المعتزلة والعقل النقدي

تكوين

ينقل لنا الشهرستاني في كتابه  ( الملل و النحل) تلك القصة الشهيرة والرائجة و التي مفادها أنه دخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان وهم مرجئة الأمة، فما رأيك في ذلك يا إمام ؟ وقبل أن يجيب الحسن  انطلق تلميذه واصل بن عطاء مجيبا: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل في ناحية من المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزلنا واصل.

هل المعتزلة من أهل السنة؟

و هنا السؤال : ما هي الأسباب و الدواعي التي حركت الرغبة في   إثارة هذا النقاش حول مرتكب الكبيرة ومحاولة توصيفه و توصيف حالته الإيمانية والاعتقادية ؟

لو رجعنا بالزمن إلى الوراء لاكتشفنا أن السؤال في أصله أحد تداعيات ما وقع فيما عرف بأحداث الفتنة الكبرى و ما شهدته من خلافات و حروب سياسية تصاعدت وتيرتها بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان  ثم وقعتي الجمل وصفين و ما سالت فيهما من دماء.. تلك الدماء  وتلك الخلافات والصراعات جعلت المسلمين يتساءلون من كان على حق، ومن كان على خطأ أو باطل؟

الخوارج

وتأرجحت الإجابات ما بين تكفير المخطيء أو الإبقاء على إيمانه.. الخوارج قالوا بكفر مرتكب الكبيرة، والمرجئة قالت: إنه مؤمن كامل الإيمان، وأهل السنة ذهبوا إلى أنه مؤمن ناقص الإيمان، حيث ينقص عندهم إيمان مرتكبي الكبائر بقدر ما ارتكبوا من الكبائر، أما واصل فقال: إنه فاسق وله منزلة بين الكفر والإيمان.. و بالتدقيق نلاحظ أن واصلا لم يبتكر و صف صاحب الكبيرة بأنه فاسق ، فقد كان هذا الوصف شائعا لمرتكب الكبيرة، لكن الجديد الذي أتى به واصل أنه قدم تفسيرا جديدا و جريئا لهذا الوصف محددا مرتبة الفاسق من الأمة في منزلة بين منزلتي الكفر و الإيمان.

و بهذا الرأي الجديد و بهذا الموقف المعلن، تبلورت أفكار أول مدرسة عقلانية  في تاريخ المسلمين ، ولعبت تلك المدرسة دورا خطيرا – إيجابا و سلبا- في الحياة الفكرية والعقائدية في المجتمع الإسلامي.

و الحقيقة أن قول واصل بن عطاء بالمنزلة بين المنزلتين و تأسيسه للمعتزلة كفرقة كلامية و عقدية لم يحدث فجأة و لم يظهر بلا مقدمات ، بل توفرت مجموعة من العوامل و الظروف على الساحة الفكرية هيأت الفرصة لأن يأخذ واصل و فرقته الجديدة مكانا بارزا و متميزا بين بقية الفرق الإسلامية الأخرى.  وهذا بالضبط هو ما ذهب إليه  المستشرق المجري جولد تسهير في كتابه ( العقيدة و الشريعة) مرجحا أن ظهور المعتزلة لم يتم بشكل مفاجيء و إنما تم هذا الظهور بشكل تراكمي و تكونت بذوره من نزعات ورعة لم تقبل تلك الآراء و الأحكام التي قدمتها الفرق الدينية في ذلك الوقت بشأن القضايا الخلافية المطروحة و المعلقة، و اعتبر تسهير أن ما قرره واصل في حكم مرتكب الكبيرة هو في حقيقته اكتشاف ذكي و  ” دقة عجيبة لا تتبناها إلا العقول الفلسفية”.

و إذا كانت فكرة ( المنزلة بين المنزلتين) قد لاقت رفضا و استهجانا من أصحاب الفرق الأخرى  واعتبرت بمثابة ضلالة و بدعة و مخالفة لما عليه أهل السنة ، فإنها تظل في كل الأحوال أحد ثمرات العقل النقدي للمعتزلة لما تضمنته من كسر لثنائية الكفر و الإيمان المطلقين و النظر إلى الأمور بشكل نسبي نوعا ما و مرتبطا بالواقع السياسي إلى حد كبير.

و حسب الدكتور محمد عمارة في كتابه ( المعتزلة و مشكلة الحرية الإنسانية) فإن مبدأ ” المنزلة بين المنزلتين” هو في جوهره موقف سياسي بالدرجة الأولى ضمن صراع سياسي كان قائما بالفعل في ذلك الوقت ضد السلطة الأموية الحاكمة ، و لم يكن مجرد موقف من الإنسان المسلم العادي الذي يرتكب ذنبا من الذنوب الكبائر ثم يموت دون أن يتوب منه إلى الله..  ففي هذا الوقت من التاريخ كانت القضية المثارة هي الموقف من ولاة بني أمية و أمرائهم ، ومن المظالم التي يرتكبونها. المرجئة قالوا : إنهم مؤمنون و من ثم لا يصح الخروج عليهم و لا الدخول في صراعات ضدهم.. أما الخوارج بنزعتهم التكفيرية المعتادة فقالوا: إنهم كفار و من ثم أخرجوهم من إطار الجماعة المسلمة.. و هنا يظهر اتجاه المعتزلة ليقرر أن هؤلاء الحكام في منزلة بين الإيمان و الكفر لكنهم ما يزالون في إطار الجماعة المسلمة، وهم في موقف المناقض لسلوك المؤمنين، فالرابطة معهم قائمة غير مقطوعة و الصراع ضدهم و الخروج عليهم أمران مشروعان، بل واجبان على جماعة المسلمين.

المعتزلة و السنة و النبوية :

بعد أن استقرت زعامة المعتزلة لواصل بن عطاء ، كان عليه أن يكمل مشواره في تبحر علوم الشريعة كي يعرض حججه و يناظر ويجادل خصومه الفكريين.. و اشتهر أن واصلا كان يستند في مناقشاته و مجادلاته مع غير المسلمين إلى المنطق العقلي، و يحتج  بالقرآن الكريم في مناظراته مع المسلمين ، واعتبر أن طريق المعرفة والوصول إلى الحق لا يكون إلا بكتاب الله أو بخبر متواتر و بعقل سليم و إجماع من الأمة.

وقد اشتغل بالفعل في تفسير القرآن و التأليف فيه ( معاني القرآن) ، و قد حكت زوجته أنه كان يقوم الليل مصليا و بجواره لوح ودواة ، فإذا مرت به آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها ثم عاد في صلاته.

و بالنسبة للحديث النبوي فالمصادر تشير إلى أن واصل كانت له آراء واضحة في الأخبار و شروطها ، و اشترط أن يكون الخبر مجتمعا عليه أي  متواترا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و  بذلك يكون له موقف سلبي واضح من أحاديث الآحاد التي لم تبلغ درجة التواتر ، فهي عنده مطروحة و لا يجوز الاحتجاج بها.

إقرأ أيضاً: لا رجم فى الإسلام

و لاشك أن مثل هذا الكلام، لا بد وأن يخلق حالة من  الجفاء و العداء تجاه و اصل من قبل أهل الحديث ، فلم يرو أحد من جامعي الصحاح و السنن أي رواية عن واصل على الرغم من سماعه لأستاذه الحسن البصري و آخرين غيره، و قد يفسر إعراض المحدثين عن واصل أيضا في ضوء أنه مؤسس لفرقة مبتدعة ، و معروف أن المحدثين يشترطون في الراوي المعتمد ألا يكون صاحب بدعة و ألا يكون داعيا إلى بدعته ، و توفر هذين الشرطين في واصل فضلا عن موقفه من روايات الآحاد ، كل هذا يبعده تماما عن  ثقة وعقول و قلوب المحدثين.

وإذا كان هناك ظن شائع بأن المعتزلة ينكرون السنة في مجملها ، و هو نتيجة للدعاية المضادة و التشويهية من  خصومهم التقليديين، فإن الحقيقة أنهم ( المعتزلة)  لا ينكرون المرويات الحديثية جملة واحدة، لكنهم في الوقت نفسه لا يسلمون بسلامة وصحة تلك المرويات لمجرد نسبتها و روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه ،  بل ينظرون إليها و يخضعون نصوصها لميزان العقل، وينقدونها نقدا عقليا وعلميا وتاريخيا، و هو ما عرف فيما بعد عند المحدثين بنقد المتن.

موقف المعتزلة من الروايات الحديثة

و على العموم نستطيع أن نقول أن موقف المعتزلة من الروايات الحديثية كثيرًا ما يكون موقف المتشكك في صحتها، وأحيانًا موقف المنكر و الراد  لها، على خلفية تحكيم العقل والقرآن في متن الحديث ، من ذلك على سبيل المثال:

– أنكروا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته “، لأنه ينافي قوله تعالى: “لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَار وهو اللطيف الخبير”.

– كان عمرو بن عبيد  المعتزلي يقول: “لا يعفو عن السارق إلا السلطان” أي لا يصح لأحد ولا للمسروق منه أن يعفو عن السارق إلا السلطان ، و عمرو هنا يذهب إلى أن السرقة وقد تمت ليست جريمة على المسروق منه وحده، بل هي جريمة على الأمة كلها ، فمن حق السلطان وحده أن ينظر فيها، لأنه الذي بيده حق الأمة.. و هنا عرضت له رواية حديثية  حيث روى له بكر بن حمدان حديث صفوان بن أمية : وهو أن صفوان توسد رداء في المسجد ونام، فجاء سارق فأخذ رداءه، ثم أمسك صفوان بالسارق و جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله: فهلا قبل أن تأتيني به؟، و يفهم من تلك الرواية أن صفوان كان يحق له أن يعفو عن السارق قبل أن يأتي به لرسول الله، وهذا  مناقض لقول عمرو بن عبيد؛ فقال عمرو لبكر بن حمدان: أتحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله؟ فقال بكر لعمرو: أتحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن النبي  صلى الله عليه وسلم لم يقله؟ فحلف عمرو”.

– و رفض الجاحظ ساخرا ما روي أن الحجر الأسود كان أبيض فسوده المشركون بذنوبهم و خطاياهم ، فقال: كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، و قد رد ابن قتيبة على ذلك قائلا: ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك ، ثم يضيف :وبعد فإنهم أصحاب قياس وفلسفة فكيف ذهب عليهم أن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ.

وذكر الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) عن المحب الطبري أنه قال: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد.

– ومن قراءة تراث المعتزلة، نكتشف أن إبراهيم بن سيار النظام أستاذ الجاحظ، هو رجل المعتزلة الأجرأ في نقد المرويات الحديثية قد رفض من الأصل تحول الحديث إلى سلطة، وقد استند في موقفه هذا إلى ما فعله الفاروق عمر بن الخطاب في فترة توليه الخلافة حين كان يشدد على عماله ألا يشتغلوا بالحديث و أن يقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما استند النظام إلى رفض عمر لرواية الصحابية  المهاجرة فاطمة بنت قيس في سكنى المطلقة و نفقتها .. و كان عمر يذهب إلى أن المطلقة ثلاثا تثبت لها النفقة والسكنى، فإذا أراد زوجها أن يرجع إليها لزمه أن يتزوج بها غيره وأن يدخل بها ثم يطلقها بعد ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، إذا: فلابد أن يطأها الآخر، وهذا هو الراجح الصحيح.

وقد جاءت فاطمة بنت قيس إلى عمر فقالت: (يا أمير المؤمنين! إني قد طلقني زوجي فبت طلاقي -تعني: طلقني ثلاثا- فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم لي سكنى ولا نفقة)، فقال عمر بن الخطاب: والله لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لامرأة لا ندري أنسيت أم تذكرت.

كذلك احتج النظام لموقفه بما اعتبره النسبية في صحة الأحاديث، والتي تجلت في تخطئة الصحابة لمرويات بعضهم بعضا، و تراجع البعض منهم عن أحاديث كانوا يقطعون بصحتها، من ذلك مثلا ما رواه الصحابي أبو هريرة : ” من أصبح جنبا فلا صوم له” ،  وهذا يقضي ببطلان الصوم بالجنابة.. وقد ردت السيدة  عائشة ذلك و قالت: “كان النبي ﷺ يصبح جنبا من غير طهر ثم يصوم”   و بعد  تخطئة عائشة لقول و رأي أبي هريرة  و استدراكها الذي يفيد بجواز الصوم مع الجنابة، رد أبو هريرة مذهبه  في ذلك إلى الفضل بن عباس، قائلا: “سمعت ذلك من الفضل ولم أسمع من النبي ﷺ “.

– و من ذلك أيضا أن النظام قد رد حديث عبد الله بن مسعود عن انشقاق القمر قائلا: و هذا من الكذب الذي لا خفاء به لأن الله تعالى لا يشق له القمر وحده و لآخر معه ، و إنما يشقه ليكون آية للعالمين.. فكيف لم يعرف بذلك العامة، و لم يؤرخ الناس بذلك العام ، ولم يذكره شاعر ، ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد “.

نموذج الأصولية (الدينية): مقاربةٌ مفاهيميةٌ وبنائيةٌ ونقديةٌ

وهنا نثبت أن النظام وغيره من المعتزلة قد قادهم منهجهم في التعامل مع المرويات  إلى تشريح الصحابة والتابعين كما يشرح سائر الناس – وهو تعبير الأستاذ أحمد أمين في ( فيض الخاطر)- فهم في نظرهم عرضة للخطأ كما يخطئ الناس، فلم يتورعوا عن أن ينقدوا أبا بكر وعمر وعثمان، ولم يمنعهم أن يفضلوا بعضهم على بعض، ومن أجل هذا كانوا أقرب إلى الشيعة من المحدثين، بل كان بعض المعتزلة شيعة.

و قد أسفر الموقف المعتزلي من السنة و الروايات الحديثية عن هجوم فكري حاد من خصومهم من أهل السنة ، ولك أن تطالع كتاب ( تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة لتجد حجم الهجوم الذي شنه الرجل على المعتزلة ناسبا إياهم إلى الظلم والضلال ، بل وذهب عبد القاهر البغدادي في كتابه ( الفرق بين الفرق) إلى تكفير المعتزلة و استباحة دمائهم و أموالهم.. و لا يفوتنا هنا أن نذكر أن المعتزلة – و للأسف الشديد – قد بادلوا خصومهم من  الفقهاء و المحدثين بعداء و تطرف أشد حين أصبحوا في موقع السلطة زمن الخليفة المأمون و ما بعده ، فحاولوا فرض مذهبهم و أرائهم بالقوة و باضطهاد المخالفين و المحدثين و التضييق عليهم و قطع أرزاقهم ، فكانت تلك جريمتهم الكبرى و السبب الأكبر في سقوط دولتهم وتراجع و انحسار فكرتهم و مذهبهم.

المعتزلة والعقل :

يقول المتكلم المعتزلي الأشهر القاضي عبدالجبار بن أحمد الهمذاني: “فإن الأدلة الشرعية، ليست فقط ثلاثة: هي الكتاب والسنة والإجماع، بل هي أربعة والعقل واحد منها بل هو أولها، والحاكم فيها، «فالأدلة: أولها: دلالة العقل، لأن به يميز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة، والإجماع”.

و نلحظ في هذا الكلام أن المعتزلة يرفضون أن تكون مصادر الاستدلال الشرعية هي فقط القرآن و السنة و الإجماع ، بل هناك مصدر رابع لا غنى عنه و هو ( العقل) ، بل و تجاسروا و ذهبوا إلى أسبقية هذا المصدر على المصادر الثلاثة الأخر ، و لهم في ذلك تفسيرات و أدلة عميقة لا يمكن تجاوزها أو الاستهانة بها لقدرتها على الإقناع و لبساطتها الشديدة التي تجعلها قريبة من أدلة الفطرة السليمة.. فإذا كان الإجماع لابد و أن يستند الى القرآن و السنة ، وبما أن السنة  إنما هي تفصيل و تفسير   لمجمل الكتاب و توضيح لغامضه ، و بما أن الكتاب لن يسلم بصحته خصم و يعترف له بالقداسة وحجية الدليل إلا إذا أقر و سلم بأنه و حي من عند الله ، و هذا يستدعي أولا الاقرار بوجود خالق ومدبر لهذا الكون و هي معرفة لا تتأتى بواسطة الكتاب لأن التصديق بالكتاب ثمرة لها و كذلك التسليم بالسنة متوقف على أن هناك نبي مرسل من عند هذا الإله الخالق ، فلابد ابتداءً من دليل يقودنا إلى معرفة الخالق صاحب الكتاب و مرسل الرسول ، قبل أن يصبح الكتاب و السنة و الإجماع مصادر معترف به للاستدلال الشرعي ، و لا يمكن أن يكون هذا الدليل الذي هو أصل الأدلة إلا ( العقل ) الذي به يتم الوصول لمعرفة الخالق و الإيمان به  و تقبل فكرة الرسل و الرسالات ، ومن هنا نفهم لماذا لم يخاطب الله تعالى إلا أهل العقل، لأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، فهو الأصل في هذا الباب.

و حسب ما ذكره الأستاذ أحمد أمين في (  ضحى الإسلام ) فقد أطلق المعتزلة  للعقل العنان في البحث في جميع المسائل من غير أن يحدوه أي أحد، فجعلوا له الحق أن يبحث في السماء وفي الأرض، وفي الله والإنسان، وفيما دق وجل، فليس له دائرة معينة له الحق أن يسبح فيها، ودائرة ليس له حق ذلك، بل خُلق العقل ليعلم، وفي مكنته أن يعلم كل شيء حتى ما وراء الطبيعة أو ما وراء المادة، بل كانت أبحاثهم فيما وراء الطبيعة أوسع وأعمق من أبحاثهم الطبيعية بحكم أنهم مصلحون دينيون، ودعاة عقيدة.

وقالوا أيضا بسلطان عقل الإنسان وإرادته وتحررهما من سلطان القدر و الإجبار.. فالعقل حر في التفكير لم يقيده قدر سابق، والإرادة حرة في التنفيذ لم تقيدها إرادة سابقة، ومن أجل هذا تحددت مسئولية الإنسان عن أفعاله و اختياراته، و بتلك الحرية يكون مسئولًا ومحاسبا على حريته و مسئوليته.

أما بالنسبة للآيات القرآنية التي تتحدث عن القضاء والقدر والمشيئة ، فقد أولها المعتزلة  في ضوء حرية البشر في الفعل وفى الترك وأن الإنسان مخير وليس مسيرا ، كما أولوا آيات علم الله و العلاقة بين هذا العلم و الاختيار الإنساني الحر ، في ضوء ذلك الأثر الذي جاء فيه أن عبد الله بن عمر – رضى الله عنهما – قد سئل عن حالة بعض الناس الذين يزنون ويشربون الخمر ويسرقون ويقتلون النفس زاعمين أن ذلك كان في علم الله تعالى، فغضب ثم قال: (سبحان الله العظيم، قد كان ذلك في علمه أنهم يفعلونها، ولم يحملهم علم الله على فعلها) ، ثم ذكر لهم ما قاله أبوه عمر بن الخطاب: “مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم ، والأرض التي أقلتكم ، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض ، فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى ، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب ، فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها”

و قد أقر العقل المعتزلي أن الله والعالم سائران على قوانين العدل ألزم الله بها الإنسان و كتبها سبحانه على نفسه، فليس يعذب مطيعًا، وليس يثيب عاصيًا، لأنه تقيد بقوانين العدل، فليس له أن يدخل الجنة من لا يستحقها و لا أن يعذب في النار من لا يعمل بعمل أهلها.

باختصار قدس المعتزلة العقل تقديسا كبيرا و مبالغا فيه، و كان من نتيجة ذلك التقديس أنهم  حصروا المعجزات في دائرة ضيقة، وربما قصروها فقط على القرآن الكريم معجزة الإسلام الوحيدة والخالدة.. و إذا كانت النظرة كذلك لمعجزات النبي ، فإنهم أنكروا تماما كرامة الأولياء، و يرفضون القصص و الروايات  الواردة في ذلك ، على أساس  أن هناك سننا كونية وقانونًا طبيعيا لا يتغير إلا ببرهان قاطع لا يتطرق إليه شك أو إيهام.. وفي ذات السياق أنكر المعتزلة رؤية الجن  واعتبروها وهما من الأوهام مستدلين بقول الله تعالى:” إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ” ، ورفضوا كل روايات العامة وغير العامة في ذلك، بل كانوا يوبخون من اعتقد بها، أو اعتقد رؤيتها، أو حكى مشاهدة أعمالها.

كذلك فسروا السحر بأنه مجرد تلاعب من الساحر بعين المسحور أو بخياله، فالساحر لا يقلب حقائق الأشياء ، ودليلهم في ذلك قوله  تعالى في قصة نبيه موسى:” سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ” ، و قوله ” يخيل إليه من سحرهم أنهم تسعى” ، فليس للساحر قدرة على قلب الحقائق، وإنما له قدرة على إيهام المشاهد أو الرائي.

و بالطبع لم تسلم نظرة المعتزلة للعقل والتي بلغت حد التقديس، من نقد سواء من القدامى أو من المحدثين ، و لم يقتصر هذا النقد على خصوم المعتزلة، بل صوبت لهم سهام نقد جاد و موضوعي من المحبين و المنصفين، من ذلك مثلا ما يقوله الأستاذ أحمد أمين في ( ضحى الإسلام) :  ربما أخذ عليهم أنهم في سيرهم هذا وراء سلطان العقل قد نقلوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية، وهذا النهج إذا صح أن يقتصر عليه في الفلسفة فلا يصح أن يقتصر عليه في الدين، لأن الدين يتطلب شعورًا حيًا أكثر مما يتطلب قواعد منطقية؛ فالدين ليس كالمسائل الرياضية ولا كالنظريات الهندسية تتطلب من العقل حلها، وفي ذلك كل الغناء. بل الدين أكثر من ذلك يتطلب شعورًا يدعو إلى العمل، وحرارة إيمان تبعث على التقوى. ونظام المعتزلة – وهو الذي جرى عليه المتكلمون بعدهم – نظام جيد التفكير ضعيف الروح، غلا في تقدير العقل، وقصر في قيمة العاطفة. يتجلى ذلك لك إذا أنت وازنته مثلا بمنهج الصوفية؛ فهو على العكس من المعتزلة، شعور وعاطفة ولا منطق.

و لكل ما سبق يمكننا القول أن  منهج المعتزلة رغم حيويته الفكرية و عقلانيته الجديرة بالاحترام والتقدير في كثير من جوانبها ،إلا أنه يظل منهج نخبوي للغاية،  منهج لا يناسب إلا الخاصة، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلا خاصة المثقفين، أما العوام فكانوا و لا يزالون منه في نفور و خصام.

 

………………….

المصادر و المراجع :

– الملل و النحل                                       الشهرستاني

– تأويل مختلف الحديث                                  ابن قتيبة

– الفرق بين الفرق                               عبد القاهر البغدادي

– المنية والأمل                                          ابن المرتضى

– فتح الباري                                       ابن حجر العسقلاني

– العقيدة و الشريعة                                   جولد تسهير

– واصل بن عطاء و أراؤه الكلامية            سليمان الشواشي

– ضحى الإسلام                                      أحمد أمين

– ظهر الإسلام                                        أحمد أمين

– فيض الخاطر                                     أحمد أمين

– المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية              محمد عمارة

– الإسلام و المستقبل                                محمد عمارة

– المعتزلة                                    زهدي جار الله

 

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete