المسجد الأقصى قراءة ثانية في السردية الإسلامية الجزء الخامس

تكوين

لم تكنْ العنايةُ بمدينة القدسِ ومساجدِها محصورة في الأمويين، فحظيت قبة الصخرة والمسجد الأقصى بعناية الخلفاء والملوك في الدول المتعاقبة، فأعادوا ترميمهما عدة مرات كما تناولت العديد من الدراسات([1])، إذْ لم تسلم قُبّة الصخرة، والمسجد الأقصى من التأثر بالكوارث الطبيعية عبر مسيرتهما التاريخية، فيذكر المؤرخون أن زلزالا قويا هدم سقف المسجد من جهتيه الشرقية والغربية عام ١٣٠ ه/ ٧٤٧م أواخر عهد دولة بني أمية، فلما قدم “أبو جعفر المنصور” ثاني الخلفاء العباسيين سنة ١٤٠ه إلى بيت المقدس “وجد المسجد خرابًا، بسبب زلزال عنيف أسقط جزء من المسجد الأقصى، فأمر أن يقلع ذلك الذهب والصفائح التي على القبة والأبواب، وأن يُعّمروا بها ما خرِب من المسجد الأقصى ففعلوا ذلك، فقلعت الصفائح الذهبية والفضية التي كانت على الأبواب، وسُكّت نقودا من صفائح الذهب؛ لتُنفق على عملية البناء والترميم سنة ١٤٠ه، فأعيد بناؤه في أيام الدولة العباسية أوثق وأقوى بناء مما كان من قبل.

وجُدّد المسجد في عهد الخليفة العباسي المهدي سنة ١٦٣ه بعد أن تهدّم المسجد الذي عمره أبو جعفر المنصور بسبب زلزال آخر، وقيل إن الجزء الأعظم من المسجد قد هدم يومئذ، خلا القسم الذي حول المحراب، ولما قدم المهدي كان المسجد خرابا، فقال المهدي: “رثّ هذا المسجد، وطال، وخلا من الرجال، أنقضوا من طوله وزيدوا من عرضه”.([2])

 

وبزلزال في مطلع القرن السادس تهدم المسجد الأقصى، فأمر المأمون ببنائه، ووزّعَ بناءه على أمراء الأطراف، واستمر المسجد في مسيرته التاريخية، ورحلته الطويلة عبر السنين إلى أنْ تعرّض لزلزال جديد زعزع أركانه عام ٤٢٤ه ١٠٣٣م فأمر الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله سنة ٤٢٦ه/١٠٣٥م، بإصلاح ما خرّبه الزلزال إلا أنّه ضيّقه من جهتيه الغربية والشرقية بإزالة أربعة أروقة، وتفنّن الفاطميون في زخرفته بالفسيفساء والرّخام والرسوم النباتية عندما جدّده المستنصر بالله سنة ٤٥٨ه/١٠٦٥م، وأُلحق بالمسجد في العصر الفاطمي من الجهة الجنوبية الغربية بناءٌ مستطيل الشكل يُطلق عليه اسم جامع النساء..

الأثار العباسية في المسجد الاقصى

وقد يسّرت أعمال الحفر والإصلاح التي أُجريت في القرن العشرين الكشف عن آثار في المسجد ترجع إلى عهد المهدي العباسي، وبعض أسس جدران ودعامات من العصر الأموي وآثار تعود إلى عهد الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، فيختلف المسجد اليوم في مواد البناء وطراز المعمار عن المسجد الذي أقامه عمر رضي الله عنه، والذي أُعيد تشييده في صدر الدولة الأموية.

وفي عام ١٠٩٩م احتلّ الصليبيون القدس، وحوّلوا جزء من المسجد إلى كنيسة، واتخذوا من أحد أجزائه مساكن لفرسان الهيكل، كما أضافوا إلى البناء الأصلي من الجهة الغربية، وعلى مُحاذاة حائط الحرم القبلي صفا من القناطر المعقودة، وجعلوا هذه الزيادة مخزنا للسلاح، واتخذوا من السراديب التي أسفل المسجد اسطبلا، حتى استرد صلاح الدين الأيوبي القدس عام ٥٨٣ه/١١٨٧م، فأعاد المسجد إلى ما كان عليه، فأزال منه الزيادات التي أضافها الصليبيون، وجدّد محرابه، وقناديله، وكسا قبته بالفسيفساء، وسجّل تاريخ التجديد بكتابة بالفسيفساء المذهبة نُقشت فوق صدر المحراب، ونقل إليه المنبر الذي كان أهل حلب قد صنعوه بأمر من السلطان نور الدين زنكي؛ ليوضع في جامع قلعة حلب، وكان المنبر قطعة فنية مصنوعة من خشب أرز لبنان، ومرصع بالعاج، والصدف، شارك عدد كبير من النجارين الحلبيين في صناعته، ونقشوا أسماءهم على باب المنبر في مواضع مختلفة. ([3])

ظلّ حكام الدولة الأيوبية أوفياء للمسجد بعد صلاح الدين، فمنهم من كان يقوم على خدمة المسجد بنفسه من كنسه، وغسله بماء الورد.. من أمثال: الملك العادل سيف الدين بكر أخو صلاح الدين، والملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه، والملك الأفضل نور الدين علي، والملك العزيز عثمان، والملك المعظم عيسى الذي أضاف إلى المسجد سنة ٦١٤ه/١٢١٧م الرواق الذي يُمثّل الواجهة الشمالية للمسجد، ويشتمل على سبعة أقواس، يقابلُ كلّ منها باب من أبواب المسجد السبعة، وهذا الرواق تُغطيه سبعة أقبية، وقد كُتب على واجهته: “بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذه الأروقة سيدنا ومولانا السلطان المعظم أبو العزائم عيسى بن الملك العادل سيف الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين أبي بكر بن أيوب خلد الله ملكه وذلك سنة ٦١٤ه”

وسار المماليك على خطى الأيوبيين، وكان عهْدُهم طويلا استمرّ ما يقربُ من ثلاثة قرون، أوْلُوا المسجد خلالها عنايتهم، لاسيما المماليك البحرية، فتركوا في القدس الكثير من العمائر المملوكية التي كانت نموذجا رائعا لتطور العمارة الإسلامية، فخلال حكم الملك المنصور سيف الدين قلاوون أُعيد تعمير سقف المسجد الأقصى من ناحية القبلة عند جامع الأنبياء، وكان ذلك سنة ٦٨٦ه/ ١٢٨٧م، وفي عهد ابنه الملك الناصر محمد بن قلاوون المملوكي، الذي امتدّ ثلاثة وأربعين عاما، عمل فيها على إعادة تعمير قناة السبييل عند بركة السلطان، وهي القناة الداخلة للقدس من عين العروب، وأنشأ جامع القلعة سنة ٧١٠ه/١٣١٠م، وأنشأ أروقة المسجد الأقصى التي تمتدّ من باب الحرم حتى باب الغوانمة، وعمَّر السور القبلي عند محراب داود، ورخَّم صدر المسجد الأقصى إلى حائط المسجد الجنوبي، وجدّد تذهيبَ قبة المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، واستغرق العمل في المسجد تسع سنوات من سنة ٧٢٠ه/١٣٢٠م حتى ٧٢٩ه/١٣٢٩م، وفي عهد أولاد الملك الناصر جُددت أبواب المسجد، كما جرتْ إصلاحاتٌ في عهد الملك الأشرف “قايتباي” منها تجديد عمل الرصاص أعلى المسجد الأقصى.

المماليك والعثمانيين

بعد سقوط دولة المماليك على يد العثمانيين سنة ٩٢٣ه/١٥١٧م، ظلّت القدس في حوزة العثمانيين ٤٠٠ عام، حتى احتلها الجيش البريطاني ٩ ديسمبر ١٩١٧، وكان أول عهد العثمانيين بأعمال ترميم المسجد ما قام به السلطان سليمان القانوني في باب العامود، وباب دمشق، وباب الساهرة سنة ٩٤٦ه/١٥٣٧م، وباب المغاربة وباب الخليل سنة ٩٤٧ه/١٥٣٨م، وباب ستي مريم وباب الخليل وباب النبي داود سنة ٩٤٩ه/ ١٥٤٠م، كما أنشأ عدداً من الأسبلة في الطريق المؤدية إلى الحرم القدسي، منها سبيلُ بركة السلطان، وسبيلُ باب العتم، وسبيل سليمان، وسبيل باب الناظر، وسبيل باب الأسباط، واستبدلَ الزخارف الفسيفسائية التّالفة في واجهة قبة الصخرة، وأمر بتغطيتها بألواح القيشاني، التي ما زالت قائمة تحمل اسمه، وتاريخ أعمال الترميم، كما رُمّم مسجد القبة في عهد السلطان محمود، ودخل تعديلات على نوافذ المسجد الأقصى في عهد السلطان عبدالعزيز، وجرى ترميم في جداريات المسجد في عهد السلطان عبدالحميد الثاني.

وفي العصر الحديث سنة ١٩٢٢م ضعفت أساسات المسجد بتقادم الزمن، فشرع المجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين الذي كان يرأسه الحاج أمين الحسيني مفتى فلسطين بجمع تبرعات من الحكومات العربية والإسلامية وشعوبها، وبدأت عمليات الإعمار سنة ١٩٢٥ بتقوية الأقواس والعقود، واستبدال الأعمدة القديمة البالية التي تقوم عليها القبة بأعمدة جديدة، وهدْم سقف الجناح الغربي الذي كان على وشك الانهيار، واستبداله بسقف آخر، ورُممت القبة، وعُمّر السقف الخشبي لجناح القبة الشرقي، وزخرفت واجهة الممرات، وأنشيء تحت الأقواس القديمة أقواس جديدة للتقوية، وقد أشار إلى أعمال الترميم بنصٍّ كُتب فوق المحراب بين القبة والجدار، وجاء فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم جدد قبة هذا المسجد الأقصى المبارك، وأزال ما طرأ عليها من خطر في نقوشها ونوافذها وزخارفها المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى سنة ١٣٤٦ه-١٩٢٧م”.

وما كادت أعمال الترميم تنتهي حتى حدث زلزال سنة ١٩٢٧م، وتضرّر المسجد بسببه ضررا لم يظهر أثره بوضوح حتى سنة ١٩٣٦م، فاستنجد المجلس الإسلامي الأعلى بوزارة الأوقاف المصرية التي أرسلت محمود أحمد باشا مدير الآثار العربية، فقدم تقريرا عمّا آلت إليه حالة المسجد من ضعف لتسرّبِ مياه الأمطار بين الجدران بدلا من الخارج؛ بسبب انسداد مسالك مياه الأمطار، وما نتج عن ذلك من إذابة رصاص القبة، وسقوط الفسيفساء والرخام الداخلي والخارجي.. وبدأت أعمال الترميم التي كان مخططا أن تستمر ست سنوات، لكنْ توقفت بسبب الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥) ثم عادت أعمال الترميم مرة أخرى، وتم خلالها إضاءة المسجد لأول مرة بالكهرباء سنة ١٩٤٥م، ثم عادت للتوقف مرة ثانية بسبب حرب فلسطين ١٩٤٨م.

لتعود من جديد سنة ١٩٥٢ فبناء على طلب من الحكومة الأردنية أوفدت الحكومة المصرية ثلاثة خبراء من أقدر المهندسين المصريين مكثوا من ٣ إلى ١٠ يناير سنة ١٩٥٣ في دراسة القبة بوجه خاص، والمبنى كلّه بوجه عام، وقدّموا تقريرا بضرورة الإسراع بأعمال الترميم، وقدّر الخبراء المبلغ اللازم لهذه الإصلاحات بأربعمائة وعشرين ألف دينار أردني، وفي سنة ١٩٥٤ تألّف وفدٌ للطواف بالدول العربية للدعوة إلى اكتتاب عام لإصلاح المسجد، لكنّه لم يعد بأكثر من ١٦٦.٦٠٠ دينار فقط! وفي سنة ١٩٥٥ اجتمعت اللجنة الإدارية الأردنية باللجنة الفنية المصرية لفحص مباني الحرم من جديد وقدمتا تقريرا ثانيا قدر التكاليف بنصف مليون دينارا لزيادة التّلف.

إقرأ أيضاًً: المسجد الأقصى مدلول واحد أم مدلولات متعددة.. قراءة ثانية في السردية الإسلامية الجزء الأول

تبرعت مصر برواتب المهندسين والخبراء المصريين وأجور العمال، وكلّ ما له صلة بأعمال الفحص والتحليل والرسم وشراء الكتب والآلات الهندسية والأوراق أي جميع الأعمال والدراسات لإعداد مشروع كامل لإعادة عمارة وإصلاح المسجد، وقدرت هذه الأعمال كلها بخمسة وسبعين ألفا من الجنيهات.. وتبرعت العراق بمبلغ ٧٣ ألف دينار، وبهذا بلَغ مجموعُ التبرعات ٢٣٩،٦٠٠ جنيه، أي ما يقرب من نصف المبلغ المطلوب، وتبرّعت دول إسلامية مثل تركيا.. وفي ٢٥ أبريل سنة ١٩٥٦ بدأ العمل، وتمّ دعم جميع الأساسات بالأعمدة والجدران، وجرى إعادة تصنيع القبة المعدنية بإيطاليا، وأُعيد تركيبها في صيف عام ١٩٦١.

لم يُنقل عن الصحابة رضوان الله عليهم في خلافة عمر وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، ولا في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وابنه، وابن ابنه أي تعظيم أو تقديس لصخرة بيت المقدس، حتى كانت دولة عبدالملك بن مروان فضرب عليها قبة بعد أن كانت مكشوفة، فبدأ يدخل عليها من التقديس والتعظيم ما نجهل تحديدا كيف ظهر.. لكنّه ظلّ يتناقله الأجيال حتى أربعنيات القرن العشرين، رغم أن المحققين من العلماء أنكروا صحة ما تمّ تداوله حول صخرة بيت المقدس، فأنكر ابن القيم تالأحاديث التي ترفع قدرها، وتُشير إلى قدسيتها، وقال: “كل حديث في الصخرة هو كذب مفترى”،([4]) فلم يصح عندهم ما رواه ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “صخرة بيت المقدس من صخور الجنة”، وأن عليا بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله يقول: “سيد البقاع بيت المقدس وسيدة الصخور صخرة بيت المقدس”، وأن أبا هريرة قال: “المياه العذبة والرياح اللواقح من تحت صخرة بيت المقدس”.

صخرة بيت المقدس

فلم يثبت في صخرة بيت المقدس من الوحي ما يدعو إلى تعظيمها، وإنْ بالغت بعضُ كتب التراث في تقديسها، فارتبط بها الكثير من الخرافات، منها القول: بأنّ “طول صخرة بيت المقدس في السماء اثني عشر ميلا، وكان أهل أريحاء يستظلون بظلّها، وأهل عمواس مثل ذلك، وكان عليها ياقوتة حمراء تُضيء لأهل البلقاء، وكان يغزل في ضوئها نساء أهل البلقاء”.([5]) ويُحدثنا ابن الجوزي أنّ صخرة بيت المقدس انشقت، ثم عادت فالتأمت بعد زلزال أصاب المدينة، وأهلك خمسة عشر ألفا.([6])

وهي عند الحموي “أول شيء حُسر عنه بعد الطوفان”،([7]) ونقل علي بن إبراهيم الحلبي في كتابه عن السيرة النبوية، قول: “الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه لموطأ مالك: صخرة بيت المقدس من عجائب االله تعالى، فإنها صخرة قائمة شعثاء في وسط المسجد الأقصى، قد انقطعت من كلّ جهة لا يُمسكها إلا الذي يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.. في أعلاها من جهة الجنوب قدم النبي حين ركب البراق، وقد مالت من تلك الجهة لهيبته، وفي الجهة الأخرى أصابع الملائكة التي أمسكتها لما مالت، ومن تحتها المغارة التي انفصلت من كل جهة، أي فهي معلقة بين السماء والأرض، وامتنعتُ لهيبتها من أن أدخل تحتها، لأني كنتُ أخاف أن تسقط عليّ بالذنوب، ثم بعد مدة دخلتها فرأيت العجب العجاب، تمشي في جوانبها من كل جهة، فتراها منفصلة عن الأرض، لا يتصل بها من الأرض شيء”.([8])

ومما قيل عنها أنّ جدّ الأنبياء إبراهيم الخليل، قدم ولده ضحية على هذه الصخرة، حيث كانت تُذبح القرابين، وأنّ عليها خاطبَ يعقوبُ ربّه، ولذلك سماها “باب السماء”، ففوقها رأى النبي داود الملاك يحصد بني إسرائيل في أيام الوباء، فاشتراها لإقامة الهيكل عليها، وصار يعبد الله فوقها، وأن عليها كانت محاريب التي شيّدها هيرودس الأكبر، ودعا عليه المسيح بالخراب، فصار قاعا صفصفا.. وأن الأنبياء كانوا يُقيمون الصلاة عليها، كما رُوي أنّ بني إسرائيل كانوا يتوجهون في صلواتهم إليها أينما كانوا..

وقد توارثتْ الأجيال تلك الاعتقادات الخرافية، فأحمد زكي باشا (١٢٨٤ه/١٨٦٧م – ١٣٥٣ه/١٩٣٤) أحد رواد إحياء التراث والنهضة الأدبية شاهدٌ على الخرافات التي نُسجت حول صخرة قبة المقدس، فيقول: “رأيت كثيرا من كُتّاب المسلمين يعتقدون، ويُصرحون بأن هذه الصخرة كانت – إلى عهد قريب منا – مُعلّقة في الفضاء، فلا هي تتصل بالأرض، ولا هي ترتبط بالسماء، بل جاهرَ فريق من الناس بالقول وبالكتابة أنهم مرّوا بجُثمانهم تحتها، من الشرق إلى الغرب، ومن الشّمال إلى الجنوب، دون أن يعترضهم حاجز أو أن يصدّهم حائل مع بقاء الصخرة معلقة فوق رؤوسهم، لا تسقط عليهم، ولا تميل يمنة ولا يسارا… والسبب الذي حدا بالمُخرّفين إلى القول بأن صخرة قبة المقدس كانت معلقة بين الأرض والسماء أنّك إذا وقفت في المغارة التي تحت الصخرة ثم ضربت الأرض بقدمك سمعت رنينا يتردد صداه في جوف الأرض، وليس في ذلك شيء من خوارق العادات، أو ما يُخالف نواميس الطبيعة: فهذه الأرض المفروشة بالرخام، إنما هي سقف لصهريج أو بئر كانت تنساب إليه دماء الأضاحي التي تُذبح على الصخرة في قديم الزمان.. فوجود هذه الفجوة الطبيعية أو المبنية تحت أرض الصخرة هو الذي دعا إلى قول الإسرائيليات بتلك الأكذوبة الخرافية، وهي أن الصخرة معلقة في الفضاء بين السماء والأرض”.

وبلغ من انشغال الناس بهذه الخرافات حينها أنه كان من أول الأسئلة التي وصلت مجلة المعرفة المصرية مع صدور عددها الأول بتاريخ ١يونيو ١٩٣١، وجاء في السؤال: “الصخرة الشريفة المعلقة بالبيت المقدس ما سبب رفعها وتعليقها؟ فهل هي المعنية في سورة الأعراف في قوله تعالى “وإذ نتقنا الجبل “الآية” أو جبل آخر؟ وهل كان رفعها قبل آدم عليه السلام؟ وهل كان إبراهيم عليه السلام يُولّى وجهه قبلها بعد أن بَنَى هو وابنه إسماعيل البيت الحرام أو قبله؟ وهل يعقوب ويوسف وجميع الأنبياء إلى عيسى عليه السلام كانوا يحجون البيت الحرام أم كانوا يحجون إلى الصخرة وبيت المقدس؟”

وأوضح أحمد زكي باشا في جوابه أن الهيئة التي تبدو عليها الصخرة، وتدفع الناس إلى الاعتقاد فيها بأنه لا يعدو عن كونه تشكّلات من فعل الطبيعة، فيقول: “مدينة القدس مبنية، على جبال متشابكة متواصلة، هي المعروفة بجبال القدس، ومنها جبل “موريا”، ويقوم الحرم المقدسي على قمته، وكلمة “موريا” عبرانية يُقابلها لفظ “مرأي” في العربية؛ لأنها محل الرؤية، أي رؤية الأنبياء لله تعالى.

برزت من هذه القمة كتلة صخرية صلبة، امتازت على سائر أبعاض هذا الجبل بالتماسك والصلابة والمتانة، هذا إلى وضعها الذي جعلها في شكل يلفت الأنظار، وذلك أنّها مع اتصالها الوثيق بأرضية الجبل، غير منتظمة الشكل، تُشبه الواقف المنحني في شبه الركوع إلى ناحية شروق الشمس.

وقد بقيت صخرة القبة على حالتها الطبيعية، كما أوجدتها الاضطرابات البركانية التي شكّلت قشرة الأرض في تلك المنطقة، ويقول أحمد زكي باشا أن تلك الصخرة المنحنية كادت أن تسقط على الأرض لولا أن الإمام محيى الدين بن العربي، قد تداركها من الانهيار والسقوط، فأمر بإسنادها على عمودين لطيفين من الرّخام، لا يزالان قائمين إلى اليوم.

لم يكتفوا بهذا الحدّ من الخرافات فزعم الناس أن ثقبا مستديرا في وسطها، يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم خرقه بجسمه أثناء تحفّزه لامتطاء صهوة البراق والعروج عليه إلى السماء، وحاشا أن يصدر ذلك من ألطف إنسان. وهناك أيضا قطع رخامية مبعثرة، هنا وهنا، يقولون إنها هي السرج الذي كان على ظهر البراق، وما كان لنبي أن يركب على سرج من الرخام إلا إذا كان تمثالا فوق تمثال. وهناك أيضا “كفّ جبريل” مطبوعة على الصخرة، حينما لطمها بيمينه لتبقى ساكنة مستقرة فلا تتصاعد في أثر البراق إلى نحو السماء، والملائكة مخلوقون من أنوار، وليس للنور مثل هذه الآثار في الأحجار… بجانب الصخرة خزانة لطيفة فيها قطعة من الجلمود عليها أثر قدم يزعمون أنها قدم نبي الإسلام.

وقد جرت العادة أن يُترك الغبار يتراكم على خذه المخلفات الثلاثة المزعومة إلى نهاية السنة، وحينئذ يجمعونه، ثم يبيعونه إلى من يعتقد فيه الشفاء من كل الأمراض والأسقام، وللمفتي الحاج أمين الحسيني مأثرة بإلغاء هذه المعرة، وما فيها من مضرة.

وذلك كذب بُهتان كبير، طالما حاربتُه في مصر، وحاربته أخيرا في بيت لحم، وأتيت على أصل هذه الأكذوبة التي هي مثل أخواتها الإسرائيليات… ومن أعجب العجائب أن هذا الحجر نفسه، وبعينه قد جعله الصليبيون أثرا لقدم المسيح حينما استولوا على القدس..”

يُكمل أحمد باشا زكي نقده للسردية الشائعة في زمنه بقوله: “تحت الصخرة المقدسة مغارة مجوفة بفعل الأحداث الطبيعية ينزل الإنسان إليها من الزاوية الجنوبية الشرقية على إحدى عشرة درجة منقورة في الصخر، وارتفاع سقف هذه المغارة ثلاثة أمتار، ولها باب مكسو بالرخام.. وبها مقام منسوب للخليل إبراهيم على اليسار، ومحراب منسوب لسليمان على اليمين، وأما المحراب المزعوم لأبيه داود ففي الجنوب، يُقابله في الزاوية الشمالية مقام يُقال إنه للخضر عليه السلام.. وفي سقف المغارة تجويف صغير يزعمون أنه حدث من اصطدام رأس نبي الإسلام به، وفي سقف المغارة قطعة من الصخر بارزة إلى الأمام يُسمونها “لسان الصخرة” يزعمون أنّها مدته لتحية عمر بن الخطاب حينما نظّف الصخرة، وطهّرها ثم نزل إلى المغارة لإقامة الصلاة فيها، إلى غير ذلك من السخافات والخرافات”.

وقد صار كهف/ مغارة الصخرة مسجداً صغيراً، صُنع له محراب صغير، ارتفاعه ١.٣٧م، وعرضه ٧٦م، وليس لهذا المحراب تجويف كما هو معتاد، بل هناك عمودان، ما بينهما مسطح، وكتب أعلى المحرببالخط الكوفي “لا إله إلا الله محمد رسول الله “، ويُوكد المؤرخ الفلسطيني عارف العارف: “أنه لا صحة للقول القائل بأن الله سيجمع فيها أرواح المؤمنين يوم القيامة، وأنّ ذلك القول الذي من أجله سميت بمغارة الأرواح، ولا صحة أيضا لما يقولونه عن صلاة موسى وعيسى وهذا النبي أو ذاك من الأنبياء في هذه المغارة.. فكل ما في الأمر أنها مغارة طبيعية كان يلجأ إليها بعض الأتقياء ليعبدوا ربهم في هدوء وطمأنينة..

 

المراجع:

([1]) يُنظر: محمود زين العابدين، عالم الفكر، العدد٤، المجلد٣٨، أبريل- يونيو ٢٠١٠، عمارة المسجد الأقصى، ٣٤٧:٣٣٤. حسني شحادة، مجلة الدوحة ١٩٨٢، المسجد الأقصى، ص٥٩:٤٤. رمضان عبدالله عبدالهادي، التاريخ المعماري للمسجد الأقصى، ص ٣٢:٢٩. أحمد عبدالرازق، المجلة التاريخية المصرية، أضواء على المسجد الأقصى وبعض الكتابات الأثرية فيه، ١١٨:٨٢. محمد طنطاوي، مجلة العربي، العدد ١٣٣، ١ديسمبر ١٩٦٩، المسجد الأقصى عبر القرون، ص١٣٧:١٣٠. عفيف البهنسي: الأصالة الإسلامية في عمارة القدس وزخارفها، ورقة بحث مشاركة في يوم القدس: أبحاث الندوة السادسة “هوية القدس العربية والإسلامية” ٥:٢ أكتوبر ١٩٩٥ عمان

([2]) أحسن التقاسيم، ص١٦٨.

([3]) عماد الدين الأصفهاني، الفتح القسي في الفتح القدسي، تحقيق محمد محمود صبح، ص ١٣٧.

([4]) المنار المنيف، ص٨٠،٧٩.

([5]) ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ص٥٠٨٢.

([6]) ابن الجوزي، المدهش، ص١٤٢.

([7]) ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج٥، ص١٦٦.

([8]) السيرة الحلبية، ج٢، ص٧.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete