العولمة الثقافية والمواطنة العالمية

  • العولمة والقطب الواحد

في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي الواحد والعشرون، اتسع نقاش بشكل كبير في العالم العربي، عن ماهية العولمة وأبعادها، وقد ظهرت كتابات عديدة تصف العولمة بالأمركة وهناك من وصفها بالعولبة، في الإشارة إلى أن العولمة سينتج عنها نشر ثقافة واحدة عبر العالم، وهي الثقافة التي تخدم المصالح الاقتصادية الأمريكية ومن سار في فلكها، وذلك بتشجيع نظام السوق والاستهلاك…

مختلف تلك الانتقادات، صائبة في الكثير مما ذهبت إليه، ولكن ليس بالشكل الذي تتوقعه، وقد اتضح للجميع فيما بعد بأن العولمة، لم تكن مخْلصَة وطيعة بالشكل الذي تريده أمريكا والمركزية الغربية. إذ ظهرت على مسرح الأحداث حضور ثقافات عالمية أخرى، وبالأخص في الجانب الاقتصادي، ونقصد هنا القوة الصينية التي كانت أكبر مستفيد من العولمة خاصة في بعدها الاقتصادي. وهو أمر جعل طبيعة النقاش والنقد حول العولمة تتجاوز اختزالها في الأمركة وما شابه ذلك، إذ اتضح للجميع أن العولمة بمعزل عن المستفيد منها أكثر، قد وضعت الإنسان المعاصر شرقا وغربا أمام عالم جديد، بفعل الثورة الرقمية والمعلوماتية والأنترنت.

الكل يعلم طبيعة التحول الذي أحدثة الثورة الصناعية ومنتوجاتها على الإنسان في نظرته لذاته وفي علاقة الناس بعضهم ببعض، ويكفي المقارنة بين ما كان عليه القرن العشرين بالقرن التاسع عشر سيتضح للوهلة الأولى طبيعة الفرق الذي حل بالقرن العشرين، بفعل العديد من التحولات في مجال المواصلات والاتصال (الهاتف. السيارة. المذياع…) كذلك هو الأمر اليوم في القرن الواحد والعشرين، إذ دشنت الثورة الرقمية والمعلوماتية والأنترنت أفق عالم جديد.

بالأمس كان الانسان يعتمد على الآلة، اليوم وبوجود الذكاء الاصطناعي، سارت الآلة في محل الإنسان، تقوم ببعض من أدواره، فلم نكن اليوم في حاجة مثلا لعمال التذاكر أمام محطات القطارات، والمترو… ولا شك قريبا سنكون في غنى عمن يجلس عند صناديق الأداء في الأسواق، ومن يعين الزبائن على اختيار مشترياتهم…السؤال هنا ما هي المهام التي يحتفظ الإنسان القيام بها، ولا قدرة الآلات الإلكترونية القيام بها؟  الجواب على هذا السؤال يقتضي سؤالا آخر ما هو الإنسان قياسا بالآلات التي صنعها؟[2] لا شك بأن الإنسان عقل في المقام الأول، فهو له القدرة دون غيره على إنتاج نظريات عن العالم.[3] ولكن رغم كل هذا، فهناك مشكلة في طريق الإنسان مفادها “الإنسان مبدع وساذج في آن معا”.[4]

  • العولمة الثقافية

يرى بول هوبر بأن العولمة الثقافية ظاهرة تختصُّ بها مجتمعاتنا المعاصرة؛ فقد كان لكل مرحلة تاريخية عولمتُها الثقافية، غير أن تأثير العولمة المعاصرة في الممارَسات الثقافية صار أكثر شمولًا وعمقًا مُقارَنة بأي وقت مضى. فلا شك بأن العولمة لها حضور في العصور والثقافات القديمة، فمختلف الثقافات عبر العالم قد استفادت وتأثر بعضها بالبعض الآخر، فمن المستبعد أن نتحدث عن ثقافة خالصة لم تأثر ولم تتأثر بغيرها. فموضوع العولمة اليوم اتسع بشكل كبير وسار خاصية بارزة في حياة الناس بشكل سريع بفضل، مختلف وسائل الاتصال الحديثة وتكنولوجيا المعلومات في صياغة حياة الأفراد في المجتمعات المعاصرة. فالفرق ما بين عولمة الثقافة ما بين الأمس واليوم، يرتبط بطبيعة سرعة التأثير بين الثقافات وانتشار المعلومة، فإذا كان ذلك يستغرق سنوات وعقود من الزمن سار اليوم يستغرق ساعات وأسابيع وأشهر على الأكثر.

فَهْم “العولمة الثقافية يَتطلَّب منا التركيز على تداخُل وتفاعُل الكوني والمحلي في داخل الأطر المختلفة، والحقيقة أن تَطوُّرات العولمة تزيد الأمور تعقيدًا وبذلك تقوى الحاجة إلى إظهار هذا التمييز؛ فعلى سبيل المثال نجد أنه نتيجة لزيادة تَدفُّقات البشر والصور والأصوات والرموز في ظل العولمة المعاصرة، تَتغيَّر أُطُرنا المكانية أو محلياتنا على نحو مستمر، بينما تُؤكِّد تكنولوجيا المعلومات والاتصال العالمية — وخاصة عدم تكافؤ الفرص في الوصول إليها — الفروق الواضحة في المشاركة في الشبكات العالمية والعابرة للحدود القومية؛ وبالمثل فإن بعض الناس سوف يستخدمون الطائرات النفاثة ويتنقلون في أرجاء الكرة الأرضية ويتعرفون على أماكن مختلفة أكثر من غيرهم. باختصار … نحن نسكن فضاءات اجتماعية وثقافية مُعقَّدة ونعمل في أُطر وسياقات مُتعدِّدة ومتغيِّرة، ولكي نجمع كل هذا التنوع في كبسولة واحدة سيكون من الملائم أن ننظر إلى العولمة الثقافية بصيغة الجمع؛ أي باعتبارها عولمات ثقافية”[5]

العالم اليوم يتحول إلى مجال ثقافي عام شبه موحد، إذ انهارت فيه مختلف الحدود الجغرافية، والثقافية… فالعالم اليوم يعرف نوعا من التحول الثقافي من جهة الأكل والمشرب والملبس… فالعولمة الثقافية خلقت اليوم نوع كبير من التقارب، بين مختلف المجتمعات عبر العالم، فزيارتك مثلا لمختلف العواصم عبر العالم، ستجدها تتشابه في العديد من المميزات… وستجد أمامك الكثير من المنتوجات ذات الماركة العالمية…والحقيقة أن العولمة اليوم قد ساهمت بشكل كبير في خلق سياق نموذج ثقافي عالمي متقارب. في حقيقة الأمر العالم اليوم بشكل عالم، على وعي بالتمييز ما بين المحلي والكوني الذي يشترك فيه مختلف العولمات عبر العالم.

  • العولمة والثقافات المتحركة

يظهر تاريخ العولمة بأنه تاريخ جديد ومعاصر، ولا علاقة له بما هو قديم، ولكن بالنظر إلى التاريخ نجد العولة سابقة على الزمن والعصر الذي نحن فيه، فإذ كانت العولمة تدور في سياق تأثير وتأثر مختلف الثقافات بعضها ببعض، وتدور في سياق انتقال مختلف الأفكار والتصورات من مجال جغرافي إلى مجال جغرافي آخر، فالعولمة من هذا المنظور فهي حاضرة منذ القدم، صحيح بأن الحضور حضور مختلف ومفارق، وله أوجه متعددة ومتنوعة، فهناك “تَجلِّيات للعولمة أو إسهامات فيها في المرحلة ما قبل الحديثة، وهي تتضمن الهجرات الإنسانية الباكرة. وظهور الأديان العالمية. والأنظمة الإمبريالية الأولى. وتطور شبكات التجارة بين المناطق المختلفة… كل هذه العوامل الكبيرة في التاريخ الإنساني العام لهذه الأنشطة الإنسانية، كان لها دور كبير في تأمين مختلف المواجهات الثقافية، لكي يتم تبادُل واستيعاب الأفكار والمعتقدات والتطورات… التي بالإمكان اعتبارها جزءًا من تاريخ العولمة الثقافية.[6]

فهم العولمة الثقافية “ينبني على طبيعة الوضوح، بخصوص ما يعنيه مفهوم الثقافة، وليس الهدف هو تقديم طرح تعريفي جامع مانع عن طبيعة الثقافة، وإنما الوعي بطبيعة التحولات التي لحقت بالثقافة في الظروف المعاصرة، نتيجة الحضور البارز للعولمة نتيجة الاتصال والمواصلات والأنترنت ومختلف مجالات التكنولوجيا، فكل هذه التحولات لها تأثير مباشر وغير مباشر على الثقافة بمفهومها الذي يمس المجتمعات ومختلف تصوراتها للعالم ومختلف أنظمتها في المأكل والملبس… فالثقافة اليوم لا يمكن عزلها عن العولمة وحضورها في العالم، وحضور الثقافي عبر العالم يجعلنا أمام تعدد عولماتي عبر العالم. وهذا أمر أمام وجه خاص على فكرة التدفقات الثقافية والخروج من الإقليمية ثقافيًّا، كما يجعلنا أمام ظاهرة عبور الحدود القومية وما يعنيه ذلك بالنسبة لتطور العلاقة بين الثقافي والمكاني في المرحلة المعاصرة.[7]

التعدد العولماتي عبر العالم، ينبني على التعدد الثقافي، الذي يتغدى من قيمة التواصل، والتواصل هنا ليس من باب القيمة، بل من باب كل ما هو تطبيقي وعملي في مجال الاعلام والتجارة والسفر والتواصل بين الأفراد والمجتمعات…وف ما توفره مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها عبر العالم، وهذا الوضع يمكن وصفه بحالة الثقافات المتحركة، في اتجاه بعضها البعض الآخر.

  • التواصل الكوني

يستند التواصل العالمي اليوم أكثر مما مضى على مجموعة كبيرة من التكنولوجيات والوسائط، وكل وسائل في خدمة العولمة الثقافية كما تقدم، ولكن اللافت للنظر هو تأثير ذلك على الأفراد وتَبادُل مختلف المعلومات والصور… بين الطرفين شرقا وغربا، وهذه مسألة في حاجة لكثير من الدراسة والتحليل، إذ لا ينبغي الاكتفاء بالقول كما هو معروف عند الكثير من المعلقين في مجال الإعلام وغيره قولهم، إن تكنولوجيات المعلومات والاتصال والميديا هي مُحرِّك العولمة المعاصرة، فهذه مسألة أصبحت واضحة، ولكن كيف يحدث ذلك اجتماعيا، وما هي تأثيرات ذلك على الثقافة عبر العالم، في الجدل القائم بين المحلي والكوني؟ وما هي طبيعة التطورات والآفاق المستقبلية التي يعرفها العالم فيما هو قادم؟ هل نحن مثلا مقبلين على لغة وثقافة موحدة عالمية نتيجة ما ينتج عن لغة التواصل عبر الأنترنت؟ هل سيظهر مجتمع شَبكي؟[8]

  • المواطنة العالمية

هذا التطور المذهل يدفع في الاتجاه نحو القول باعتماد نظام “كوزموبوليتانية” أي المواطنة العالمية، وهي الأيديولوجية التي تقول إن جميع البشر ينتمون إلى مجتمع واحد، على أساس الأخلاق المشتركة، ويسمى الشخص الذي يلتزم بفكرة المواطنة العالمية في أي شكل من أشكالها، كوسموبوليتاني أو مواطن عالمي، وتقترح المواطنة العالمية في الأصل، إنشاء بوليس كوزمو أو «حكومة عالمية» لجميع الناس عبر العالم.

هناك جوانب من العولمة تدعم أو تُسهِّل التواصل الثقافي التفاعلي، الأمر الذي يمكن أن ينتج عنه “وجهات نظر كوزموبوليتانية؛ لأنه يزيد من احتمالات تَطوُّر الفهم أو حتى التَّقمُّص إلى أكثر من مُجرَّد الإلمام بثقافات ومجتمعات وتقاليد مختلفة؛ فالتحرُّكات السكانية المعاصرة، كما رأينا، تجعل كثيرًا من المجتمعات تُصبِح، تدريجيًّا، متعددة الثقافة، مُتعدِّدة الأعراق، كما تجعل كثيرًا مِمَّن يعيشون في هذه المجتمعات يسفيدون من الفرصة لممارَسة ثقافات مختلفة تتراوح بين تجربة أصناف الطعام الجديدة إلى المُعتقَدات الدينية ، كذلك هناك آخَرون منهمِكون في عمليات تهجين ثقافي يمزجون ثقافات مختلفة، وخاصة في مجالات الموسيقى والرَّقص والأزياء والمسرح، بينما التَّوجُّه نحو الدولانية أو العولمة، اعتمادًا على ما إذا كان المرء يصدق منظور المتشككين أو المُغالِين في العولمة، دليل على أن التجارة وأنشطتها سوف تتسع إلى ما هو أبعد من الحدود القومية، وهو تَطوُّر تساعد عليه أنظمة النَّقل العالمي.”[9]

 

قائمة المراجع:

[2]  دنيال كوهين، الإنسان الرقمي والحضارة القادمة، ترجمة علي يوسف أسعد، دار صفحة، السعودية، الطبعة، 1، 2022م. ص.24

[3]  نفسه، ص.25

[4]  نفسه، ص.30

[5]  بول هوبر، نحو فهم للعولمة الثقافية، ترجمة: طلعت الشايب مؤسسة هنداوي عام 2024م، ص. 14

[6]  نفسه، ص. 28

[7]  نفسه، ص.53 (بتصرف)

[8]  نفسه، ص.79

[9]  نفسه، ص. 191

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete