حسن حنفي وعلم الاستغراب

 العلم الذي ولد ميــــتا

تكوين

نتوقف في هذا المقال عند أحد جوانب المشروع الفكري الذي نظر له الفيلسوف المصري الكبير المرحوم حسن حنفي(1935-2021)، هذا المشروع الذي يندرج ضمن المشاريع التي أعلنها بعض المفكرين العرب منذ الربع الأخير للقرن العشرين على : الطيب تيزيني، نصر حامد أبو زيد، حسين مروه، محمد عابد الجابري..الخ، حيث اجتهدوا في رسم معالم النهوض والتحديث بعد النكسات التي عرفها العالم العربي في تلك الفترة، وقد ترك حسن حنفي عشرات الكتب والمقالات التي تندرج ضمن هذا المشروع، وحظيت بكثير من الدراسات والمراجعات التحليلية والنقدية، خاصة المتعلقة منها بالتراث العربي الإسلامي.

مؤسس علم الاستغراب

أعلن حسن حنفي عن مشروعه الفكري بداية ثمانينيات القرن الماضي مع أن مخطط المشروع وأبعاده كان قد رسمها في رسائله الجامعية التي أنجزها بباريس منتصف الستينيات[1]، وأطلق تسمية “التراث والتجديد” على هذا المشروع معتبرا أن “التراث هو نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر”[2]، والغاية من هذا المشروع هو النهضة الشاملة كما صرح في مقدمة الطبعة الأولى للكتاب، حيث قال: “أرجو أن تصدر باقي الأجزاء على التوالي حتى يتحول الإصلاح الديني إلى نهضة شاملة”[3]، وهذا المشروع اشتغل على ثلاث جبهات: الموقف من التراث القديم، الموقف من التراث الغربي، الموقف من الواقع أو نظرية التفسير، و”الجبهات الثلاثة ليست منفصلة عن بعضها البعض بل تتداخل فيما بينها ويخدم بعضها بعضا، فإعادة بناء التراث القديم بحيث يكون قادرا على الدخول في تحديات العصر الرئيسة يساعد على وقف التغريب الذي وقعت فيه الخاصة(..) وأخذ موقف من الغرب يساعد المتغربين على أخذ موقف نقدي من التراث بدلا من الهروب إليه، وعلى إعادة اكتشاف التراث القديم بدلا عن الهروب منه”[4]. وبالرغم من مرور عدة عقود على إطلاق هذا المشروع إلا أنه لا يزال يثير العديد من الإشكاليات بالنظر لاتساعه وجرأته وعمقه، وقد كتب حسن حنفي في مقدمة الطبعة الثالثة لكتابه (التراث والتجديد)، “أن النص لم يتغير منذ الطبعة الأولى ومازال يحتفظ بجدته وأصالته وقدرته على إثارة الأذهان والدعوة إلى الحوار”[5].

ولعل الظروف التي نعيشها حاليا في منطقتنا تجعلنا نتوقف عند الجبهة الثانية من مشروع حسن حنفي، ألا وهي جبهة الموقف من الغرب، كيفية النظر إليه وآليات التعامل معه، فهو سؤال طرح علينا منذ ما سمي بصدمة الحداثة ولا يزال مطروحا في يومنا هذا، بالرغم من مختلف النقاشات التي دارت حوله والمواقف المتبناة تجاهه، وقد حاول حسن حنقي مواجهة سؤال الغرب من خلال الدعوة إلى تأسيس  “علم الاستغراب“، ومع أن المصطلح “الاستغراب” ظهر قبل أعمال حسن حنفي، إلا أن هذا الأخير وظفه بمعنى جديد، فهو لا يفيد التماهي مع الغرب ولا مسايرته، بل يعني العكس تماما، أي وضع مسافة بين الأنا والآخر(الغرب) لقراءته ووصفه من منظور الأنا(الشرق)، ولعل أهم مبرر لدعوة حنفي لتأسيس هذا العلم الجديد هي أن الغرب كان دوما حاضرا في وعينا بصورة أو بأخرى، إلا أنه “لم تقم حتى الآن حركة نقدية له إلا في أقل الحدود وبمنهج الخطابة أو الجدل دون منهج النقد ومنطق البرهان”[6]، معنى ذلك أن حنفي يراهن على هذا العلم للقيام بنقد جديد للغرب يختلف تماما عما سبقه من مواقف “نقدية” تجاه الغرب، وقد نشر حسن حنقي عام 1991 كتابا ضخما بعنوان: “مقدمة في علم الاستغراب” للتعريف بهذا “العلم الجديد” الذي يسعى لتأسيسه يقع الكتاب في أكثر من ثمانمائة وخمسين صفحة، وهو يشمل المحاور التالية:

 

-تكوين الوعي الأوروبي.

-بنية الوعي الأوروبي.

-مصير الوعي الأوروبي.

-ماذا يعني علم الاستغراب؟

بعد عقد من الزمن أعاد نشر قسم من هذا الكتاب بعنوان “ماذا يعني علم الاستغراب؟ يقع في حوالي 240 صفحة[7]، دون أي تغيير في مضمونه عدا إضافة مقدمة قصيرة أشار فيها إلى بعض ردود الفعل التي تلت صدور الطبعة الأولى لـــــ: “مقدمة في علم الاستغراب”.

يقول حسن حنفي واصفا علم الاستغراب: “هذا هو العلم الجديد في ذهني، منهجه تحليل الآخر في وعي الأنا والآخر كما أحياه، موضوعه الآخر كما هو عليه تكوينا وبنية، غايته التحرر منه، ورده إلى حدوده الطبيعية، والقضاء على أسطورة العالمية وضياع الرهبة والخشية منه والتوهان فيه، لغته عادية تجمع بين القارئ العريض والمتخصص الدقيق”[8].

يقدم حسن حنفي علمه الجديد بحماسة وطموح كبيرين مراهنا عليه في تحقيق نتائج كبيرة على مستوى الوعي العربي وطريقة تعامله مع الغرب؛ فعلم الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل للاستشراق، والغاية منه مقاومة حركة التغريب التي طالت المجتمع العربي، والرد على المركزية الغربية، وفك عقدة النقص أمام الغرب لغة وثقافة وعلما، مذاهب ونظريات وآراء مما يخلق فيهم إحساسا بالدونية[9]،  وتحويل الموقف من الغرب من مستوى الانفعال ورود الفعل إلى مستوى الفعل التحليلي العلمي الرصين، خاصة وأن المؤلف يؤمن بفكرة الدورات الحضارية؛ حضارة تأتي وحضارة تأفل، وفي اعتقاده نحن نعيش زمن أفول الحضارة الغربية، يقول في أحد أعماله بكل ثقة ويقين: “نحن الآن في مفترق الطرق، حضارة تنتهي، حضارة المركز وهي الحضارة الأوروبية وحضارات تبدأ، حضارات الأطراف..العالم الجديد مازال يتشكل ولم تظهر منه إلا القباب، بدأ بانهيار أحد القطبين ويتلوه انهيار القطب الآخر الذي تنخر مظاهر العدم فيه”[10]. وهي ظروف مواتية في نظره لتحجيم الغرب وإعادة رسم صورته والتحرر من هيمنته. وتحت عنوان: “نتائج علم الاستغراب” ضمن كتابه الضخم (مقدمة في علم الاستغراب) رصد المؤلف عدة نتائج وغايات يمكن لعلم الاستغراب تحقيقها إذا ما تم تناوله من قبل فرق بحثية على عدة أجيال وتحول إلى تيار عام في البلاد، وهو ما سنناقشه بشيء من التفصيل حول هذه النتائج وإبراز عوائق تحقيقها .

الاستغراب ومفهوم العلم: يقدم حسن حنفي الاستغراب على أنه “علم”، ولكن السؤال الذي يطرح هنا، بأي معنى يكون “الاستغراب” علما؟ ذلك أن هناك شروطا كثيرة لابد من توفرها حتي يمكن وصف مجال معرفي معين بالعلمية، شروط تتعلق بوضوح الموضوع أو الظاهرة المدروسة، وفعالية المنهج المتبع، ثم دقة النتائج المتوصل إليها، وكل هذا في إطار الموضوعية والقابلية للتعميم..الخ، من المؤكد أن حسن حنفي على دراية بهذه الشروط، إلا أنه يبرر توظيفه لمصطلح “علم” بالعودة إلى التراث الإسلامي أين ظهرت “علوم” عديدة انطلاقا من بيانات نظرية شبيهة ببيانه حول الاستغراب، يقول في هذا السياق: “هناك نماذج عديدة من تراثنا القديم تأسست فيها أيضا العلوم ببيانات نظرية ومقدمات منهجية مثل “الرسالة” للشافعي لتأسيس أصول الفقه، وكتاب سيبويه لتأسيس علم النحو وألفية ابن مالك للخليل بن أحمد لتأسيس علم العروض ومقدمة ابن خلدون لتأسيس “علم العمران”، فهذا البيان النظري عن الجبهة الثانية إنما يهدف إلى تأسيس علم الاستغراب”[11]. وما يفهم من تبرير حسن حنفي هو أن الاستغراب “علم” بصدد التأسيس، ولما يتأسس بعد، وهو ينتظر الباحثين الذين يقتنعون بجدواه حتى يلتفوا حول موضوعاته ويحققوا نتائجه، ومادام الأمر كذلك، فعلم الاستغراب حتى اللحظة ليس أكثر من دعوة أو طموح نظري قد يتحقق وقد لا يتحقق وهو بعيد عن صفة العلمية التي وصفه بها.

ما علاقة الاستغراب بالاستشراق؟

صورة “شرقية” للغرب: لعل أولى العوائق التي يصطدم بها علم الاستغراب، يتعلق بالتحكم في موضوعه؛ أي الغرب، فغايته هي رسم صورة جديدة لهذا الغرب، غير تلك الصورة التي نشرها عن نفسه، فالاستغراب كما يقول صاحبه: “رؤية الغرب من منظور اللاغرب، وليس وصف الآخر (الغرب) لنفسه تنقله الأنا(الشرق) عنه”، والغرب مفهوم واسع وشامل لمجال جغرافي كبير، كما أنه مفهوم له تاريخ طويل، وهو مفهوم تعرض لتغيرات كبيرة في بنيته ودلالاته، ومن الصعب الإحاطة به حتى يمكن تشكيل صورة عنه، فإذا كانت أوروبا مثلت تاريخيا مركز الغرب وصانعة الوعي الغربي، إلا أن هذا الدور تضاءل كثيرا منذ منتصف القرن العشرين، خاصة، لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي أصحت الآمر الناهي الموجه للوعي الغربي وللرأي العالمي بدرجة كبيرة، وهذا ما لم يوله حسن حنفي الاهتمام اللازم في كتابه، كما أن هناك مناطق عدت في القديم ضمن الشرق، ولكنها الآن تحولت -أو بصدد التحول- نحو الغرب، يمكن وصفها بامتداد الغرب الفكري في الشرق الجغرافي (اليابان، كوريا، الصين، الهند..الخ) وهذا عكس ما ذهب إليه حسن حنفي الذي اعتبر هذا الامتداد “احتواء الشرق للغرب”[12]، والإشكالية الأكبر أن  الامتداد يتسع تدريجيا ليكسب مناطق جديدة تقع في قلب مفهوم الشرق، حتى أصبح مفهومي الشرق والغرب مرنين أو ربما مائعين–مستقبلا- وهذا ما يجعل الحديث عن رسم صورة جديدة عن الغرب أمرا صعبا للغاية إن لم يكن متعذرا، فأي غرب سنرسم؟ الغرب الذي توجهه أوروبا أم الغرب الذي تقوده أمريكا؟ الغرب بجغرافيته القديمة أم الغرب الممتد في الشرق والذي أصبح دوره مهما جدا في توجيه الرأي العام العالمي الراهن؟.

– السيطرة على الوعي الأوروبي: الوعي الأوروبي تراكم تاريخي تشكل عبر قرون طويلة، وقد أسهمت في تشكله مجالات: العلم والفلسفة والدين والفن، وفي كل مجال هناك مذاهب ونظريات وشخصيات ومواقف يصعب الإحاطة بها جميعا من قبل شخص واحد أو حتى فريق بحث، ومن ثم يتعذر بناء موقف عام من هذا الفكر الغربي سواء تعلق الأمر بنشأته أو تطوره أو مصيره، وحسن حنفي كان واعيا بهذا المأزق غير أنه حاول تجاوزه من خلال اعتبار الوعي الحضاري الغربي وعيا فلسفيا خالصا[13]، ومعنى ذلك أنه يمكن الاقتصار في تحديد تكوين وتطور الوعي الغربي على دراسة الفلسفة الغربية دون غيرها من المجالات الأخرى، على اعتبار أن الفلسفة هي التي تصنع الوعي الحضاري لأمة من الأمم بالدرجة الأولى، ومع ذلك فالمأزق يبقى قائما، ذلك أن الفلسفة الغربية ذاتها متعددة الاتجاهات والمذاهب، فأي هذه الاتجاهات يعبر عن الوعي الغربي حقيقة، خصوصا ونحن نعلم أن الاختلاف كان سيد الموقف بين مختلف المذاهب والمدارس الفلسفية على مر التاريخ؟

– الاستغراب والاستشراق: قدم حسن حنفي “علم الاستغراب” على أنه في مقابل الاستشراق، ومعلوم أن الاستشراق تعرض لموجات نقدية عديدة من داخل الفكر العربي، منذ نهاية القرن التاسع عشر وردود الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا على بعض الأطروحات العنصرية لأرنست رينان، وصولا إلى النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد تطورا كبيرا في حدة النقد وعمقه خصوصا مع أعمال: أنور عبد الملك، مالك بن نبي عبد الكبير الخطيبي وانتهاء بالكتاب الشهر لإدوارد سعيد (الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء)الصادر في العام 1978. وهذا يعني أن مواجهة الاستشراق ليست بالأمر الجديد، بل إنها بدورها تصطدم بإشكاليات عديدة تجعلها لا تحقق أهدافها الكبرى خاصة زحزحة المواقف وتغيير الصور النمطية.

الاستشراق ليس مجرد دعوة نظرية أو بيان تأسيسي معزول أعلنه باحث في مكان ما، مثل بيان “علم الاستغراب”، الاستشراق استراتيجية ومؤسسة مهيكلة بعناصر بارزة وأخرى خفية، ظهرت في مرحلة معينة كاستجابة لإرادة التوسع والهيمنة للدول الأوروبية، وكانت مدعومة وموجهة من قبل الحكومات ووزارات الحربية، وفقا لمبدأ “أن تسيطر ينبغي أن تفهم أولا”، فتشكلت معارف كثيرة تراكمت عبر التاريخ وتأثرت بسمات العصور واستفادت من مختلف المناهج والمدارس، غير أنه من المهم التنبيه إلى أن الاستشراق ليس كتلة واحدة، بمعنى أننا لا نستطيع إطلاق حكم عام حول الاستشراق، وكل تعميم فهو يتضمن بالضرورة إجحافا في حق بعض المستشرقين الذين قدموا خدمات مهمة للتراث الشرقي من خلال اكتشاف وتحقيق ونشر نصوص مهمة من هذا التراث.

من جهة أخرى فإن الصورة التي شكلها الغرب عن الشرق كانت بإمكانياته ومن مصادره في الغالب، لذلك نتساءل: هل يستطيع علم الاستغراب أن يكتشف نصوصا غربية غير معروفة لدى الغرب وأن يحققها وينشرها؟ ثم أين هو التوجيه والدعم السياسي والمادي الذي يحتاجه علم الاستغراب لبلوغ أهدافه؟ واضح أن الاستغراب مرغم على رسم صورة الغرب من مصادر غربية وبالتالي ستكون صورة للغرب كما يريدها، حتى كتاب حسن حنفي لم يستطع الاستغناء عن هذه المصادر الغربية في كل مباحثه، ومن ثم فلن يكون الاستغراب إلا إعادة كتابة لما قاله الغرب عن نفسه ولو بصورة انتقائية، محاكاة لتاريخ الفكر الغربي لا أكثر، ففي تحقيبه لمراحل تطور الوعي الأوروبي لم يخرج حسن حنفي عن التحقيب المعتمد في كتب تاريخ الفكر الغربي(العصر الوسيط، العصر المدرسي، الإصلاح الديني، عصر النهضة، العقلانية والتنوير ثم العلمية والوجودية) فهو كمن يسعى لثقب أبواب كانت مفتوحة في الأصل.

الاستغراب والتغريب: يدعو حسن حنفي إلى تأسيس الاستغراب “لمواجهة التغريب الذي امتد أثره ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم واستقلالنا الحضاري بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة”[14]، وخطورة التغريب تكمن في أثره المباشر على قضية الهوية التي هي قضية محورية في الفكر العربي الحديث والمعاصر، فالسؤال الذي أرق كل أقطاب هذا الفكر هو كيف يمكن الحفاظ على الهوية بعيدا عن الانغلاق الخطير والانفتاح المدمر؟ والتغريب يصل حد الاغتراب، كما يقول حسن حنفي في نقده لهشام جعيط حيث اعتبره نموذجا للتغريب والاغتراب: “إن أهم نقد يمكن إذن توجيهه لأمثال هذه الدراسات هو استعمال التاريخ الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار لفهم الشخصية الإسلامية”[15]، نفس الممارسة يقع فيها حسن حنفي في فهمه للشخصية الغربية فهو ملزم بالإحالة باستمرار للمصادر الغربية، وبالتالي يتضاءل دور الأنا في فهم الآخر ويتحول إلى مجرد مرآة عاكسة للتاريخ الغربي دون تدخل مؤثر، وهذا ما يمنع تحول الآخر إلى موضوع للدراسة ما دمنا مضطرين للاستماع لما يقوله.

-القضاء على المركزية الأوروبية: يطمح علم الاستغراب إلى إعادة كتابة التاريخ يما يحقق أكبر قدر من النزاهة “والمساواة في حق الشعوب بدلا من النهب الأوروبي لثقافات العالم واكتشاف دور الحضارات التي ساهمت في تكريس حضارة الغرب”[16]، وهذا من خلال إعادة الاعتبار للمصادر غير الغربية للفكر الغربي، والكشف عن الدور الكبير الذي لعبته الحضارات الشرقية في بنية الفكر اليوناني بداية، ثم دور الحضارة الإسلامية في انطلاق الفكر الأوروبي الحديث، بالرغم من مشروعية هذا الطموح، إلا أن تحقيقه يتم حتما عبر العودة للفكر الغربي، لأنه الأعلم بالفكر الشرقي ذاته، فجل ما نعرفه عن الحضارات الشرقية كان وراءه البحاثة الغربيون من علماء المصريات والهنديات والإسلاميات وغير ذلك، وكثير من كبار مؤرخي العلم الموضوعيين أشاروا لهذه المسألة بما يكفي من الإشادة، لنقرأ ما يقوله أحد هؤلاء وهو جورج سارتون مؤلف الكتاب الموسوعي حول تاريخ العلوم:” من سذاجة الأطفال أن نفترض أن العلم بدأ في بلاد الإغريق، فإن المعجزة اليونانية سبقتها آلاف الجهود العلمية في مصر وبلاد ما بين النهرين وغيرهما من الأقاليم والعلم اليوناني كان إحياء أكثر منه اختراعا”[17]، هذا اعتراف واضح من قبل مختص بأن الحضارات الشرقية تعد مصدرا رئيسا للفكر الأوروبي منذ اللحظة اليونانية، أما فيما يخص اللحظة الإسلامية فكثير من المستشرقين أقروا بدور العلماء والمفكرين المسلين في النهضة الأوروبية، على غرار زيغريد هونكه مؤلفة كتاب (شمس الله تسطع على الغرب)وغيرها، ومن ثم نتساءل ما الذي سيضيفه علم الاستغراب لهذا الموضوع، وقد شهد شهود كثر من أهل الغرب بذلك؟.

– حول المنهج: كثيرا ما يوصف حسن حنفي بممثل اليسار الإسلامي، كما تصنف طريقته في البحث ضمن المنهج الفينومينولوجي، وسواء تعلق الأمر بالاتجاه اليساري أو بالمنهج الظواهري، فكلاهما منتج غربي صرف، ونحن نعلم أن المناهج المعتمدة في دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية ليست بريئة ولا محايدة، وبالتالي، فإن الخطوة الأساسية في تحويل الغرب إلى موضوع للدراسة، إن كان ذلك ممكنا، تتطلب نوعا من الاستقلال المنهجي.

بالرغم من الجهد الكبير الذي بذله حسن حنفي في عمله هذا حول علم الاستغراب، ومحاولته الإلمام والتنظير لمختلف الجوانب الضرورية لهذا المجال المعرفي، سواء تعلق الأمر بالموضوع(الفكر الغربي: مصادره، تكوينه، بنيته، مصيره..)أو المنهج (الفينومينولوجيا)أو النتائج والغايات، إلا أن هذا المشروع يصطدم بعوائق كثيرة تجعله غير قابل للتحقق في أرض الواقع بالصورة التي أرادها له مؤسسه، ومن ثم لا يمكن الحديث لا عن نتائج ولا عن أهداف أو غايات لهذا المجال المعرفي، فكأن علم الاستغراب كما أراده صاحبه ولد في مقدمة كتابه ومات في خاتمته، وهو يعترف بذلك في نهاية الكتاب، وكنوع من النقد الذاتي، يصرح أن: “عيوبه ظهرت بعد اكتماله، وأن هناك فرقا بين عالم الأذهان وعالم الأعيان”[18]، وانخفض سقف الطموح لديه، بفعل قصر العمر وضخامة المهمة، من مسعى التحرر من هيمنة الآخر وتحويله لموضوع للدراسة إلى مستوى “مجرد برنامج للدراسات العليا، مجرد توجيه للبحث” بل ليس أكثر من” إعلان نوايا”، يقول: “حاولت أن أضع أسس علم جديد مازال مجرد نوايا صادقة..”[19].

نحن فعلا بحاجة إلى تلك الأهداف الجذابة التي رسمها حسن حنفي لعلمه، خاصة في اللحظة الحساسة التي تعيشها، نحن بحاجة لإعادة رسم علاقتنا مع الآخر، غير أن الطريق لتحقيق تلك الغايات لم تتضح بعد، بسبب غياب الندية والتكافؤ واختلال ميزان القوة لصالح قوى الغرب، التي تفرض مقاييسها المحققة لمصالحها على العالم ككل، أضف إلى ذلك التشرذم والخلافات المدمرة التي تسود مجتمعاتنا، فكيف نطلب ممن لم يستطع رسم صورة عن نفسه أن يرسم صورة عن الآخر المهيمن عليه.

المراجع:

حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب (القاهرة: الدار الفنية، ط1، 1991) ص 11.[1]

 حسن حنفي: التراث والتجديد (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط4،1992) ص13.[2]

 المصدر نفسه[3]

 حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، مصدر سابق، ص ص 13-14.[4]

 حسن حنفي: التراث والتجديد، مصدر سابق.[5]

 حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص 15.[6]

 حسن حنفي: ماذا يعني علم الاستغراب؟ (بيروت: دار الهادي، ط1، 2000)[7]

 حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص 790.[8]

[9] المصدر نفسه، ص 30.

 حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1998) ص 158.[10]

حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص 21.[11]

 المصدر نفسه، ص 20.[12]

 المصدر نفسه، ص 101.[13]

 المصدر نفسه، ص 22.[14]

المصدر نفسه، ص 45.[15]

المصدر نفسه، ص 52[16]

 جورج سارتون: تاريخ العلم، الجزء الأول، ت: محمد خلف الله وآخرون(المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010) ص 21. [17]

 حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص 777.[18]

 المصدر نفسه، ص 790.[19]

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete