المُثقَّف العربي والأزمات: جدلية الحضور والغياب

تكوين

أي (حضور/ غياب) للمُثقَّف العربي في أوقات الأزمات؟

قبل الإجابة على هذا السؤال من وجوهٍ ثلاثة: 1- استنكارية. 2- استفهامية. 3- استقصائية؛ ثمة سؤالان سابقان عليه، وهما:

  • هل هذا سؤال على درجة من الأهمية، أم في طرحه نوع من الاستعلاء على بقية الناس؟ أي لماذا لا يُطرح سؤال: أي (حضور/ غياب) للحدَّاد أو النجَّار العربي في أوقات الأزمات؟ لماذا المُثقَّف تحديداً؟ لأنه، كما أرى، الشخص المَعْنِيُّ بجمع المعلومات والبيانات المُختلفة والمُتعدِّدة، والعمل على تبويبها وتأطيرها وتشذيبها وتهذيبها، لغاية إنتاج معرفة ما من هذه البيانات. أو هو الشخص المنوط به جمع أكبر قدر ممكن من الـمعلومات Data حول موضوع معين لغاية إنتاج معرفة Knowledge. أي أن عمل المُثقَّف[1] الحقيقي يكمن في جمع أكبر كمٍّ من المعلومات والبيانات لإنتاج معرفة مُؤسَّسة على تلك المعلومات والبيانات والإحصاءات والأدلة والبراهين…إلخ[2] أو بمعنى من المعاني هو القادر على تبصِّر ثُلاثية: 1- الأفكار. 2- الأشخاص. 3- الأشياء؛ لفهم طبيعة هذه الثلاثية كما هي، دون إضافات أو زيادات من قبل المُشْتَغِل عليها، في المرة الأولى. أي ترتيب الأفكار والمعلومات وتبويبها وتنظيمها، ووضعها ضمن قوائم قابلة للفرز والفصل، بحيث يُفهم منها ماهيَّة هذه الثلاثية وآليات اشتغالها في الوجود، بحيث نُشكِّل معرفة أولية صرفة عن هذه الأشياء كما هي بعيداً عن أية آراء أو وجهات نظر شخصية حولها. وفي المرة الثانية تُقدَّم اقتراحات لتعديل/ تشذيب/ إضافة/ شطب…إلخ، تلك المعلومات والبيانات، إذ تُقدَّم مجموعة من الخُلاصات، بناءً على السيروة الداخلية لحركة تلك المعلومات والبيانات، بعيداً عن أي رغبات شخصية. أو يتداخل الذَّاتي بالموضوعي في هذا المقام، لكن ليس الذَّاتي الشخصي أو النفسي أو تلك الذَّاتية القائمة على رغبات شخصية، والتي لا علاقة لها بسيرورة المقدمات التي انتظمت بعد جمع كمٍّ هائل من المعلومات والبيانات، بل الذَّاتية الناتجة عن طبيعة المعرفة التي تمَّ التوصل إليها في المرة الأولى، بحيث يُؤدِّي ذلك في نهاية المطاف إلى تطوير تلك الثلاثية والدَّفع بها وبتمثلاتها في الاجتماع السياسي قُدما ناحية الأمام. فالمُثقَّف، بما هو مشتغل بالمعرفة أساساً، يعمل ضمن إطار كُلي، مُطْلَق، عابر، بما يشمل الحِدادة والنجارة والسياسة والاقتصاد والدِّين والفلسفة والأنثروبولوجيا والاجتماع والتاريخ…إلخ، مع إمكانية تخصِّصه في واحد من هذه الاختصاصات، شريطة إلمامه بآليات عمل ثلاثية: 1- الأفكار. 2- الأشخاص. 3- الأشياء؛ في الحقل أو في التخصّص الذي يعمل عليه. لذا، بناء على ما سلف، لا ينطوي السؤال السابق: (أي حضور/ غياب للمُثقَّف العربي في الأزمات؟) على نبرة تكبِّرٍ أو استعلاء، بقدر ما هو سؤال طبيعي، ومُنسجم مع السياق الذي يتحرَّك فيه المُشتغل بالمعرفة؛ فهو آتٍ من باب تحصيل الحاصل. فالطبيعة أو المجال الحيوي الذي يتحرَّك فيه المُثقَّف يجعل من السؤال السابق سؤالاً منطقياً ومتسقاً بامتياز.

دور المثقف في المجتمع

هذا بالنسبة للسؤال الأول المُـتعلق بأهمية تواجد المُثقَّف تحديداً في الأزمات، وعدم انطواء هذا السؤال على أي صيغ استعلائية. أما فيما يتعلق بالسؤال الثاني، فيُمكن تأطيره بـ:

  • لماذا ينبغي طرح سؤال: أي (حضور/ غياب) للمُثقَّف العربي في أوقات الأزمات، وليس في أي أوقات أخرى؛ أوقات الرَّخاء مثلاً؟

برأيي هو سؤال مشروع، كما السؤال عن حضور/ غياب المثقف العربي في أوقات الرَّخاء، مشروع هو الآخر. لكن ربما طبيعة المجتمعات العربية التي تعيش قلقاً مستمراً، بسبب ضخامة الأحداث والتحوّلات التي تعيشها، منذ عقود طويلة، تجعل سؤال: أي (حضور/ غياب) للمُثقَّف العربي في أوقات الأزمات؟ سؤالاً مُلحَّاً ومُتعالقاً مع قضايا المعيش اليومي. لكن هذا السؤال قد يُدخل الحالة المعرفية برمِّتها، والعمل الذي يضطلع به المُثقَّف، في العموم، في محارجة كبيرة، إذ يحدث تناقض بين فكرة الاجتهاد المعرفي الطويل وما يستلزمه من صبرٍ وأناة في جمع المعلومات والبيانات وتدقيقها وتبويبها وفرزها واستخلاص النتائج منها؛ وبين فكرة التواجد وإبداء الرأي بقضايا المعيش اليومي، أي ينتقل المُثقَّف من كونه مُشْتَغِلٌ بالمعرفة وإفضائها إلى حقيقة الأشياء والأفكار والأشخاص، إلى كونه محض مُنفعل بالأحداث اليومية، كما ينفعل بها أي إنسان عادي.

إذاً، هذان سؤالان سابقان لسؤال: أي (حضور/ غياب) للمُثقَّف العربي في أوقات الأزمات؟ نظراً لتعالقهما مع ما يمكن أن يقترح من إجابات في هذا المقام، والتي أشرتُ، بداية هذه المقالة، أنها ستكون[3] من ثلاثة وجوه: 1- استنكارية. 2- استفهامية. 3- استقصائية.

إقرأ أيضاً: من تنوير الظاهرة الدينية إلى إنارة العقل

الوجه الأول، بصفته سؤالاً استنكارياً، فالمُثقَّف (حاضر/ غائب) في أوقات الأزمات، أي ليس ثمة ما يُثير في طبيعة هذا السؤال. ففي كل أحداث الحياة اليومية، سواء أكانت أحداث رخاء أم أحداث أزمات، يتواجد المُثقَّف العربي أو يغيب وفقاً لظروفه الخاصه، فهو مُنخرط في سياق كبير شاء أم أبى، وسواء أبدى رأياً فيما يجري أم امتنع عن ذلك. لذا فإنَّ السؤال، والحالة هذه، يفقد معناه ومشروعيته، ويُصبح طرحه من عدمه شيئاً واحداً، فليس من مُبرِّر له أصلاً، لا سيما إذا ما أضفنا الوضع المزري والكارثي للحالة الثقافية بتجلياتها المُختلفة في العالم العربي، فهي في أدنى درجات سلم الاهتمامات الحياتية[4].

الوجه الثاني، بصفته سؤالاً استفهامياً، يفترضُ تقديم إجابة، أو تقديم العديد من الإجابات عليه. ولكي نُساهم في تقديم إجابة على هذا السؤال دعونا نعود إلى تعريف المُثقف كما فصلنا له في الجزء الأول من هذه المقالة، والمُتعلق بجمع أكبر كم من المعلومات والبيانات لإنتاج معرفة مُؤسَّسة على تلك المعلومات والبيانات والإحصاءات والأدلة والبراهين…إلخ. أو بمعنى من المعاني هو القادر على تبصِّر ثُلاثية: 1- الأفكار. 2- الأشخاص. 3- الأشياء؛ لفهم طبيعة هذه الثلاثية كما هي، دون إضافات من قبل المُشْتَغِل عليها، في المرة الأولى. أي ترتيب الأفكار والمعلومات وتبويبها ووضعها ضمن قوائم قابلة للفرز، بحيث يُفهم منها ماهوية هذه الثلاثية وآليات اشتغالها في الوجود، بحيث نُشكِّل معرفة أولية صرفة عن هذه الأشياء كما هي بعيداً عن أية آراء أو وجهات نظر شخصية حولها. وفي المرة الثانية نستخلص النتائج، وفي المرة الثالثة –إن كُنا أكثر اجتهاداً- نقدَّم اقتراحات لتعديل/ تشذيب/ إضافة/ شطب…إلخ. بما يُفضي إلى فهم أعمق وأشمل، يُجنبنا مثل تلك الأزمات والمشاكل، إن كنا على درجة متقدمة من الوعي.

أي أن العمل الحقيقي للمُثقَّف بما هو مُشتغل بالمعرفة، يتجاوز إحداثيات المعيش اليومي، حتى وهو يُوظِّف هذه الإحداثيات لاحقاً، إلى ما هو أعمّ وأشمل، أي إنتاج نسق معرفي كبير ومتسق ومترابط، مبني على كمٍّ هائل من المعلومات[5] التي تنتظم كمقدماتٍ لاستقراء النتائج وإخراجها. لكن السؤال المطروح ها هنا؟ هل الأزمات شأن يومي أم شيء عابر للأيام في العالَم العربي، لكي (يحضر/ يغيب) عنها المُثقَّف العربي؟

إذا كانت الأزمات شأن يومي في العالَم العربي، فمهمة الحديث عنها تتجاوز النطاق الذي يتحرَّك فيه المُثقَّف، فالانتقال السريع من أزمة إلى أخرى يجعل من العسير على المُثقَّف الانخراط في تناول تلك الأزمات وتداولها، نظراً لغياب المعلومات والبيانات التي يمكن أن تجعل حُكمه أو النتيجة المُستخلصة التي يتوصل إليها، نتيجة صحيحة أو أقرب للصحة والمنطق. فحجم المعلومات المتوافر عن الأزمات اليومية قليل وناقص ولا يفي بالغرض، ويُؤدِّي إلى تشويه النتائج وتزييف وعي المُتلقي بالتالي. ولربما استولت الصحافة، تاريخياً، على هذه المساحة، فالميدان الذي برعت فيه الصحافة هو ميدان الأزمات والمشاكل اليومية، وإنْ كانت في فترات نضوجها قد جنحت ناحية الصحافة الاستقصائية[6] التي تستخلص نتائجها بعد جهد بحثي طويل، ولا تظهر نتائجها بشكل فوري، كما هي الصحافة العادية المشغولة باليومي وما يستجد فيه من مشاكل وأزمات. وتاريخياً أيضاً، دخلت شبكات الإذاعة والتلفزة على هذا الخط، وعنيت عناية كبيرة، في نشرات الأخبار والبرامج المختلفة، بمشاكل الناس وأزماتهم. ومع التطوّر التقني الحديث تحوَّلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصات لعرض المشاكل وإبراز الأزمات، وصار الانتقال من أزمة إلى أزمة، دون إنهاء للأزمة السابقة وإيفائها حقّها على المستوى المعرفي ودون معرفة كاملة بالأزمة الحالية، طابعاً عاماً يطبع هذه المواقع، ما سبب حالة من العُسر في التعامل مع كم هائل من الأزمات المُعلَّقة وغير المبتوت فيها.

في حال كانت الأزمات شأن يومي، فإنَّ الحديث عنها من عدمه يتجاوز ما يبرع به المُثقَّف المُشتغل بالمعرفة. أما إذا كانت الأزمات شأن غير يومي، فإنها تدخل في صميم عمل المُثقَّف، ولكن ليس بكتابة شذرات عنها أو فقرات مجتزأة، كما يحدث اليوم في العوالم الافتراضية، بل بتبصِّر مقدماتها والظروف التي أنتجتها وما ترتَّب عليها آناً أو بعد حدوثها مباشرة وما تداعياتها وإلى ما آلت إليه لاحقاً، أي تفهّم سيرورتها من البداية غير المعلنة، مروراً بلحظة انطلاقها المُعلنة، وصولاً إلى مآلاتها في الواقع. وهذا عمل منسجم تماماً مع طبيعة عمل المُثقَّف، ويأتي في صُلب انشغالاته. لكن، لا يعني ذلك، بأي حالٍ من الأحوال، الانخراط في تلك الأزمات والتفاعل معها بانفعالٍ أو استحواذ، بطريقةٍ تُفقده القدرة على تفهّم ما الذي حدث وكيف حدث وما الأسباب التي قادت إلى حدوثه وما ترتَّب على حدوثه في الزمن الحاضر وما يمكن أن يترتب عليه في المستقبل. أي أن يجتهد، بقدر ما يستطيع مع بذل أقصى جهد وتجنّب أي تقصير، في تبصّر الأزمة وحيثياتها، بحيث يصل إلى نتائج كاشفة للحقيقة. وبطبيعة الحال، فإنَّ هذه السيرورة، تنطوي على برودٍ من نوعٍ ما، رغم ما تنطوي عليه الأزمة، أي أزمة، من حرارة عالية، تجعل الناس ينفعلون معها، ويفقدون أعصابهم مع تطوِّر أحداثها من ثمَّ.

هذا بالنسبة للإجابة على سؤال: أي (حضور/ غياب) للمُثقَّف العربي في أوقات الأزمات؟ من وجهين: 1- الوجه الاستنكاري. 2- الوجه الاستفهامي. لذا يبقى الوجه الثالث: الوجه الاستقصائي. ولكي نجيب عليه علينا بداية أن نسأل: ما هي الأزمات التي طرحنا سؤال حضور وغياب المثقف العربي حولها؟

في المستوى الاستفهامي، عرفنا المدى الزَّمني للأزمة، لناحية كونها أزمة يومية أم غير يومية، بما يجعل من وجود المُثقَّف فيها أمراً مُتعلقاً بذلك. في المستوى الاستقصائي، نتساءل حول طبيعة أو ماهية الأزمة؟ ما هي الأزمة أو الأزمات التي يصير (حضور/ غياب) المُثقَّف فيها أمراً يستوجب السؤال؟

هل هي الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدينية أو الحضارية أو الفنية…إلخ. وما يمكن أن يندرج تحتها من أزمات مختلفة ومتعددة من حروب ومجاعات وإبادات وقضايا فساد واختلاس ورشاوى وازدحامات مرورية وسرقات علمية…إلخ؟

لنفترض أنها جميعاً، مع تفاوت في أهميتها وسطوتها على المجال العام لحظة حدوثها. ولو دققنا لوجدنا أن الأزمات ذات الطابع السياسي، والأخرى ذات الطابع الديني، هي الأكثر حضوراً وسطوة في العالَم العربي. وهذا عائد في مجمله إلى سببين رئيسيين: السبب الأول، مُتعلق بالبنية الدينية التي رُبِّي عليها الإنسان العربي على مدار قرون طويلة، ما جعل الدِّين مُكوناً رئيسياً من مكوناته الحياتية، في تمثلاته الجسدية والعقلية والروحية، وتقاطعات هذه التمثلات في الحياتين: الدنيوية والأخروية. والسبب الثاني متعلق بكثرة الأحداث السياسية التي تعاقبت على العالم العربي، ولو أخذنا القرنين الأخيرين، ابتداءً من غزو نابليون لمصر، لتأكدنا من ذلك. فالبنيتين: الدينية والسياسية، متجذرتان في عُمق التكوين العربي، والإفلات منهما صعب جداً. لكن ذلك لا يُلغي، بأي حالٍ من الأحوال، سطوة وحضور أزمات أخرى تضغط علي أي مجتمع من المجتمعات البشرية، لكننا بما أننا في العالم العربي فإننا نُخصِّص، لكي لا تفلت الأمور وتصبح بلا جدوى.

إذاً، ثمة قضايا أو أزمات كثيرة وعديدة، كبيرة وصغيرة، تفرض سطوتها وحضورها، من أبرزها الأزمات ذات الطابعين السياسي والديني، في العالَم العربي، تجعل من سؤال: أي (حضور/ غياب) للمُثقَّف العربي منها، سؤالاً مشروعاً وبرسم الإجابة. وهذا بدوره يقودنا إلى مسألة الحضور والغياب، من الذي يُقرِّره؟

من هو المثقف

أشرتُ سابقاً إلى أن تعريف المُثقَّف، كما أطرحه، منسجم تماماً مع مسألة تقرير حضور المثقف وغيابه. أي أن هذا (الحضور/ الغياب) جزء من البنية التكوينية للمُثقَّف، فهي مسألة داخلية متعلقة بالسيرورة الدَّاخلية للمُثقَّف وتعالقاته المعرفية مع ثلاثية: 1- الأفكار. 2- الأشخاص. 3- الأشياء. لكن هذا الإقرار (حضوراً/ غياباً) ليس متعلقاً بالمُثقَّف لوحده، بل مُتعلق بالسُّلطة السياسية من جهة، وبسلطة الناس من جهة ثانية. والسُّلطتان، بمعنى من المعاني، تُقرران (حضور/ غياب) المُثقَّف في أوقات الأزمات، لكن بشروطهما، وليس وفقاً للبنية الدَّاخلية للعملية المعرفية التي يشتغل عليها المُثقَّف. فالسُّلطة السياسية تُحاول جاهدة ضبط الحالة المعرفية بما ينسجم مع مصالحها العليا، لذا يُصبح المُثقَّف مرتهناً –إذا ما أراد النطق- لما ترتضيه هذه السُّلطة. كذلك الأمر بالنسبة لسلطة الناس، فهم ينتظرون من المُثقَّف أن يُعبِّر عن حالتهم الوجدانية التي تعتريهم بشدةٍ في الأزمات، لا أن يجتهد في تبصِّر الحقيقة والعمل على نشرها، ليُصبح الناس أكثر وعياً. وكثيراً ما يتم تداول مفهومي: 1- مُثقَّف السُّلطة كنوعٍ من الذمِّ لِمَن يُعبِّر عن وجهة نظر السُّلطة السياسية في أوقات الأزمات. و2- المُثقَّف العضوي[7] كنوعٍ من المدح لِمَن يُعبِّر عن وجهة نظر سُلطة الناس في أوقات الأزمات. رغم أنهما لا يختلفان عن بعضهما البعض في الجوهر، فالقرار بمشاركتهما في التعبير عن الأزمات مرهون –بشكل مسبق وحاسم- بما ترتضيه السلطة السياسية أو سلطة الناس تحديداً. في خضمّ بحث المُثقَّف الحقيقي عن حقيقة الأزمة وبنيتها كاملة من مرحلة الكمون إلى مرحلة المآلات، قد يلتقي خطابه، أو جزء منه، مع مقتضيات السُّلطة السياسية أو وجدان سلطة الناس، لكن ذلك لا يجعله جزءاً مُندمجاً معهما، بل هو سيرروة مستقلة تستطلع الحقيقة أنَّى تواجدت، وفقاً لمنهجٍ علمي لا يخضع، من جهة، لرغبات الناس ومشاعرهم الانفعالية، ومن جهة ثانية، لا يخضع لاشتراطات السُّلطة السياسية. بل هو نِتاج اجتهاد معرفي كبير، يضع الأزمة في ميزان منطقي، فيرى أي مقدمات أفضت إلى هذه النتائج. فالحضور والغياب في أوقات الأزمات، هو سيرورة داخلية في معناه العميق، بما يتجاوز السُّلطلتين: 1- السياسية. 2- سلطة الناس. فتبصِّر الحقيقة من قبل المُثقَّف المعني بالمعرفة بما هي كذلك، قد لا يعجب السلطتين، بما يجعلهما يُعاقبانه ويتهمانه بتهم شتَّى قد يُفضي بعضها إلى مقتله.

إنَّ المنهج العملي الذي يتبعه المُثقَّف في جمع أكبر، في المرحلة الأولى، عدد من المعلومات والبيانات والإحصائيات، مع ما يستلزمه هذا الجمع، في المرحلة الثانية، من فرز لهذه المعلومات وتبويب لها، للحصول على نتائج، في المرحلة الثالثة، أقرب إلى الحقيقة والصحَّة. هذا المنهج، وما يستغرقه من وقت قد يطول ويدوم لسنواتٍ، لا ينسجم، من ناحية، مع رغبات الناس الآنية واندفاعاتهم السريعة، فهم إذ يستغرقون في مشكلة أو أزمة ما فإنهم يستنفدون مشاعرهم فيها بشكلٍ سريع، بانتظار أن تحلّ أزمة ثانية ويفرغوا فيها طاقاتهم ومشاعرهم. ومن ناحية ثانية، لا ينسجم مع مقتضيات السُّلطة السياسية التي تبحث عن مطابقة كاملة بين ما هي عليه، وما يمكن أن ينطبق به المُثقَّف في أوقات الأزمات.

في تبصِّر المشهد كاملاً، يمكن تفهّم اشتراطات السُّلطة السياسية ورغبات سلطة الناس واندفاعاتهم، دون إطلاق أحكام قيمة نهائية وأخلاقية على هاتين السُّلطتين. وتاريخياً أنتجت كل سلطة من السُّلطتين، جُملة من الناطقين باسمها ومُعبّرين عن اشتراطاتهما وما ينسجم مع ما تؤمنان به وتقرانه إقراراً أخيراً ونهائياً. لكن ذلك لا ينسجم مع عمل المُثقَّف الحقيقي كما أطرحه ها هنا، بصفته إنسان معرفي بامتياز. فهذا الاشتغال المعرفي لا يعزله عن محيطه ولا يجعله في منطقة خالية من الناس، بل يجعله ينسحب من الحالة المُشوشة التي تصنعها ضخامة الأحداث، ويُصغي بانتباهٍ شديد إلى مقدمات تلك الأزمة والمآلات المنتظرة لتلك المقدمات، سواء أأعجب الناس بذلك أم لا. فالمثقَّف الحقيقي لا يعمل وفقاً لرغبات الناس وأهوائهم، ولا يُسمعهم ما يطمئنهم، فتلك وظيفة غير مُنسجمة مع شخصيته الاعتبارية، ليس لأسباب انعزالية أو انسحابية أو أنطوائية أو بسبب خوف داخلي أو تخويف خارجي، بل لأن جوهر عمله يقتضي ذلك. فوجوده في الأزمة شيء لازم لكن ليس من زاوية الانخراط في تلك الأزمة والتفاعل مع أحداثها لحظة بلحظةٍ، بل بتبصّر مشهديتها الشاملة، لتقديم ما يُفيد في هذا المجال. فالأولى أن يكون للمُثقَّف موقف معرفي، بعيداً عن أي استحقاقات سيكولوجية أو قومية أو عقدية أو إثنية أو طائفية…إلخ، من الأزمات التي تمر بها الأمة. وهذه الأولوية في تكوين موقف معرفي تتأتى لعدّة أسباب، من أبرزها:

أولاً: بصفته مُتعالقاً مع حوادث الاجتماع السياسي الذي يعيش فيه، ووظيفته كمشتغلٍ بالمعرفة تتطلب منه تواجداً في هذا الاجتماع، لأنه غير منعزل أو معزول عنه، وما يجري على الناس يجري عليه، لكن أن يتحقَّق تواجده في هذا الاجتماع وأزماته من زاوية الباحث عن حقيقة المقدمات التي قام عليها والمآلات التي يمكن أن يُفضي إليها.

ثانياً: ليُراكم المجتمع مادة بحثية حول أزماته ومشاكله، بحيث تُنير الطريق أمام الأجيال القادمة، والأجيال الحالية إذا كانت على درجة متقدمة من الوعي، بحيث يتسنى لها تجنِّبها وتجاوزها وعدم تكرارها.

ثالثاً: للتحقِّق في الفهم والتبصّر أكثر، فواحدة من الأولويات التي ناضلت البشرية من أجلها، هي المزيد من الوعي والفهم. وهذا يتطلب انسحاباً من المشهد المُتأزِّم للقدرة على تبصره وفهمه بصورة أعمق وأشمل. فالفهم العميق للأشياء لا يتأتي من الانخراط فيها، إذ يُصبح المُنخرط جزءا من مجموع كبير دون ميزة تذكر، بل من مُراقبة الصورة شاملة وكاملة ومن زوايا مختلفة، تحديداً من مرحلة ما قبل تواجدها وانبثاقها إلى العلن إلى شرارتها الأولى وتداعياتها من ثمّ، وصولاً إلى مآلاتها. أي البحث في الأسباب الكامنة وراء تلك الأزمة، لغاية فهم أعمق وأشمل.

وهذا العمل المعرفي: 1- المُضني ذهنياً. 2- المُتعب نفسياً. 3- المُكلف مادياً؛ سيظهر المُثقَّف الحقيقي بمظهرٍ: 1- بارد، في وقت ترتفع فيه درجة حرارة الناس إلى مستويات قياسية. 2- مُنعزل، في وقت تنخرط فيه جماهير عريضة وتتفاعل مع الأزمة بكل جوارحها. 3- مُتعجرف، في وقت يتواضع فيه الناس ويتضامنون مع بعضهم البعض، حتى ولو بالشعور عن الأزمة أو المشكلة التي حلَّت عليهم.

وعليه، اقتضاء لما سبق، فإنَّ عمل المُثقَّف الحقيقي يتجاوز محنة السُّلطتين: السياسية والشعبية، ويجعل من انخراطه في أزمات مجتمعه ومشاكله، جزءاً لا يتجزأ من سيرورة تحقِّقه في العالَم؛ وليس لأي اعتبارات أخرى، سياسية كانت أم شعبية. وهذا يمكن أن يُوقعه في مشاكل جمّة مع السُّلطتين، رغم أنه –وفقاً لآليات اشتغاله في العالَم- لا يعتبر أي من السلطتين خصماً له، حتى وإن تقاطعت، (قبولاً/ رفضاً) تحليلاته مع ما تقر إحدى السلطتين. فالمُثقَّف الحقيقي يتجاوز محنة (إرضاء/ إغضاب) أي سطلة، فهو يُجلِّي شخصيته الاعتبارية بتحليلاته، بناء على معارف كبيرة، واستبصاراته واستنتاجاته، وفقاً لمنهج علمي ابتداءً. فتحوِّله من جامع للثمار، إلى صانع للخمرة، قد يُؤلِّب عليه الجميع، رغم أن صناعته للخمرة ليس فعلاً مقصوداً في ذاته، بل هو طبيعة منسجمة مع جوهر شخصيته الاعتبارية ومقاصدها المعرفية. فإتقانه لصنعته قاده إلى مادة جديدة، بما عمَّق فهمه لما يبحثه، وفهم الآخرين له –إن أرادوا ذلك وتوافروا على إرادة قبول الحقيقة مهما كانت قاسية ومؤلمة- بلا شك.

إذاً، ثمة سؤال مركزي ها هنا تمثَّل في: أي (حضور/ غياب) للمُثقَّف العربي في أوقات الأزمات؟ تفرَّع عنه جُملة من الأسئلة هي على التوالي:

أولاً: هل ينطوي سؤال: أي (حضور/ غياب) للمثقَّف العربي في أوقات الأزمات نبرة استعلاء، تضعه في مرتبة أعلى من الناس؟

ثانياً: لماذا ينبغي طرح سؤال: أي حضور/ غياب) للمثقَّف العربي في أوقات الأزمات، وليس في أوقات الرَّخاء؟

ثالثاً: هل الأزمات المقصودة هي أزمات يومية أم أزمات غير يومية؟

رابعاً: ما هي طبيعة هذه الأزمات ونوعيتها، هل هي أزمات دينية أم سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية…إلخ. بحيث يُصبح معها سؤال: أي (حضور/ غياب) للمُثقَّف العربي في أوقات الأزمات، سؤالاً مشروعاً؟

وبإزاء، السؤال المركزي، وما انبثق عنه من أسئلة حافّة به، اجتهدتُ في اقتراح[8] إجابة على هذه الأسئلة، وضعتها ضمن سياقات ثلاثة: 1- استنكارية. 2- استفهامية. 3- استقصائية. مع ما اقتضته طبيعة كل سياق من بسط، تشابك، نهاية المطاف، مع السياقين الآخرين، بطريقة أفضت إلى فهم، كما ادعِّي، أفضل لعلاقة المُثقَّف العربي بالأزمات التي تُحيط به، وبالمجتمع العربي، من كل جانب.

 

المراجع:

[1]  لمن أراد الإطلَّاع على سياقات مختلفة وتعريفات متنوعة للمثقف يمكنه الرجوع إلى (إشكالية المثقف عند غرامشي)  لحيدر علي محمد، وهي رسالة ماجستير من قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2004. على الرَّابط التالي:

https://kitabat.com/wp-content/uploads/2018/07/%D8%A5%D8%B4%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%B4%D9%8A.pdf

 

[2]  هذا في جوهره هو المنطق الاستقرائي، الذي يستلزم التحصّل على أكبر كم من المعلومات والبيانات والإحصاءات

[3]  انسجاماً مع روح هذه المقالة فإني اجتهدُ في تقديم إجابات ها هنا.

[4]  يندرج تحت هذا الوضع المأساوي، سوء الظروف المادية التي يعيشها المُثقَّف العربي في العموم. ومستويات القراءة المتدنية في العالم العربي.والتشوهات الكبيرة الحاصلة في عمليات النشر. وعمليات القرصنة للكتب بما يفقد مؤلفها حقوقه المادية والمعنوية. واعتبار وزارات الثقافة حملا زائداً مقارنة بوزارات أخرى، أو من باب إكمال العدد ليس إلا…إلى آخر الظروف المأساوية المحيطة بالعملية الثقافية.

[5]  كان “ابن سينا” قد عرَّف الفلسفة بأنها: “الوقوف على حقائق الأشياء كلها على قدر ما يمكن الإنسان أن يقف عليه”.

المعجم الفلسفي، جميل صليبا، الجزء الثاني، دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، بيروت، لبنان، 1982، ص 160.

[6]  للإطلاع على تعريف الصحافة الاستقصائية يمكن الرجوع إلى الرابط التالي:

https://gijn.org/ar/mn-nhn/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%86%D8%B9%D8%A9/

 

[7]  ينتشر مثل المفهوم للمُثقَّف، المُستقى من المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، في الأوساط العربية للتعبير عمن لا يشتبك مع قضاياه وطنه أو أمته فحسب، بل في المثقف الذي يُعبِّر عمَّا تريديه الجماهير تحديداً، وفوق ذلك النطق بذلك باللغة التي تفهمها هذه الجماهير. مقابل ذلك، أي إذا يأخذ هذا المنحى يتم رميه بإحدى تُهمتين: الأولى أنه مُثقَّف مُنعزل ويعيش في برج عاجي، ما أكثر ترديد مثل هذه الجملة، وغير معني بقضايا وطنه أو أمته. والثانية أنه مُثقَّف السُّلطة ولا يستطيع التعبير إلا عمَّا تريده تلك السُّلطة. أما إذا عبَّر عن وجدان الناس وحالتهم الانفعالية مع الأزمات، وبلغة يفهمونها فإنه يُصبح وقتذاك مُثقفاً عضوياً ومُشتبكاً ويُشبه الناس!

[8]  دائماً أعزِّز نهج مقترحات للإجابات، كما أشرتُ في هامش سابق، لكي يبقى الباب مفتوحاً على أية آفاق جديدة، يمكن أن تقدِّم إجابات تُعزِّز فهمنا ووعينا للحقيقة ومواضعاتها في الاجتماع السياسي.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete