المتاجرة بالخوف في النزعات الأصولية: كيف يفقِد الإنسان سيطرته على المصير؟

تكوين

ما وراء العنف المقدس

قبل أن نتحدث عن مبدأ التنفير والمتاجرة بالخوف، لا بد من أن نستحضر بداية أهمية الإحاطة والتنبه للبنيات الداخلية والخارجية لما يسمى بالأصوليات، هذه البنيات التي تمتح من قاموس دعائي وتمويهي وعقائدي، يخرج بها من حدود الجماعات الهوياتية التي تعبر عن الغنى والاختلاف والتنوع، إلى جماعات بمقاييس محددة، تتوسل بكل الإمكانات والوسائل للتعبير عن هويتها وخصوصيتها وعنفها المقدس. والأخطر في كل هذه البنيات ليس هو موضوعاتها أو تعبيراتها المتنوعة، ولكن هو العنف الكامن والثاوي ضمن سياق من المعارف والعلوم والنصوص، والمختبئ وراء تقية تنتظر دوما لحظة الانقضاض على الضحية أو الضحايا المفترضين. وحينما نتحدث عن الضحايا فنحن لا نقصد بالضرورة أشخاصا ماديين، يختلفون بشكل جزئي أو كلي مع هذه الأصوليات، بل قد تكون الضحية فكرة من الأفكار، أو علما من العلوم، أو معرفة من المعارف. لهذا فالسياق التي تتعامل فيه وعلى أساسه الأصوليات دوما يمتح من قاموس حربي وعسكري يهدف إلى هدر الكيان الإنساني، ويجعله في حالة نفير وتأهب من عدو مفترض يتآمر ويتربص. هذه الاستراتيجية يمكن أن نطلق عليها مبدأ التنفير والمتاجرة بالخوف، لأن داخل هذا النسق المغلق يغيب العقل والتفكير، ويحضر الوجدان والمشاعر الهادفة إلى الحشد والتجميع الحربي، ضد ما تعتبره هذه الأصوليات والعصبيات خطرا يتهدد كيان الجماعة، ويحد من سيطرتها وهيمنتها على عقول مريديها ومتبعيها.

لهذا لا ضير أن نرى ونحن نقرأ التاريخ الإنساني كيف تعاملت الأصوليات مع المختلفين معها، إما بالنزوع إلى الاغتيال المادي وهذا تشهد عليه وقائع التاريخ ورواياته المتعددة، وإما بالاغتيال المعنوي، وذلك عبر التشكيك والتصنيف والإقصاء والتهميش، في محاولة لإبعاد المختلف خارج حدود الجماعة ومعتقداتها الجامعة. وهذا المعنى للاغتيال هو ما رصده هادي العلوي[1] في كتابه عن الاغتيال السياسي في الإسلام، حيث أن كلمة الاغتيال تعني إرادة الغول، أي الهلاك للآخر، وبهذا المعنى فالاغتيال يفيد القتل. كما أن هناك معنى يرادف كلمة الاغتيال وهو معنى الفتك. وأيا كانت المعاني التي يحملها لفظ الاغتيال في الثقافة العربية والإسلامية، فإن المعنى الحقيقي لها لا يعني بالضرورة أن ليس هناك أنواعا أخرى من الاغتيال الرمزي والمعنوي، وهذا ما نضيفه إلى ما سبق أن ذكره هادي العلوي في كتابه المرجعي. وحينما نؤكد على هذا المعنى الرمزي فإننا بذلك نريد أن نخلص إلى أن الأصوليات والعصبيات لا تنهج مسلكا واحدا، ولا طريقا مفردا في تعبيراتها الإقصائية والمنهجية، إذ أنها تتوسل أيضا من خلال مبدأ التنفير مبدأ التنفير والمتاجرة بالخوف- الذي نحن بصدد دراسته، والكشف عن بعض جوانب خطورته- الإقصاء الممنهج، وتنفير الناس من العدو المحتمل، بغية استجابته عن طريق التكرار وجعل غير المألوف مألوفا، والتضليل.

هذا ماذا يعني في ميزان الفكر والنظر؟

يعني بأن داخل الأصوليات الدينية والسياسية والفكرية ليس هناك متسع للديمقراطية والتعبير عن الرأي، والمحاججة بالتي هي أحسن. بل الأخطر من ذلك أن داخل هذا النسق المغلق يباح كل شيء، فلا مجال للأخلاق، حيث يتحول الكذب إلى ضرورة، والقتل إلى إرادة إلهية، والسرقة إلى غنيمة، والتحريض إلى نفير عام، كأننا أمام انقلاب مفاهيمي يغير كل الأشياء، ويعوضها بنقائضها دون خجل أو حياء. وقد أشارت الباحثة كارين أرمسترونج،[2] في بحثها الموسوم بالنزعات الأصولية عن بعض المشاهد التي توضح العقلية التي تدير بها الأصوليات حقائقها وتعاملاتها مع المختلفين معها. فالأصوليون المسيحيون مثلا يرفضون اكتشافات علم الأحياء والفيزياء التي تتعلق بأصل الحياة، لأنها من وجهة نظرهم تختلف والرؤية التي يتضمنها الكتاب المقدس وسفر التكوين تحديدا. أما الأصوليات الدينية اليهودية والإسلامية فنجدها تتعامل مع بعض الأفكار والقضايا الجديدة تعاملا إقصائيا وتهميشيا، من خلال التعامل مع قضايا الحريات الدينية والفكرية، وقضية المرأة وحقوق الإنسان عموما بنظرة تطبعها الدونية والتحقير. ولهذا تؤكد كارين بأن هذا النوع من التفكير، وهذه النزعات المتطرفة المتولدة عن نظرة استعلائية تنحي جانبا الكثير من المكتسبات الإنسانية التي ساهمت البشرية في تطويرها وتنميتها، عبر تقنيات خبيثة، ووسائل مغرضة، تبدأ بالتعنيف الرمزي، وصولا إلى الاستعمال المفرط للعنف المقدس.

لكن بداية لا بد من القول بأن لفظ أصولية يثير الكثير من الغموض في بعض الأحيان، خاصة في سياقاتنا الثقافية، فمثلا في الثقافة الإسلامية نجد لدينا أصول الفقه، وأصول العقيدة مما قد يثير ارتياب البعض فيخلط هذه المفاهيم فيما بينها، خاصة وأن المفاهيم أيضا لها بيئات تنشأ فيها وتنمو. موضوع الأصولية الذي نتحدث عنه في هذا السياق هو موضوع مختلف، فالأصولية أتت كترجمة لمصطلح، Fundamentalism ويقال بأنها لفظة إنجيلية مشتقة من لفظة أخرى هي ” Foundation ” بمعني أساس أو مؤسسة. كما أن البعض يرجع ظهور هذا المصطلح إلى رئيس تحرير مجلة أمريكية إسمها “” New york watchman examiner  في العام 1920م، حيث عرف الأصوليين بأنهم : ” أولئك الذين يناضلون بإخلاص من أجل الأصول “. وباختصار شديد الأصولية الدينية ( Fundamentalism ) هي مصطلح ظهر في حقل السياسي والديني والفكري ليؤشر على تيارات سياسية دينية متشددة «تمتلك نظرة متكاملة للحياة بكافةّ جوانبها: )السياسيةّ والاجتماعيةّ والاقتصاديةّ والثقافيةّ( وهي ناجمة عن قناعة متأصلِّة نابعة عن إيمان بفكرة أو منظومة قناعات، تكون في الغالب تصورا دينيا أو عقيدة دينيةّ “.

  • مبدأ التنفير والمتاجرة بالخوف. لماذا؟

لا تكتفي الأصوليات في مواجهتها ومجابهتها للفكر الآخر، أو الفكر المختلف بمجرد الوقوف على الحياد الإيجابي، أو المقارعة الفكرية والعقدية القائمة على الحجة والبرهان. بل تتوسل بتقنيات كثيرة أشار إليها مصطفى حجازي[3] ضمن سياق تعريفي بأساليب الهدر الإنساني الذي تتقنه الأصوليات والعصبيات والديكتاتوريات الفكرية والسياسية والدينية. ولعل أهم هذه التقنيات ما يسمى بمبدأ التنفير واستجابة التجنب، هذه التقنية مأخوذة أيضا عن تقنية الاقتران الشرطي المشهورة، وتعني أن الإنسان يمكن أن نردعه عن سلوكات أو أفعال أو اقوال عن طريق التنفير منها بطرق مختلفة، ولقد أجريت تجارب كثيرة على الحيوانات باستخدام تقنية الاقتران الشرطي وحققت نتائج مهمة، وتستخدم هذه المثيرات التنفيرية في الكثير من الأحيان للحد من ظواهر الإدمان أو بعض الأفعال الإجرامية، والهدف منها توليد حالة من الخوف المرتبطة بالمثير، بما يجعل الإنسان ينفر من التجربة نفسها. كما أنه يتاح لتجنب مساوئ هذا المثير العديد من المخارج التي تقلل الألم، أو تخفف منه بطرق مصممة بعناية كبيرة. ولعل أهم ما يمكن أن يستخلصه الإنسان من هذه التجارب هو أن تعلم الخوف هي حالة أكثر ثباتا وسهولة بالمقارنة مع أي تعلمات آخرى. كما أن تعلم المثير التنفيري المولد للخوف والقلق ينتشر بشكل سريع وكبير إذا ما قارناه بأنماط أخرى من المثيرات.

وإذا ما حاولنا أن نربط هذا الأمر المرتبط بالاقتران الشرطي بما تسلكه الأصوليات والعصبيات من أساليب التنفير، نرى بأنها تتعمد بشكل مقصود وعلني تنفير الناس من بعض السلوكات وأنماط التفكير وأساليب العمل التي ينهجها المختلف، وهذا الأمر يتم بشكل ممنهج عبر تقنيات ثلاث أشار إليها عالم الاجتماع غلاسنر وهي: التكرار، وجعل غير المألوف مألوفا، والتضليل. ولعل الباعث على مثل هذه السلوكيات المنفرة هو خلق حالة من اللاتوازن التي يشعر بها المريد إزاء الفكر المختلف، وجعله متشككا من بعض الأفكار، أو متهما أصحابها بالتآمر، أو الانكفاء على الموروث خوفا عليه من ضياع محتمل. هذه الحالة من عدم الاستقرار التي قد يواجهها الأصولي، أو تواجهها الجماعة تدخل الكل في حالة من الحمية الجاهلية اتجاه الآخر، فيفقد معها الإنسان توازنه وقدرته على السؤال أو التفكير، ليصير مرددا بلسان واحد كل ما تمليه الجماعة دون أن يسمح له بإعادة ترتيب تفكيره ليرى الأمور بمنظور آخر. إنها استراتيجية جهنمية تدخل الكل فيما يسمى بالتنفير الخارج عن السيطرة، وغير المتوقع، ويعني تلك الحالة التي يستسلم فيها الإنسان لقدره، ويصبح عاجزا أمام السؤال الذي تشكله له الأصوليات بمختلف أنواعها. هذا ما يسمى بالعجز المتعلم  learned helplessness وهو المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى الاستسلام والتبلد والغباء اتجاه المثيرات المنفرة.

لكن إذا كان الاقتران الشرطي يهدف إلى خلق حالة من العجز والاستسلام للقدر والواقع، فإن الخوف والتخويف تمثل إحدى الاستراتيجيات الجهنمية في البناء الأصولي والعصبي. لكن ما يجعلنا لا ننتبه إلى هذه الاستراتيجيات هو أننا نتعامل مع البناءات النظرية لبعض الجماعات والعصبيات تعاملا بريئا وحياديا، كأنها معزولة عن سياقاتها التاريخية والفكرية والإيديولوجية. فما دامت هناك جماعة من الناس، فإن هناك بناء إيديولوجي يعمل بشكل علني ومستتر على التجميع والحشد، وهذا لن يتأتى إلا من خلال خلق حالة من اللاتوازن النفسي والمعرفي لدى أعضاء الجماعة ومريديها. وإذا كانت الجماعات تتوسل بالخوف من أجل ضمان استمراريتها، ودوام سلطتها وسطوتها على عقول الناس ومقدراتهم الفكرية والثقافية، فإن الفكر والثقافة نفسها، تنمو وتتطور متسلحة بقدر كبير من الحصون والأسوار التي تجعلها عصية على الاختراق والتجاوز. ولهذا نتوافق مع ما أسماه إبراهيم البليهي ” حصون التخلّف ” وهو يرصد الطريقة التي يحتمي بها التخلف والثقافة الراكدة داخل مجتمعاتنا. إنها حصون وأسوار يختفي وراءها مشهد كبير من ثقافة أصولية مزورة، وثقافة عاجزة عن الاندماج في سياقات مغايرة ومختلفة عن المراحل الأولى من التأسيس، ليس لأنها غير قابلة للتطوير والتجديد، ولكن لأن حراسها ومن يقفون سدنة لمعابدها من الكهنوت الديني والسياسي يرون المشهد بطريقة عكسية. أي أنهم يدركون بأن نهايتهم وقدسيتهم تبدأ من السؤال، والتفكيك، والتحليل، والاستيعاب، والتجاوز. لهذا لن يتوانوا ولن يتواروا عن ملاحقة كل جديد، ومواجهة كل سؤال، ومجابهة كل حقيقة خارج صناديق تفكيرهم.

ما تجهله الأصوليات أو تريد أن تتجاهله في سياق موتور بالأحداث والوقائع المتسارعة لعالم اليوم، هو أن التغير ليس حالة يختار فيها الإنسان أو لا يختار، إنما هي حالة يجب أن يختار فيها الإنسان، ولعله يختار الأصوب والأنجح والأصوب. هدف الأصوليات هو ضمان أكبر قدر ممكن من التسلط على مقدرات الإنسان، وحينما يأتي الجديد، تهابه، وتقاومه، وتمتنع عنه. هي حالة من المقاومة المستميتة، وإصرار على البقاء خارج حدود السؤال والتفكير المقلق. نحن أمام الثقافة الأصولية بأصولها الماضوية، وتاريخها المقدس، وأشخاصها المتجاوزين لحدود البشرية، إنها كيانات صمَّاء، محصَّنة، ومغلقة، ومحاطة بسياجات عليها حرّاس، وقائمين، وحماة، وكهنة، مهمّتهم الأولى هي تأمين استمرارية الثّقافة، والسّهر على تأبيد مفاهيمها، وسلوكياتها إلى الحدّ الذي تستعصي فيه عن الحلّ. وهذا لن يصبح أمرا ممكنا في التوجهات الكبرى للأصوليات إلا عن طريق استراتيجية الخوف والتخويف، الخوف من المستقبل، والخوف من الجديد، والخوف من كل إمكانية يمنحها لك التفكير والنقد والسؤال.

ولكي نعرف حجم ما تسقطنا فيه هذه الاستراتيجية يمكننا أن نقول بأن الخوف يتجاوز ذاك الشعور الذي ينتاب أي واحد منا بفعل الفطرة الإنسانية التي جبل عليها الإنسان، إنه ذلك الشعور الملازم لنا دون أن ندركه، أو أن نتعرف على كنهه وماهيته. لا نحتاج لكثير من العبارات لكي نفهمه أو نشرحه ونحن نعيشه في كلّ لحظة، وفي كلّ سقطة، وصوب كلّ هدف، إنّه:” ليس شيئا نملكه بل هو أمر نقوم به “[4]. كما عرّفه جوزيف أوكنور. ويمكنني أنْ أضيف أنّه ليس شيئا نملكه فنتحكّم فيه، ولكنّه شيء نمارسه ليتحكّم فينا وهنا المفارقة.

مشكلة الخوف الكبرى، أو مشكلة استراتيجية التخويف التي تقوم بها الأصوليات، هي أنها تديم سلطة التخلف على عقولنا، ومجتمعاتنا إلى الحد الذي نستسلم فيه داخليا عبر قناعات راسخة أننا متخلفون، ولا يمكننا بحال أن نخرج من هذه الحالة المستعصية على الفهم والتغيير. لم نعد نعرف ونحن نواجه خطر الفكر الأصولي المتطرف بأن التخلّف يوجد داخلنا وليس خارج حدود عقولنا، وحينما نتخلف نرتكس في حركة نكوصية إلى الوراء، وننغلق على ماضينا وتاريخنا وموروثنا، ونعتقد بأن داخل هذه التحيزات يمكن أن يكون لنا القدرة على حماية هويتنا وكينونتنا ووجودنا الثقافي. وكل هذه الأساليب والتقنيات التي تتوسل بها الأصوليات لا تنفع في مقاربة الواقع أو النظر إليه من زاوية معرفية وعلمية، فالتغيير سنة من سنن الله، وليس اختيارا بيد هذا الإنسان أو ذاك، والتجديد قدر الإنسانية المتواصل ليعيش ويتكيف مع المحيط والوقائع اللامحدودة، ومن يتخلف على الركب فسيصل متأخرا، وربما يضيع فرصة النجاة الأخيرة. لهذا فالعالم المعاصر لا ينتظر منا أن نحتجب أو لا نرى الواقع بأفق ممتد إلى حيث نلتقي مع قيمنا الإنسانية، حيث المشترك الذي صنعه أسلافنا، وأضافت عليه الإنسانية المعاصرة إضافتها. أما الخوف والتخويف والتنفير فأساليب قد تنفع مريدي ودراويش العالم السفلي، حيث يهدر الإنسان، وتضيع حقوقه، وتصادر مكتسباته. أما الإنسان الأعلى، أو الإنسان كما خلقه الله في صورته الأولى، وفي قيمه الخيرة، فلا يقبل إلا بما تمليه عليه شروط وجوده الفكري والعقلي، ويتناغم والمكتسبات الإنسانية التي حققتها البشرية منذ لحظة الوعي الأولى.

هنا يمكننا الجزم بأن ما نعانيه من الأمراض الثقافية، والأعطاب الفكرية ناتج عن الخوف المرضي من كل جديد، ومن كل محاولة جادة لفتح أنماط تفكيرنا على النقاش والتفاعل الإيجابي، والنقد البناء، وما دامت الثقافة المعاصرة تغيب فعل النقد فإن التخلّف هو النتاج الطبيعي الذي سيظل يلازمنا في كل حين، لأنه كما يشير مصطفى حجازي يتواجد بفعل خصائص وشروط يمكن اختزالها في جانبين[5]: الأول: اضطراب منهجية التّفكير. والثاني: قصور الفكر الجدلي. هذين الجانبين يتناغمان فيما بينهما ليؤسسا لنا واقعا مضطربا على جميع المستويات، متخلفا في فكره ونظرته ورؤيته للذات والحياة والمجتمع. وحينما يختل ميزان التفكير داخل مجتمع ما، ويصبح الإنسان ضحية لأغراض وتوجهات جماعات وأصوليات وعصبيات هادرة للحق الإنساني في التفكير فإن الإنسان ينزع إلى إدامة التفكير الخرافي، وسيطرة الرؤية السحرية للعالم، والانقياد الأعمى لسلطة رجال الدين وهوامشهم، وهذا ما يضيع على الإنسان فرصة السؤال، والاستمتاع بنعمة العقل بوصفها هبة ربانية تميز بها الكائن الإنساني على غيره من الموجودات والمخلوقات الأخرى. وإذا كانت الحالة التي تريد الأصوليات أن يصل إليها الإنسان من انقياد وطاعة وخوف مرضي وامتثال مزمن لاجتهادات وأفكار لها ظروف نشأتها وتطورها، فإن ذلك يشبه إلى حد بعيد ما يسمى حالة الخصاء الذهني هذه Castration Mentale وهي حالة فكرية ونفسية تتميّز بحالة من العجز التامّ أمام ظواهر الطّبيعة، ومن النّاحية الاجتماعية بعجز وخوف مزمن من الفئة المسيطرة[6]. لا شك أننا أمام حالة فريدة يجد الإنسان نفسه محكوما بسلطتها، ومنقادا إلى أسالبيها، منزوعا من كل سلطة أو قدرة على المناورة أو المغامرة.

  • استراتيجية التّخويف أو كيف يفقِد الإنسان سيطرته على المصير:

لا يجب أن نتعامل مع الأساليب التي تنهجها الأصوليات والعصبيات تعاملا حياديا أو بريئا، فكل شيء مخطط له ضمن سياق موتور ومتوتر ومشتبك مع المخالف، وإذا كنا قد تحدثنا عن الخوف كإحدى الاستراتيجيات الخطيرة التي تستعملها الأصوليات ضد الفكر المختلف، فإن ذلك لا يتم أيضا إلا ضمن سياق فكري يلتزم بالتنفير من فكر المختلف، ويرغب ويعزز القدرة على الاحتماء بالموروث الثقافي، والأصول والقواعد المؤسسة لفكر هذا الاتجاه الأصولي أو ذاك، ولكي نفهم الأمر بشكل جيد يمكننا أن نوجز هذه الأساليب من خلال الأفكار التالية:

  • الخلاص أو الانتظار: لا يمكن أن ينجح الفكر الأصولي إلا إذا عزز بشكل أو بآخر فكرة الخلاص في نفوس الناس وعقولهم، أي أن يصبح التمسك بفكر الجماعة هو المنقذ من الضلال والشك والحيرة والعذاب النفسي دنيويا وأخرويا. لهذا تم استعمال فكرة الخلاص منذ لحظات التفكير الإنساني الأولى، وتعززت بشكل كبير مع الأديان التوحيدية. وهي فكرة ضاربة في أعماق التاريخ، وتوضيح بشكل كبير عجز الكائن الإنساني، على الإحاطة بفكرة الإله المتعالي عن مدركات الإنسان المادية، والمتجاوز لحدود الطّبيعة والتّاريخ. وهو وضع يؤشر في مرحلة متقدمة من التاريخ الإنساني عن مرحلة جنينية لم تستوعب الدور الإنساني المركزي في الكون، وحريته، وإرادته الفاعلة فيه. لهذا جعلت الإله حالاًّ في الطبيعة متحكِّما في قوانينها، هذا الإله الذي ينهي كلّ المشاكل، تارة بتدخله المباشر والفوري، وتارة أخرى بإرسال المخلّص في الفكر الغنوصي[7] الوثني.
  • الهوس بالماضي والإقامة فيه: أن يقيم الإنسان في الماضي، أو يظل متشبثا بفترات زمنية ماضية يعد من أعقد وأخطر ما يصل إليه الإنسان حينما تهدر إنسانيته، أو يستجيب للشروط الهادرة لكينونته وخصوصيته. وهذا ما تركز عليه الأصوليات في بناءاتها النظرية، حيث توهم الناس بأن ما تم في الماضي، وفي فترات محددة منه، هو الجزء الأصيل من الفكر والدين والتدين، والزيغ عنه أو محاولة الاقتراب منه هو تهديد مباشر لنسف النموذج المثالي في الحالة الذهنية للأصولي. وهذه الإقامة يمكن أن نفهمها من الناحية النفسية، لأنها صيغة تعويضية عن حجم الإخفاقات التي تلازم العقل الأصولي في حاضره ومستقبله، وكأنها نوع من العبودية المختارة إذا ما استعرنا عنوان لابواسييه، عبودية للأشخاص والأزمنة والأحداث والوقائع، في تحدّ لا معقول لكل الشروط الموضوعية التي تؤسس للتاريخ والثقافة والفكر.
  • التماهي مع فكر الجماعة: لكي يفقد الإنسان قدرته على التفكير والمصير الإنساني المشترك، يلزم أن يذوب ذوبانا تاما في الجماعة، وأن نحرمه من كل الخصائص والمقدرات التي يتوسل بها الكائن العاقل، والفرد المنتج، وهي خاصية من الخصائص المميّزة للعقل الأصولي، الذي يتغيي من خلالها هيمنته المطلقة على الفرد، بحيث لا يفكر إلا في حدود ما ترسمه الجماعة، أو يسمح به العقل الجمعي الأصولي. وحينما يغيب العقل ويذوب في الجماعة، يسهل تحريك الجموع في الاتجاه الذي يريده لها صناعها ومؤسسيها، فالعقل لم يكن يوما مصدرا للثورة، لأن هذه الأخيرة لا تستقوي بوجود العقل، إنما يحدث تأثيرها في الجماعات بعد أنْ تتحوّل الثورة إلى عواطف. فحسب لوبون الثورة مهما كان مصدرها لن يكون لها تأثير إلا بعد أنْ تهبط إلى روح الجماعات. إذ الجماعة تُتِمُّ الثورة ولا تكون مصدرها. كما تظلّ الجماعة بمعزل عن الفعل ووظائفها معطلة بمعزل عن قائد أو زعيم يقود ثورتها ويلهب حماستها[8].

المراجع:

[1]– هادي، العلوي، الاغتيال السياسي في الإسلام. دار المدى للثقافة والنشر،ط5،2008 . ص: 5.

[2] – كارين، أرمسترونغ. النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام. ترجمة محمد الجورا. دار الكلمة للنشر والتوزيع،ط1،2005. ص:9.

[3] – حجازي، مصطفى. الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. المركز الثقافي العربي.ط1، 2005، ص: 91.

[4] – جوزيف، أوكنور. حرر نفسك من الخوف. ترجمة سهى نزيه كركي. العبيكان،2008، ط2. ص:30.

[5] – حجازي،مصطفى. التخلف الاجتماعي. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط9، 2009. ص: 60.

[6] – حجازي، مصطفى. المرجع السابق. ص: 61.

[7] – االغُنُوصيَّة من “غنوص” gnōsis، الكلمة اليونانية التي تعني معرفة أو بصيرة، وهي تسمية أُطلِقَتْ على حركة دينية وفلسفية سائبةِ التنظيم ازدهرتْ في القرنين الأول والثاني للميلاد. تقول بأن المادة شر وأن هناك صراع بين النور والظلمة. وللمزيد من المعلومات حول هذا الفكر الفلسفي راجع ما كتبه إدوارد مور حولها في كتاب:” الغنوصية: الفكر والوحي”، ترجمة أسماء جلال الدين، إعداد دارين أحمد على الموقع: http://www.maaber.org/issue_february05/spiritual_traditions1a.htm. وكذلك:”Histoire du christianisme  l’ dictionnaire de”، مادة gnocisme ، ص:453

[8]– لوبون، غوستاف. روح الثورات والثورة الفرنسية. ترجمة عادل زعيتر. كلمات عربية للترجمة والنشر.  ص: 27.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete