الهُويَّة والعالَميَّة…في إمكانات [الـميتا- هُويَّة] في العالَم

تكوين

[I] البداهات التأسيسيَّة لعصرنا:

لا يمكن الكشف عن الهُويَّة، وعناصرها ومكوناتها، واِشعال الصراع بينها والعالَم، اِنطلاقًا من بداهات العالَم اليوم؛ ولا يمكن أيضًا أن تُبنى المعايير التي تقيس الهويات من قِبَلِ العالَمية، في صورتها الخالصة (المحضة)؛ إلاَّ متى كان العالَم الذي نعرفه، مُفسَّمٌ على نحو “التطوُّرية” إلى عوالِم، ضمن ثُنائيَّات تأسيسية لعصر الحداثة؛ ثُنائيَّات أصبحت من تراث العالَم. ما علينا أن نتوقف عنده، وأن نتساءَلَ عنه، جذريَّاً، بعدَ كل ذا، إنَّما هو البداهة الأساسيَّة التي قوَّمت العودة إلى التَّساؤل عن البداهات: بداهات عصر العقل. إنَّ نظرةً خاطفة في الصراع الذي فتحت إمكانه مدرسة فرانكفورت، في النقد الجذري لمقولات الحداثة، تكشف لنا، خلافًا لما يُتصوَّر، تقويمًا أكثر عمقًا وقوةً لمبادئ الحداثة، وأسسها. لأنَّ ما وضعته هذه المدرسة، بوصفها مُمهِّدَةً فلسفيَّةً- علميَّة، لعصر ما بعد الحداثة، إنَّما هو بداهةُ التَّساؤل عن البداهة. لقد قامت البداهات التأسيسيَّة لما بعد الحداثة، على نحو تأسيس عالَم جديد، على الآتي:

-I لا ثَمَّةَ الحقيقة على نحو عالَمي، بل ثَمَّةَ دائماً قَبْلِيَّاً، الحقيقة بوصفها [حقيقة- في- كلِّ- مرة]؛ ولا تتوفَّرُ هذه على إمكانها إلاَّ من جهة كونها تقوم على التواصل والحوار، أي التثاقف والمُثاقفة على نحو جذري.

-II [التعدُّد- في- الفهم] الذي أسس لمفاهيم التعددية الثقافية في العالَم، والاِختلاف الآيديولوجي، والتنوع الإثني. أي تأسيس التعدُّد العالَمي في الثقافة، والآيديولوجيا، والمجتمع.

-III ضرورة [النقد- والنقد المضاد] الذي أسس لمدارس نقدية، ذهبت الكثير منها لنقد جذري لتجربة الحداثة، ومفاهيمها. ولكن أيضًا بإعادة بناء، وإنتاج الحداثة لذاتها.

-IV الأنسنة أو التَأَنْسُن، والعودة إلى الإنسان من جهة كونه كُلِّيَّة لا يمكن أن تُختزل في ضرب من ضروبها، أو في إمكان من إمكاناتها، أو في قابلية من قابلياتها. بمعنى تأسيسي يمكن أن نقول: إنَّها أسَّست للأخذ بالإنسان على نحو عقلانيّ، وشعوري، وحسي، وجمالي، وروحي، وعاطفي، … إلى آخِرِه من كل الحقول الوجودية الممكنة للإنسان، وكل الإمكانات الذاتيَّة التي يتوفَّرُ عليها.

-V باِنهيار السرديات الكُبرى، أصبحنا أمام اِنهيار المعايير الثابتة، أو تلك التي تسبق كل إدراك، وفهم، ووعي للعالَم. إنَّ غياب المعايير يعني، ضمنًا، بناء المعايير الذاتيَّة في كلِّ مرة.

وعلى هَدي البداهات الإبستيمولوجيَّة- الأنطولوجية هذه، ننطلق من أنَّ ما يمكن أن نفهمه من الهُويَّة بوصفها علاقةً، من جهة الوجود في العاَلم، والنحو الذي من شأنها، وأيضًا ما نفهمه من تعيينات الهُويَّة لذاتها، ولوجودها في العالَم، إنَّما هو في تواشج بنيوي عميق مع العالَميَّة، من حيثُ إنَّها ضروب إمكان أن نتعالق- أن نتواصل. إنَّ العلاقة من حيثُ إنَّها [تعالقًا- بـ- التواصل]، أي بناء العلاقة على نحو التواصل، ومن ضمنه، تتصل بصيرورة التفاهم، والإفهام، وتَصيُّر التوافق الذي يدفع نحو علاقة جديدة مع العالَم، عَبرَ الوعي ببِنية النقد- والنقد المُضاد القائميْن في جذر كل فعل نحو الخارج.

[II] الحقيقة المجتمعيَّة والإمكان:

إنَّ مقولات الهُويَّة، من حيثُ إنَّها مبدأً أعلى في الفهم، وبالتالي في ضروب التفهيم، إنَّما هي، متى تساءَلنا عن [السابقِ- إلى- الهُويَّة]، تُؤخَذُ بوصفها حقول تعيين، ولكن أيضًا ضروبَ ترتيبِ العالَم من جديد، في كلِّ مرة؛ أي وضعَ العالَمِ في السيستام. إنَّ الحقيقة المجتمعيَّة، أي تلك المضامين وشبكة العلاقات النَّاهضة على التطابق فيما بين المفهوم المتَّفق عليه مجتمعيَّاً، والوجود المجتمعيّ، المنضبط ضمن أطر تقنين السلوك الفردي، والصوابية التي من شأن معايير الحقيقة المجتمعيَّة، والحقِّ (الصواب) لدى الذَّوات، في إمكانات وجود الذَّات الفاعلة مجتمعيَّاً، إنَّما هي، أي الحقيقةُ، ضروبُ التوافق والاِتفاق التي تأخذ هيئة الإجماع على أن نوجد، وكيف نوجد، في الخارج.

ومتى وضعنا ذلك على نحوِ الإمكان الذي من شأن الذَّات في تخارجها Externalization، نكون أمام الفهم القَبْليِّ Pre- Understanding، والتجسُّد عَبرَ صور ورموز، الذي من شأنه، في الوعي. إنَّ مقولة الوعي إنَّما هي القضية الحاملة- المُتَضَمِّنة للحقيقة المجتمعيَّة من حيثُ إنَّها هي. ولكن، علينا الحذر من الوعي المجتمعيّ، كونه يتميَّزُ بإمكان أن تكون مصادرُه غير عقلانية، بعدُ. وهكذا، لا يعني الوعي، الوعي بعامَّةٍ، أي شيء، إذا هو لم يُفهم اِنطلاقًا من الترابط الجذري، بينه وبين مصادره.

أشير، ههنا، إلى التَّساؤل عن وحدة إبستيمولوجيَّة- أُنطولوجيَّة بين الفهم القبليِّ، وتجسُّدُهُ في الوعي؛ شرط أن نفهم الوعي ههنا على أنَّه فهمٌ يتوفَّر على معايير تمكِّنه من الحكم على الأشياء في العالَم. إنَّ [الـ- ميتا- هُويَّة] والحال هذي، إنَّما هي تأتي من مصادر وجودية- قائمة على نمط بعينه من أنماط الكينونة، أو أنماط متداخلة متشابكة من أنماط الكينونة، الكينونة الخاصَّة بالإنسان، من جهة أولى، وهي تقوم على إمكان التَّساؤل من جديد، وبالتالي الوعي من جديد، من جهة ثانية، وإنَّها تتقوَّمُ بالنقد والنقد المضاد بوصفهما حِرفةَ العقل وقد صار بَنَّاءً على الدوام، من جهة ثالثة.

[III] العالَميَّةُ وإعادة إنتاج الهُويَّة:

أكاد أقول أنَّ [الـ- ميتا] تشير إلى ما يتخطَّى محدِّدات المجتمع، ولكنَّهُ يمارسُ وعيًا للهوية في المحدِّدات المجتمعيَّة. وهكذا، يُصبِح فعلُ ممارسةِ الهُويَّة في الخارج، ووعي الهُويَّة في الداخل، شيئان مختلفان ينتميان إلى لحظتين أُنطولوجيَّتين- إبستيمولوجيَّتين متباينَتيْن. إذن، متى شرعنا في وعي الهُويَّة نكون قد مارسناها على نحو قبلي، ولا نكون إلاَّ قد فعلنا بالاِنطلاق من الهُويَّة. لذا، لهذي الضروب من الوعي، ثَمَّ إمكانات فعل؛ ولكنها إمكانات متوقفة على ما يوفِّرُه الخارج عن الهُويَّة، والسابق إليها في كل مرةٍ. إنَّها حيثيات وجودية ترتبط بالمؤسسة المجتمعيَّة، والآيديولوجيا المجتمعيَّة، والماضي المجتمعيّ الذي ما أن يمضي هو يحضر. أو هو متوفِّرٌ على إمكان أن يحضر، في كل مرةٍ من جديد، وعلى وِجهة- منحى جديدَيْن.

إنَّ تجسُّدَ ضروب الفعل بـ: شرعية الفعل، إمكان تخارجه، والشروط الموضوعيَّة؛ والحال هذي، ليس اِعتباطًا. بل هو نتيجة ونتاج لصيرورة الشبكة، أي ماتريكس Matrix العلاقات، بين طَرَفَيْ ثُنائيَّة [الإنسان- والمجتمع].

إنَّ المجتمعيَّة- التَّمَجْتُعَ Societalization، أو في عبارة مُعرَّبة أقترحها [تحديد- الإنسان- عَبرَ- المجتمع]، وإنتاجه به، وإعادة إنتاجه به، ضمن صيرورات بناء مجتمعيَّة، ناتجة عن مؤسسات مجتمعيَّة، هي: [الأسرة- التربية- التعليم- الجماعة- الهُويَّة]؛ إنَّما هي بقدر ما يمكنها أن تحدِّدَ الإنسان وقد صار من شأنه أن يعي، هي تَخضع للذات متى أتت إلى المجتمع فاعلةً. لأنَّ الأقرب إلى الذَّات إنَّما هو الفعل؛ فيما لا نجد ما هو الأقرب إلى الهُويَّة أكثر من المجتمع- [المجتمعيِّ- من- حيثُ- كونه- حَدَّاً- لـ- الفعل].

بذلك، وعلى نحوه، فإنَّنا نفتح المستوى الأعم الذي من شأن الهُويَّة. بَيْدَ أنَّهُ علينا أن نهيِّأ للتفكير في الهُويَّة اِنطلاقًا من الأعم، في حركة بناء المستويات الأخرى، أي العامّ، والخاص، والأخص. إنَّ الأعم في الهُويَّة، متى أُخذت سوسيولوجيَّاً، إنَّما هو المجتمع. لكن أيضًا، ما / من الذي يصنع المجتمع، يخلقه، وبالتالي يُنتجه؟ إنَّ المجتمعيَّ، متى أُخِذَ بوصفه كُلَّاً متماسكًا معقَّدًا، يُفهم من جهة الأواصر التي تنتج وتعيد إنتاج الهُويَّة المجتمعيَّة.

إنَّ المقولات المختلفة والمتعددة والمتنوِّعةِ التي للمعرفة الناتجة عن الهُويَّة المجتمعيَّة، من جهة كونها أدوات فهم، وسبل تفكير، ووسائل تواصل، ومفاتيح التحليل وصولاً إلى الوعي، إنَّما هي، في المستوى الأعم الذي من شأن الهُويَّة، ليست أكثر من الطرق نحو إمكانَين وجوديَّين: الأول هو إمكان، وكيفيَّة ذلك الإمكان في أن نؤسِّسَ لحقل [الوجود- معًا] ضمن ضروب الاِتفاق على الاِختلاف والتباين والتمايز، والثاني هو إمكان، وكيفيَّة ذلك الإمكان في أن نترابط على نحو أصليّ بذات أنفسنا العميقة مفتوحةً على جملة المضامين التي من شأن الاِتصال بالعالَم؛ وأيضًا وأيضًا الاِنفصال عنه. ولكن، من جهة أن الاِنفصال عن العالَم ضربٌ من تعطيل إمكانات العالَمية، نحن نقول أنَّ ما علينا فعله هو البدء ببناء تلك الدروب (الطرق غير المتعيِّنةِ بعد إلاَّ بعد السير عليها) التي تكشف إمكانات الاِتصال- والاِنفصال هذه، ولا تتوقف عند دعوات أو شعارات آيديولوجية للأخذ بطرف من طَرَفَيْ الثُنائِيَّة هذه. بل، تذهب أبعد من ذلك، إلى الأخذ بالعالَم على أنَّه قد أصبح مصدرًا من مصادر تعيين الهُويَّة. هكذا، تُصبِح الـ [ميتا- هُويَّة] متوفِّرَةً على أرضيَّة وجودها، ومن بعدُ، كينونتها؛ وقد صارت عالَميَّة.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete