي السياسة، كحياد المتصوّفين عن التوجّه العباسي في الحكم، من جهةٍ أخرى.

سنترك بدورنا النقد والمراجعة في تحديد أصل التصوّف إلى القسم الأخير. لذا، نرى، بعد هذه المقدمة عن التصوّف بحسب الجابري، أن نعرض مُراد المتصوّفين وغايتهم، وماهية الأدب عند المتصوّفين، وعلاقة الشيخ بالمريد، ومفهوم الولاية عندهم.

  • مُراد المتصوّفين وغاياتهم بحسب الجابري:

إن المتصوّفين يريدون “زعامة الآخرة” في الدنيا بعد خيبة الأمل في السلطة السياسية، مستخدمين “الكرامات” و”الخوارق”، فمن الناحية النظرية يبحثون في الفناء، أما عملياً فهم يبحثون عن “الولاية”، أو “الملك الروحي”، أو “القطبانية”، “أو الخلافة العظمى”؛ وهذا المُراد متأثر إلى حدٍ كبير بالثقافة الكسروية[50].

يبقى “الفناء في الشيخ”، و”الفناء في الحضرة الإلهية”، بمثابة مرحلتين لبلوغ “الكشف”أي مقام الحرية من العبودية، على الرغم من أن كلمة “حرية” تحمل ثلاثة معانٍ مختلفة بحسب الأشخاص الذين يتداولون بها، ورتبتهم في التصوّف. لذا، يرى الجابري أنه من الأفضل دراسة هذه المراحل، لمعرفة حقيقة الأخلاق عند المتصوّفين. فيميل إلى تقسيمات جسد الإنسان إلى ثلاثة مكوِّنات بحسب القشيري: الروح، والعقل هو عينها، والنفس، وهي تميل إلى الهوى، والجسد ويمتاز بالحسّ؛ وهي شبيهة بتقسيمة أفلاطون للقِوى البشرية، أي الناطقة العاقلة، والغضبية، والشهوانية. من هنا، تبتعد النفس عن العقل عند المتصوّفين، فتكون سيئة للغاية، عندها يصبح دور المريد قهرها ومقاومة ميولاتها، حتى يصل إلى مرحلة فنائها بقوّة العقل، خصوصاً أنه يتحلّى بقدرة الربط (عقلت الناقة). وهذا ما يجعل مبدأهم متناقضاً في ذاته، إذ أن الروح تعطي الحياة للإنسان، أما وظيفة العقل فتخالفها، وبالتالي ربط العقل بالروح عندهم، وجعله عين الروح هو أمر متناقض، عند الجابري. كما أن المتصوّفين قد حصروا دور النفس بالهوى، وبالتالي ربطوا دورها بالصفات المذمومة، كاللذة، والشهوة، والجاه، والرئاسة، على الرغم من أن النفس تقوم على الصفات الحميدة والمذمومة، مكتسَبة كانت أم بالفطرة؛ في حين أن أفلاطون رأى أن الإعتدال بين هذه القِوى، بإدارة العقل يبقى الحلّ الأمثل، وليس بفناء النفس كما عند المتصوّفين، من أجل الإبقاء على الروح الإنسانية[51].

بعد عرض غاية المتصوّفين، سنتوقف عند تعريف الأدب عندهم.

  • تعريف الأدب عند المتصوّفين:

يبحث الجابري في معنى كلمة “أدب” عند المتصوّفين، فيرى عند القشيري أن حقيقة الأدب  “اجتماع خصال الخير”. أما عند أبي علي الدقاق، فيرى أن هناك علاقة بين الأدب وطاعة الله، من أجل بلوغ الجنة. فالأدب “يصاحب (هذه) الطاعة وقد ينوب عنها ويحل محلها، وهو مستويات ومقامات”. ولكن يبقى الأدب عندهم أرفع شأناً من الفروض الدينية والسنة، ليصبح شرطاً رئيساً من أجل تحقيق الشريعة، والإيمان، والتوحيد. فالأدب يحتاج إلى الإرادة، لذا “فلا يصدر عن الغريزة أو العادة”، وبالتالي يصبح المتأدب مريداً يهدف إلى بلوغ الله، من خلال تطهير النفس، من خلال قطيعة عن عالمه، وعن علاقاته بالمجتمع، فيبني بذلك علاقات جديدة مع النظراء، وهم بدرجات متفاوتة، وشيخ مرشد، والنفس[52].

إذا كان هناك تفاوت بالدرجات بين المُريد والشيخ، فما تكون العلاقة بينهما؟

  • علاقة الشيخ بالمريد:

تتّصف علاقة المريد بالشيخ بأنها علاقة فناء، لأن “الشيخ يحلّ في المريد” من خلال القول والصحبة. وتتشابه العلاقة بين المريد والشيخ بالعلاقة بين الشيخ والله، أي علاقة حلول، وطاعة، من دون اعتراض على الأحكام، لأن المريد يبقى خاضعاً لسلطة الشيخ، حتى أنه يلازمه ويعمل لديه في الخدمة المنزلية. ولكن تبقى هناك مسافة بين الشيخ والمريد، من أجل تجنّب الألفة، ورفع الكلفة بينهما. ويصف الجابري هؤلاء الشيوخ بأنهم فعلاً “ملوك الآخرة” في سلوكاتهم، وفي علاقاتهم بالمريدين[53].

  • مفهوم الولاية عند المتصوّفين:

يرى الجابري أن العرفان الصوفي ينافس الدولة السنية الإسلامية لأنه يُنشئ امبراطورية روحية بديلة عن الدولة السنية، عبر التصوّف السني، في حين أن الدولة الشيعية هي بمثابة امبراطورية روحية، فلا تحتاج إلى التصوّف. لذا، أخذ يبحث المتصوّفون غير الشيعة عن مفهومي “الولاية” و”الوليّ” من خلال اللغة العربية والمصادر الإسلامية، من أجل التوصّل إلى أهميّة هذين المفهومين في الإسلام من ناحية حفظ الدين، إذ أن الولاية تمثّل البرهان الثالث الذي يظهر آيات الله، حيث أنها تستكمل المعجزات النبوية. من هنا، يميل المتصوّفون السنيون إلى اعتبار النبوة أرفع شأناً من الولاية، وذلك في المجال الوظيفي فقط، أي أن النبوة تحتكر “المعراج، والعصمة، والإتيان بالمعجزات”، في حين أن مشاهدة الله هي من اختصاص الأنبياء والأولياء معاً، ولكن الفرق يكمن في أن المشاهدة عند النبي هي في البداية، أما عند الأولياء ففي النهاية. أما في مسألة العصمة، فيكون النبي معصوماً عن الخطأ، أما الولّي فهو محفوظ، أي أنه قد يسقط نادراً في الزلاّت[54].

ويخلص الجابري إلى أن أصول “أخلاق الفناء” عند المتصوّفين تأتي من المتصوّفَين الفارسي والهرمسي، وقد سهّلت على اندماجها في المجتمع الإسلامي أزمة القِيَم. أما القيمة المركزية لهذه الأخلاق فهي الطاعة الكسروية التي تندرج ضمن العلاقة بين الشيخ والمريد. أما الخوف من الآخرة فهو يتجه نحو التوكّل، وترك الشأن الدنيوي، واللا عمل، وعدم التفكير في المستقبل. فالمطلوب هو “الفناء عن الأوصاف البشرية” التي تتمثّل بالعبودية، لبلوغ الحرية. ويرى فيها عواقب خطيرة، وهي فناء الأخلاق عبر الشعور بالذنب واستثنائه منه، والخوف من الآخرة والإستثناء من العذاب النُهيوي، والخوف من الله ونيل رضاه، والشكوى من استبداد الحكام والتحوّل إلى مستبدّ، والتجرّد، والإمتناع عن الزواج[55].

بعد عرض الموروث الصوفي عند الجابري، نرى أنه من الأفضل البحث في السياسة، كما حلّلها الجابري في كتابه “العقل الأخلاقي العربي” باعتبارها جزءًا من الأخلاق، وعلاقتها بالدين.

خامساً: الأخلاق السياسية وعلاقتها بالدين

لقد بحث الجابري في “عقل الفكر العربي”[56] الناحية المعرفية عند العرب، في حين أنه خصّص الناحية السياسية بـ”العقل الواقع العربي”[57]، وذلك بواسطة الممارسة السياسية في الحضارة العربية الإسلامية، حينئذٍ يختلف عن فكر القدماء الذي يربط بين السياسة والأخلاق، بوصفهما مجالاً واحداً. ولكن، يميّز الجابري بين “العقل السياسي” الموضوعي، ويقصد به الممارسة السياسية الواقعية خارجاً عن إطار إرادة الحاكم ونواياه، من جهة، بين السياسة، باعتبارها “جزءًا من العلم المدني”، أو جزءًا من الأخلاق، أو “السياسة كما ينبغي أن تكون…لتحقق الهدف الأخلاقي الإنساني المطلوب منها” فتميل إلى “حكم القيمة” بدلاً عن “الحكم الموضوعي” عند “العقل السياسي”، من جهةٍ أخرى[58].

إن الأوضاع السياسية جعلت المسلمين يتفكّرون في ماهية الإيمان، لينقسموا في ما بينهم على الإجابة:

– يختار الخوارج تطبيق الشرع، أي العمل بالمعروف والنهي عن المنكر، ضمن ما يُسمّى بإيديولوجيا التكفير؛

– يميل الأمويّون إلى فكرة مفادها أن “الإيمان هو فقط الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله…”، وهي تأتي ضمن إطار إيديولوجيا الجبر التي تبنّوها، لأجل منع اتهامهم بالكفر بسبب ظلمهم وفسقهم، أي أنهم يبقون ضمن إطار الإيمان على الرغم من أن أعمالهم لا تعكس حقيقة الدين، مما يجنّبهم كل ثورة محتملة تندلع ضد حكمهم؛

– يختار البعض الآخر موقفاً يختلف عن الآراء السابقة يقول بمبدأ “الإرجاء” أي أن أي حكم في مسألة الإيمان هو من صلاحيات الله، أي أنه مرتبط بالآخرة، وبمبدأي الثواب والعِقاب الإلهيين، مما يرفض إعطاء أي امتياز للخلفاء عن باقي الناس. إنطلاقاً مما تقدّم، يتبنّى هذا الموقف التوجّه العقلاني بعيداً عن العنف، أو الثورة، أو الحرب؛

– اختار واصل بن عطاء مؤسِّس المعتزلة موقف المنزلة بين المنزلتين، فيكون بذلك مرتكب الكبائر بين الإيمان والكفر، فهو ليس بـ”مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً”، وبذلك لا يدين هذا الموقف أحد ولا يناصر أي من الطرفين. لذا، تلعب التوبة دوراً هاماً في تحديد مصير صاحب الكبائر في الآخرة، لأن الإيمان يفتح له مجال التوبة إذا أراد ذلك، ففي حالة رفضه للتوبة يُعامَل معاملة الكافر في الآخرة. وعلى هذا الأساس، يكون طرفا الصِراع السياسي على خطأ بسبب الحرب التي اندلعت وأدّت إلى قتل الكثيرين، فلا تُقبَل شهادتهما، أي رواية الحديث بحسب كل منهما، وبالتالي يتبنون “أسبقية العقل على النقل”؛

– يبقى هناك موقف أكثر تساهل، كالذي يتبنى موقف المرجئة. بالنسبة إليهم، من يشهد شهادة الإسلام لا يدخل النار أبداً[59].

من هنا، نستطيع درس عدّة إشكاليات، كالحرية، والإرادة، والمسؤولية، والكسب، لكننا سنخرج عن المسار الذي اخترناه في سبيل درس العلاقة بين الدين والسياسة. كذلك، نلحظ من هذا العرض، أن اختيار المواقف الإيمانية يتمّ على أساس الموقع السياسي الذي ينتمي إليه كل فرد، وبالتالي يتبيّن أنه ليس هناك من فصل بين الدين والسياسة، أقلّه في الواقع. لكننا سنعرض في هذا القسم علاقة السياسة بالدين نظرياً، وفقاً لما ورد عند الجابري في كتاب “العقل الأخلاقي العربي”. ولكن لن نكتفيَ بهذا البحث، بل سنتعدّاه إلى تحليل مصطلح “الطاعة” عنده، نظراً إلى العلاقة الجوهرية بينه وبين السياسة، لاسيما العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

  • الأخلاق السياسية عند الفرس ودينهم:

يتكلّم الجابري على مصدر كتب الأدب عند الساسانيين من خلال تاريخهم، فهم زردشتيون وقد وحّدوا بين الدولة والدين بجعلهم الزردشتية ديناً رسمياً للدولة. وأهمّ ملوكهم ساسان المؤسسّ لهذه الدولة بعض صراعات دامت طويلاً بين ملوك الطوائف، وأردشير الذي كتب “وصية” أو “عهد” إلى الملوك الذين سيأتون بعده، علماً بأن أولاد الخلفاء العباسيين كانوا يدرسون هذا الكتاب. أما الموضوع الأساس في هذه الوصية هو علاقة الدين بالمُلك، إذ أن أردشير قد اهتمّ بهذه العلاقة خصوصاً أنه يرى فيهما “أخوين توأمين”، فيصبح واجب الملك أن يحفظ الدين من أجل حماية مُلكِه. وتتضمن الحماية، الإنتباه من رجال الدين، وبخاصةٍ أن كاتب الوصية قد وصل إلى الحكم من خلال تحالفه مع رجال الدين الذين قاموا بالتعبئة العامة، وهو ما لا تستطيعه السياسة، أي الحكم على القلوب والعقول كما يفعل الدين، مما جعله يتحكّم لاحقاً بالدين خوفاً على مُلكِه، لأن مجال سلطة رئيس الدين هو القلب، في حين أن السلطة السياسية لا تتخطى الأجساد، لتكون السلطة الدينية أقوى من السلطة السياسية. لكن الثقافة العربية قد فهمت هذا النص بشكلٍ مقلوب، أي أن الدين أصبح غاية بذاته، وبالتالي يحرسه الملك من أجله بذاته، وليس كما هو وارد في الثقافة الفارسية. أما تاريخياً، فهناك ما يبرِّر هذا الموقف، خصوصاً أن الدين في إيران جعل لرجال الدين مكانة مرموقة، يتّحدون مع النبلاء ضد الملك في مراحل الضعف، فهم “دولة داخل دولة”. كما أن قوة رجال الدين نسجت أساطير حول الملك، من شأنها أن تدمج بين الملك والإله[60]. أما سياسة أردشير الإستبدادية الطبقية فولّدت بدورها ردّة فعل شعبية: رفض العوام سياسة الإستبدادية لأردشير، بخاصة الجمع بين السياسة والدين بيد الملك، فكانت ردّة فعلهم تأسيس المانوية، وهي محاولة توفيقية بين الزردشتية، والبوذية، والغنوصية. إن هذا الدين الجديد لجأ إلى “المقاومة السلبية” عبر “نشر قِيَم الزهد، والعبادة، والإعراض عن الدنيا، والإمساك عن الزواج”، وبعدها إلى السرّية إزاء سياسة الدولة القمعية تجاهه. وبعدها، انتشرت المزدكية التي اعتمدت على شيوعية المال والنساء، وقام الملك أنوشران بالقضاء عليها، وقد ساعده الأرستوقراطيون على ذلك، وقد سمّوه بالعادل نظراً إلى سياسته التي اعتمدها في الحكم، على الرغم من أنه أبقى على القِيَم الكِسرَوية، كالجمع بين الملك والعبودية، وغيرها من القِيَم. وعلى الرغم من أن أنوشران قد اتخذ العدالة غاية في ذاتها، الإ أنها “من أجل تحصين الملك” بحسب الجابري. فالآداب السلطانية قد وظَّفت تعابير ماكرة تخفي قِيَم الطاعة فيها، كما في مقولة “العدل أساس المُلك”[61].

  • الأخلاق السياسية في الإسلام

يعيد الجابري ما أتى به في كتاب “بنية العقل العربي” على أن الأخلاق الإسلامية، كما هو الحال عند العز بن عبد السلام، هي أخلاق المصلحة، وذلك بحسب القرآن الكريم، وبعيداً عن أي أخلاق في موروث آخر، في آنٍ. علماً بأن القرآن لم يشرِّع للحكم ولا للسلطان، ولكن هذا لا يمنع من استخلاص مبادئ عامة منه في المجال السياسي، كمبدأ المصلحة. من هنا، أتى موقف أهل السُّنة، كما عند العز بن عبد السلام، على أنه يجب طاعة كل متغلّب حتى يتمّ تغييره من دون فتنة. لذا، يرفض الجابري كل كلام على حق الإمامة وحصرها بذرّية الإمام علي بن أبي طالب من خلال الوصية، وبالتأويل. ويرى أن البحث في السياسة، من الناحية الشرعية، يبقى نادراً. وتبقى الرسالة، أي “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعيّة” لتقي الدين بن تيمية خير دليل على البحث السياسي في هذا المجال[62]. يعتمد ابن تيمية على آيتين من القرآن الكريم، أولهما تأدية الأمانات إلى أصحابها، وذلك تشبهاً بما قام به الرسول، أي ردّ مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة بعد فتح مكة، وذلك على أساس “مبدأ استعمال الأصلح”. ويقصد ابن تيمية بهذا المبدأ هو أن تجتمع في الوالي القوة والكفاية، وإلاّ تُراعى الحاجة عند اختيار الوالي: قد يكون قوياً وفاجراً، أو أميناً وضعيفاً بحسب الحاجة، أو المصلحة، في ما لو لم تجتمع في الوالي صفتي القوّة والكفاية. ويزيد عليها الحكم بالعدل، أي باعتماد “سياسة عادلة، وولاية صالحة” من خلال حدود وحقوق العامة، والخاصة منها. أما الآية الثانية فهي تختصّ بالرعية والجيش، فعليهم طاعة أولي الأمور، إلاّ في المعصية. كما أن أي اختلاف في تقويم سلوك ما، إذا كان معصية أم غير ذلك، فيتمّ تحديدها من خلال العودة إلى كتاب الله والسنّة. كما أن طاعتهم هي طاعة الله ورسوله[63].

أما على أرض الواقع، فقد اعتمدت الدولة الأموية على الخطاب الديني في فترة ضعفها، وذلك من أجل الحفاظ على حكمها، ولإخماد الثورات، من خلال استخدام مفاهيم “الطاعة” و”خلافة الله” في رسائلها التي أعدّها سالم أو عبد الحميد. أما بالنسبة إلى العباسيين، فقد اختلف الأمر معهم، إذ انتصروا على الأمويين من دون أي توظيف للدين، ثم ما لبثوا أن أخذوا شرعيتهم من الدين بواسطة “سياسة ممزوجة بالدين والملك”، وهي سياسة تفرض هيبتها على الناس ليطيعوها تديّناً، أو رغبةً، أو رهبة، على الرغم من أنها تخرج عن إطار نصوص الدين الإسلامي، أي أن مصدرها يعود إلى الموروث الفارسي، أي كتب الأدب[64].

  • الطاعة عند الجابري

يرى الجابري أن لفظ “طاعة” يختلف في الموروث الفارسي، لاسيما في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وفي الترسّل[65]، عمّا استُخدِم في القرآن. فقد انحصر معناه في القرآن بالله ورسوله، لكنا ورد مرة واحدة في إطار الطاعة لأولياء الأمر، ممن هم أمراء سرايا الرسول، من دون أن تكون هذه الطاعة مطلقة؛ بل تأخذ شكل التراضي بين الطرفين: الحاكم والمحكوم، في ظل غياب أي صراع بينهما. انطلاقاً مما تقدّم، يدعونا الجابري إلى البحث في الطاعة خارج المراجع الإسلامية، أي في المراجع الفارسية. أما بالنسبة إلى الطاعة غير المشروطة، فهي تشكّل قيمة مركزية عند الفرس، حتى أنها غُرِست في النُظُم الأخرى. أما الإثبات التاريخي فيكمن في أن النُظم العربية قد تبنّت هذا الإتجاه لاحقاً، خصوصاً أن الموروث الإسلامي لم يعرف سابقاً هذا النوع من الطاعة؛ لأن مبايعات الرسول، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي تمتّ بالمشاورات، والتسويات، كما أن الحروب التي سبقت حكم معاوية عرفت طاعة غير فارسية. ولتمييزها عن الطاعة الكسروية، يلجأ الجابري إلى تعريف الطاعة الفارسية أنها “طاعة غير مشروطة لا تقتضي احتكاماً لأية سلطة”، بمعنى أن الطاعة الكسروية أصبحت طاعة غير مشروطة عبر تشبيه كسرى بالله. أما الجديد في الأمر، فهو بزوغ مفهوم الإمامية ابتداءً من هذه الطاعة[66]. إن الموروث الفارسي يطلب من الناس الطاعة للسلطان بالقوة في فترة الإزدهار، أما في عصر التدهور أو ضعف الدولة، فيكون الدين هو الرابط بين الحاكم والمحكوم. ويحلّ هنا الأدب مكان السيف، إذ أنه “يقوم مقامه” بعد ضعف الحكم الأموي، وبالتالي أصبح الأدب أو الأخلاق درساً تعلّمه العرب تحت عنوان “الطاعة”، و”الجبر”، إضافةً إلى الهزائم العسكرية التي مُنيوا بها، خصوصاً معركة صفِّين. كما ورث العباسيون قِيَم الأمويين، من طاعة، وجبر، على الرغم من أن هناك العديد من “ردّات فعل” فكرية وعسكرية، من الحين إلى الآخر، على أخلاق الطاعة[67].

بعد قراءة كتاب “العقل الأخلاقي العربي” للجابري، سنتوقف عند نقده في القسم السادس

سادساً- نقد ومراجعة

  • في نقد منهج الجابري:

بعد التحقّق في منهج الجابري، يتبيّن لنا أنه قد ابتعد عن البحث التاريخي الموضوعي، إذ اعتبر أن تاريخ تفاعل الموروثات يعود إلى ما بعد عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتتطوّرت في العصرين الأموي والعباسي، وهذا ما سنعود إليه في بحث الأزمة الأخلاقية الأولى. كما تجدر الإشارة إلى أنه لم يدرس تكوين العقل العربي، من الناحية الأخلاقية، بل كان مُسَلَّماً به عنده أن العقل العربي، قبل تفاعله مع بقية الموروثات، مكتمل في ذاته، أي أنه وقع في المركزية-الإثنية ethnocentrisme.

بالإضافة إلى ما تقدّم، اعتبر الجابري أن بقية الموروثات هي التي دخلت إلى الموروث العربي، عند الأزمات الأخلاقية، بفعل أن المؤمنين الجدد من المسلمين، أدخلوا معتقدات غريبة إلى الإسلام، كالإمامة عند الشيعة، والطاعة، والجمع بين الدولة والدين عند الفرس[68] وغيرها. وهذا شبيه بفكرة الكبت المرضي والكمون في علم النفس حيث يصبح الإنسان مريضاً من دون أن يُظهر أي عوارض نفسية، لحين مجيء أقرب صدمة  traumatismeتجعله يستذكر معرفته السابقة. كذلك بالنسبة إلى الجابري، عند ظهور أي أزمة على الصعيد الأخلاقي، يعود إلى موروث أجداده، وهو مكبوت في لا وعيه (من دون أن يذكر ذلك).

وهنا، سنلجأ إلى التحليلين التاريخي والفلسفي من أجل نقد هذا المنهج:

– من الناحية التاريخية، ذكر المستشرق كلود كاهن[69] أن الفتح الإسلامي لم يجعل السكان المحليين يشعرون بأي اضطراب أو أي انقطاع عن حياتهم، فقد بقيت المؤسسات العامة التي تسيّر حياة عامة الشعب. إن معظم الأقاليم جرى إخضاعها بالمعاهدات والعهود، من دون أي مسّ في حقوق السكان. كما أن المسلمين الفاتحين قد حافظوا على النظام السابق، من أجل دوافع سياسية، خصوصاً أنهم كانوا عاجزين عن استبدال النظام القائم بآخر، ولكن ما تغيّر هو الطبقة الأرستقراطية الحاكمة[70]. هذا يعني أن الإسلام قد دخل على الموروثات الأخرى، وليس العكس، فالمسلمون الجدد لم يُدخلوا معتقداتهم إلى الإسلام، بل إن الإسلام هو الذي دخل على معتقداتهم؛

– من الناحيتين الفلسفية، والإبستمولوجية، تنمو المعرفة الإنسانية على طفرات كبيرة أو صغيرة، ويبقى بعض المعرفة القديمة من دون أي تغيير فيها، أما التعديلات فتكون تدريجية، كما هو حال بقع الزيت[71]. وليس كما هو الحال عند الجابري، أي بعودة المكبوت عند الأزمات. بناءً على ما تقدّم، نرى أن الجابري يقع في الجوهرانية، بمعنى أن هناك قيمة مركزية لكل موروث، لا تتغيّر مع الزمان، لأن كل مجموعة تحافظ على قِيَمها الخاصة بها وفقاً لظاهرة “الشعبوية”، وبذلك تناهض القِيَم الإسلامية، فيبقى هذا الموروث مكتوباً ومُعاشاً معاً. وهذا ما ينطبق على صِراع الفقهاء مع المتصوّفة، أو الصِراع الأدبي بين الروم والفرس الذي انتهى ظاهرياً مع الفتح الإسلامي[72]. ونعطي مثل الطاعة التي يقابلها الإستبداد عنده، باعتبارهما قيمتين مركزيتين عند الفرس، فمهما تغيّرت الظروف التاريخية نجدهما حاضرتين في آدابهم…

إضافةً إلى ما ذُكِر، نرى أن الجابري قد فصل الخطاب عن البيئة التي أنشأته، معتبراً أن البحث في هذه البيئة هو من اختصاص علماء الاجتماع، فاكتفى بدراسة المؤلفات الأخلاقية. إنها طريقة أفلاطونية[73] في هذا الفصل بينهما، فلا يستطيع أن يفسّر التغييرات الحاصلة في الخطابات المختلفة، فيكتفي بتصنيف كل خطاب على أساس أنه يعود إلى مجموعة معيّنة، أو بتأثير منها، أو أنه مزيج من عدّة خطابات أخلاقية تعود إلى مجموعات مختلفة[74]. كما أنه أهمل بذلك قضية المعنى الاجتماعي، أي أن الفكر الأخلاقي يستمدّ معناه من المجتمع، خصوصاً أنه تجريد للواقع الاجتماعي.

  • في نقد أسس العقل الأخلاقي عند الجابري

رأينا أن الجابري قد تعامل مع الموروثات الخمسة وكأنها منفصلة بعضها عن بعض بشكلٍ مطلق، وذلك منذ تكوينها. لقد توصّل إلى هذه الخلاصة عبر استخدام منهجه، كما ورد سابقاً، أي بفصل الخطاب عن البيئة التاريخية والاجتماعية التي أنشأته. يرى الجابري أن الموروث الإسلامي الخالص يخلو من القِيَم الأخلاقية التي تتمتّع بها بقية الموروثات، تحت تأثير الأزمة الأخلاقية، دخل على الموروث الإسلامي قِيَماً خارجة عنه. وتاريخ الأزمة عنده يعود إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتطوّرت هذه الأزمة بواسطة الترجمة؛ في حين نرى أن اللحظة الأولى للأزمة تعود إلى قبل ذلك بكثير. كما أن الجابري لا يستطيع أن يشرح ماهية العلاقة بين قلّة العدالة في توزيع الغنائم، من جهة، وبين الأزمة الأخلاقية، من جهةٍ أخرى. لذا، سنحاول بدورنا تحليلها من خلال درس المستشرق غولتسيهر[75] للتاريخ الإسلامي. يرى هذا المستشرق أن الرسول هو “أول مصلح حقيقي في الشعب العربي من الوجهة التاريخية” لأن احتجاجه على أخلاق قومه قد نجح، في حين سقطت كل محاولة سابقة عليه. أما محيطه فقد كان وثنياً، ويتّصف بالمادية وبالطبقية من ناحية اضطهاد الفقير، وبـ”اللامبالاة بالصالح العام”[76].

إنطلاقاً مما تقدّم، أصبح العالم العربي في أزمة أخلاقية إيجابية عند دعوة الرسول لأن تاريخ العرب، خصوصاً المسلمين منهم، يحتوي على العديد من الأزمات. فالمؤمنون الأوائل بالدعوة المحمدية هم من الأتقياء والبكّائين ندماً على الذنوب، ويهتموّن بالآخرة[77]، وهم يعانون من الفقر في بداية الرسالة المحمدية، لذا كانت الدعوة من أجل تأمين بعضٍ من العدالة الاجتماعية بين الناس. ومن هنا، نستطيع أن نفهم الأزمة التي حدثت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب: إنها عودة إلى ما قبل الرسالة المحمدية. كما أن درس غولتسيهر سيكشف لنا، بعد التوقف عند الموروث الإسلامي، عن مدى علاقة الزّهد بالدين الإسلامي، في حين أن الجابري رفض هذا التفاعل قبل الأزمة الأخلاقية في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب، وتتطوّرها مع الأمويين.

أما اللحظة الثانية للأزمة فهي الهجرة إلى يثرب، حيث تقبّل المجتمع اليهودي أفكار الدعوة، لأنها مألوفة عندهم. هذا ما ساعد الدعوة على الإنتشار، ولكن بمنحى آخر وهو سياسي: “أصبح الرسول مجاهداً، وغازياً، ورجل دولة، ومنظماً لجماعة جديدة تتّسع وتنمو شيئاً فشيئاً. وهنا يكتمل الدين الإسلامي من جميع النواحي الاجتماعية، والسياسية، والفقهية”[78]. وتكمن معالم الأزمة الأخلاقية في أن هناك سلوكين متباينين للرسالة؛ فهي بدأت بالدعوة إلى التقوى والزُهد، وأعمال الخير، والصلاة، والصوم، كما هو الحال عند اليهود والمسيحيين معاً. كما تتّسم هذه الفترة بأن الجماعة الأولى من المؤمنين لم تنفصل قط عن مجتمعها. أما بعد الهجرة فقام نظام جديد خاص بالمؤمنين، من شأنه أن يوزع الغنائم بينهم، ويصون قوانين الأحوال الشخصية كالزواج، والإرث[79].

  • – في نقد درس الموروث الإسلامي الخالص:

من هنا، نرى أن الجابري قد وقع في بعض التناقض عندما جعل للموروث الإسلامي كياناً يُدرَس على حِدة، فخصّص له ثلاثة فصول من كتابه، في المقابل نجده يشير إلى قلّة الأدبيات التي تبرّر وجود كيان مماثل. بمعنى أنه درس الخطاب الأخلاقي على أساس معياري، لا وصفي، فقد أخذ كتاباً معيّناً بعيداً عن تأثيرات فكرية لموروثات أخرى، ومنهجياتها، معتبراً إياها أنها تشكّل فكراً أخلاقياً إسلامياً خالصاً، مع العلم أن الموضوع الأخلاقي، ومفاهيمه، والتنظير فيه أمور جاءت جميعها من الأصل اليوناني. بالإضافة إلى ذلك، فقد درس الجابري الموروثات الثقافية المختلفة، والتي دخلت على الموروثين العربي والإسلامي، مقوّماً إياها بشكلٍ سلبي، إذ صنّف كل مؤلّف متأثر بها، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، على أنه بعيد عن الموروث الإسلامي الخالص. وبعد ذلك، لجأ إلى تقسيم كتابه “العقل الأخلاقي العربي” بشكلٍ يجعل الموروثين العربي والإسلامي كخلاصة له، بعد أن وصف بقية الموروثات في الأقسام السابقة له.

بالإضافة إلى ما تقدّم، نتوقف من جديد عند غولتسيهر الذي رأى بدوره أن أي نظام يقوم على “قوى داخلية ذاتية” تساعده على التطوّر من الناحية التاريخية، من جهة، وتساعده أيضاَ على التأثير روحياً من الخارج، كما تؤمّن له “ثروة جديدة” اكتسبها جرّاء التفاعل معها، من جهةٍ أخرى. علماً بأن التأثيرات الخارجية هي الآراء اليونانية، والقانون الروماني الذي دخل على الفقه الإسلامي ابتداءً من العصر العباسي، والفكر السياسي الفارسي، والآراء الهندية، والأفلاطونية الجديدة التي تمثّلت بالتصوّف. فكل هذه التأثيرات الخارجية أعطت للإسلام شكله النهائي، وأسهمت في تكوينه التاريخي؛ وبالتالي هناك عملية صهر لهذه التأثيرات الخارجية أدّت بدورها إلى تركيب الدين الإسلامي، لكنها لا تظهر جلياً إلاّ من خلال البحث النقدي الدقيق[80]. إنطلاقاً مما تقدّم، إن التقويم السلبي تجاه هذه الموروثات هو بمثابة هدم للحضارة الإسلامية وأخلاقها، لأن هذه التأثيرات هي التي دعمت الإسلام وأخلاقه.

  • في نقد موروث التصوّف عند الجابري:

نرى هنا أن الجابري قد وقع في خطأ تاريخي عند تحليله للعلاقة بين التشيّع والزّهد، خصوصاً أن ما ورد عند الدكتور قانصو[81] ينتقد ما جاء عنده: كان التشيّع في زمن الأئمة علي، والحسن، والحسين مجرّد ولاء سياسي حول قضية معيّنة، من دون أي عقيدة دينية حول أشخاص الأئمة[82]. واستمر هذا الوضع حتى ما بعد استشهاد الإمام الحسين، إذ ينطبق على الإمام علي، والبيت الهاشمي، والبيت العلوي، وعلى الصحابة أيضاً، كعثمان، ومعاوية، وطلحة، والزبير[83]، وما بعد الإمام الباقر[84].

اعتبر الجابري أن التصوّف والزهد قد دخلا على الإسلام إبتداءً من تاريخ الأزمة. كما دعم المستشرق غولتسيهر هذه الواقعة ولكنه أعطى هذا التفاعل شكلاً إيجابياً، بعكس ما فعل الجابري. فهذا التفاعل لم يمنع من أن الإسلام فعلاً يدعو إلى الزهد. فقد اتّصفت بداية الدعوة الإسلامية بأنها تحمل أفكاراً زهدية، تدعو بدورها إلى القطيعة مع العالم، إضافة إلى أفكار أخرى، كالتوكّل، والشعور بالخضوع المطلق، كما هو الحال عند الطاعة. أما هذا الميل إلى الزهد فهو نِتاج الفكر النُهيوي، وهلاك العالم، ويوم الحساب، والقيامة، خصوصاً أنها تدعو إلى ازدراء الدنيا لأن هدف المؤمن يكمن في السعادة الآخروية[85]. كما أن الرسول نفسه قد قضى حياة زهد طويلة في الوحدة، مما أشعره لاحقاً بأنه قد حان الوقت بأن “يجهر بالحقيقة التي اتضحت له”، وبعدها اكتسبت دعوته شكلاً ثابتاً في الوحي، بدأت بالحثّ الشديد على “القراءة”[86]. فإذا، أصبح التصوّف جزءاً وافداً من التقليد اليهودي-المسيحي إلى الموروث الإسلامي الخالص من دون أن يتّخذ شكلاً عقيدياً، كما حصل لاحقاً في العصر العباسي.

  • في نقد الأخلاق السياسية عند الجابري

يرى الجابري أن هناك فصلاً بين السياسة والدين في الإسلام، إذ إن أي حاكم للدولة الإسلامية يلجأ إلى الموروث الفارسي في حال شدّ الأواصر، أو في حالة الضعف، لجعل خطاب الدولة دينياً. كما يشاركه الدكتور قانصو في هذا الرأي، إذ اعتبر أن ليس كل ما صدر عن النبي هو نبوي، معتمداً على رواية من صحيح مسلم “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، وتفيد بالفصل بين المسائل الحياتية، من ضمنها الأمور السياسية، والأمور الدينية. كما اعتمد على رواية أخرى وهي يوم الخندق في مسألة مصالحة الأحزاب مقابل بعض التمر، فسأله سعد بن عبادة وسعد بن معاذ إذا كان هذا الرأي من الله أو من الرسول، فأجاب الرسول أنه من نفسه، فلم يعد واجباً عليهم بتطبيقه[87]، فالنبوة أخلت نفسها من السياسة و”تركتها للخبرات السابقة واللاحقة، والكفاءات التي تتراكم عبر السنين”.[88]

بدورنا، نرى أن هذا الفصل غير وارد في الموروث الإسلامي الخالص. تاريخياً، فقد أصبح الرسول قائداً سياسياً في يثرب، يتمتّع بسلطة زمنية يمارسها كل زعيم في قبيلته. لكن هناك فرق وحيد وهو العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد كانت مبنية على الأسرة ورابطة الدم قبل الرسول، لتصبح دينية. فأصبح بذلك للإسلام نظامان: ديني وسياسي معاً، على الرغم من أن هدف الرسول هو تأسيس دين جديد. ورافق هذا التأسيس قيام نظام سياسي من شأنه أن يدمّر النظام القديم في مكة، ويبني نظاماً جديداً بواسطة حكومة دينية مطلقة، بدلاً من حكم أرستوقراطية قبائلية، ويلعب فيها الرسول دور الخليفة في الحكومة الجديدة[89]. أما بالنسبة إلى النصوص، فإن صحيفة يثرب تشكّل مرجعاً رئيساً في تحديد العلاقة بين الدين والسياسة: إنها وثيقة قديمة تشهد على تحالف قبلي بين القرشيين الجدد وعشائر يثرب. علماً بأن هذا التحالف السياسي يدعو إلى الإلتفاف حول الرسول والإنتماء إليه[90]. كما يرى كلود كاهن أن همّ الرسول كان التوفيق بين عيش المهاجرين والأنصار، وتهدئة الوضع السياسي في ما بينهم، فلجأ إلى هذه الصحيفة، وهي عبارة عن مجموعة إتفاقات سياسية. ولكن هذا لم يمنع من تكوين وحدة إيمانية ما بين الأطراف المتحالفة[91].

فإذاً، يمكن أن تلحظ أن القضية بيّنة في الربط بين السياسة والدين، من دون أي فصل بينهما، وذلك بعكس ما قاله الجابري وقانصو معاً.

  • في نقد مفهوم الطاعة عند الجابري :

يحاول الجابري وصف الموروث الفارسي بأنه يحتوي على قيمة مركزية، وهي “الطاعة”. في حين نرى أن كل الإمبراطوريات تحتوي على هذه القيمة. لن نقوم بالبحث التاريخي لإثبات هذه القضية، لكننا سنبحث عن معالم الطاعة في القرآن كما وردت عند كل من غولتسيهر، وكاهن، وأرنولد[92].

يعيّن غولتسيهر الإسلام بأنه الإنقياد، وذلك عبر علاقة تبعية بين المؤمن والله، وتظهر بشكلٍ جليّ في موضوع العبادة، حيث يشعر المؤمن بقدرة الله غير المحدودة، فيُخضِع إرادته الخاصة إلى المشيئة الإلهية، فيكون بذلك أصل الدين شعوراً أن يكون الإنسان تابعاً إلى قدرة ما ورائية[93].فيكون واجب المسلم الأساس هو الخضوع لله، والإيمان به، والإستسلام لإرادته والتسليم بها[94].إن هذا التعريف هو من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية أو التاريخية، فقد أخضع الرسول بلاد العرب إلى سلطته وإرادته المطلقة، بما فيها القبائل والعشائر التي بلغ عددها المئة. ويقرّ المستشرق أرنولد أن خطة الرسول تكلّلت بالنجاح، أي بإخضاع هذه القبائل المتناحرة في ما بينها، وأنشأ “مبدأ الحياة القومية” بدلاً من النظام القبلي السائد، فتمّ بذلك تعزيز “الشعور بالوحدة الدينية” على حساب النظام القبلي القديم[95]. وبهذا، نكون قد توصّلنا إلى أن كلام الجابري على الطاعة يبقى إشكالياً، ويطرح أسئلة عدّة، فهو قد جعلها تنتمي حصراً إلى الموروث الفارسي، في حين أن حضورها في الموروث الإسلامي الخالص أمر بيّن: إنه الخضوع للمشيئة الإلهية بحسب غولتسيهر وكاهن، وإلى إرادة الرسول نفسه عند أرنولد.

الخاتمة

لقد قمنا بقراءة نقدية لكتاب الجابري “العقل الأخلاقي العربي”، ورأينا فيه مشروع توثيق لكتب الأخلاق، وقد استخدم مناهج مختلفة عن منهجه العام في درسه للتراث، وذلك بسبب اختلاف موضوع الأخلاق عن التراث، وقام بدراسة تحليلية للنصوص، من خلال الأنتروبولوجيا، بعيداً عن أي درس اجتماعي للبيئة التي نشأ فيها النص. ثم درسنا مدى واقعية تحليلاته من الناحية التاريخية، وذلك عندما اعتمدنا على أعمال المستشرقين، فوجدنا أنه يخرج عن الإطارين التاريخي والاجتماعي في درسه للأخلاق. وعلى الرغم من ذلك، نرى في مشروع الجابري تأريخاً لخطابات الأخلاق العربية، ونسأل بدورنا: هل هناك قراءة جديدة للموروثات الأخلاقية، باعتبارها مكمّلة بعضها لبعض من دون أي تقويم، سلبياً كان أم إيجابياً؟ أو هل هناك من قراءة تبتعد عن جوّ الصراع الحضاري في منطقة الشرق الأوسط ماضياً وحاضراً؟

المصادر: 

– الجابري، محمد. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القِيَم في الثقافة العربية، الطبعة السادسة، 2014، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،

–  أبي نادر، ليلى. التراث والمنهج بين أركون والجابري، الطبعة الأولى، 2008، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر،

– أرنولد، توماس. الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة د. حسن حسن وغيره، الطبعة الأولى، 1947، مصر، مكتبة النهضة المصرية،

– جيمس، وليم. البراغماتية، ترجمة وليد شحادة، الطبعة الأولى، دمشق، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع،

– دي بريمار، ألفريد. تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ، (ترجمة عيسى محاسبي)، الطبعة الأولى، 2009، بيروت، دار الساقي،

– غولتسيهر، إغناس. العقيدة والشريعة في الإسلام: تاريخ التطوّر العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، ترجمة د. علي عبد القادر ود. محمد موسى وأ. عبد العزيز عبد الحق، الطبعة الثانية، 1959، مصر وبغداد، دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنى ببغداد، مطابع دار الكتاب العربي بمصر، مؤسسة مصرية للطباعة الحديثة،

– قانصو، وجيه. الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ: دراسة في مراحل التكوين الأولى، الطبعة الأولى، 2016، بيروت، دار الفارابي،

– كاهن، كلود. الإسلام: منذ نشوئه حتى ظهور السلطنة العثمانية، ترجمة حسين قبيسي، الطبعة الأولى، 2010، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية؛

– نولدكه، تيودور. تاريخ القرآن، ترجمة د. جورج تامر، 2008، كولونيا- بغداد، منشورات الجمل،

المراجع:

[1]– الجابري، محمد. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القِيَم في الثقافة العربية، الطبعة السادسة، 2014، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.

[2]– راجع م.ن.، ص 119-120

[3]– راجع م.ن.، ص 491-492

[4]– دكتورة نايلة أبي نادر: أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية. سنعتمد على كتابها “التراث والمنهج بين أركون والجابري، الطبعة الأولى، 2008، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر” من أجل البحث في منهج الجابري.

[5]– راجع أبي نادر، م.ن.، ص 241-242

[6]– راجع م.ن.، ص 243

[7]– راجع م.ن.، ص 23

[8]– راجع الجابري، م.س.، ص 24

[9] – راجع م.ن.، ص 21

[10] – راجع م.ن.، ص 22

[11]– راجع م.ن.، ص 26

[12]– راجع الجابري، م.س.، ص 104-105

[13]– راجع م.ن ص 511

[14]– م.ن.، ص 106-107

[15]– راجع م.ن.، ص 143-144

[16]– راجع م.ن.، ص171-173 و178

[17]– راجع م.ن.، ص 206 و209

[18]– راجع الجابري، م.س.، ص 108

[19]– راجع م.ن.، ص 109-110

[20]– راجع م.ن.، ص 428-429

[21]– راجع م.ن.، ص 27

[22]– راجع الجابري، م.س.، ص 59-60.

[23] – تبنّى الجابري هذا المصطلح من دون الاعتماد على أي مرجع: راجع الجابري، م.س.، ص67

[24]– راجع م.ن.، ص67-68

[25]– راجع الجابري، م.س.، ص 103

[26]– راجع م.ن.، ص 594-595

[27] – راجع م.ن.، ص 112

[28]– راجع الجابري، م.س.، ص 112-116

[29]– راجع م.ن.، ص 565-566

[30]– راجع م.ن.، ص 567

[31]– راجع م.ن.، ص 570

[32]– راجع م.ن.، ص 574-576

[33]– راجع الجابري، م.س.، ص 576-578

[34]– راجع م.ن.، ص 582-583

[35]– راجع م.ن.، ص 541-542

[36]– راجع م.ن.، ص 537-541

[37]– راجع الجابري، م.س.، ص 550-551

[38]– راجع م.ن.، ص 553-554

[39]– راجع م.ن.، ص 560

[40]– راجع م.ن.، ص 591.

[41]– راجع الجابري، م.س.، ص 583-584

[42]– راجع م.ن.، ص 587-588

[43]– راجع م.ن.، ص 584-585

[44]– أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي الفاسم بن حسن السُّلمي الشافعي الملقّب بسلطان العلماء (1181-1262): هو عالم وقاضٍ مسلم، برع في الفقه، والأصول، والتفسير، واللغة. من أهم كتبه في المجال الأخلاق الإسلامية وهي كتب فقهية: “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”، و”القواعد الصغرى” (تلخيص للكتاب الأول)، و”شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال”.

[45]– راجع م.ن.، ص 596-598

[46]– راجع الجابري، م.س.، ص 606

[47]– راجع م.ن.، ص 599-600

[48]– راجع م.ن.، ص 428-430

[49]– راجع الجابري، م.س.، ص 431-433

[50]– راجع م.ن.، ص 435-436

[51]– راجع الجابري، م.س.، ص 461-464

[52]– راجع م.ن.، ص 446-448

[53]– راجع م.ن.، ص 451-454

[54]– راجع م.ن.، ص 454-459

[55]– راجع م.ن.، ص 487-488

[56] – راجع م.ن.، ص 20

[57] – راجع م.ن.، ص.ن.

[58]– راجع م.ن.، ص.ن.

[59]– راجع الجابري، م.س.، ص 72-77

[60]– راجع م.ن.، ص 154-156 و160

[61]– راجع م.ن.، ص 161-165

[62]– راجع الجابري، م.س.، ص 615

[63]– راجع م.ن.، ص 616-617

[64]– راجع م.ن.، ص 152-153

[65]– المقصود من الترسّل، رسائل يعدّها مؤدِب، أو معلم، أو المربي بإسم الخليفة لإلقائها على الشعب، تحمل في طيّاتها أخباراً وتوجيهات، وأوامراً مباشرة من أجل التكلف، ويستخدم المؤّدب آيات قرآنية وأحاديث شريفة لتبرير التكلف بواسطة الدين والبرهان العقلي، وذلك ابتداءً من المؤدّب عبد الحميد، خصوصاً أن الأمويين لم يوظفوا الدين، أو اللغة أو الأخلاق قبلاً في خطاباتهم. ويرى فيه الجابري النموذج الأول لأدب اللسان الذي يحمل أدب النفس أو الأخلاق، وبالتالي يحمل الترسل قِيَماً أخلاقية تتمظهر بالأوامر المباشرة والتوجيهات، مستشهداً بالثقافة العربية الأموية. إن خطاب الترسل يمتاز بمقولة “العصا لمن عصا”.

[66]– راجع الجابري، م.س.، ص 225-228

[67]– راجع م.ن.، ص 148-150

[68]– راجع م.ن.، ص 106-107 و 225-228

[69]– كلود كاهن Claude Cahen (1909-1991) مستشرق فرنسي متخصّص في تاريخ الشرق الأدنى، في العصر الصليبي، من كتبه “المدخل إلى تاريخ الشرق الإسلامي”.

[70]– كاهن، كلود. الإسلام: منذ نشوئه حتى ظهور السلطنة العثمانية، ترجمة حسين قبيسي، الطبعة الأولى، 2010، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 47-48

[71]– جيمس، وليم. البراغماتية، (ترجمة وليد شحادة)، الطبعة الأولى،2014 ، دمشق، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، ص 153-154

[72]– راجع الجابري، م.ن.، ص 25

[73]– لقد نقد كل تأثير يوناني على الفكر الأخلاقي الإسلامي، لاسيما الأصفهاني، في حين أنه اعتمد على هذا الفصل الأفلاطوني في منهجه.

[74]– وهذا هو حال قراءته للماوردي وللأصفهاني وللغزالي.

[75]– إغناس غولتسيهر (IgnacGoldziher) (1850-1920) :مستشرق مجري ومن أصل يهودي، درس في جامع الأزهر، وزار عدّة دول شرق أوسطية، منها سوريا، وفلسطين، ومصر، له كتاب :  العقيدة والشريعة في الإسلام: تاريخ التطوّر العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، (ترجمة د. علي عبد القادر ود. محمد موسى وأ. عبد العزيز عبد الحق)، الطبعة الثانية، مصر وبغداد، دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنى ببغداد، مطابع دار الكتاب العربي بمصر، مؤسسة مصرية للطباعة الحديثة، 1959.

[76]– راجع غولتسيهر، م.س.، ص13

[77]– راجع غولتسيهر، م.س.، ص 135

[78]– م.ن.، ص 16-17

[79]– راجع م.ن.، ص 17-18

[80]– راجع م.ن.، ص 10-11

[81]– الدكتور وجيه قانصو: أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، من مؤلفاته “التعددية الدينية في فلسفة جون هيك”، وأئمة أهل البيت والسياسة”، و”النص الديني في الإسلام”.

[82]– راجع قانصو، وجيه. الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ: دراسة في مراحل التكوين الأولى، الطبعة الأولى، 2016، بيروت، دار الفارابي، ص 240

[83]– راجع قانصو، م.س.، ص 263

[84]– راجع م.ن.، ص 311

[85]– راجع غولتسيهر، م.س.، ص 134

[86]– راجع نولدكه، تيودور. تاريخ القرآن، ترجمة د. جورج تامر، 2008، كولونيا- بغداد، منشورات الجمل، ص 75

[87]– راجع قانصو، م.س.، ص 83-84

[88]– م.ن.، ص 86

[89]– راجع أرنولد، توماس. الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة د. حسن حسن وغيره، الطبعة الأولى، 1947، مكتبة النهضة المصرية، ص 39-40

[90]– دي بريمار، ألفريد. تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ، ترجمة عيسى محاسبي، الطبعة الأولى،2009، بيروت، دار الساقي، ص 104-105

[91]– كاهن، م.س.، ص 33-34

[92]– السير توماس أرنولد (Thomas Arnold) (1864-1930) مؤرخ ومستشرق بريطاني، من أهم أعماله “دائرة المعارف الإسلامية”

[93]– راجع غولتسيهر، م.س.، ص 9-10

[94]– راجع كاهن، م.س.، ص 37

[95]– راجع أرنولد، م.س.، ص 40

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete