تحديث الانشغال بالكون: الحلقة الأولى…لحظة إيقاف التكرار

تكوين

عندما يعي الإنسانُ الفرد أن الموقِفَ الحقيقي هو الموقِفُ الذي لا يتكرَّر، فإن أولَّ ما يجب أن تنصرِفَ إليه الملاحظةُ في السلوك هو مراقبةُ حجم تكرار “الموقف الحقيقي”. ذلك أن الوعي بسيرورة التكرُّرِ هو الإدراك الذي يفضَحُ الافتراق بين الموقفِ والحقيقة، فالوقوف الحقيقي هو الحضور الحدَثي، بقدرةٍ كاملةٍ على خَلْقِ موقفٍ يشملُ كلَّ حراك الحدَثِ الرَّاهن. لذا إن تدارُك حدوثِ التكرار هو منع افتعال الإعادة والرجوع والترديد في الكلام اليومي، أي إنه القرار الذي يؤدي إلى الانشغال الفكري بتجديد المضمون الدلالي لهذا الكلام، وذلك لإنجاز الربط العياني بين الخطاب والحوادث، ما ينجمُ عنه فهمٌ يضاهي حاضريَّة الفاعل في الكون، أي الموقفِ العلمي. فالكينونة الحدَثيَّة هي إمكان التنبُّه اللَّحْظِيِّ باقتدارٍ ينجِزُ ابتكار الموقِف في بناء العالم وطنًا للعالَمين.

إذًا يستحيل على خطاب الحقيقة أن يستمِرَّ لزمانين متتاليين بالصيغة نفسها، فيُتَوهَّم أن يحقِّقَ مراده في المرة الثانية بالزَّخم نفسه كما تحقَّق في لحظة الابتداء. ذلكَ أنَّ قانون التغيُّر يفترضُ تعديلَ الخطاب، أي استعادة إمكان المبادرة والابتداء، وهذا يكون ببعث التأويلِ على ركود التفسير. بمعنى أوضح، على العقيدة، بما هي أيديولوجيا الحقيقة، أن تبقى في حالةٍ دائمةٍ من الخضوع للاشتغال الفلسفي، بحيث يكون المرءُ قادرًا على التحرُّرِ من مواقفِه الجامدة انفتاحًا على الممكنات التي يتيحها له الوعي الآنيُّ المحايث. إنَّ في هذه الجرأة الأنطولوجية في التعرُّفِ إلى كلِّ حادث تمكينًا للإنسانِ الفردِ من الوجود الوثيق المبني على التعلُّم الراهن الذي يضمن عدم الوقوع العشوائي في المهالك. فالمثالبُ السلوكيَّة لا تتراكَمُ إلا من إغفال الخطأ بالتغاضي القصدي عن وجوده؛ فكما أن مِن الخطأ أن يكون العلمُ قد بلغَ اكتشافًا ما وأنت لا تُقِرُّ بهذا الاكتشاف، فإن من الخطأ أيضًا أن تجرِّبَ اعتقاداتك المنقولة بثقلها الأيديولوجي وحمولتها المعرفية في مسألة راهنة، من باب العناد على الامتلاك الدائم للحقيقة، فتفشلُ في حلِّ إشكالات هذه المسألة، وتحجب عن نفسك إمكان الانخراط الآمن فيها. إن الإصرار على صلاحية خطاب الحقيقة لكل زمان ومكان هو في الحقيقة خروجٌ غافِلٌ عن الانوجاد الحرِّ في هذا العالم.

الخطاب النقدي:زرْعٌ في تربة مالحة

إن التجاوُز التأويلي العلمي للخطأ الناجم عن الجمود في الموقف وتكريره العبثي هو السلوك الذي يمكِّنُ الكائن من بناء الموقف المجدي في الحياة. وهذا لا يتمُّ إلا بالوعي الذاتي لضرورة الهَجْر القصدي للأفكار المتوارثة والاندماج في حركةٍ تتولَّد فيها الأفكار، فما يبقى من الماضي تكون شرعية بقائه توجِبُ استمراره في الحضور، أما ما يسقط من الظهور فيكون واجبًا عدم إحيائه وإقحامه على الوجود القسري في الفعل الراهن. إن المغامرةَ بتوريط الذهن في استشكال الواقع هي الخطوة الضرورية لإجبار الذات على استئناف وجودها العلمي في الكون، فلا يكون حضورها ساذجًا رغم استشكال الواقع أممها. إن الكائن البشري لا يمكنه أن يحيا باستهلاك تجارب الآخرين، بل عليه أن يشاركهم التجربة كي يمارس إنسانيته، فلا يغيب عن التأثير القيمي في بناء المنظومة الأخلاقية للعالم، ولا عن التأثير العلمي في إضافة الجديد على بناء العالم.

سيكولوجيا الهجر

ثم إن سيكولوجيا الهجر تنزِلُ الجرأة على الترك والإهمال المتعمَّد للمخزون العقَدي الذي أثبت فاعليَّته في الماضي منزلةَ الخيانة للتراث والهوية، وكذلك تضع هجرَ تلك اللحظة النقيَّة التي أسَّست لحزب سياسي ثوريٍّ أو لحركة اجتماعية إصلاحية تغييرية، منذ زمنٍ قد يكون ليس ببعيد جدًّا عن لحظة التفكر الراهن، موضع الارتداد والتنازل والتخاذل عن الأهداف والقيم والمبادئ. لكن في الحقيقة العملية، إنه الهجر القصدي الذي يؤمِّنُ بداهةَ الحضور في الجديد، أي إمكان التفكير الحرِّ في المستقبل. وبالنتيجة إن إمكان العقل الحقيقي للقِيَم في المعيش هو التنبُّه لعدم مغادرة الحدث بحجة المحافظة على الأصالة. إن الأصالة ليست منفصلة عن الكائن الأصيل عينه، بمعنى إنها ليست في زمن ماضٍ بل هي استمرارية الأساسِ في الحضور لحظة الحدوث، لذا من الخطأ النظر إلى الماضي في تقويم العيش الأصيل. إن الكينونة الأصيلة هي الكينونة الحاضرة كلِّيًّا بثباتٍ واقتدار يجعلها لا تُخِلُّ في حضورها الوهَّاج. إذ إن في الأصالة دلالةٌ على المتانة في البقاء، وهذا يستدعي فهمَ عناصر البقاء والاستمرار، وليس الخمول والتقهقر إلى الماضي الذي هو قبْل التجلِّي الحدثي للأصالة، كلما واجه المرءُ موقفًا يستأهل الاشتباك المعرفي معه، وتجريب الذات في مرابع الحدث.

إنَّ توهُّمَ تلاشي الهُويَّة في حال تمَّ التنازُل عن سلوكٍ معيش وفق عقيدة معيَّنة هو الفعل الذي يعيق التقدُّم الحضاري، أي يحجب إمكان إصلاح العلاقة بين الكائن والكون. وقياس الهُويَّة بمقياس الأصالة يفيد بضرورة إبداع الهُويَّة في الحدث الراهن، كي لا يكون الحضور بلا هُويَّة. وإن عدم القدرة على بلوغ الأصل في لحظة الفعل هو عجزٌ بيانيٌّ عن معاقرة الكينونة الأصيلة للكائن في الكون. والإحاطة بمظاهر هذا العجزُ هي المحفِّزُ على النَّظر في أسباب النكوصِ عن مواكبة الأصالة، والبقاء في غياهب تكرار المواقف السابقة للحظة التأصيل الراهن للحضور الفاعل.

ولما كنَّا نتحدَّثُ عن تأصيلٍ قصدي لا يتمُّ بالرجوع إلى أنطولوجيا أصيلة سابقة، بل بوعي إمكان مَلْء الاجتماع الإنساني الراهن بخطاب قيمي نافِذ، فإننا بذلك نعنى مباشرةً بخطاب لا يخذِلنا في دوَّامة التجريب والاختبار. هذا الاقتدار الحيُّ هو الذي يؤدي إلى التأسيس المُحكَم لمنظومة فكرية شاملة ترعى انفتاح الكائن الحر على بناء موقفٍ علمي من كل الأمور. وما نقصده بالمنظومة الشاملة ليس تأطير وعي الفرد بقيود واعتبارات تفرضها الدول أو السياسات المتَّبعة، بل ما نعنيه هو هذا التأسيس الفلسفي لفكرةٍ تنمو في تربتها روح الفرد الخلَّاقة، فتكون رحابتُها الكونية أرضًا خصبةً لتنبت فيها المواقف الوجودية الكبرى التي تؤدي إلى انقلابات نوعيَّة حميدة في حياة الناس، تزدهر بها العلوم والمعارف، وتنتظم علاقة الإنسان بالآلة، وتكون التكنولوجيا غير مفارقةٍ لأخلاقية التسيير التقني لأشياء هذا العالم.

لن يتوضَّح مفهوم التأصيل القصدي إلا بمقابلته بالأنموذج العام للمفهوم بذاته. فالحرية مثلًا مفهوم عام للعيش الكريم، لكن تجليها في مفهوم الليبرالية في المجتمع الغربي الحديث مثلًا، أدَّى هذا الدور التأصيلي للمفهوم، فكانت الليبرالية عاملًا شديد الفاعلية في بناء الذهنية الغربية المبدعة الحرة، التي أسست موقفًا ديمقراطيًّا يرعى مفاهيم الحرية والكرامة، بحيث تمكَّن المجتمع من تطوير وبناء مؤسساته المنتجة ومصانعه ومعامله الضرورية لبناء التواصل الحضاري بين الأمم. طبعًا نحن لا ننكرُ الخلل الذي أصاب هذه الفكرة في الغرب والعالم كله نتيجة الممارسات البغيضة بحق الشعوب كافة، إذ إن الغرب ظالمٌ في سياساته؛ يحتل العالم ويسيطر على مقدرات الشعوب ويهيمن ويستغل ويعتدي، لكن ما يعنينا هو أنه يمارِس فكرةً توصَّل إليها بعد مناجذةٍ وممارسةٍ وعركٍ وتعرفٍ وإحكام بالتجريب المستمر.

إذًا إن الابتداء بفكرةٍ من صلب الواقع هو الذي يمنع التكرار لأنه يحدد شبكةَ التوجُّهات التي يرمي عبرها الفرد الفاعل إلى التواصل الإبداعي الهنيء. والتواصل هو مكنةُ الأقوياء المغامرين الذين يشعرون باختناق الفكرة إذا بقيت بلا آخرَ يجلو فاعليَّتها في مختبر الواقع، لذا إن بناء شبكة التواصل الحضاري لا ينبغي أن يُملأ بأفكار من خارج دائر الحضور، وإلا يتعطَّل التواصل، أو يتعرض للعطب المبدئي في استمرار العلاقة بين جهتي التواصل. وإعطاب التواصل يؤدي إلى الاحتراب والتقاتل، وبالنتيجة إلى افتراق تأويلي لجدوى الحضور التفاعلي للقيم الأخلاقية الكبرى.

نعطي مثلًا للخلط بين الموقف التكراري والتأويل المجاوِز، ما فعله الغرب بتهجير اليهود من دوله وتنظيم احتلالهم لفلسطين، منذ بدايات القرن العشرين، ومن ثم التسويغ لهذه الفكرة بمبررات عقَديَّة دينية وادعاءات بالأحقيَّة التاريخية في إقامة دولة “إسرائيل”، ثم دعم هذه المجموعات المهاجرة تباعًا بتوفير السلاح والمال وتمكينها من التحكم الاقتصادي في كثير من المواضع المؤثرة، ما أدى في النهاية إلى واقعٍ من الاستعصاء العدواني بين هذه المجموعات من الناس مع أهل الأرض الأصليين. وأدى هذا الإخلال المتعمَّد في تطبيق قيم التفاعل الحضاري بين الشعوب إلى تكوين مجموعة بشرية معادية لمحيطها، مما ولَّد أحقادًا وحروبًا وأعمالًا إجرامية ومجازر تفوق الخيال، آخرها ما يجري منذ السابع من أكتوبر في غزة.

إن الموقف المتكرر للغرب يتمثَّل بضرورة زرع كيان من خارج البيئة الثقافية الحضارية العربية في مكانٍ تابع لهذه الثقافة العربية، مستخدمًا ذهنيَّةً ماضويةً تناقض حضوره العلمي الحداثي المتفوق في العالم، كأن يستسهل الكذب عبر المواثيق الدولية التي كانت مصدر إعجاب واحترام عند جميع شعوب العالم، كشرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة، والتي لم يتوانَ القادة السياسيون في الغرب من تجاوزها خدمةً لتكرار الموقف الأيديولوجي الخاضع لتصورٍ لا علمي في فهم التواصل بين الأمم. تقوم هذه الذهنية الغربية السياسية على أحقاد عقائدية دينية تدعمها رغبات في السيطرة النهمة على التجارة العالمية، بحيث قام هذا الغرب بتشكيل جماعةٍ بلا موقف حضوري راهن يواكب التطور العلمي والتفوق التكنولوجي، بل إن موقفها هو تكرار عقيدة الماضي في الحاضر، بحيث إن العالم كله باتَ اليومَ غير متفاعل معها بما تؤمن وتعتقد. ولئن اعترف يومًا بحق “إسرائيل” في الوجود ضمن مؤسسة أممية في لحظةٍ مارقة، بعد الحرب العالمية الثانية، فإن بدءَ اعترافه بحق فلسطين في إقامة الدولة المستقلة لهو الدلالة الأكبر على إيقاف تكرار الموقف، وإدراك الخطأ التاريخي في عدم عيش القيم الراهنة في الحق والخير والعدالة. وما ارتباك الخطاب السياسي للدول الفاعلة في السياسة الدولية سوى مظهرٍ فنومينولوجي بحت لاستعادة اللحظة التفكُّرية بما يجري، حتى وإن لم يظهر إلى الآن الخطاب القوي الصريح الذي يفصل في مسألة إعادة صياغة مفهوم الحق ضمن المعطيات الجديدة للصراع في سبيله.

مفهوم المواطنة

إن فلسفةً جديدةً لبناء مفهوم المواطنة ستولد بعد هذه الحرب الأخيرة، التي أظهرت العجز عن تحمُّل استمرار تكرار الموقف، خدمةً لعقيدة أو أيديولوجيا سابقة للحظة الراهنة. لا يمكن للعالم أن يستمر بإنكار قابلية الوضع للتأويل الحَدَثِيِّ الجديد؛ فهل يُعقَل أن يقبل طلاب الجامعات الأميريكة والفرنسية والبريطانية المتقدمة هذا الإرهاب والقتل والدمار، وهم يدرسون سمات القوانين الدولية التي نشأت في بلادهم على أيدي مفكرين وفلاسفة عظام لتحمي العدالة والكرامة؟! وإذا ما نظرنا مع هؤلاء الطلاب إلى الفئات الاجتماعية بمستوياتها كافة كيف تتفاعل مع الحق في وقف الحرب والعيش بسلام، سندرك أن محتوى التدريس الأكاديمي الراهن سيتأثَّر إيجابًا، وأن خطابًا جديدًا لفلسفة الحق سيتكوَّن تباعًا. وهذا يوحي بأن العقل البشري لا ينقسم، كما صرَّح ابن رشد يومًا في نظريته للعقل الواحد وللإنسانية الواحدة بعقلها، في معاينة الموقف الوجودي الراهن من جهة الكينونة التأويلية الأصيلة التي تبدأ من الحدث وتستخدم كل وسائل البيان الممكن لاستعادة فاعلية القيم، بل لتوليد المفاهيم بحسب راهنيتها الاعتبارية.

أما ضحايا تكرار المواقف وصنَّاعها في الوقت نفسه، فهم سيصبحون كائنات أثرية تعيش في الحاضر صور التاريخ المتخيَّل لديها، وهي ستبقى تحارب بادعاءاتها امتلاك الحق التاريخي أو الحق الديني أو الحق الأسطوري، فإنها لن تغادر سيرورة التكرار المقيت، والشعور بالمظلومية الأبدية، وستفني قدراتها في القتال العبثي، يدعمها في ذلك الوعي الخادم للأيديولوجيا، هذا النشاط العبودي الذي يحجب عن صاحبه إمكان فلسفة مفهوم الحقِّ في موضعه، أي إيقاف التكرار وتحديث الانشغال بالكون.

إن الوعي الدائم بأن لحظة الابتداء بالتفكُّر يجب أن تنطلق من الواقع هو الذي ينجِزُ الانتظام القويم على سكَّة الاعتراف بالموجود بما هو موجود. وعندما يبدأ الاعتراف يكون التجديد التأويلي قد أخذ مجراه لاستيطان الحدث بكفاءة تجعل المثالب تضمحلُّ أمام انفتاح الفكر على استثمار إنسانية الإنسان في بناء العالم وإيقاف التهديم. ولما كانت الانطلاقة العلمية الحديثة اليوم تقتضي التفاعل الرقمي والتشبيك المنتج مع الذكاء الاصطناعي لتفويت فرَصِ استعراض الشر وتظهيره في احتلال مجرى العلاقة بين الإنسان والآلة، فإن الرصانةَ التفكُّرية تستلزم الانشغال الكلي بالتموضع الخيِّر في أنطولوجيا الآلة، التي صارت تشارك في الفاعلية وليس المفعولية فحسب. إن المكان اليوم يبدأ أيضًا من خلف الشاشة، في جزء لا يستهان به من اعتباريته الوجدانية في نفس الكائن البشري، لذا علينا بناء هذه المواطنة الرقمية المنتجة في إبقاء التواصل الإبداعي البشري رهين لحظةٍ لا يمكن الانفكاك عنها في تثبيت مفهومٍ للحق المعيش والخير الواجب ترسيخه في الذهنيات القائمة، كي لا يبقى الاحتراب سيد الموقف، بل يتمكن الإنسان من فهم العالم مجددًا.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete