بين معرفة الحقيقة والمعرفة عنها

يطرح هذا العنوان إشكالية العلاقة بين المعرفة والحقيقة، بين معرفة حقيقة الشيء، أو شيء من المعرفة عنه تميّزه عن غيره، يكفي أن نراجع مسيرة التعليل في الفكر العربي عموماً، لكي تبرز أمامنا هذه الإشكالية على امتداد مراحلها، مترافقة مع سؤال يمس جوهرها، يتناول مصدر المعرفة ومعيار الفصل في نصيبها من الحقيقة.

يتصدّر هذه المسيرة، منذ بداياتها الوسيطية، ذلك النقاش الحامي والجدل المثري للثقافة الفلسفية عموماً، بين المدافعين عن الركون إلى العقل في مسألة إنتاج المعرفة الحقيقية عن الشيء، وبين الذين يعتبرون النص الديني هو مصدر هذه المعرفة، على خلفية أن الله وحده يمتلك معرفة حقائق الأشياء في ذاتها أما العقل فهو عاجز عن إدراك حقيقة الشيء، جلّ ما يستطيعه هو إدراك “بعض”المعرفة عن الشيء تميّزه عن غيره.

تؤسس هذه الإشكالية لتفكير يتنازعه أصلان ميتافيزيقيان، العقل والنصّ (الديني)، فاعلان في تاريخ الفكر العربي، رسما، كلّ من جهته وبشروطه، حدود المعرفة المنشودة، وحظوظها من الصحة، وعليه سوف أعود في هذه المقالة (الإفتتاحية) إلى نصّ للغزالي من النصوص التأسيسية لهذه الإشكالية، ما زالت تردّداتها تتفاعل إلى اليوم، ورد في كتاب “المستصفى في علم الأصول”، يقول فيه:

“العقل لا يحسّن ولايقبّح، ولا يوجب شكر المنعم، ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع”[1].

لا أعتقد أن القارئ النبيه، يقف في فهمه لهذا النص عند حدود منطوقه ومنظومه، بل يستشعر حضور مفهومه ومعقوله في كل شاردة وواردة تتصل بيوميات الإنسان العربي المسلم، قل في حياته الإجتماعية والسياسية والثقافية الناشطة.

لقد وضعت المدرسة الأشعرية على لسان الغزالي، حدوداً للعقل، وكرّستها قاعدة للتفكير السائد والغالب في مجتمعاتنا، معلنة أن العقل لا يدرك حقيقة الفعل، لأنه لا يدرك صفاته الذاتية، ما يعني أنه، تبعاً لقصور إدراكه، لا يستطيع أن يحكم بقبح الفعل أوحسنه، ما يؤدي استطراداً إلى أن العقل قاصر بمفرده عن الإجابة على الأسئلة التي تطرحها الحياة، و أن حظَّ الإنسان من العقل “عاقليتهraisonnabilité، مزيته الأخلاقية، الحاصلة استنارةً بنور الشرع وأحكامه.[2]

هذا الموقف يشير إلى نوعية المعرفة التي يقع في مقدور العقل بلوغها، وهي عبارة عن “بعض المعرفة”، معرفة ناقصة لأنها وليدة عقل قاصر، تحصل عنده الأفعال لا به، إدراكه للأشياء، معلّق على إدراك صفاتها اللازمةnécéssaire  والعرضية  accidentelleالتي لا تدخل في ماهيةquidité  الشيء، كأن تقول في تعريف الإنسان أنه حيوان ضاحك يمشي على رجلين، طويل القامة، يكسو الشعر رأسه…، صفات توفّر بعض المعرفة عن الإنسان لكنها لا تعبّر عن حقيقة ذاته.

هذا الإصرار على إثبات قصور العقل وانحسار دوره عند حدود الرسم descriptif، أو المعرفة القائمة على الحدّ الرسميdéfinition descriptive، أو الاسمي définition nominale، يقابله نمط آخر من التفكير، (المعتزلة/الفلاسفة) يقطع بقدرة العقل على إدراك الصفات الذاتيةqualité essentielle  للشيء أو إدراك الشيء في ذاته la chose en soi، دونما حاجة إلى مرجعية يعود إليها سوى العقل نفسه، فبعض الأفعال يدرك العقل حقيقتها ضرورة، مثل إنقاذ غريق، ومنها ما يدرك بنظر العقل، مثل قبح الكذب الذي فيه مصلحة (نجاة إنسان من الهلاك)، وحسن الصدق الذي فيه مضرّة، حتى العبادات، فيها من اللطف الذي يدركه العقل، ما يخوّله الحكم بحسنها، لكنه لا يستقل بهذا الفعل اعترافاً بشراكة الشرع في هذا المجال…، نقاش غني، استمر ولا يزال مستمراً بين العقلانيين والنقليين، جوهره المعنى وكيفية إنتاجه عقلاً من خلال آليات برهانية، أو الاستدلال عليه في النصوص الدينية من خلال آليات بيانية قوامها اللغة وعلومها، أو وجْده (من وَجَدَ) عرفاناً من خلال التجربة الصوفية بمقاماتها وأحوالها.[3]

لقد استمر هذالصراع على المعنى، على الحقيقة، في العصر الحديث بين العلمانيين النهضويين المتشبعين من قيم الحداثة الغربية فتبنوا ثلاثيتها الذهبية، الحرية، العقلانية والديمقراطية، ورأوا في اعتناقها والاحتكام إلى معاييرها، عبوراً آمناً إلى التحديث والتجديد، في طليعة هؤلاء فرح أنطون وشبلي الشميّل ويعقوب صروف، وبين الاصلاحيين الداعين إلى إصلاح ما أفسده الابتعاد عن الدين بالعودة إلى صدر الاسلام والسلف الصالح، وكان في مقدمة هؤلاء محمد عبدو وجمال الدين الأفغاني.[4] لقد عرف الزمن المعاصر الإحتدام الفكري نفسه، فاتخذ الصراع على المعنى لغة جديدة وأدوات منهجية متقدمة، وبقيت الاشكالية عينها، عقلانيون يقدمون العقل وأدواته العلمية والبرهانية ويعتمدون المنهجيات التي أفرزتها علوم الانسان والمجتمع في قراءتهم للنصوص والوقائع والأحداث سعياً إلى استكشاف حقائقها و معانيها، ومن هؤلاء على سبيل المثال، محمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد،[5] ونصّيون يَرَوْن إلى القرآن وإلى العلوم التي حدثت على هامشه مرتعاً للحقيقة وللمعاني المعبرة عنها، وخير من يمثل هؤلاء أصحاب مفهوم الحاكمية بصيغتيها الإخوانية[6] و”الولافقهية”(نسبة إلى ولاية الفقيه)، وكان لطه عبد الرحمن الفضل في “تحديث” هذا الطرح واعتبار الشريعة، بمعنى من المعاني أحد تجليات روح الحداثة، كما أن الحداثة الغربية هي أيضاً عبارة عن تجلٍّ لهذه الروح العصية على الاحتكار.[7]

يختصر هذا النصّ محاور الصراع على الحقيقة في الفكر العربي، على المعنى الذي يعبّر عنها، على مصدره، على أحاديته وتعدّديته، اتّخذ في كل مرحلة من مراحل تاريخ هذا الفكر،صيغة ومصطلحاً، لكن جوهر الإشكالية بقي واحداً، بدأ تجاذباً بين الأصيل والدخيل، ثم بين التحديث والتقليد ثم بين الأصالة والمعاصرة، ولكل محور أدواته المعرفية التي يتوسل بها في معارك المعنى، وقد تطوّرت هذه الأدوات مع التطور الذي أصاب مناهج التفكير في العلوم ولاسيما الإنسانية منها.

يأتي هذا المقال مقدمة لما قد يلي من مقالات أو دراسات، تتعقب هذه الاشكالية في مراحل من تاريخ الفكر العربي عموماً والمعاصر منها بشكل مخصوص، حيث تتبدّى مطاردةُ المعنى في النصوص والوقائع، في التجارب اليومية للأفراد والجماعات، هدفاً لجميع القراءات، تجتهد، كل قراءة، من جهتها، بأدواتها المعرفية، في سبيل القبض على المعنى الذي ترى إليه عين الحقيقة، مايكشف عمق الصراع وتنوع أشكاله، وقوة تماديه في الثقافة العربية والاسلامية وفي العلوم التي ترفدها وتعيّن سماتها وتحمي خصوصيتها.

 

  • مقالة افتتاحية (مدخل) لأكثر من مقالة تعالج موضوع “الحقيقة والمعنى في الفكر العربي المعاصر”.

[1] راجع: الغزالي، أبو حامد، المستصفى في علم الأصول

[2]  راجع: فريد جبر، حدّ العقل، مجلة الفكر العربي، عدد٤٢.

[3]  راجع: م.ع.الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية،١٩٨٧

[4] راجع: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة ١٧٩٨-١٩٣٩،دار النهار ١٩٨٦/م.ع.ج. نقد الحاجة إلى الإصلاح…

[5] راجع: محمد أركون،pour une critique de la raison islamique  المترجم تحت عنوان”تاريخية الفكر العربي الاسلامي، المركز الثقافي العربي١٩٩٨. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة١٩٨٥، إشكاليات الفكر العربي المعاصر(١٩٨٨)، الخطاب العربي المعاصر (١٩٨٢)/نصر حامد أبوزيد، نقد الخطاب الديني (١٩٩٤) /النص السلطة،الحقيقة/،،إشكاليات القراءة وآليات التأويل…

[6]  راجع: محمد حافظ دياب، سيّد قطب: الخطاب والأيديولوجيا، دار الطليعة، بيروت١٩٨٨.

[7]  راجع: بحوث في ولاية الفقية، جمعية المعارف الاسلامية الثقافية٢٠١٥/ طه عبد الرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الاسلامية، المركز الثقافي العربي٢٠٠٦

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete