المدرسة كحاضنة لتلقين التطرف

لا يزال الارتباط بين التطرف والتنشأة المدرسية، إشكالية حاضرة بقوة في مجتمعاتنا العربية، في ظل حالة التداخل الشبكي بين المؤثرات التي تهيمن على البنى الذهنية للعقل الجمعي، بالتزامن مع هيمنة الرؤية الواحدة على سؤال الهوية وموضوع الدين. يضاف إلى ذلك عدم قدرة نظام التنشئة الكلاسيكي بشتى عناصره وهي: الأسرة، والمدرسة، وجماعة الرفاق…؛ على التخفف من حمولة الموروث، بالإضافة إلى ما أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي من زخم، دخل بدوره على الخط، بحيث أصبحنا أمام منظومة شديدة التعقيد؛ تستمد مضامينها من جذور شتى؛ أبرزها: الهوية، والدين، والعصبية الإثنية؛ وكلها قد تفضي في النهاية، إذا طالها التعصب، إلى تكوين حاضنة رسمية للتطرف.

يمثل التطرف في مرحلة التنشئة، تهديدًا لمعاني الأمن الوطني، والإنساني، والمجتمعي، وهو ما يدفعنا تجاه الوقوف أمام معضلة مركزية؛ وهي أنّ التعليم المدرسي في محيطنا العربي، يبدو غير ذي صلة بتنمية مهارات العقل النقدي، ولا يفتح المجال أمام تعلم طرق مبتكرة لإدارة العلاقات الإنسانية، ما يدفع دومًا إلى تكريس أنماط تقليدية من النشاط العقلي القائم على المحاكاة والتقليد والقياس والاتباع.

المدرسة حاضنة طبيعية للأفكار

تُعد بيئة المدرسة، من حيث المفهوم المادى أو الطبيعى، حاضنة طبيعية للأفكار، فثمّة تداخل بين البيئة المدرسية ومنطلقات الوعي المعرفي، فيما يشبه العلاقة التبادلية من جهة الإصطلاح الاجتماعى؛ كونها تتألف من مجموعة العناصر الثقافية والتنظيمية، وكذا الهوياتية، التى تحدد سلوك الفرد وفهمه لطبيعة العلاقات مع الآخر.

والمدرسة هى الوسط الذى يتفاعل معه الإنسان في مراحل تكوينه الأولى، ويحصل منها على عناصر ومقومات المعرفة الأساسية، ويمارس فيها جملة من النشاطات الذهنية والبدنية، وهى بذلك تتضمن ثلاثة أبعاد أساسية هى:

1– البعد الايكولوجى : أى المحيط المكاني الذي يتواجد فيه الطلاب، ويقومون داخله بنشاطاتهم المختلفة.

2– البعد المعرفي: حيث يتلقى الطالب قدرًا وافيًا من العلوم المختلفة، تؤهله فيما بعد للقيام بأدوار في الحياة العملية.

3- البعد القيمى/ الأخلاقي: ويتمثل فى الإجراءات والأساليب التي يكتسبها الطالب؛ للتماهي مع السياق الأخلاقي والقانوني الذي يحكم المجتمع، وهنا يكون الدين حاضرًا بقوة ضمن هذا الإطار.

هذه الأبعاد المختلفة، تتداخل فيما بينها لتشكل الوعي؛ كمحصلة لمخرجات البيئة التعليمية، بمكوناتها الفيزيقية والاجتماعية، بوصفه –أي الوعي – يتضمن مجموعة المدركات والأفكار والمشاعر، وكذا الأحداث التى يدركها الفرد، أو كما يقول جولدشتاين: “الوعى يتضمن كل خبراتنا السابقة، التى نعيشها ونعرفها وندركها”. أو هو “الحصيلة الكلية للأفكار والنظريات والآراء والمشاعر الاجتماعية، وكذا العادات والتقاليد التى تعكس الواقع الموضوعى للمجتمع”. بحسب كولينز .ر.

وفي حال أصاب الخلل أي بُعد من هذه الأبعاد، يمكن لمعطيات التطرف التسلل على خلفية القبح المكاني، أو الخلل المعرفي، وكذا هيمنة التعصب على مكونات المنظومة القيمية، داخل مجتمع المدرسة.

أمننة التعليم وتكريس الأيديولوجيا

يمكن القول إنّ التعليم المدرسي وقع في إشكالية كبرى، وهو يحاول مواجه التطرف، حيث تجاهل القائمون عليه البنى الأيديولوجية للمفهوم (التطرف)، وطبيعته الإرثوية، وانصرفوا عن تفكيكها، ليصبوا اهتمامهم تجاه “أمننة” المؤسسات التعليمية، بداعي السعي إلى حماية الشباب من الإنخراط ضمن التنظيمات المتطرفة، دون أن يدرك الفاعلون أنّ الخطر الحقيقي يكمن في الأفكار المشتركة بين المناهج ووعي من يقومون على تدريسها، وأيديولوجيا التطرف، والتي ربما تساهم بيئة المدرسة في نشرها.

وبحسب محمد عابد الجابري فإنّ كل فكر يلغي الاختلاف، وكل الدعوات التي ترفع شعار الإجماع، وتشهر سلاح الخروج عن الإجماع ضدّ كل مختلف، تتجه بالضرورة نحو الاستبداد والهيمنة، ومن ثم يحل التلقين والتلقي محل البحث والتقصي، ممّا يؤدي في النهاية إلى التمذهب الضيق والغلو والتطرف. وعليه فلابد من تغيير مكونات فهمنا للخطاب المدرسي بكل أبعاده، وتحريره من سلطة الأيديولوجيا، التي توجهه وتفرض عليه توجهاتها، ذلك أنّ فـاعلية العــقل العـربي، بحس الجابري أيضًا، تحددت في إنتاج الوعي بما يخـدم السلطة التي تملك الأيديولوجيا، وبالتالي تمّ تأطير جميع العلوم العربية بسياج مؤدلج، أدى إلى “تحويل مبدأ الفاعلية إلى مفعولية سالبة”، حجّرت العقـل العربي وحجزته ضمن منظور أيديولوجي مغلق.

لذلك، فإنّ رهان العـقلانية الذي طرحه الجابري كبديل يساعد على ترميم الفجوة الإبستيمولوجية العميقة التي غيبت العقل العربي بسبب احتكار الأيديولوجيا لشتى جوانب المعرفة، يمكن أيضًا توظيفه من أجل تحرير بيئة المدرسة من كل الأيديولوجيات المهيمنة، وصولاً إلى ما يطلق عليه العقل التكويني.

وتنطلق مواجهة التطرف في المدارس، من خلال تعزيز ثقافة حقوق الإنسان، وتنمية الوعي بالآخر، وهي أطر تعزز بدورها حضور مفاهيم الأمن البشري والأمن القومي في نهاية المطاف، وتقوم في مجملها على إدارة التنوع الثقافي والديني في مجتمع المدرسة، مع تنمية مدركات العقل النقدي، وفوق كل هذا تغذية الشعور بالحرية؛ عبر تقويض مفاهيم العسكرة داخل المدارس، وتفكيك المنظومة الكلاسيكية التي حولت المدرسة إلى معسكر مغلق تحيطه أسوار، وتقطنه كتيبة ترتدي زيًا موحدًا، وينتظر أفرادها مهمة خلاصية مرتقبة، وفق أيديولوجيا لا مجال فيها للآخر، وفي ظل هذا الحضور الثقيل لمفردات التعصب، ينفجر التطرف وينتشر.

إدارة التطرف

مع انفجار مفهوم الصحوة الإسلامية في البنى الاجتماعية، كانت البيئة المدرسية مهيأة، بالتزامن مع أجواء الفقر والتردي المعرفي، لتنامي التطرف بشتى أوجهه وتجلياته وهو ما انعكس بالتبعية على المجتمع المدرسي، فالأفكار المتحوصلة حول نواة التعصب الصلبة، لم تغادر بعد منتصف الدائرة. وكان الحل الأمني، وتغذية الشعور الوطني المبالغ فيه، آفة أخرى، فشلت معها بيئة المدرسة في حلحلة التعصب، وإدارة التطرف الرابض داخل عقول التلاميذ، وتفريغ شحنته النفسية والمعرفية، بسبب تراجع الاهتمام بالفنون؛ تحت وطأة الحاجة إلى حصص إضافية، شكلاً، ولحرمانيتها أو ابتذالها كما تصورت العقول، من حيث الموضوع.

وبالطبع يحتاج العاملون في مجال التعليم إلى الدعم والتوجيه؛ لفهم دورهم بشكل أفضل، والتعامل مع التطرف في المدرسة بنوع من الاحترافية، يمكن أن نطلق عليه إدارة التطرف؛ ذلك أنّ المدرسة هي المؤسّسة الرئيسية المنوط بها تعزيز القدرة على الارتقاء المعرفي، ومنع الشباب من ذلك الانجذاب إلى الأيديولوجيات المتطرفة.

تبدأ المرحلة الأولى من عملية إدارة التطرف، بمراقبة التغيرات المحتملة في السلوك، والتي يمكن أن تدل على التطرف، ولا يقتصر ذلك على المعلم وحده، وإن كان دوره هو الأهم، بوصفه وسيطًا مهمًا، إلّا أنّه لابد من إشراك الأسرة وجماعة الرفاق في تلك المهمة. وبالتزامن مع المراقبة والتحليل، يقوم المعلمون بخلق بيئة آمنة للحوار مع المتطرف، والتعرف على مصدر أفكاره، وتنمية قيم المواطنة والتفكير النقدي ومنطلقات تشكيل الهوية لديه، دون الوقوع في براثن الفاشية والتعصب الوطني. ويُعد هذا النهج هو الأقوى على الإطلاق لمواجهة الأيديولوجيات المتطرفة التي تهدد المجتمع.

إنّ الافتقار إلى استراتيجيات شاملة للتصدي للتطرف في المدارس، يجعل المهمة أكثر صعوبة، الأمر الذي يدفع بالضرورة تجاه الاشتباك مع تجارب الآخرين والنتائج التي تمّ التوصل إليها في هذا السياق.

على سبيل المثال، أقرت ورقة بحثية صادرة عن شبكة (RAN) في العام 2019،[1] أنّ المدارس ينبغي لها الاستثمار في تدريب جميع أعضاء هيئة التدريس، حتى يتم تزويدهم بالمعرفة اللازمة، ومهارات الكشف عن علامات التطرف، مع منحهم حرية التدخل بفعالية؛ حيث يتطلب نهج منع التطرف ومكافحته من المعلمين، التعرف على القضايا الدينية المثيرة للجدل، وغيرها من جوانب وأشكال التنوع داخل البيئة المدرسية.

ومن أجل تعزيز دور المعلم في مكافحة التطرف أوصت الورقة بالتالي:

  • فهم ظاهرة التطرف العنيف.
  • معرفة عمليات التطرف ومؤشراته.
  • الوعي بالأسباب المختلفة للتطرف وعوامل الحماية منه.
  • معلومات حول المجندين الرئيسيين على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية.
  • المعرفة بالتشريعات (الوطنية) والسياسات والإجراءات المدرسية المتعلقة بالحماية من العنف والتمييز.
  • الإلمام بموارد المدرسة عندما يتعلق الأمر باتخاذ الإجراءات الوقائية.

وغالبًا ما يواجه المعلمون صعوبات في العثور على معلومات موثوقة، واتخاذ مواقف مؤثرة بشأن القضايا المثيرة للجدل، والمتمثلة في التعصب الذي يفضي إلى التطرف، ولكن هناك مساحة مهمة يمكن للمعلم المؤهل أن يعمل من خلالها، وهي المساحة المعرفية التي توفرها عملية الرد على أسئلة الطلاب العفوية، وملاحظاتهم ومناقشاتهم حول المواضيع التي تتقاطع مع إدارة التنوع، أو القضايا الدينية الجدلية.

على سبيل المثال، يلاحظ سترادلينغ، أنّه لا يمكن وضع قواعد صارمة حول تدريس المواد المثيرة للجدل، وبالأخص في المقررات الدينية، ولكن يجب على المعلم أن يأخذ في الاعتبار الخلفية المعرفية، ومنظومة القيم والخبرات التي يحضرها الطلاب معهم إلى الفصل الدراسي.

وعليه، ينبغي تحسين الوعي الشخصي للمعلمين وملكات التفكير الذاتي لديهم، مع زيادة الوعي بطبيعة القضايا الخلافية والتساؤلات الصعبة التي قد يطرحها الطلاب، مع تعريف الطلاب بالأطر الديموقراطية واستراتيجيات حل النزاعات، الأمر الذي يمكن أن يساعد على فهم وممارسة الأساليب السلمية لإدارة الخلافات.

وتوصي ورقة (RAN) بمناقشة اختلاف الثقافات ومفاهيم الدين والأيديولوجية والهوية داخل الفصل الدراسي، وخلال هذه المناقشات، من المهم تقدير تنوع الطلاب وتعزيزه ضمن بيئة المدرسة، لتكريس احترام جميع الهويات، والبحث الدائم عن أوجه التشابه والقواسم المشتركة بين الطلاب.

وقد تخطئ المنظومة التعلمية في الإفراط في التركيز على القواسم المشتركة، وتهمل الاختلافات بين مكونات الطلاب، بحيث تحاول المدرسة خلق شخصية واحدة تنفي من خلالها الذوات لصالح الكل، ما يفتح أبوابًا خلفية لهذه الاختلافات، بحيث تتحول إلى قنبلة تطرف موقوتة. فالفشل في معالجة التنوع وإدارته؛ يغذي حضور الخطاب المتطرف الذي يستطيع بأقل مجهود، اقتحام المجموعات المنعزلة، والهيمنة على أفكار أفرادها.

المراجع:

[1] Dealing with Extremism in an Educational Environment in The Western Balkans, RAN, European Commission, Luxembourg, 2023.pp.2-6.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete