تكوين
تتمثّل مصادر الوحي في القرآن الكريم كلام الله المنزَّل على النبيِّ محمدٍ، صلى الله عليه وسلم، المنقولُ نقلًا متواترًا، المكتوب بين دفَّتي المصحف. والبيان العملي للقرآن المنقول بالتواتر عن النبي، صلى الله عليه وسلم وسلم، المتمثّل في السنة/الطريقة العملية مثل: كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خمس صلوات واجبة.. وصحيح السنة الإخبارية مع اختلاف بين المسلمين في مصادرها بين سنة وشيعة وإباضية وغيرهم، ومع اختلاف بينهم فيما يدخل منها في باب الوحي، وما يدخل منها في باب الفعل السياسي والاجتماعي.
مصادر القرآن الكريم
وإذا توقفنا أمام القرآن الكريم المصدر الأول للوحي؛ لنُقدّم مقاربةً موضوعيةً تجعلنا على وعي أكثر بالرسالة التي حملها القرآن الكريم، وحتى لا تختطفها التيارات الدينية المتشددة فسنجد أنّه لا يُمكننا ذلك إلا من خلال مناهج ذات صلة بطبيعة القرآن الكريم اللغوية، فالخطاب القرآني رسالة تحمل هداية ورحمة للعالمين كما أكّد القرآن الكريم في أكثر من عشر آيات متفرّقة، منها افتتاح سورة البقرة بقوله تعالى: “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين”، أتتْ من مُرْسِل مُطلق/إلهي مفارق للزمن، موجّهة إلى مُتَلقِي/بشري، إنسان يعيش داخل الزمن بما يحمله مدلول الزمن من مفاهيم متعددة، فيُواجه تحديد مفهوم الزمن صعوبة بالغة لما يكتنفه من إغراب والتباس واختلاف تبعا لتعدد الحقول الدراسية التي تناولت الزمن بين دراسات اللغة والطبيعة والرياضيات، والفلك والفلسفة، فكأننا أمام عدد من الأزمنة المتنوعة فلكية وتاريخية ونفسية وفيزيائية ونحوية وفلسفية، عبر وسيط اتصالي حامل للرسالة هو اللغة، فالله اختار لغة الإنسان للتواصل، وحمْل الرسالة، فاللغة العربية بمدلولاتها ونظامها الصرفي والنحوي والتركيبي، شفرة الاتصال بين الله والإنسان؛ فحتى يتحقق التبليغ والبيان مهمة النبي، صلى الله عليه وسلم، لابد من ملائمة الوسيط وهو اللغة للمجتمع؛ لأنه المستهدف بالرسالة؛ فكانت الرسالة بشفرة/لغة يفهم مدلولاتها المجتمع المخاطب بالرسالة، “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم” [إبراهيم:٤]، فما كان لرسالة الإسلام أن تُحدثَ تأثيرا لو أنّ مستقبليها الأوائل عجزوا عن فهمها.
وهنا يأتي سؤال جدلي يطرحه غير المؤمن: لماذا اختار الله اللغة ذات الدلالات الاحتمالية للتواصل؟ لماذا لم يكن التواصل عبر وسيط آخر غير اللغة، حتى لا نختلف حول مدلولاتها؟
يُجيب عن ذلك واقع المجتمعات البشرية التي لم تجد عبر تاريخها إلى يومنا وسيطا وأداة للتواصل أفضل من اللغة، فلا يُوجد وسيط اتصالي يتفوق على اللغة وإلا كانت المجتمعات البشرية قد تحوّلت إليه.. رغم وجود وسائط تواصل متعددة بعضها بالغ الدقة والتعقيد مثل المعادلات الرقمية وبعضها بِدائي بسيط مثل الإشارة إلا أن المجتمعات البشرية ليس أفرادها فائقو الذكاء ليتواصلوا عبر معادلات، وليسوا ملازمين لحالة من البدائية تجعلهم يعتمدون على الإشارات، ولا يُنتجون أنظمة لغوية مفتوحة قابلة للتطور.
في مقابل الصوت غير المؤمن يأتي صوت آخر للمؤمن المتشدد الذي يسعى إلى تأميم المعني الديني لصالحه، وترسيخ النظرة الأحادية الرافضة لكل أنواع التعدد الثقافي والديني، فيعيش صراعات مستمرة مع الخطابات المغايرة من داخل الإسلام وخارجه، صوت يسعى إلى تثبيت صورة الله الغاضب على حساب صورة الله الرحمن كيف نُواجه هذا الصوت المتشدد دون أن نقعَ في المصيدة التي ينصبها دوما لنا بتحويل أدواته في التعامل مع القرآن الكريم لمسَلّمة معرفية ومَرْكَز ثابت ينبغي أن ندور حوله، فيستدرجنا، بوعي منّا أو بغير وعي إلى أن نبني وعيَنا وفقَ آلياته في إنتاج المعرفة، نناقش، ونجادل في كل مسألة تتصل بالفكر الإسلامي وفق أدواته التي تُنتج رؤيته؟
من هنا تأتي أهمية بناء وعي علمي حقيقي بالقرآن الكريم يكشف الغطاء عن القراءات الإيديولوجية النفعية، التي يتحوّل النصّ الديني المقدس معها إلى ساحة عراك، يُحاول كلّ طرفٍ فيها تأويلَه بما يُعطي “أيديولوجيته” مشروعيةً عليا، على سبيل المثال: قُدّمت قراءة انتقائية للقرآن الكريم؛ ليبدو اشتراكيا بما يُضفي على المشروع الاشتراكي مشروعية عليا في فترة الحكم الناصري، ثم قُدّمت قراءتان مغايرتان للقرآن الكريم في فترة الحكم الساداتي، فاستُدعيت آيات القتال، وآيات بني إسرائيل قبل حرب ١٩٧٣، ثم تحوّلت آيات القرآن الكريم من داعية إلى الجهاد إلى داعية للسلام والمهادنة في قراءة واستدعاءات الخطابات الدينية الرسمية، في محاولة لتبرير تحوّل علاقتنا مع إسرائيل من الصراع إلى المصالحة، وإمعانا في القراءة النفعية للقرآن الكريم تحوّلَ “النص” الديني المقدس بالقراءة الإيديولوجية الجديدة من نصّ يدعو إلى الفكر الاشتراكي القومي التقدمي إلى نصّ يتفق مع أفكار رأس المال الحر ويدعو إلى الرأسمالية والانفتاح الإقليمي، ولا تختلف عن ذلك محاولات جماعات مثل داعش اختطاف القرآن الكريم لينطق بأفكارها..
وبناءُ وعي أكثرَ موضوعية برسالة القرآن الكريم يتطلب بتعبير الشيخ أمين الخولي نوعين من الدراسة: دراسة حول القرآن، ودراسة في القرآن، الأولى “قراءة تزامنية” تقوم على دراسة المجتمع الذي خُوطب بتلك اللغة “دراسة البيئة المادية والمعنوية والثقافية التي نزل فيها القرآن الكريم.. ودراسة كلّ ما يتصل بالذوقِ العربي، وأساليب التعبير، وأنماط تلقي وفهم الكلام المتعارفة في المجتمع، فكيف تلقاه وفهمه المشافَهون به في بيئتهم وثقافتهم وذوقهم ومشكلات واقعهم”.([1])
إقرأ أيضاً: إعادة تعريف القرآن في مشروع نصر أبوزيد (من النص إلى الخطاب)
والثانية: دراسة في لغة القرآن الكريم تستفيد من تطور الدراسات اللغوية، من جانب، وهو ما أشار إليه الشيخ أمين الخولي بدراسة القرآن ذاته، فيريد به شرحَ الكلمات، وبيانَ معاني المفردات، والكشفَ عن طبيعةِ حياة الألفاظ وتطوّرِ دلالتها عبر الزمان، ومعرفةَ مدى التأثر والتأثير المتبادَل بين العربية وغيرها من لغات المجتمعات المسلمة، وما اصطبغت به العربيةُ في عصور ازدهار وانحطاط الحضارة الإسلامية، وأثرِ الزمان في صيروة المعاني وتحولاتها، والتعرّفَ على مدى تأثير كلّ ذلك في تفسير القرآن. وهنا ينبّه الخولي إلى أن “من الخطأ البين أن يعمد متأدب في فهم النص القرآني الجليل فهماً لا يقوم على تقدير تام لهذا التدرج والتغيير الذي مس حياة الألفاظ ودلالتها”([2])
يبدأ الباحث في الدراسات القرآنية بالوقوف أمام سياق الواقع الذي عاصرته الرسالة (الحمولة المفاهيمية للغة في القرن السابع الميلادي)، فاللغة العربية في تلك الفترة تحتوي ثقافة ومفاهيم العربي في القرن السابع الميلادي، وهي المفاهيم نفسها التي حملها القرآن الكريم في بعض آياته، وليس جميع آياته، فإذا كانت السماء في وعي المجتمع آنذاك سقف تُزينه النجوم، فستكون كذلك في القرآن الكريم، “وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون” [الأنبياء:٣٢]، “وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ” [الملك:٥]..
وإذا كانت الجاهلية في وعي المجتمع آنذاك الخضوع لسلطة الانفعال، فستكون كذلك في المواضع الأربعة التي جاءت فيها مشتقات الكلمة القرآن الكريم، ومنها قول الله تعالى: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ” [الأنعام:٣٥]، فالجاهلية ليست من الجَهْل الذى هو ضد العلم بل من الجهل المضاد للحلم، تلك الحالة الانفعالية التي أتى الإسلام لطي صفحتها بالدعوة للتفكير في ٦٤٠ آية، فالجهْل في الآيات لم يخرج عن مدلوله في لغة العرب قبل الإسلام من كونه مرادفا للغضب، وليس أدلّ على ذلك من قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة الخامسة:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين([3])
فتقديم مقاربات لغوية تستفيد مما انتهى إليه الدرس الألسني سيساعد في كشْف تزييف الخطابات المتشددة لمدلولات القرآن الكريم، فالجاهلية في لغة العرب قبل الإسلام، وفي لغة القرآن الكريم ليست “حكم العباد للعباد” كما قال سيد قطب في تفسيره لآيات ٤٦:٤٤ من سورة المائدة إذ يُعرّف الجاهلية بأنّها “حكم البشر للبشر؛ لأنّها هي عبودية البشر للبشر… إما إسلام وإما جاهلية. إمّا إيمان وإمّا كفر. إمّا حكم لله وإمّا حكم الجاهلية”.([4])
وبكثرة الترديد أصبح مدلول / مفهوم الجاهلية الذي صكّه سيد قطب هو المفهوم المرتبط بالدالّ/اللفظ، والحاضر في الثقافة الإسلامية، والمسيطر على العقل الجمعي. وهُمّش حتى تلاشى المدلول القرآني، رغم أنّه الأولى بأن يُسيطر على الثقافة الإسلامية..
المدلول القرآني لدال “جاهلي” يُؤكد أن جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين هي المعادل الموضوعي لجاهلية العقل العربي في تعصبها وغضبها، وخضوعها لسلطة الانفعال، واستسلامها لقوة العاطفة دون احتكام إلى رزانة عقل أو قوة منطق، فغضب الجماعات، ودعوتهم الجماهير للغضب هو الجاهلية بعينها، التي تُؤجج انفعالات تصنع مشكلات، ولا تُقدم حلولا، فالعاصفة تستطيع أن تُدمّر سفينة، لكنها لا تستطيع أن تحلّ عقدة خيط واحدة، هكذا الغضب باسم الدين يدمر أوطانا لكنه يعجز عن تقديم حلّ لمشكلة من مشاكله المعقّدة.
يُتبع
المراجع:
([1]) أمين الخولي، من هدي القرآن، ص٢٣٦.
([3]) يُنظر: شرح المعلقات السبع للزوزني، ص٣٠٨، البيت الثالث والخمسين من أبيات المعلقة، دار الطلائع، القاهرة، الطبعة الأولى،٢٠١٥.
([4]) سيد قطب، في ظلال القرآن، ج٢، ص٩٠٥.