المأزق الأصولي

(1)

تتصف الأصولية، بكونها تصور وموقف يختزل النظر الى الحاضر ومختلف قضاياه في العودة إلى أصل معين، غالبا ما يرتبط بتجربة تاريخية، إذ تتم العودة إلى ذلك الأصل واستحضاره بشكل مغلق لا يقبل بالتفكير والنظر والمراجعة والتأويل، وفق ما يقتضيه الواقع المعاش، فالأصولية إذن تجعل الأصل فوق الواقع وفوق التفكير والاجتهاد… وأهم ما تتفرد به الأصولية في نسختها المتطرفة؛ هو اللجوء إلى العنف والإرهاب في سبيل فرض تصوراتها، التي ترى فيها بأنها هي الحقيقة الوحيدة دون غيرها، وهو تصور في نظرها غير قابل للنقاش والمراجعة وإبداء الرأي. فالأصولية وفق هذه الرؤية لا هوية لها، فقد تكون أصولية دينية: يهودية أو مسيحية أو إسلامية…وقد تكون أصولية سياسية وقد تكون أصولية علمانية.

فيما يخص الأصولية الدينية في العالم الإسلامي فجذورها بشكل عام، ارتبطت بالإسلام السياسي بدءا من 1928م، وطبيعة التحولات والتطورات التي رافقت هذا التيار عبر العالم الإسلامي، مرورا بلحظة جماعة التكفير والهجرة 1965م في مصر، وما تبعها من تفرعات وتحولات. وصراع مختلف التنظيمات المحسوبة على الإسلام السياسي، مع الدول والأنظمة الحاكمة، سواء كانت جماعات تشتغل في العلن أو جماعات تتبنى العمل السري.

فالمأزق الأول الذي جعل من الأصولية نموذجا سار تبنيه من لدن الكثير من الشباب، هو حدث اعدام سيد قطب 1966م. إذ خلق الحدث حالة وجدانية تحولت معها أفكار سيد قطب الى مرجعية لكثير من الأصوليات الدينية؛ التي اختطفت مفهوم الإسلام الذي ينبني على قيمة الرحمة والتعددية الدينية والتسامح والاجتهاد… واختزله في مفهوم الحاكمية، وهي فكرة قال بها المودودي قبل سيد قطب، مفادها، إفراد الله سبحانه وتعالى بالحكم في كل شي، وتطبيق شريعته على كافة مناهج الحياة، والشريعة هنا هي مجمل الاحكام والاجتهادات الواردة في الفقه الاسلامي، وبهذا فالشريعة فوق التاريخ والمجتمع، بالرغم من أن التاريخ له دور محوري في تشكل الشريعة. الأصولية ترى بأن كل من خالف الشريعة من المسلمين وغير المسلمين في بوتقة واحدة، وهي بوتقة المجتمع الجاهلي الذي يجب إعلان الجهاد المسلح ضده.

هذا المأزق مهد الطريق نحو المأزق الثاني المتمثل في موقف تبني الحرب والجهاد في أفغانستان إلى جانب أمريكا ضد الاتحاد السوفياتي سابقا. ومن بين الذين تأثروا بحدث سيد قطب وأفكاره المتطرفة، أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة الأسبق. ووفق شهادات أحد الذين التحقوا بالقاعدة،[2] وهي شهادات أدلى بها سنة 2022م، أن عبد الله عزام (-1989م)[3] يرى في اللحظة الأفغانية فرصة تاريخية لمختلف الأنظمة الأصولية في العالم الإسلامي، لتدريب شبابها على حمل السلاح بعد العودة إلى أوطانهم.

(2)

تميزت العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة في العالم العربي، إذا ساد نوع من الترقب، فعلى المستوى السياسي في بعض من البلدان كان لسان الحال هو ماذا بعد؟ هل هو مسار توريث السلطة؟ أما على المستوى الثقافي فقد اكتملت أو أشرفت على الاكتمال مختلف المشاريع الفكرية، وبشهادة البعض من أصحابها فقد كانت هزيمة العرب في حرب 1967م، سببا من بين الأسباب التي دعت للتفكير في أزمة العقل العربي والإسلامي، إذا اتضح منهجيا ومعرفيا ضرورة معرفة الذات في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وكذلك معرفة الآخر. وقد شكلت مختلف هذه المشاريع التي نحن في غنى عن ذكر أسماء أصحابها، مجالا واسعا للنقاش والجدال الثقافي والمعرفي في التفكير في حل مختلف الإشكالات الفكرية والثقافية والاجتماعية في العالم العربي. وقد تتباين وجهات النظر بين مختلف المهتمين والمختصين في نظرتهم وتقييمهم لمختلف الطروحات والأفكار التي يرتبط جزء منها بمختلف تلك المشاريع الفكرية. وقد ورثت العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين مختلف التناقضات الاجتماعية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والأيديولوجي، من بينها: الإسلاميين وأحلامهم بالوصول الى السلطة، والخلايا المتطرفة النائمة في صراعها مع الأنظمة الحاكمة في أكثر من بلد، والنخب اليسارية التي لم يعد لديها ثقة في الفكرة الاشتراكية. والقوميين العرب بمختلف أطيافهم…وقد سبق لعبد الله العروي أن انتقد الإيديولوجيا العربية في بعدها الثلاثي كل من :  الشيخ، و الزعيم السياسي، و الداعية إلى التقنية، إذ يفترض “التيار الأول ـالشيخ- أن أم المشاكل في المجتمع العربي الحديث تتعلق بالعقيدة الدينية، و الثاني ـالزعيم السياسي- بالتنظيم السياسي و الثالث ـالداعية إلى التقنية- بالنشاط العلمي و الصناعي” [4]، “فالشيخ و الزعيم السياسي و داعية التقنية لحظات ثلاث مر بها تباعا وعي العرب و هو يحاول  طيلة القرن العشرين إدراك هويته و هوية الغرب.[5] الأمر المغيب عند هذا الثلاثي هو سؤال النقد المزدوج للذات وللآخر. يجد الشيخ في التراث ضالته، ويجد الزعيم السياسي ذاته في تجميع الناس والأوفياء لخط التنظيم بشتى الطرق والوسائل، أما الداعية إلى التقنية، فهو مشغول بسؤال التصنيع، فغالبا لا يولي اهتماما للفكر وللنقد.

(3)

كانت لحظة الربيع العربي 17 دجنبر 2010م، لحظة مفاجأة ولم يُفكر فيها؛ سواء على مستوى النخبة أو على مستوى التنظيمات السياسية والجماهيرية، إنها لحظة دون تفكير حضرت فيها العواطف و مختلف الانفعالات ورد الفعل… أكثر ما حضر فيها العقل والحرص على المصلحة العامة ومصلحة الوطن، وقد تحولت بشكل سريع إلى خريف ونار حرقت كل من اقترب منها، ظهر المفكرين العرب في الأشهر الأولى للحراك العربي كأنهم لا صلة لهم بالواقع، وقد انكمش الاهتمام بأهمية الفكر والثقافة والنقد لصالح تجييش العواطف من أجل الاستقطاب ورفع مختلف الشعارات. من نتائج الحراك العربي أنه جاء بالإسلام الساسي الى السلطة، وقد صاحب لحظة الإسلاميين اتساع رقة التطرف والأصولية وإعلان الدولة الدينية عن ذاتها في العراق والشام، (2014م/2017م). فداعش وقد ارتكزت في قلب العالم الإسلامي. ما هي إلا وريثة تنظيم القاعدة التي تشكلت وفق ظروف دولية وإقليمية 1990م، بأفغانستان بهدف إبعاد الإتحاد السوفياتي. القاعدة متهمة بتورطها في أحداث 11 سبتمبر 2001م في أمريكا. فالأصولية الدينية المتطرفة هي إرث لتناقضات دولية وإقليمية أواخر القرن العشرين، بدءا من نقطة الحرب السوفياتية الأفغانية.

صدر سنة 2010م عن دار الساقي كتاب للمفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد، تحت عنوان “جذور المأزق الأصولي” وهو كتاب يجمع مجموعة مقالة له بدءا من موقفه من الحرب في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي حينها، التي احتلت أفغانستان 25 ديسمبر 1979م لدعم الحكومة الأفغانية الصديقة للاتحاد السوفيتي، والتي كانت تعاني من هجمات الثوار المعارضين. موقف أبو القاسم حاج حمد صرح به شهر مايو 1980م، ومفاده التأكيد على الخروج من المأزق (الأفغاني – الأمريكي) والتفاوض مع الإتحاد السوفياتي، وهو يبرر موقفه بأن أمريكا ستستثمر ما صنعته في أفغانستان لإيجاد تحالف عالمي ضد الاتحاد السوفياتي، يخدم أهدافها بدرجة أولى على حساب دم المسلمين والعرب.[6] لا شك أن هناك مواقف شبيهة بهذا الموقف أو مماثلة له، ولكن الاتجاه الغالب حينها، كان مع فكرة  ذهاب الكثير من الشباب من مختلف بقاع العالم العربي والإسلامي حينها الى أفغانستان، بهدف الحرب والجهاد في سبيل الله وكان الكثير منهم من أبناء التنظيمات الإسلامية. وقد انسحب الاتحاد السوفيتي بشكل رسمي من أفغانستان في 15 فبراير 1989م. ووفق هذا السياق تأسس في أفغانستان تنظيم القاعدة وهو تنظيم جهادي متعدد الجنسيات، أُسِّس خلال الجهاد الأفغاني في الفترة بين أغسطس 1988م وأواخر 1989م / أوائل 1990م، وقد سُميت بهذا الاسم لأنها بدأت من قاعدة بيانات بأسماء المجاهدين في أفغانستان وجنسياتهم والتدريبات التي تلقوها، ومن أهداف التنظيم الدعوة إلى الجهاد الدولي. وهذا هو المأزق الذي اتسع على طول جغرافية العالم العربي بعودة المجاهدين الى بلدانهم بعد لحظة الجهاد الأفغاني وقد شكلوا خميرة الأصولية المتشددة في العالم العربي، وسؤال العودة لم يتم التفكير فيه قبل الذهاب من لدن مختلف المتدخلين.

هاجمت القاعدة أهدافًا عسكرية ومدنية في مختلف الدول خاصة المرتبط منها بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، أبرزها أنها متهمة في هجمات 11 سبتمبر 2001م، وقد شكل العائدون من أفغانستان خميرة للأصولية المتطرفة بشكل مباشر وغير مباشر. وهي التي انبعثت من جديد باسم داعش، فالأصولية الدينية تستثمر جرح الاستعمار وتقسم العالم بين عدوين عدو قريب وعدو بعيد، فالعدو البعيد يتجسد في أمريكا والدول الغربية، أما العدو القريب فيتجسد في مختلف الدول الإسلامية ومجتمعاتها التي لا تستعدي الغرب، ففي الوقت التي توجهت القاعدة لتشكيل خطر على مصالح الدولة الأمريكية وحلفائها، توجهت داعش نحو العدو القريب.

تميز جزء كبير من الخطاب السياسي والثقافي والديني طيلة العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بالعمل على الحد من الأصولية وانتشارها في العالم العربي. وذلك بالعمل على تكثيف الجهود من لدن مختلف الدول والمنظمات والهيئات الدولية، ومختلف الفاعلين بما فيهم المثقفين العرب، وقد عقدت الكثير من المؤتمرات والمحاضرات وظهرت الكثير من الأبحاث والكتب والدراسات التي تتبع الأسباب الكامنة من وراء الأصولية المتطرفة باسم الدين.  فحل مشكلة التطرف الديني يرتبط في العناية بتجديد الخطاب الديني بقراءة النص الديني وتأويلها وفق مقاصده العليا وفق مقصد الرحمة والأخوة بين الناس.

من المعروف أن هناك جهود دولية ما بين الشرق والغرب في الحد من التطرف، والقضاء على تنظيم داعش، لكن ما قامت به إسرائيل في غزة من قتل وتشريد وهدم وخراب وما لا يوصف من عمليات الحرب والقصف المدمر، بعد عمليّة طُوفان الأقصى7 أكتوبر 2023م. أمام مرأى العالم بمساندة مباشرة وغير مباشر من مختلف الدول الغربية، جعلت صورة مصداقية الغرب تهتز من جديد من جهة المبادئ التي يُسوقها من قبيل حقوق الانسان، والحد من التسلح، والحد من الحروب، والعمل من أجل السلام في الشرق الأوسط… الغرب لا يحرك ساكنا اتجاه أصولية إسرائيل بل هي أصولية مبررة من وجهة نظره، حفاظا على مصالحه، وهي أكبر أصولية مدعومة دوليا من لدن أمريكا وحلفائها.

العالم الإسلامي لم يخرج من فخ المأزق الأصولي بعد، وهو مرشح ليعيش مأزق أخر، بعد جرائم إسرائيل في غزة. فالخروج منها لا يتوقف عند السياسات الأمنية لوحدها، بل يتطلب سياسات واضحة لإعادة إدماج وتحويل المتطرفين من دائرة التطرف والتشدد إلى دائرة الإيمان بأخلاقيات الأمن والسلم والسلام، وذلك بفتح الحوار معهم وهم من داخل المعتقلات أو خارجها، كما يتطلب سياسات جادة تعتني بسؤال التنوير والتجديد الثقافي في العالم الإسلامي، وذلك بدعم مختلف المبادرات الجادة التي تنشر الوعي والمعرفة بمختلف أصنافها والعناية بالتنشئة الاجتماعية وذلك بالتربية على المواطنة وحب الخير للناس جميعا. ودعم نشر الكتاب ومختلف المشاريع الثقافية. وباختصار الخروج من المأزق الأصولي يقتضي العناية اللازمة بالثقافة الواعية والنقدية كمدخل لا غنى عنه في بناء الإنسان.

 

المواجع:

[1]  كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2]  الدقيقة:   41:00                         https://www.youtube.com/watch?v=X9hyv5AsGZ4

[3]  هو شخصية إخوانية سلفية من قادة  المحاربين العرب في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، يوصف بأنه رائد الجهاد الأفغاني ومن أعلام جماعة الإخوان المسلمين.

[4] عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، ط.2، 1999م، ص. 39

[5] نفسه، ص. 48 (بتصرف)

[6] أبو القاسم حاج حمد، جذور المأزق الأصولي، دار الساقي، ط.1، 2010م، ص. 25-26

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete