تكوين

المتتبع للحراك الفكري والثقافي في الوطن العربي طيلة القرن العشرين، وبالأخص النصف الأخير منه، سيجده غنيا وثريا من جهة الطروحات الفكرية والثقافية والمؤلفات والكتب التي غطت رفوف المكتبات عبر أرجاء العالم، ونحن هنا نتحدث عن الجانب المرتبط بالكيف وليس الجانب الكمي لما نشر وتم تداوله، الكيف يتعلق بظهور مفكرين وأدباء كبار ذووا نزعة إنسانية وتفكير عالمي، من قبيل: أدوارد سعيد، عبد الله العروي، محمد أركون، هشام جعيط، عبد الرحمن بدوي، عبد الرحمن منيف، واللائحة طويلة فهؤلاء وغيرهم كثير، لم يفكروا في ذواتهم أو في مشكلات شعوبهم العربية والإسلامية فقط، بل تميزت أفكارهم بالكونية والعالمية.

والكيف هنا جاء نتيجة تحديات واقعية واجتماعية وثقافية ألمت بالعالم العربي والإسلامي، وجلها يرتبط بسؤال النهضة والمواطنة والحرية والتنمية… وترتيب العلاقة بشكل متزن مع الماضي والحاضر والآخر المتمثل في الحضارة الغربية، وكلها قضايا وإشكالات تتجمع في دائرة بناء الدولة الحديثة على أسس تنسجم مع الهوية والثقافة العربية والإسلامية ومع مقتضيات الحضارة الحديثة بشكل يحفظ للذات وللدولة والجماعة والأمة حريتها وكينونتها المستقلة عن الآخر، فالتحرر والاستقلال في جزء كبير منه يبدأ من الفكر الحر، وهو الأمر الذي تنبه إليه نخبة المثقفين في النصف الأخير من القرن العشرين، فليس من المعقول أن نكون تراثيين وماضويين ونهجر ثقافة العصر، كما أنه ليس من المعقول أن نذوب في ثقافة الآخر، فلنا ما يميزنا عنه ولنا خصوصياتنا الحضارية والثقافية.

وفق هذه الخلقية ووفق تخصصات متعددة قرأ المثقفين العرب الفكر الإنساني سواء ذلك المتصل بالتراث الإسلامي أو الفكر الأربي المتمثل في الثقافة الغربية بالأخص فلسفة الأنوار وما تلاها من طروحات وتصورات فلسفية وفكرية، وقد غطى الاشتغال على التراث مساحة واسعة من كتابات واهتمامات هؤلاء وغيرهم. ومن المعلوم أن المفكرين العرب قد تباينت منهجياتهم وآلياتهم في التعاطي مع قراءة الموروث الثقافي الإسلامي إلى درجة التعارض بين وجهات نظرهم ومقارباتهم العلمية التي تحولت إلى مشاريع فكرية كبيرة عند البعض منهم، وهذا يرجع لطبيعة الموقف المنهجي الذي أتخذه كل مشروع من التراث وإلى المنطلقات الفكرية لكل مشروع وفقا للسؤال المركب: هل ننفصل عن التراث أم نتصل به أم الأمرين معا؟ وما القضايا التراثية التي يمكن أن نستعيدها في الوقت الحاضر؟ وما هي القضايا التراثية التي ينبغي أن نقطع معها؟  فالإجابة بالفصل أو الوصل يلزمها سؤال كيفية ذلك الوصل أو الفصل.

هذا الإشكال المعقد جعل المفكرين العرب مختلفين أحيانا من داخل التراث نفسه، فما يراه البعض صالحا من التراث ينفيه البعض الآخر. والمنهج الذي يرى البعض نجاعته في فهم التراث وقراءته يرى فيه البعض غير ذلك. وهذا مكن من تشكل مشاريع فكرية على نقض التي سبقتها. شيء واحد يمكن أن ندعي أن مشاريع الفكر العربي الإسلامي المعاصر تتفق حوله بشكل عام هو ضرورة العمل على تفكيك وتحليل موروثنا الإسلامي. طبعا لا نستحضر هنا القراءات التراثية التي تكرر التراث بشكل جامد.

لقد حاول مجموعة من المثقفين ذوي النزعة الماركسية توظيف آليات الفكر الماركسي في قراءة الموروث الثقافي الإسلامي وعلى رأس هؤلاء نجد المفكر اللبناني المعروف حسين مروة ( 1908-1987م ) ومن أهم كتبه “تراثنا كيف نعرفه” وكتاب “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” وهو يطمح من خلال هذا الكتاب ليكون أول مشروع متكامل لقراءة التراث بوصفه في إطاره الكلي من أجل هدف نضالي وعملي معلن هو دفع التوجهات الثورية لمحتوى حركة التحرر العربي في لحظتها الحاضرة[2].

إن حسين مرة وهو يفكك التراث سعى جاهدا ليجلب كل ما هو ثوري منه أو يصف ما هو يتماشى مع طرحه الأيدلوجي بوصف الثورية ليثبت بأن النزعة المادية – بالقول بأسبقية العالم المادي على الوعي – متأصلة في التراث وممثلة فيما هو علمي وعقلاني، ومن الراجح فالحسين مروة وهو يقوم بقراءته للتراث يرى في الفكر الماركسي النموذج التركيبي البديل. وقد انتقد محمد عابد الجابري هذه القراءة ووصفها بالقراءة السلفية الماركسية باعتمادها مقياس الصراع الطبقي في فهمها للتراث وعمل على تجازها من خلال كل ما كتب. ونفس الشيء يصدق على القراءة ذات النزعة اللبرالية التي تنظر للتراث من خلال الحاضر الأوربي.

كان هم محمد عابد الجابري التقرير في سؤال كيف يمكن أن نقرأ التراث قراءة يحضر فيها الفصل والوصل معا؟ الفصل بقراءة التراث من خلال محيطه الخاص الذي ظهر وتبلور فيه، والوصل بأن نجعل المقروء من التراث معاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية، بنقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ قصد توظيفه في إغناء ذاته وبنائها[3]

لقد حاول من خلال ثلاثية نقد العقل العربي، أن يقدم قراءة علمية للتراث تجعل منه تراثا مساهما في بناء ذات الإنسان العربي بشكل خاص والمسلم بشكل عام ومن بين ما خلص له الجابري في قراءته لبنية العقل العربي كونه يتشكل من ثلاث نظم معرفية أولها النظام المعرفي المرتبط “بالبيان” المتشكل في علاقته بعلوم اللغة وعلم الأصول… والنظام المعرفي الثاني المرتبط “بالعرفان” المتشكل في علاقته بعلوم التصوف وكل ما تحكمه النزعة الباطنية… والنظام المعرفي الثالث المرتبط “بالبرهان” المشكل في علوم الفلسفة وكل العلوم العقلية التي تأخذ بالبرهان. فهذا التقسيم في مجمله لا يخرج عن سياق عملية التفكيك قولا بثلاثية العقل العربي” البيان والعرفان والبرهان” إذ هذه البنيات ربما يصعب الجمع بينها. فبعد تفكيك العقل العربي إلى هذه الثلاثية يعترضنا سؤال التركيب، فما هو الكلي الذي يتشكل منه العقل العربي مع استحضار هذه الثلاثية العقلية أم نتحير لبنية على حساب الأخرى.

وقد كان الجابري متحيزا إلى الجانب البرهاني ولهذا أعلى من شأن ابن رشد الذي يعد في نظره ذو نزعة برهانية، لقد بذل الجابري جهده ليجلب من التراث كل ما هو عقلاني ولكن ما هو عقلاني واتصف بالإبداع والخلق في نظره سيكون غير ذلك عند ناقديه. إذ نستحضر هنا ما ذهب له طه عبد الرحمن في إعلائه من شأن أبي حامد الغزالي ولا يرى في ابن رشد إلا مقلدا لأرسطو والتقليد بطبعه يتعارض مع العقلانية والإبداع، وقد ذهب طه إلى درجة القول ودعوته بأن نعرض عن الرشدية وبأن لا نكون رشديين، وبالنظر إلى طبيعة الإختلاف المنهجي بين طه والجابري سنرد جزء من اختلافهم إلى إختلافات تراثية بين الغزالي وابن رشد. لقد بشر طه بمشروع علمي ينقد التراث من القراءة التجزيئية ومن القراءة التي تعنى بالاقتصار على نقد مضامين التراث من دون الوسائل التي عملت في توليد هذه المضامين وتشكيل صورها[4] ، ويمكن أن نعنون مشروعه بعنوان أحد أهم كتبه تجديد المنهج في تقويم التراث فهو يهدف في الجزء الكبير من مشروعه على بناء القراءة التكاملية للتراث والخروج من الفهم التجزيئي. وقد سلط طه في مشروعه آلية النقد على مشروع محمد عابد الجابري وغيره.

نستحضر هنا الجهد الذي بذله محمد أركون في تفكيك تاريخ الفكر الإسلامي – بدل العقل العربي – فمن بين ما سلط الضوء عليه هو الحفر المعرفي عن الظروف التاريخية والسياسية التي كانت من وراء التقعيد المنهجي للفكر الإسلامي منذ أن وضعه الشافعي في فهم النص القرآني مذكرا في سياقات عدة أن ما قام به الشافعي من دور منهجي تحول من بعده إلى طوق حديدي لا يسمح بالفكر الحر[5] . وقد دعى أركون في أكثر من موضع إلى القراءة المنهجية التزامنية للقرآن بقراءة النص وفقا للمعجم اللغوي في الزمن الذي ظهر فيه. بدل قراءته من خلال المعجم اللغوي للزمن الذي نحن فيه مبينا دور اللسانيات في هذا الأمر[6]. فعملية التفكيك حاضرة بقوة في مجمل مشاريع الفكر العربي. وهذا أمر طبيعي لأن التفكيك آلية من آليات التفكير والفهم والمراجعة، وهو مرحلة مهمة من أجل إعادة البناء والتركيب، ولا شك أن مجمل المشاريع الفكرية في العالم الإسلامي يحضر فيها التفكيك بغاية بناء فهم جديد، وليس بغاية الهدم وما شابه.

فحن هنا لا نقلل من عملية التفكيك التي قام بها رواد مشاريع الفكر العربي وليس بالضرورة الذين جاء الحديث على ذكرهم إذ هناك عدة أسماء ووجوه قامت بهذا الدور النبيل الذي قام به النص القرآني في علاقته بالنصوص التي سبقته إذ ينطوي القرآن على تفكيكه لتلك النصوص وتقديم النموذج التركيبي الكلي حولها من داخله، أي كان مصدقا ومهيمنا عليها بمعنى الاستيعاب المنهجي والتجاوز لما هو أفضل. وليس بالضرورة في نظرنا أن نبقى حبيس سؤال كيف نتعامل مع التراث؟ إذ لا يمكن بحال أن نحسم الأمر في اتجاه معين، كما أنه ليس من المعقول أن ننتصر لاتجاه في التراث على حساب آخر سواء باسم العقلانية أو غيرها، فالتراث وما فيه قد خلى بخلو من صنعوه وعملوا به، وليس من المعقول أن نطمع في عملهم، وهذا ما نبه له القرآن “ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)” سورة البقرة

ولكن يعترضنا إشكال لم يقرر فيه بشكل كبير وهو إذا كان التراث قد تشكل إلى جانب النص المنزل “الوحي” ولولا نص القرآن لما تحدثنا عن شيء اسمه الحضارة الاسلامية أو التراث الإسلامي. فبعد عملية التفكيك هذه والتي لا بد منها، لا يتبقى بعدها، إلا النص المؤسس “القرآن” الذي ينبغي أن ندخل عليه وننسج معه علاقة تليق بالزمن الذي نحن فيه حينها لا ينفعنا سؤال التفكيك بقدر ما نكون في حاجة ماسة لسؤال التركيب وسؤال التركيب هذا ينطوي على بذل الجهد في الإحاطة بالأبعاد الكلية للنص القرآني في علاقته بالكون والإنسان والزمن والغيب. وهذا يتطلب بسط مناهج تنسجم مع الزمن الذي نحن فيه في فهم وقراءة “النص المؤسس”

إن النص القرآني ينطوي على أبعاد تركيبية في نظرته للإنسان وفي نظرته للوجود وللكون … إذ من الضروري اليوم أن نطرح سؤال التركيب ونحن نمارس سؤال التفكيك وإلا ما هي الفائدة من التفكيك. ألا ننتقد لنبني ونؤسس ونُقوّم! وقد سبق للمفكر الباكستاني فضل الرحمن (-1982م) أن تساءل قائلا: لماذا لم نستطع في الفضاء الإسلامي أن ننتج وأن نبلور شيئا اسمه الكوسومولوجيا، أي الرؤية الكلية التي تصحب معها البعد التركيبي[7]  والتي قد يطلق عليها البعض المنظومة الرؤيوية الفلسفية في الإسلام.

التساؤل الذي طرحه فضل الرحمن يجد الإجابة في جزء منه في مشروع المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد، إذ حاول الرجل أن يقدم الجواب التركيبي لسؤال محوري يلتصق بالوجود الإنساني وهو سؤال جدل الإنسان والطبيعة وقد حاول أن يستوحي الجواب الكلي لهذا السؤال من داخل النص القرآني. كما يجد بعض من الإجابة علية كذلك في كتب المفكر الياباني توشيهيكو إيزيتسو وغيرهم.

 

 

[1]  كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

[2]  السيد ولد باه، أعلام الفكر العربي، الشبكة العربية للنشر،ط.1، 2010 ،ص. 41

[3]  محمد عابد الجابري، نحن والتراث قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي،ط .6، المركز الثقافي العربي، 1996

[4]  طه عبدالرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط.2، ص.23

[5]  التشكيل البشري للإسلام، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، إصدار، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، ط.1، 2013.،ص.77

[6]  نفسه،ص.69

[7]  فضل الرحمن، الإسلام وضرورة التحديث  نحو إحداث تغيير في التقاليد الاجتماعية، ترجمة: إبراهيم العريس، دار الساقي،  بتعاون مع مؤسسة تعزيز الديمقراطية والتغيير السياسي في الشرق الأوسط ، ط. الأولى 1993

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete