حَمَلَةُ اللّه، حَمَلَةُ العالم، حَمَلَةُ الكتاب

ئكوين

في رواية “قانون الله” « La Formule de Dieu » للكاتب البرتغالي خوسي رودريغاس دوس سانتوسJosé Rodrigues dos Santos  تدور كامل الأحداث على فكّ شفرة مخطوط غير منشور خلّفه إنشتينEinstein  عنوانه “قانون الله” وما ترتّب عليه من صراع سياسي بين مخابرات الدّول (أمريكا وإيران) من أجل الاستحواذ على المخطوط وخفيّ أسراره العلميّة. فقد كان يعتقد أنّه يمكن أن يتضمّن قوانين علميّة مشفّرة في صناعة القنابل من شأنها أن تؤثّر في توازن النّظام العالميّ. ولا تلفت هذه الرّواية انتباه القارئ بكثافة المعطيات العلميّة واستعراضها للكثير من النّظريات الفيزيائيّة والرّياضيّة المعترف بها في دوائر العلم ومؤسّساته، وإنّما بتقديمها لتصوّر علميّ يتطابق فيه الله والكون تطابقا تامّا يلغي التّصوّر اللاّهوتي. فكلّ من ينتظر أن يجد في أقراص مضغوطة DVD صور “الله وهو بصدد النّظر إلى الكون، ممسكا بيد ألواح القانون، ومسرّحا بيده الأخرى لحيته الطّويلة البيضاء سيصاب بالخيبة. فهذه الصّورة لن تلتقط أبدا لأنّ الله ليس موجودا (…) فالله سؤال طبيعيّ. ففكرة ما فوق الطّبيعة والمعجزات والسّحر… كلّ هذا عبث. فإن وجد الله فهو لا ينفصل عن الكون. الله هو الكون (…) فخلق الكون لم يكن فعلا اصطناعيّا وإنّما هو فعل طبيعيّ يخضع لقوانين نوعيّة ولثوابت كونيّة محدّدة.” (ص.ص318-319).

الله والكون

ما الّذي ينبغي استخلاصه من هذه الرواية؟

* أنّ الله كما تشكّلت ملامحه في الخطاب اللاّهوتي بجميع تنويعاته (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة…) بوصفه صانع الكون وخالقه قد مُحيت تماما في الخطاب العلميّ الحديث.

* أنّ لفظ “الله” هو مجرّد دالّ مدلوله “الكون”، أو العالم، بحيث أنّ المطابقة التّامّة بين الدّالّ والمدلول قد ألغت الدّلالة القديمة الّتي كان خطاب اللاّهوت أساسَ وجودها، حيث كان “الله والكون” وحدتين متمايزتين أنطولوجيّا يحيلان دوما على حدث الخلق بوصفه بداية البدايات، وبصفته فعلا صناعيّا غير طبيعيّ.

هذا التّطابق الّذي يجعل الله بما هو مركز الكون ماثلا في خارج الكون، أي في موجوداته وكائناته المختلفة، إنّما يمثّل في جوهره “مشروع” السّيميائيّة الكلّيّة بمختلف نسخها الميتافيزيقيّة الأفلاطونيّة، وتنويعاتها الأنطولوجيّة التّيولوجيّة الإسلاميّة أو المسيحيّة. آية ذلك أنّ المنظور السّيميائيّ الكلّيّ لا يفصل بين الله والعالم. فالعلامة، وإن كانت تنشأ بالاستدلال، لا تشتغل في هذا الإطار بمنطق الإحالة على ذلك الغائب واستحضاره كما يفعل المتكلّمون في استدلالاتهم، لأنّه في ميتافيزيقا السّيميائيّة الكلّيّة يحلّ ذاك الغائب في العلامة حين تصبح أشياء العالم المنتصبة هي كلمات الله. فالعلامة في السّيميائيات القديمة لا تنوب غائبا وإنّما تستحضره دوما ولا تلغيه. فهي حضور ذاك الّذي انسحب ولكنّه رغم انسحابه حاضر ماثل في الأشياء الّتي وهبها نعمة الوجود بالكلمة واهبة الحياة. بيد أنّ ذاك الحضور لا يمكنه أن يكون بذاته لأنّه يحتاج إلى وساطة الإنسان حتّى يتحمّل عبء العالم. فـ”أن نوجد هو أن نحمل عبء العالم”، « exister, c’est porter le poids du monde ». وليس حملة هذا العبء، أو هذا الحِمْل، سوى شخصيات كثيرة كان تقرّبها من الله يعدّ شكلا من أشكال حمل العالم.

في هذا الإطار ينبغي أن نميّز بين صنفين من الحملة: صنف تقرّب من الله بخدمته فقط. من هذا الطّراز متصوّفة الإسلام، هؤلاء الّذين يمكن وصفهم بعبارة ميشال دو سرتوMichel de Certeau “مرضى الغياب” لأنّهم مرضى بالواحد الأحد، هذا الغائب العظيم الّذي يَرَى ولا يُرَى. وصنف تجاوز الاقتراب ليصبح من حملة الله. وسواء أتجسّم حملهم بحلول اللاّهوت في النّاسوت كما ذهب الحلاّج، أم بالاتّحاد بالله كما قال البسطامي، أم بوحدة الشّهود كما عاشها النّفّري في كلّ خطراته وتأمّلاته الصّوفيّة فإنّنا في الواقع أمام غرض لا نكاد نظفر به إلاّ في خطابات العشق الصّوفي، أعني حمل عبء هذا الإله. وهو حمل قد جرى التّعبير عنه بطرق شتّى لعلّ أبرزها، في سياق التّصوّف الإسلامي، الشّطح. ومن أمثلته الشّهيرة عبارات أبي يزيد البسطامي المتوفّى سنة 261 هـ الشّطحيّة نورد ها هنا نماذج منها:

1 – ” رفعني ـ الله ـ مرّة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد، إنّ خلقي يحبّون أن يروك. قلت: زيّنّي بوحدانيّتك، وألبسني أنانيّتك، وارفعني إلى أحديّتك، حتّى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك.” (عبد الرّحمان بدوي، شطحات الصّوفيّة. دار الثّقافة، بيروت ـ لبنان، د.ت، ص29).

2 – وقال أبو يزيد رحمه الله “سبحاني سبحاني. وسُبوح وسبحان اسم من أسماء الله تعالى الّذي لا يجوز ان يُسمّى بها غير الله.” (عبد الرّحمان بدوي، شطحات الصّوفيّة. ، ص28).

3 – وقال أبو يزيد يخاطب الله “كنت لي مرآة، فصرت أنا المرآة” (عبد الرّحمان بدوي، شطحات الصّوفيّة. ، ص30).

4 – قال أبو يزيد: “أشرف الحقّ على أسرار العالم، فشاهدها خالية منه، غير سرّي، فإنّه رأى منه ملاء، فخاطبني معظّما لي بأن قال: كلّ العالم عبيدي غيرك” (عبد الرّحمان بدوي، شطحات الصّوفيّة. ، ص30).

5 – “طاعتك لي ياربُّ أعظم من طاعتي لك.”، “بطشي أشدّ من بطشه بي” “لأن تراني مرّة خير من أن ترى ربّك ألف مرّة”، “سمعت عُمّيّ خادم أبي يزيد البسطامي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: سبحاني ما أعظم شأني، ثمّ قال حسبي من نفسي حسبي”، (عبد الرّحمان بدوي، شطحات الصّوفيّة. ، ص30).

6 – “قال أبو يزيد: غبت عن الله ثلاثين سنة، وكانت غيبتي عنه ذكري إيّاه، فلمّا خَنَسْتُ عنه وجدته في كلّ حال حتّى كأنّه أنا” (عبد الرّحمان بدوي، شطحات الصّوفيّة. ، ص32).

تمثّل هذه النّماذج ضروبا من الشّطح، أي عبارات مستغربة “في وصف وجْدٍ فاض بقوّته وهاج بشدّة غليانه وغلبته” (الطّوسي، اللّمع، ص453)، وهي في الجملة تعرب عن “دعوى الاتّحاد بالله نوعا من الاتّحاد (…) فيعبّر عن ذلك بعبارات غير مراقبة، تتبادل الضّمائر فيها المواقع، فبدل أن يستعمل صاحب هذه الحال ضمير المخاطب أو ضمير الغائب في مناجاته وذكره الله يستعمل ضمير المتكلّم، فيتحدّث وكأنّه أصبح هو نفسه الله أو كان الله قد حلّ فيه وأصبح إيّاه” (الجابري بنية العقل العربي، ص294). ويرمي هذا الشّطح، في أدبيّات التّأويل الباطني والتّفسير الصّوفي، إلى عقد علاقة بين الظّاهر والباطن. وهي علاقة لا تفسّر في نظرنا سوى عبارة الشّطح وتقف عند مدلولاتها ومعانيها، ولكنّها في المقابل عاجزة عن بلوغ جوهر التّجربة الرّوحيّة الّتي خاضها الشّاطح وهو يحمل عبء العالم بمجرّد اتّحاده بالله أو حلول الله فيه. فهذا الضّرب من التّأويل يسيء فهم حقيقة الشّطح، لأنّه يفهم الله على نحو دينيّ لاهوتيّ بوصفه اختلافا أنطولوجيّا محضا بين الخالق والمخلوق. ففي التّصوّر الصّوفي يختفي هذا الاختلاف تماما، فيضحي المخلوق المتناهي حاملا لخالقه اللامتناهي، وبفضل هذا الحمل الّذي يسمّى تارة حلولا وفناء وطورا اتّحادا تتغيّر فيه هويّة المتصوّف، فيضحي حاملا من “حملة الله” على نحو تعجز العبارة عن وصفه دون إحساس حادّ بالمفارقة الّتي تؤسّس جوهر الشّطح. فحين يشطح الحلاّج ويقول:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا   نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته   وإذا أبصرته أبصرتنا

روحه روحي وروحي روحه   من رأى روحين حلّت بدنا

فإنّه يخوض بلغة الشّعر تجربة من نوع خاصّ تختلف اختلافا تامّا عن تجارب التّصوّف الأخرى، كتلك الّتي يشكو فيها المتصوّف غياب الله. فشكواه بهذا المعنى تعرب عن استحالة بلوغ الله ورؤيته بسبب تحجّبه طالما أنّ الله لا يمكن بلوغه بالرّؤية أو بالكلام دون وسائط أو حُجُب كما تقول الآية “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ” (الشّورى،51،42). أمّا مع الشّطح فإنّ المتصوّف على غرار البسطامي أو الحلاّج يصوغ تجربة “حمل الله”، حلولا أو اتّحادا، بالشّعر أو بأقوال موجزة خاطفة. وإذا سلّمنا بأنّ الله والعالم سيّان ووحدتان لا تنفصلان جاز لنا أن نعتبر أن تجربة “حمل الله” من “حمل العالم“، وأنّ ما يتغنّى به المتصوّف في شطحاته هو حمله العالم بأسره.

مثل هذا التّصوّر لا يتّضح إلاّ بمقارنته بنظيره في الفكر المسيحيّ. فمن المعلوم أنّ الله في التّفكير المسيحيّ الميتافيزيقيّ قد تجلّى في الابن، في المسيح الطّفل وهو محمول. وتظلّ مريم والقدّيس كريستوف من أشهر الحَمَلَة في التّقليد المسيحيّ. فكلاهما قد حمل المسيح، ابن الله، بطريقته. ففي حالة مريم يبلغ الأمر إلى حدّ الخروج بالأمومة عن مخرج العادة وذلك بولادتها لطفل دون أن يكون حملها حاصلا بسبب طبيعيّ “قَالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ” (مريم، 20). فولدها هو إله قد دخل فيها على نحو فوق طبيعيّ surnaturel. فهي تحمل في جسمها المطلق. ولأجل ذلك كان دورها أنموذجيّا لأنّها قد جعلت رحمها في خدمة المركز الإلهيّ بحيث يصبح حملها عملا من أعمال المطلق يمرّ عبر رحم المرأة. وبذلك يصبح المسيح فيها ابن الله أكثر من مجرّد طفل. فدورها مزدوج فهي أمّ طبيعيّة ولكنّها أمّ من طراز خاصّ لأنّها حاملة الله، ولأجل ذلك تهب أفضل ما لديها بواسطة اندماجها الذّاتي في أعمال المركز الإلهيّ. فكلّ من كان قرب المركز أو بجواره يبذل قصارى جهده لبلوغ المركز بالفناء الفعليّ في خدمته.

على هذا النّحو توفّر لنا سيرة القدّيس كريستوف منوالا ذاتيّا آخر يظهر كيف حمل الإنسان الله على كتفه دون أن يعلم أنّه كان يحمل ثقل العالم بأسره. تخبرنا السّيرة بما يلي:

“يُروى أنّه كان في القرن الثالث وثنيّ (كنعانيّ) يدعى كريستوف ذو قامة جبّارة. فعنّ له أن يفتّش عن أقدر سيّد في العالم ليضع نفسه في خدمته. فقيل له: إنّ السّيّد الأعظم سطوةً في العالم هو الملك. فذهب كريستوف والتحق بخدمته. وفي أحد الأعياد إذ كان الطّرب في بلاط الملك قد بلغ أوجه وقّع أحد الموسيقيين على آلته لحناً يمتدح به الشّيطان. فرأى كريستوف الملك يصفرّ من رعبه، فقال لا بدّ من أنّ الشيطان أقوى من الملك. وذهب لينتظم في عداد جنوده. ويوماً مّا اضطرّ الشّيطان إلى المرور أمام صليب منصوب على حافة الطّريق، فأخذ يرتعش خوفاً وارتدّ عنه بجبانة. فقال كريستوف في نفسه: إنّ هذا المصلوب أقوى من الشّيطان. وسأل الرّاهب الجاثي عند أقدامه: يا أخي كيف يمكنني أن أخدم هذا المصلوب أجابه الرّاهب: بالإكثار من الصلاة. فاعترف كريستوف: إنّي لا أعرف كيف أصلّي. قال الرّاهب: إذن فصُم. أجاب كريستوف: كيف يمكنني أن أصوم ولي مثل هذا الجثمان الّذي يتطلّب الأكل الكثير؟ قال الرّاهب: إذاً فقِفْ هنا إلى النهر وإذا أراد أحد أن يجتازه فاحمله على منكبيك، فهذا العمل يوافق تماماً خِلقتك. وهكذا ظلّ كريستوف أعواماً مديدة ينقل على كتفيه من أراد اجتياز النّهر إلى أن تقدّم منه يوماً طفل صغير، وطلب منه أن يحمله إلى الضفّة المقابلة. فرفعه بطيبة خاطر إلى كتفه، ودخل الماء ليعبر به، فإذا هو يشعر بثقل حمل لم يعهد مثله من قبل. وما أن بلغ منتصف النّهر حتّى كاد ييأس من الوصول إلى الضفّة الأخرى. ولمّا تمكّن من بلوغها أنزل الطّفل الأشقر وقال له وهو يلهث: ما أعظم وزنك يا صديقي، لقد كنت أظنّ أنّني أحمل الأرض كلّها على كتفي. فأجاب الطّفل بصوت كرنين الأجراس: لا عجب في ذلك فقد حملت على كتفك خالق العالم بأسره.”.

توجد صيغ كثيرة لهذه القصّة مختلفة العبارات ولكن المحتوى واحد، وقد تناولها الفيلسوف الألماني بيتر زلوترداك Peter Sloterdijk بتحليل شيّق في بعض كتبه، رابطا إيّاها بأسطورة العملاق الإغريقي أطلسAtlas  الّذي عاقبه زوس بحمل الكوكب الأرضيّ على كتفه إلى الأبد. ودون الإغراق في التّفاصيل نقول: إنّ هذه الأمثلة المستمدّة من التّقليد المسيحيّ تبيّن لنا أنّ حمل الله في الرّحم، أو على الكتف، أو تجسيمه بكامل الجسد (المسيح)، أو احتوائه بالحلول والاتّحاد (المتصوّفة)، إنّما هي صورة متأنسنة من صور “حمل عبء العالم”.

وهي ليست الصّور الوحيدة. فأشدّ الصّور تواترا في الفكر الوسيط الأوروبي المسيحيّ أو الإسلاميّ إنّما هي صورة الكتاب الّذي يحمل كلمة الله. وهي صورة أركيتيبيّة شائعة في الكتب المقدّسة. ومن خصائص هذا الكتاب أنّه لا نهائيّ “وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ كّل حرف منها بقدر جبل قاف وأن تحت كل حرف منها معان لا يحيط بها إلاّ الله”. (السّيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص125). وهو لا نهائيّ لأنّه كتب بـ”إصبع الله” على كتاب الطّبيعة حسب عبارة أوغو دي سان فيكتور Hugues de Saint-Victor الّذي رأى أنّ “العالم المحسوس، إن جاز لنا القول، إنّما هو برمّته كتاب خُطّ بإصبع الله (…) فكلّ الأشياء المرئيّة المنتصبة لنراها رأي العين حتّى تقودنا رمزيّا، أي على نحو مجازيّ، إنّما انتصبت بوصفها بيانا ودلالة على ما هو غير مرئيّ.”. وبهذا التّصوّر يصبح الكتاب والعالم شيئا واحدا، شبيها بتلك الصّورة الّتي يغدو فيها الكون بأسره شكلا من أشكال التجلّي الإلهيّ théophanie. “فالله يتجلّى من خلال العلامات الّتي هي الأشياء، ومن خلال تلك الأشياء يجري خلاص الإنسان.” (إمبرتو إيكو،العلامة، ص.ص189-190). ولكن هذا الكتاب اللاّنهائيّ الّذي يتجلّى الله في كلّ حرف من حروفه لا يقرأ وإنّما يحمل في “صدور الرّجال”، أو يلتهم. نجد هذه الصّورة في العهد القديم، في سفر حزقيال حيث جاء في الإصحاح الثّالث، 1-3 ما يلي: “وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ فَـاسْمَعْ مَا أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهِ. لاَ تَكُنْ مُتَمَرِّداً كَـالْبَيْتِ الْمُتَمَرِّدِ. افْتَحْ فَمَكَ وَكُلْ مَا أَنَا مُعْطِيكَهُ». فَنَظَرْتُ وَإِذَا بِيَدٍ مَمْدُودَةٍ إِلَيَّ، وَإِذَا بِدَرْجِ سِفْرٍ فِيهَا. فَنَشَرَهُ أَمَامِي وَهُوَ مَكْتُوبٌ مِنْ دَاخِلٍ وَمِنْ قَفَاهُ، وَكُتِبَ فِيهِ مَرَاثٍ وَنَحِيبٌ وَوَيْلٌ.”، “فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ آدَمَ، كُلْ مَا تَجِدُهُ. كُلْ هَذَا الدَّرْجَ، وَاذْهَبْ كَلِّمْ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ». فَفَتَحْتُ فَمِي فَأَطْعَمَنِي ذَلِكَ الدَّرْجَ. وَقَالَ لِي: يَا ابْنَ آدَمَ، أَطْعِمْ بَطْنَكَ وَامْلَأْ جَوْفَكَ مِنْ هَذَا الدَّرْجِ الَّذِي أَنَا مُعْطِيكَهُ». فَأَكَلْتُهُ فَصَارَ فِي فَمِي كَـالْعَسَلِ حَلاَوَةً.”. ونجد هذه الصّورة في العهد الجديد أيضا. فقد جاء في سفر رؤيا يوحنّا اللاّهوتي “ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ قَوِيّاً نَازِلاً مِنَ السَّمَاءِ، مُتَسَرْبِلاً بِسَحَابَةٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ قَوْسُ قُزَحَ، وَوَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَرِجْلاَهُ كَعَمُودَيْ نَارٍ، وَمَعَهُ فِي يَدِهِ سِفْرٌ صَغِيرٌ مَفْتُوحٌ. (…) وَالصَّوْتُ الَّذِي كُنْتُ قَدْ سَمِعْتُهُ مِنَ السَّمَاءِ كَلَّمَنِي أَيْضاً وَقَالَ: «اذْهَبْ خُذِ السِّفْرَ الصَّغِيرَ الْمَفْتُوحَ فِي يَدِ الْمَلاَكِ الْوَاقِفِ عَلَى الْبَحْرِ وَعَلَى الأَرْضِ». فَذَهَبْتُ إِلَى الْمَلاَكِ قَائِلاً لَهُ: «أَعْطِنِي السِّفْرَ الصَّغِيرَ». فَقَالَ لِي: «خُذْهُ وَكُلْهُ، فَسَيَجْعَلُ جَوْفَكَ مُرّاً، وَلَكِنَّهُ فِي فَمِكَ يَكُونُ حُلْواً كَالْعَسَلِ». فَأَخَذْتُ السِّفْرَ الصَّغِيرَ مِنْ يَدِ الْمَلاَكِ وَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ فِي فَمِي حُلْواً كَالْعَسَلِ. وَبَعْدَ مَا أَكَلْتُهُ صَارَ جَوْفِي مُرّاً.”

تؤكّد هذه الصّورة، أي صورة الكتاب الملتهم، مبدأ الاتّصال بين الله والعالم، وأنّ هذا الاتّصال يؤكّد حقيقتين:

الحقيقة الأولى تحوّل الله إلى علامة، وهو بهذا التّحوّل يؤكّد غيابه. ويدشّن هذا الغياب طور العلامة الميتافيزيقي اللاّهوتي، وهو طور قد مثّلت الكتابة تقنيته المثلى. فحقبة العلامة في تصوّر دريدا Derrida إنّما هي في جوهرها حقبة لاهوتيّة. فالتّفريق بين المحسوس والمعقول وكلّ المفاهيم الأخرى مرتبطة بتاريخ الميتافيزيقا واللاّهوت. وتمثّل هذه الحقبة، من منظور وسائطيّmédiologique ، شرطَ وجود برنامج “التّوحيد”. وهو برنامج يبدو فيه الله سلبيّة محضة ينتجها التّنزيه القرآنيّ [لم] يلد و[لم] يولد و[لم] يكن له كفؤا أحد و[لا] تدركه الأبصار… فالإله القرآنيّ ليس بأَبٍ كما في المسيحيّة، وليس بإلهٍ من الآلهة الّتي تعرفها الجزيرة، لأنّه غير مرئيّ وغير متحيّز وغير متجسّم. وهذا النّفيُ المطلقُ لكلّ ماهيّة ماديّة لَدليل على أنّ الله في الإسلام لم يصبح إلها توحيديّا إلاّ عندما انتقل بفضل تقنية الكتابة من إله مرئيّ إلى إله مقروء. وما كان ليكون هذا الانتقال ممكنا إلاّ بتحويل الله إلى علامة لا تعقل إلاّ بالنّظر والتّعقّل والاستدلال والتّعبّد والتّعشّق. وهذا السّلوك التّأويليّ يمكن تسميته بالسّلوك الكتابيّ graphique “لأنّ تحوّل الله إلى علامة غير ممكن إلاّ بواسطة الكتابة. فما دمنا ننظر إلى الله كعلامة فإنّ من شرط وجود العلامة هو الكتابة، فهي الّتي تحدث في الوجود نوعا من السّلّميّة الأنطولوجيّة اللاّهوتيّة بها تتأسّس العلامة وتعبّر عنها الأزواج التّالية: (داخل ≠ خارج) و(لامرئيّ ≠ مرئيّ) و(معقول ≠ محسوس) و (دالّ ≠ مدلول) و(روح ≠ جسد) و(معنى ≠ حواسّ)… وتعبّر هذه الأزواج عن التّحديدات اللاّهوتيّة الميتافيزيقيّة للوجود… فالوجه المعقول في العلامة قد اتّجه ناحية الكلمة والوجه الإلهيين. فالعلامة والألوهيّة يتمتّعان بنفس مكان الولادة وزمانها.

أمّا الحقيقة الثّانية فتنهض على تحوّل الله إلى كتاب يُلتهم، وهو بالالتهام يؤكّد حضوره الدّائم، على نحو يعرب عن ضرب آخر من الحقائق خارج قوانين المنطق والعقل تقوم على الالتهام، هي حقيقة الآكل أو المأكول. وهذه الحقيقة لا يمكن التّعبير عنها كما تعوّدنا بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة وإنّما بطرائق أخرى كالغناء أو الغذاء. ففي هذا الضّرب من الحقائق لا يتعلّق الأمر بتمثيل شيء في وسيط آخر كالكلمة أو الخطّ أو الصّورة وإنّما بالتهام شيء، أو دمج شيء في شيء آخر. ففي الحقيقة الأولى نجد تطابقا بين الجملة وحال الشّيء الّذي تعبّر عنه، أمّا حقيقة الالتهام  فترمي إلى تطابق بين المحتوي والمحتوى عليه، أو بين المفترِس والمفترَس. ولعلّ هذه الحقيقة على غرابتها شائعة في مجال الشّعر والفنّ والمقدّس. فعبارة ” أشعر النّاس من أنت في شعره” تؤكّد أنّ أجود الأشعار هي الّتي تفتن سامعيها فتبتلعهم في عوالمها. كذلك في مجال المقدّس تنهض حقيقة الصّوفيّ على الالتهام، فهو إمّا متّحد في الذّات الإلهيّة بالاتّحاد أو هي حالّة فيه بالحلول. وفي المسيحيّة يضحي متناول خبز الذّبيحة أو الضّحيّة hostie متّخذا شكل المسيح. وبفضل هذه الحقيقة الالتهاميّة نفهم أنّ حملة الله أو حملة الكتاب هم جميعا تنويعات على طراز واحد، هو حمل عبء العالم.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete