جورج طرابيشي: من المنزع الفردي إلى سيرورة عصر النهضة

(1)

لماذا أكتب عن جورج طرابيشي؟

للإجابة على هذا السؤال ساعتمد على ثلاثة مصادر أفيد منها في هذا المقام، وهي:

  • مقالة: (جورج طرابيشي: نظرية الحسنات الحضارية) كنتُ قد كتبتُها عشية وفاته بتاريخ 16/ مارس/ 2016 ونشرتها في إحدى الصحف المصرية[1]
  • قراءاتي لمعظم مؤلفات وترجمات جورج طرابيشي، والتي تنوعت لتشمل حقول شتّى؛ فلسفية وفكرية ونقدية وأدبية وسياسية…إلخ.
  • المقالة الوداعية التي ختم بها جورج طرابيشي سيرة حياته، وهي بعنوان: (ست محطات في حياتي)[2]، وضمنها أبرز النقلات النوعية في حياته، ويمكن تأطيرها ضمن منظورين كبيرين؛ أولهما معرفي وثانيهما إنساني.

ويقيناً، سأربط بين هذه المصادر الثلاثة بما يُشكّل نسقاً واحداً، متصلاً ومُنتجاً. فهي تُفضي، نهاية المطاف، إلى بعضها البعض. فمقالتي: (جورج طرابيشي: نظرية الحسنات الحضارية) هي أصلاً عن قراءاتي لمؤلفات جورج طرابيشي والعلاقة الذهنية التي نشأت بين وبينه إثر اكتشافي له عبر كتبه، في فترة مُبكّرة من حياتي، ومقالته هي بمثابة تسليط ضوء صريح على جانب من سيرته التي تجلّت في كتبه ومؤلفاته، فالتحولات التي شهد حيواتها وأتى على ذكرها في مقالته (ست محطات في حياتي) سنشهد تمظهراً لها في كتبه ومؤلفاته المختلفة والمتعددة. أو بما هي انعكاس لعصر كامل من الآمال الكبيرة والخيبات الأكبر.

وسيأتي اعتمادي على هذه المصادر، إضافة إلى غيرها قد تظهر في متن المقالة، لتفكيك جزء من سيرة جورج طرابيشي، بصفته نقطة تجمِّع لشرايين عصر النهضة العربية. فهو شخصية مركزية في هذا العصر، نظراً لتعدّد الاشتغالات المعرفية التي تناولها في أبحاثه ودراساته وكتبه وترجماته، بما يجعلها قابلة للدَّرس، والخروج منها بنتائج افترضُ أنها على غاية من الأهمية، ليس بالنسبة لجورج طرابيشي حصراً، بل لعصر النهضة العربية تحديداً.

(2)

في العام 1998 كنت قد قرأت كتاب (في ثقافة الديموقراطية)[3] لـ “جورج طرابيشي”، إذ كان قد صدر للتو، وتحمستُ لقراءته لأنه لجورج طرابيشي الذي كنتُ قد قرأت بعض ترجماته في ذلك الوقت، لا سيما ترجمته لرواية (زوربا)[4] لنيكوس كازانتزاكيس، التي لقيت رواجاً كبيراً تلك الأيام في كلية الآداب في جامعة اليرموك حيث كنت أدرس يومذاك[5]. وكان قد انتقد فيه أطروحة “محمد قطب” في كتابه (جاهلية القرن العشرين)، وما تضمنته، أعني أفكار محمد قطب، من نفي مبدئي لفكرة الديموقراطية التي فكّك طرابيشي مضامينها المختلفة في كتابه آنف الذكر[6]. يومها شعرتُ بغبنٍ كبير تجاه جورج طرابيشي، لأن تجرَّأ وانتقدَ أحد أكثر الكُتّاب الإسلاميين حضوراً في العالَم العربي، لا سيما أنه شقيق سيد قطب الذي حظي بانتشار واسع في العالم العربي. في صغري كنت قد سمعت، على شريط كاسيت، خطبة للشيخ عبد الحميد كشك، يُمجّد فيها شخصية سيد قطب تمجيداً أسطورياً، ويروي عنه مرويات تصل إلى حد الخوارق والمعجزات، لا سيما في الفترة التي سُجن فيها، إلى درجة أنه اعتبر أن تدمير سلاح الجو المصري إبان النكسة عام 1967 هي بمثابة عقاب إلهي على إعدام سيد قطب. هذا الإرث الملحمي جعلني أنفر من جورج طرابيشي رغم أن انتقاده لأطروحة محمد قطب أتت من ضمن نقودات أخرى وجهها إلى جهات مختلفة في العالم العربي، لكني توقفتُ عند نقده لمحمد قطب بسبب الإرث الديني الثقيل الذي تربيتُ عليه، رغم أني كنتُ قد توجهت إلى قراءة الكتب الفلسفية في فترة مُبكرة من حياتي، لكن للتربية العائلية والاجتماعية الصلبة أحكامها والتزاماتها في مثل هكذا مواقف.

لكن هذا الشعور بالغبن لم يدفعني إلى ردّة فعل سيكولوجية تنتصر للخيال الفارغ[7]، بل عمدتُ إلى قراءة كتاب (جاهلية القرن العشرين) لمحمد قطب، الذِّي جهَّل فيه البشرية، نظراً لعدم أخذها بتعاليم الله كما يفهمها محمد قطب تحديداً![8] وبالتقادم قرأتُ معظم كتبه؛ وكان من ضمنها كتابه (مذاهب فكرية معاصرة) بإزاء ذلك اكتشفتُ الفرق الهائل بين:

  • الثقافة التسليمية/ الاستسلامية، التي تبناها محمد قطب في كتبه، وساهمت، بشكلٍ أو بآخر، في إنشاء جيل إسلامي مُحطَّم ومهزوم على المستوى المعرفي. يقتطع المعارف، مهما كانت قوتها وأهميتها، اقتطاعاً ويُخرجها عن سياقاتها وأنساقها التي أنتجتها، ويُخضعها بالأحرى لردّات فعل سيكولوجية. فبإزاء العجز عن إقامة حجة على تلك المعارف والردّ عليها ردّاً عقلانياً، يُشاغب حولها مشاغبة طفولية، تضرّ أكثر ما تنفع في أي سياق حضاري. ففي الأخير، علاقة التأثر والتأثير على المستوى الحضاري بحاجة إلى إزاحات ومُزاحمات معرفية كبرى، وليس إلى مُشاغبات نفسية تُنهي حالة أي فعل إبداع وتقضي عليه في مهده.
  • الثقافة التحليلية التي تبنّاها جورج طرابيشي في كتاباته، وطبّقها –أيضاً- في حياته العملية، وجعل منها مثالاً يُحتذى به من قبل الأجيال اللاحقة.

فأنْ يكتب “محمد قطب” –على سبيل المثال- كتاباً ويعنونه بـ (مذاهب فكرية معاصرة) مختصراً فيه أبرز معالم الفكر الإنساني الحديث[9]، بما يتلاءم (قداسةً/ دناسةً) مع مرجعياته الإسلامية الناجزة والجاهزة، فذلك مثال على سياقات التسليم لثقافة بعينها بصرف النظر عن صحّتها من عدمها، ومُعاملة أية معارف أخرى على أنها معارف هدم وليس معارف بناء، لذا ينبغي الحذر الشديد منها ومن أصحابها.

وأن يُخصّص “جورج طرابيشي” ربع قرن من حياته، لكي يُمحِّص ويغربل أطروحة “محمد عابد الجابري” في مشروعه الفكري (نقد العقل العربي)[10]، إلى حد الرّد عليه بمشروعٍ فكري موازٍ تحت عنوان: (نقد نقد العقل العربي)، فذلك عمل كبير لا يتأتّ إلا لقلة من الناس، تحديداً أولئك الباحثين بصدقٍ وإخلاص عن الحقيقة. وفي مقالته الوداعية (ست محطات في حياتي) خصّص طرابيشي المحطة الخامسة عن علاقته بمحمد عابد الجابري، وكتب في بدايتها: “في المحطة الخامسة من حيايت سأتوقف عند علاقتي بالراحل محمد عابد الجابري الذي كرست له ربع قرن من عمري” ورغم الهفوات التي وجدها في مشروع الجابري والانتقادات التي وجهها له، لم يمنعه ذلك من الاعتراف له بالفائدة التي حصل عليها من قراءة الجابري. “وإني لأقولها صراحة اليوم: إني اعترف للجابري، الذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا اقرأه واقرأ مراجعه ومئات المراجع في التراث الإسلامي ومن قبله المسيحي ومن قبلهما التراث اليوناني وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إني أقر له، واعترف أمامكم، أنه أفادني إفادة كبيرة، وأنه أرغمني على إعادة بناء ثقافتي التراثية، فأنا أدين له بالكثير رغم كل النقد الذي وجهته إليه”[11]

ولو دققنا في علاقة جورج طرابيشي بمحمد عابد الجابري، لوقعنا على حقيقتين ناصعتين:

الأولى: معرفية.

الثانية: أخلاقية.

في الجانب المعرفي يمكن أن تصبح تجربة جورج طرابيشي مع محمد عابد الجابري، جزءاً من الدَّرس المعرفي المنهجي في العالَم العربي، فالنموذج الذي قدّمه طرابيشي في نقد مشروع الجابري، نموذج متقدم معرفياً، فهو يُعلِّم الطالب تحصيل أكبر قدر من المعلومات قبل التوصّل إلى النتائج، فالحُكم الأول الذي أطلقه طرابيشي على كتاب تكوين العقل العربي كان حُكما مُتسرعاً كما أشار في مقالته: “كنت منذ عام 1972 قد انتقلت إلى بيروت لأتولى رئاسة تحرير مجلة دراسات عربية الشهرية التي كانت تصدر في لبنان عن دار الطليعة، وكان الجابري قد بدأ يرسل إليّ في مطلع الثمانينيات بعض المقالات لنشرها في المجلة. ثم أرسل كتاباً إلى دار الطليعة عنوانه “تكوين العقل العربي” الجزء الأول من مشروع “نقد العقل العربي”. وقد أعطاني صاحب الدار الرّاحل بشير الداعوق المخطوط قائلا لي: أنظر في هذا الكتاب فأنت أفهم مني في التراث. قرأت الكتاب وقلت له: هذا الكتاب مدهش، أنشره فوراً. نشره طبعاً”[12]

فمن أبرز سمات المنطق الاستقرائي، تحصيل أكبر قدر ممكن من المعارف والملاحظات والبيانات والمعلومات كمقدمات ضرورية لغاية الوصول إلى نتائج تُوصل صاحبها إلى الحقيقة. وهذا من أبرز ما نحتاجه في العالَم العربي، الذي يقتطع، في الغالب، الأحكام اقتطاعاً، أي أن الوصول إلى النتائج يتم منذ الخطوة الأولى، وهذه من أبرز العيوب المعرفية التي يمكن أن يقع بها الإنسان الباحث عن الحقيقة. لذا فالدَّرس الذي قدّمه طرابيشي في نقده للجابري من أهم الدروس المفيدة والمُنتجة في العالم العربي.

وفي الجانب الأخلاقي، ضرب جورج طرابيشي مثلاً على قدرته على الاعتراف بفضل الجابري عليه، فالخلاف الفكري معه لم يجعله يتنكر له على المستوى الأخلاقي، بل اعترف بفضل الجابري عليه معرفياً، ضارباً بذلك درساً هاماً، إضافة إلى درسه الآخر السابق، لكل المُختلفين فكرياً أن يُبقوا على مساحة الاعتراف فيما بينهم، حتى لا يتحوّل العمل الفكري إلى مكرهة صحية تؤذي أصاحبها وتُؤثر سلباً على المُتلقين لها أيضاً.

إذاً، كانت الميزة الأبرز لجورج طرابيشي على المستوى الدَّاخلي، هي تحصيل أكبر قدر ممكن المعارف قبل التحقّق في النتائج، كتمثّل حقيقي وبارز للإنسان المعرفي الذي يسعى إلى إحكام سيطرته على مقدماته لكي لا تحدث اختلالات في النتائج. والابتعاد بشكل مبدئي وحاسم عن ردَّات الفعل السريعة التي تتجلى في اقتطاع الأحكام المعرفية اقتطاعاً، بناء على نزعات رغبوية أو نفسية أو آيديولوجية أو عقدية أو إثنية أو مناطقية…إلخ، فذلك مما يضر بالعملية المعرفية من جهة، وبالبناء الأخلاقي للمشتغل على تلك المعرفة من جهة ثانية.

(3)

ميزة جورج طرابيشي على المستوى الخارجي، أنه شاهد على أبرز معالم المشروع الثقافي العربي في تجلياته المختلفة: الفلسفية والدينية والفكرية والأدبية والنقدية والسياسية…إلخ، شاهدٌ قلّ نظيره في العالَم العربي منذ عصر النهضة العربية بواكير القرن التاسع عشر وصولاً إلى هذه الححظة، بل قد يكون متفرداً، إلى جانب عبد الرحمن بدوي وإن بمستوى مختلف، في هذا المجال.

في الفلسفة أطلع جورج طرابيشي على جزء كبير من التراث الفلسفي الإغريقي يوم أن كان يُحضِّر نقوداته على مشروع محمد عابد الجابري. وأنجز كذلك (معجم الفلاسفة: الفلاسفة – المناطقة – المتكلمون – اللاهوتيّون – المتصَوّفون)، وكتاب (مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام)، وترجم كتاب (تاريخ الفلسفة) بأجزائه السبعة لإميل برهييه، وكتاب (موسوعة علم الجمال) لهيغل.

وفي المجال الديني، تعرَّف جورج طرابيشي على منابع الدين المسيحي بحكم إنتمائه الديني، لكنه تعمَّق، أيما تعمق، في الدِّين والتراث الإسلاميين، وجاءت نقوداته في مشروعه (نقد نقد العقل العربي) الذي تضمّن مجموعة من الكتب المميزة: نظرية العقل – وحدة العقل العربي الإسلامي – إشكاليات العقل العربي – العقل المستقيل في الإسلام – المعجزة أو سبات العقل في الإسلام. وكتب أيضاً من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث.

وفي الفكر انخرط في ترجمات عديدة لمفكرين بارزين على الساحة الفكرية الإنسانية، وكان ترجماته لسيغموند فرويد وأطروحاته حول التحليل النفسي[13]، علامة بارزة في الثقافة العربية المعاصرة، بله لم يكتفي بذلك بل أخذ بعض تلك الطاريح وطبقها على سياقات ثقافية عربية، كما فعل في كتابه: (المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي).

وفي الأدب ترجم طرابيشي رواية (زوربا) للروائي اليوناني “نيكوس كازانتزاكسي” وهي من العلامات الفارقة في الأدب العالمي الحديث. وترجم كذلك رواية (المثقفون)[14] لـ سيمون دُو بوفوار وهي من أبرز الكاتبات في القرن العشرين والرفيقة الدائمة للفيلسوف جان بول سارتر. وترجم بعض أعمال الروائي الفرنسي “ألبير كامو”، مثل:  المجموعة القصصية (أعراس)[15]، وكتاب (المقصلة)[16]…إلخ، بما جعله ينخرط في المشهد الأدبي ويطلّع عليه إطلَّاع المُتبحر العارف.

وفي النقد الأدبي برز جورج طرابيشي كعلامة بارزة في المشهد النقدي العربي، فكتب عدداً من الكتب في هذا المجال ما زالت مفاعليها قائمة حتى اللحظة، مثل كتاب (الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية)[17]، وكتاب (عقدة أوديب في الرواية العربية)[18] و(الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية)[19] و(رمزية المرأة في الرواية العربية)[20]. هذا إلى بعض ترجماته في هذا المجال، مثل كتاب (الرواية كملحمة برجوازية)[21] لـ جورج لوكاتش.

وفي السياسة كان جورج طرابيشي قد انخرط في العمل الحزبي وسُجن على ذلك، وهذا مما أرَّخه في مقالة (ست محطات في حياتي) كمحطة هامة في حياته تغيّرت إثر ذلك: “دخلت السجن كمعارض سياسي في نظام حزب البعث. كنت انتميت إلى حزب البعث قبل استلامه السلطة، ثم استقلت من الحزب بعد سنه من استلامه الحكم لخلافات سياسية وإيديولوجية…”[22]

هذا في الجانب العملي، في الجانب الذهني ألَّف جورج طرابيشي، ككتاب (في ثقافة الديموقراطية)[23] الذي أشرتُ إليه في بداية هذه المقالة، وضمّنه ما يُشبه الخريطة المعرفية لتبيئة وتوطين ثقافة الديمقراطية في العالَم العربي. وترجم كذلك كتاب (الاشتراكية والدولة: دور العنف في التاريخ)[24] لـ راتكوفيتش باسيمتشن وبوبوفتش بتشوليستشن، وترجماته لبعض كتب “روجيه غارودي”[25]…إلخ.

وفي غيرها من المجالات، ترجمةً وتأليفاً، ما جعل جورج طرابيشي، بحقّ، علامة فارقة وبارزة في عصر النهضة العربية، بصفته تجمّعاً لشرايين رئيسية في عصر النهضة العربي.

(4)

اعتقد أن “جورج طرابيشي” يرقى إلى درجة الحالة البحثية التي تستلزم دراسة وافية من جوانب عدّة، لفهم تحولات جذرية في عصر النهضة، والتمثلات التي (كان/ صار) إليها من لحظة ميلاد جورج طرابيشي في العام 1936 وحتى وفاته في العام 2016، فشخصيته باهتماماتها المختلفة والمتعددة، تتعالق، كما أرى، مع سيرورات عصر النهضة المختلفة من ناحيتين:

الأولى: داخلية.

الثانية: خارجية.

داخلية لناحية الحراك الكبير الذي انطوى عليه هذا العصر المفصلي، سواء من ناحية فلسفية أو دينية أو سياسية أو أدبية أو فكرية أو نقدية أو سياسية…إلخ. أي أنه استوعب سياقات مختلفة ومتعددة، فتعددت الأنساق المتفاعلة داخل سيرورته، وإن كان النسق الديني قد حاز نصيب الأسد من هذه السيرورة. لكن ذلك لم يحل دون تفاعل أنساق أخرى، وجدت تجسيداً لها في شخصية جورج طرابيشي، أو في المُدخلات الكثيرة التي صاغت شخصيته، وتجلت في مُخرجاته المعرفية التي تعددت فلسفياً ودينياً وسياسياً وفكرياً ونقدياً وأدبياً.

وخارجية في مفاعيل هذا الحراك في الاجتماع السياسي العربي، والنتائج التي صار إليها عصر النهضة هذا في أذهان وأعيان الإنسان العربي، والتي يمكن أن نُجملها في عدد من الأسئلة، مع تعليق الإجباة عليها إلى مقامات ومقالات أخرى:

إلى أي مدى ساهم الدِّين، بصفته محوراً من المحارو الرئيسية التي اشتغل عليها طرابيشي، في تكوين رؤيتنا للعالَم؟

وإلى أي مدى حضر الأموات في ثقافة الأحياء؟ أليس التراث جزء من مشروع الأموات الذي يُناقشه الأحياء حتى اللحظة، ومن ضمنهم محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي؟

إلى أي حد حدثت مراجعات جذرية للتراث العربي، وتمّت مناقشتها نقاشاً معرفياً حقيقياً وصادقاً، كما فعل طرابيشي في رده النقدي على مشروع الجابري؟

وبموازاة ذلك إلى أي حد حدثت مراجعات ليقينياتنا ومسلماتنا الذاتية، سواء أكنا متدينين أم غير متدينين؟

إلى أي حد ضغطت مرجعياتنا التي تنطوي على آراء نهائية ومطلقة، على رؤيتنا للحياة الراهنة؟

إلى أي مدى ساهمت المرجعية الفقهية التراثية في تشكيل وعينا الجمعي، سواء أكنا متدينين أو مدنيين؛ شيوخ أو علماء، أساتذة شريعة أو أساتذة فلسفة؟

هل نحن كائنات سياسية أم كائنات معرفية؟

هل الحقيقة مقدمة بالنسبة إلينا تجعل معارفنا مختومة ومختونة منذ اللحظة الأولى لأي نقاش، أم هي نتيجة مُعلَّقة برسم المقدمات الصحيحة والمنطقية؟

هل يعيش المفكر العربي في الطابق العلوي والأديب العربي في الطابق السفلي، أم يتعايشان مع بعضهما البعض، كجزء من سيرورة واحدة كما فعل طرابيشي؟

إلي أي حد يستطيع الإنسان العربي الاعتراف بفضل الآخرين عليه، مثلما فعل طرابيشي بالنسبة للجابري، رغم أن الجابري لم يرد على أي من نقوداته؟

وهل يمكن فهم سيرورة عصر النهضة العربي، ابتداءً من القرن التاسع عشر وصولاً إلى لحظتنا الرَّاهنة، بعيداً عن الأنساق الفاعلة فيه؛ دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً ونفسياً…إلخ؟

…إلخ.

افترض أن الشخصية الاعتبارية لجورج طرابيشي، بما هي نقطة تجمّع لشرايين رئيسية[26] في عصر النهضة العربي، يمكن أخذها كحالةٍ بحثية جديرة بالدراسة، للتحقّق في فهم أفضل وأوسع وأشمل لهذا العصر المفصلي. وباعتقادي، فإنَّ هذه الحالة البحثية حالة مثالية، لأنها تنطوي على عينّة شبه شاملة، تتجاوز معظم الحالات الفكرية الأخرى في العالم العربي. صحيح، ثمة نماذج مُبهرة ومتطورة، معرفياً وإنسانياً، في العالم العربي، لكن يمكن أخذها كحالات مُتفردة أو كعينّات مُتخصصة في المجالات التي برعت فيها، لكن مع جورج طرابيشي تبدو العينة أوسع وأرحب، ما يجعل نتائج البحث والدراسة أشمل وأعمّ وأفضل، لا سيما إذا ما أردنا أن نطلّع على سيرورة عصر النهضة عند مفصل رئيسي من مفاصلها الكبيرة. لكني أشير، في نهاية المطاف، إلى أن دراسة جورج طرابيشي تستلزم فريق بحث كامل، يُغطِّي جوانب شخصيته في تجلياتها المختلفة؛ فلسفياً وفكرياً ودينياً ونقدياً وأدبياً وسياسياً. وهذا الجهد البحثي، ليس للطبيعة الوعرة والقاسية في هذه الشخصية الاعتبارية، بل لمنحها حقّها بحثاً ودراسة، فذلك الحقّ سينعكس يقيناً على فهم أعمق لعصر النهضة، وآليات تطويرنا لسيروراته.

 

[1]  لم تعد المقالة موجودة على الشبكة، حسب ما أعلم، إذ بحثتُ عنها لكني لم أجدها.

[2]  الباحث عن هذه المقالة سيجدها على أكثر من موقع إلكتروني عربي، لكن اعتمدتُ على النسخة المنشورة على موقع العربية، كما سأورد في هامش لاحق، رغم أن نص المقالة بحاجةٍ إلى مراجعة لضبطه إملائياً وإعرابياً، فنص مثله جدير بأن يحظى باهتمام أكبر مما هو عليه الآن، إذ يُشكِّل علامة فارقة في حياة الرَّاحل جورج طرابيشي خصوصاً، والمشهد الثقافي العربي عموما.

[3]  في ثقافة الديموقراطية، جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1998. إذ أتى على ذكر مُسمّى جاهلية القرن العشرين، وهو اسم الكتاب المشهور لمحمد خطيب شقيق الشخصية المشهورة سيد قطب، في فصل (الأيديولوجيا الثورية واستحالة الديموقراطية).

[4]  صدر للرواية عدة ترجمات باللغة العربية، منها ترجمة جورج طرابيشي وترجمة أسامة أسبر وغيرها من الترجمات، كذلك تمّ تحويلها إلى فيلم سينمائي بنفس العنوان وقد كان الممثل المشهور “أنطوني كوين” قد أدى دور زوربا في الفيلم.

[5]  من ترجمات جورج طرابيشي الأدبية التي لقيت رواجاً في تلك الأيام أيضاً، رواية المثقفون لسيمون دُو بوفوار.

[6]  حقيقة انتقد طرابيشي في كتابه مجمل العقبات التي تقف حجر عثرة في وجه ثقافة الديموقراطية في العالم العربي.

[7]  ربما كان مرد ذلك، في جزء منه، إلى الثقافة التي تحصلت عليها في فترات سابقة، فحمتني من الانبهار المجاني.

[8]  كعادة محمد قطب فإنه يضع النتيجة المُبتغاة مما يكتب في أول صفحة من كتبه، وفي كتاب (جاهلية القرن العشرين) اقتبس الآية القرآنية 50 من سورة المائدة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ووضعها في اول صفحة من كتابه. والجاهلية كما عرفها في كتابه هذا: “إنما الجاهلية –كما عناها القرآن وحددها- هي حالة نفسية ترفض الاهتداء بهدى الله، ووضع تنظيمي يرفض الحكم بما انزل الله…” يمكن العودة إلى كتاب جاهلية القرن العشرين، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط 12، ص 7.

[9]  طبع كتاب (مذاهب فكرية معاصرة) طبعات عديدة رغم حجمه الكبير. وحقيقة معلوماته تنسجم مع السياق التسليمي الذي ربّيت عليه أجيال مُتعاقبة في العالم العربي، تعاف الدَّرس والبحث، وتجد صعوبة بالغة في تحصيله، لذا تركن إلى من يُريحها من هذا العناء، بما يضعها في حالة تسليم للمعارف التي تتلقاها، لا سيما إذا ما صدرت عن سلطة دينية راسخة، بصرف النظر عن صحة تلك المعارف أو عدم صحتها. وكما في كتاب (جاهلية القرن العشرين) عمد محمد قطب إلى وضع النتيجة الأخيرة لكتابه (مذاهب فكرية معاصرة) في الصفحة الأولى منه، إذ اقتبس الآية 153 من سورة الأنعام ووضعها في الصفحة الأولى من كتابه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ…} ويضعها في الصفحة الأولى من كتابه.

[10]  صدر الكتاب بأجزائه الأربعة: 1- تكوين العقل العربي. 2- بنية العقل العربي. 3- العقل السياسي العربي. 4- العقل الأخلاقي العربي، عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، لبنان، على مدار سنوات. ويعتبر هذا المشروع علامة فارقة في التاريخ المعرفي العربي الحديث.

[11]  المقالة منشورة على كثير من المواقع الإلكترونية، من ضمنها موقع العربية على الرابط التالي:

https://www.alarabiya.net/politics/2016/03/17/%D8%B3%D8%AA-%D9%85%D8%AD%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%8A

 

[12]  ست محطات في حياتي، جورج طرابيشي، مرجع سابق على الرابط التالي:

https://www.alarabiya.net/politics/2016/03/17/%D8%B3%D8%AA-%D9%85%D8%AD%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%8A

 

 

[13]  يقيناً أنني لستُ بصدد تقييم ترجماته أو إبراز النقودات عليها، فهذا يحتاج إلى مقام آخر، لكن ما أنا بصدده هو التأشير على تحوِّل جورج طرابيسي إلى منطقة تجمّع قصوى للمشروع الثقافي العربي بتجلياته المختلفة.

[14]  صدرت الرواية بجزئييها عن دار الآداب في بيروت، ترجمة جورج طرابيشي، بدون تاريخ.

[15]  صدرت ألمجموعة القصصية (أعراس) بترجمة جورج طرابيشي عن منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.

[16]  صدر كتاب (المقصلة) بترجمة جورج طرابيشي عن منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ. وهو عبارة عن مرافعة مميزة عن عقوبة الإعدام.

[17]  يُروى أن نجيب محفوظ اعتبر هذا كتاب (الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية) من أفضل ما كتب عنه. فقد أورد الأستاذ “عمار علي حسين” في مقالة له تحت عنوان: (عن جورج طرابيشي) بأن نجيب محفوظ كتب لجورج طرابيشي بعد صدور كتابه آنف الذكر: بصراحة اعترف لك بصدق بصيرتك وقوة استدلالك، ولك أن تنشر عني بأن تفسيرك للأعمال التي عرضتها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها”. يمكن الرجوع لمقالة الأستاذ عمار علي حسين على الرابط التالي:

https://www.alarabiya.net/politics/2016/05/07/%D8%B9%D9%86-%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC-%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%B4%D9%89-1-2-

وقد صدر الكتاب عن دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، وقد صدرت من الكتاب عدة طبعات.

[18]  صدر الكتاب عن دار الطليعة للطباعة والنشر، بريوت، لبنان، وقد صدر في عدة طبعات.

[19]  صدر الكتاب أيضاً عن دار الطليعة للطباعة والنشر في بيروت.

[20]  صدر كتاب رمزية المرأة في الرواية العربية ودراسات أخرى عن دار الطليعة في بيروت. وأشير إلى أن أعمال جورج طرابيشي النقدية الكاملة صدرت في عدة مجلدت عن دار مدارك للنشر والتوزيع في الإمارات العربية المتحدة. وترجمات طرابيشي لكتب سيغموند فرويد.

[21]  صدر هذا الكتاب أيضاً عن دار الطليعة في بيروت، لبنان.

[22]  كما أشرتُ في موضع سابق يمكن الرجوع إلى القمالة على الرابط التالي، مع أنها منشورة في أكثر من موقع:

https://www.alarabiya.net/politics/2016/03/17/%D8%B3%D8%AA-%D9%85%D8%AD%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%8A

 

[23]  صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 1998 عن دار الطليعة للطباعة والنشر في بيروت، لبنان.

[24]  صدر الكتاب أيضاً عن دار الطليعة في بيروت.

[25]  من الكتب التي ترجمها طرابيشي لروجيه غارودي كتاب (البديل)، وكتاب (البُنيويَّة: فلسفة موت الإنسان).

[26]  بتقديري أن شخصية عبد الرحمن بدوي شخصية مُشابهة، إلى حد كبير، شخصية جورج طرابيشي. أعني بصفتها نقطة تجمّع لشرايين رئيسية في عصر النهضة.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete