حسن صعب: مفكّر العقلانية والحداثة

تكوين

مقدّمة:

  مفكّر عربيّ لبنانيّ عقلانيّ، متخصّص في علم السياسة التي أتقن الغوص في مكنوناتها ومعضلاتها. هو الدكتور حسن صعب، الساعي الدائم إلى المراجعة المنهجية في حياته العملية، وفي بحوثه ومحاضراته وكتاباته. هو الثائر في وجه التقليد والانغلاق، والسائر في طريق العقلانية والحداثة. مسلمٌ نعم، لكن في ظلّ “إسلام حرية لا إسلام عبودية”.

بعد نبذةٍ عن سيرته الذاتية، سوف نتطرّق للتداخل بين الروح الثورية التي اختبرها على أرض الواقع، والسياسة التي عاشها في مناصبه الدبلوماسية ومؤلّفاته السياسية، وصولاً إلى عرض فكره المجدول على العقلانية والحداثة.

أولاً: حياته (1922-1990)

  هو أحد أبرز أعلام الفكر اللبنانيّ-العربيّ. ولد في بيروت العام 1922، توفّي والده قبل ولادته فحمل إسمه وعاش يتيماً في ظروفٍ صعبة كانت حافزاً له للمضيّ قُدُماً نحو سلوك طريق العلم والمعرفة وانتهاج منحى التقدّم والانفتاح. أتقن اللغتيْن الفرنسية والانكليزية إلى جانب العربية لغته الأم، فكتب ونشر وترجم وألقى الكثير من المحاضرات.

العام 1941، إختاره مفتي بيروت الشيخ محمد توفيق خالد مع مجموعةٍ من الطلّاب (من بينهم المفتي حسن خالد (1921-1989) الذي أصبح مفتي الجمهورية اللبنانية من العام 1966 وحتى وفاته نتيجة تفجير سيّارته أثناء مغادرته دار الفتوى.) .. للانتقال إلى مصر ودراسة العلوم الاسلامية في الأزهر الشريف في القاهرة، إلا أنّ صعب إبتعد “عن مسار العلوم الاسلامية والدينية واتّجه إلى العلوم المدنية” (1) وقرّر الدخول إلى كلية الآداب في جامعة القاهرة حيث نال إجازةً في الأدب العام 1945. ثمّ نال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جورج تاون – واشنطن العام 1956. درّس في العديد من الجامعات في لبنان والخارج، وتولّى عمادة كلّية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية ما بين العامين 1972 و1978.

من أبرز مؤلّفاته:

  • تحديث العقل العربي.
  • علم السياسة.
  • لبنان العقل لا لبنان العنف.
  • المفهوم الحديث لرجل الدولة.
  • مقدّمة لدراسة علم السياسة.
  • الوعي العقائدي.
  • الاسلام والانسان.
  • إسلام الحرية لا إسلام العبودية.

ثانياً: من الروح الثورية إلى معترك السياسة

  مرّ حسن صعب، خلال حياته الدراسية والمهنية، بمحطّاتٍ عدّة شكّلت ركيزةً إنعقد عليها لاحقاً فكره السياسيّ المتّقد. ففي مرحلة الدراسة في مصر، إنخرط بجرأةٍ في قيادة الحركات الطالبية المنادية بالحرية والاستقلال. وهو هذا الانخراط العملاني الذي وسم تفكّره السياسيّ المستقبليّ حين بدأ مسيرته الدبلوماسية والكتابية.

فعلى الصعيد الدبلوماسي، وبعدما خاض أول مباراةٍ له في وزارة الخارجية اللبنانية العام 1944، أُلحق بمفوضية لبنان في باريس بين العامين 1945و1946، ثمّ شغل منصب نائب قنصل في اسطنبول بين العامين 1946و1947، وعُيّن رئيساً لدائرتيّ الصحافة الثقافية في الادارة المركزية لوزارة الخارجية اللبنانية بين العامين 1947و1950، ثمّ سكرتيراً للسفارة اللبنانية في واشنطن وقائماً بالأعمال بالوكالة بين العامين 1950و1956… إلى أن أصبح أستاذاً في الجامعة الأميركية في بيروت. إستقال من وزارة الخارجية العام 1960 ليعود بحزمٍ أكبر إلى العمل الدبلوماسي بين العامين 1961و1964، حيث ألقى محاضراتٍ في الولايات المتّحدة الأميركية وكندا عرفت صدىً واسعاً في أوساط الطلاّب والفئة المثقّفة آنذاك. والمفارقة أنه كان يدعوهم للعودة إلى الوطن، فيما نرى اللبنانيين اليوم يتهافتون للأسف للمغادرة الدائمة، هرباً من حالة اللااستقرار على جميع المستويات في البلاد.

والحقيقة أنّ استقالته النهائية من السلك الدبلوماسي العام 1964 دفعته في اتجاهين: التدريس في الجامعات ومحاولة المشاركة في تكوين الفكر التنويري لدى الطلاّب، والاستمرار في وضع الكتب وإلقاء المحاضرات الرامية إلى الهدف ذاته.

ثالثاً: تحديث العقل العربي

  إزاء حالة التدهور التي عاشها العالم العربي على مدى سنواتٍ طويلة، لم يطل اليأس الارادة الفكرية الصلبة التي تمتّع بها  حسن صعب فأطلق صرخته الداعية إلى “تحديث العقل العربي” عبر كتابه الصادر العام 1969.

في رأيه أنّ العقل العربيّ إمتلك دوماً القدرة على التحديث، لكنه، في معظم الأحيان، كان يفتقد الوسائل اللازمة لتحقيق هذا الهدف. فالانزلاق أكثر في الرجعية والتخلّف لا بدّ أن يخلق تأزّماً في الفكر الذي عليه أن يسيطر على سلبيته بالنهوض مجدّداً ومواكبة تقدّم الحضارات الأخرى. فالغرب بلغ مرحلة الحداثة بعد مرحلتيّ هبوط وركود، وكذلك العرب قادرون على بلوغ الحداثة وعيش مفاعيلها وانعكاساتها بإرادتهم. فكما “صنعنا الحضارة بالأمس، فسنعود لصنعها في الغد، وكما قدّمنا العلم بالأمس، فسنعود لتقديمه في الغد.” (2) كيف يكون ذلك؟ بتحويل الثقافة العربية من ثقافةٍ قائمةٍ على الشعر وصناعة الكلمة فقط إلى ثقافةٍ ترتكز على العلم والتكنولوجيا، مع المحافظة على “أنسنة” الانسان، الأمر الذي يتطلّب عقلاً ومنطقاً على المستوى النظريّ، ومنهجاً تجريبياً على المستوى العمليّ. وهذا ما ينبغي أن يتلازم مع تحديثٍ قيميّ وتربويّ في آن، لفتح سبل التكامل والتلاقح مع معارف العالم الحديث المتقدّم. وكلّ باحثٍ في السياسة يدرك أنه لبلوغ هدف تحديث العقل العربيّ، لا بدّ من ثورةٍ حقيقيةٍ وهي الثورة المنهجية، “ثورة العقل المرتاب في مسلّماته الخاطئة”(3)

 

رابعاً: العقلانية والعَلمانية في الاسلام

  كانت لصعب نظرة خاصة في الدين الاسلامي الذي أراده مواكباً قضايا العصر إجتماعياً واقتصادياً، ومجابهاً كلّ تحدّيات الانغلاق التي وقع كثيرون ضحايا لها. ولم يكن اختياره عنوان كتابه: “إسلام الحرية لا إسلام العبودية” سوى الدليل الأكمل والأمثل لصفاء تفكيره الوطنيّ الرامي إلى التحرّر من قيود الانتماءات الدينية، بهدف الاتجاه صوب عقلنة المسائل والاشكاليات في زمن الثورات والحروب المتتالية التي عرفها العالم العربيّ، ولا سيّما لبنان.

من هذا المنطلق، كان صعب من أبرز المدافعين عن العَلمانية بين قلّةٍ من المفكّرين اللبنانيين المسلمين. وفي الوقت ذاته، كان كاتباً وباحثاً مؤمناً بالله إيماناً عقلانياً جعله يعايش الحالتين معاً: التعبّد لله، وتنظيم حياته وفق العلم والمنطق. وممّا قاله في هذا السياق: “إنّ الانسان لا يحيا ليتعبّد. ولكنه يتعبّد ليحيا حياة أفضل، حياة الخير والتقوى.”4 وكما كان يعتقد، إنّ مقاربة مسألة العَلمانية مقاربةً موضوعيةً تتطلّب محاولة “التحرّر من الأفكار السائدة والمسلّمات الشائعة عن الغير وعن أنفسنا.” (5) عندئذٍ يتمكّن الفرد من أن يعقل العَلمانية خارج إطار التأثيرات المجتمعية الضيّقة. والاسلام، بحسب رؤيته، هو “دين الله ودين الانسان وليس دين الدولة” (6)، وكانت النزعة السياسية العقلانية موجودةً منذ عهد الرسول وحتى القرن التاسع عشر، وكذلك كانت الكتب السياسية منتشرةً في العصور الاسلامية المختلفة، وعرضت فيها “أصول الحكم والسياسة عرضاً فلسفياً أو خلقياً صرفاً كأصولٍ قائمةٍ بذاتها باستقلالٍ عن الدين ” (7) وكان لهذه الكتب تأثيرها في سلوك الخلفاء. وذهب إلى حدّ اعتبار أنّ “الشريعة نفسها لا يمكن أن تُفهم فهماً حقيقياً إلا إذا اعتُبرت شريعة العقل بقدْر ما هي شريعة الوحي.” (8) وما قصده صعب بالعقل هو الفكر والتجربة معاً لدى الانسان، وقد سمح له اتّباعه الأسلوب العقلانيّ أن يحلّل مسألة الدين والدولة من منطلقٍ فلسفيّ.

صحيح، في رأيه، أنّ “المسيحية تفصل ما بين الكنيسة والدولة” (9) ، وأنّ “الاسلام الشرعي لم ينصّ على مثل هذا الفصل… لذلك يبدو الدين والسياسة متداخليْن في الاسلام تداخلاً لا نرى له مثيلاً في المسيحية”(10) ، وصحيح أنّ هذا التداخل يُعتبر اليوم شرعياً أكثر مما هو وظيفيّ، لكنّ القضية هي أكثر عمقاً، “إنها قضية الحقيقة الدينية والقيم الدينية وقدرتها على أن تغيّر الانسان تغييراً كافياً بحيث يصبح سلوكه الكائن الذي اتّخذه الله خليفةً له على الأرض، بدلاً من أن يكون سلوك الحيوان السياسيّ.”(11) إلى ذلك، أكّد صعب أنّ تضامن المسيحيين والمسلمين هو الذي يضمن سلامة سلوكهم الانساني، وهو الذي يحقّق بالتالي النجاح لنظام الدولة، على أن تكون للفئتين وحدانيتهما الانسانية وحضارتهما الجديدة، “ومشاركتهما الابداعية لا مشاركتهما الاجترارية في صناعة الحضارة الانسانية الجديدة.”(12)

واستخلص صعب من ذلك كلّه أنّ تقبّل العَلمانية وقف على المضيّ في طريق التقدّم والعقلانية، وهذا ما يجب أن تكون مسؤولةً عنه النخبة المفكّرة في البلاد، ولا سيّما على مستوى القيادة.

 

خاتمة

  أراد صعب إيقاظ الوعي الانساني وبالتالي تحرير الانسان ضمن نمطٍ حياتيّ مبنيّ على تطوّرٍ وإبداعٍ لامتناهييْن. فاعتبره بعض النقّاد غارقاً في مثاليةٍ أوطوبيةٍ مفرطة، وكان يردّ دوماً على مثل هذه الانتقادات بالتأكيد أنّ مثاليّته متلازمة مع عملانيّته، في رؤيته الشمولية للانسان في كلّ بقاع العالم. هكذا رمى إلى المزاوجة بين أصالة الشرق وتكنولوجيا الغرب على أساس سلّم قيم يوحّد بين العالميْن.

حسن صعب، مفكّر كبير رفع العقل إلى المرتبة الأسمى، وقدّس الحرية في زمن تلاشيها في العديد من مجتمعات اليوم!!

 

المراجع:

(1) مؤسّسة حسن صعب للدراسات والأبحاث إستذكرته في الذكرى 33 لرحيله: دبلوماسيّ عمل على شدّ الأواصر في لبنان والعالم، الوكالة الوطنية للاعلام NNA ، الاثنين 24 تموز 2023.

(2) حسن صعب، تحديث العقل العربي، “دراسات حول الثورة الثقافية اللازمة للتقدّم العربيّ في العصر الحديث”، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، بيروت، لبنان، 1980، ص.8.

(3) حسن صعب، علم السياسة، دار العلم للملايين، الطبعة الثامنة، بيروت، 1985، ص.17.

(4) حسن صعب، الاسلام والانسان، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، تشرين الثاني 1981، ص.95.

(5) حسن صعب، “المحاولات العَلمانية في الدول الاسلامية المعاصرة”، حول العَلمانية، محاضرات جامعة الروح القدس، الكسليك، لبنان، 1969، ص.7.

(6) حسن صعب، “الاسلام وقضايا العصر الاقتصادية والاجتماعية”، المسيحية والاسلام في لبنان، محاضرات الندوة، السنة التاسعة عشرة، النشرة 8-11، 1965، ص.155.

(7) حسن صعب، إسلام الحرية لا إسلام العبودية، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، حزيران، 1981، ص.60.

(8) المرجع ذاته.

(9) حسن صعب، الاسلام وتحدّيات العصر، دار العلم للملايين، الطبعة السادسة، آذار، 1983، ص.126.

(10) المرجع ذاته.

(11) المرجع ذاته.

(12) حسن صعب، إسلام الحرية لا إسلام العبودية، ص.134.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete