راهنية فكر مالك بن نبي

تكوين

السنة التي توفي فيها أبرز رجالات الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ ونقصد محمد عبد، ولد فيها مالك بن نبي (1905-1973م) وهو أحد رموز الفكر وسؤال النهضة في القرن العشرين، وقد تمحورت مختلف مؤلفاته حول فكرة أساسية وهي مشكلات الحضارة التي يعتبرها النقطة الأساس في حل مختلف معضلات العالم الإسلامي.

الاستعمار في نظر مالك بن نبي

  • الوعي بأهمية نقد الذات ونقد الآخر

الاستعمار في نظره يأتي من الداخل قبل أن يأتي من الخارج بفعل القابلية للاستعمار؛ فما دامت هناك قابلية للاستعمار، فالتبعية والتقليد الحضاري هو سيد الموقف، وقد يسحب المعمر عساكره وجنوده، وسيبقى ضامنا لمصالحه الذاتية، مادامت هناك قابلة للاستعمار. وهي فكرة جعلت ابن نبي يبدوا حينها بأنه يوجه نقده للذات (الشرق) أكثر ما ينتقد (الغرب). فالمشكلة في نظره تعود إلى الذات وليس الى الآخر، والذات هنا هي النفسية والحالة الاجتماعية التي كان عليها العالم الإسلامي، وهي حالة في حاجة لعلاج. ومن البديهي أن العلاج يسبقه تجسيد حالة المريض ووصفها بدقة وتحديد نوع المرض، قبل تحديد وصفة الدواء. وهو أمر جعل مالك ابن نبي يتوسل بمختلف العلوم وآليات العلوم الإنسانية في علم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ…في وصف وتجسيد المشكلة الفكرية والحضارية للعالم الإسلامي. فالأسلوب والمنهج الذي توسل به فريد من نوعه، كما أن الأفكار والطروحات الفكرية التي نتجت عن تفكيره تتميز بالجدية والصرامة العلمية، كما أن القارئ لها سيلتمس بأن المؤلف له قدرة على النقد المزدوج، فهو ينتقد الثقافة الإسلامية وينتقد الفكر الغربي، في الوقت ذاته يستفيد من الطرفين، مع وعيه المنهجي بالصيرورة الثقافية والعلمية للعالم الإسلامي الذي ينتمي إليه.

القول بأن أزمة العالم الإسلامي أزمة ذاتية بدرجة أولى، في لحظة تاريخية، يضحي فيها أبناء الكثير من دول العالم الإسلامي بأرواحهم في سبيل تحرير أوطانهم وطرد المحتل، سيجعل صاحب هذا القول في حالة من الشك والريبة، كما أن هذا القول سيكون قولا غريبا، في مجتمع اكتشف تخلفه عن الركب الحضاري، من خلال علاقته بالآخر، وليس من خلال علاقته بذاته. مع الأسف لم ينل مشروع مالك بن نبي في حياته وبعد مماته، العناية اللازمة، من حيث تعميق النظر حول مختلف الأفكار والطروحات المعرفية التي يضمها، لعدة أسباب من أبرزها أن مالك ابن نبي، لم يستظل بأي مظلة  من مختلف المظلات الإيديولوجية التي من حوله، القارئ لفكر مالك ابن نبي والمتتبع لمختلف مراحل حياته، يصعب عليه أن يختزله في الإيديولوجية اليسارية أو الإيديولوجية القومية العروبية، أو الإيديولوجية الإسلامية… مع وعيه وتواصله مع مختلف تلك الإيديولوجيات، المظلة التي كان يستظل بها مظلة تسع الجميع وهي مظلة سؤال النهضة والحضارة، ولهذا السبب لم ينتصر لأفكاره الجمهور الواسع وكبير من الناس، لأن مختلف الإيديولوجيات لم تجد في فكره ما يثير عواطف الناس لاستقطابهم وتجميعهم حول شعارات متعددة، طرح مالك بن نبي بعيد عن ثقافة الشعارات قريب من ثقافة النقد والتحليل والسؤال وهو ما تخشاه كل الإيديولوجيات.

  • الاستشراف في فكر مالك بن نبي

كان مالك بن نبي على وعي مبكر، بمشكلة الكثير من الكتابات الاستشراقية، الفاقدة للموضوعية، والتي تنظر الى الشرق والعالم الإسلامي من زاوية المركزية الغربية، وفي هذا السياق حذر من الدراسات الاستشراقية التي تمدح ماضي المسلمين، لأن ذلك يساهم في الحد من فاعلية الانسان المسلم ويدفعه للهجرة من واقعه إلى واقع تاريخي. ” فحين اتجهت الثقافة إلى امتداح الماضي أصبحت ثقافة أثرية، لا يتجه العمل الفكري فيها الى أمام بل ينتكس إلى وراء. وكان هذا الاتجاه الناكص المسرف سببا في انطباع التعليم كله بطابع دارس لا يتفق ومقتضيات الحاضر والمستقبل. وبذلك أصيبت الأفكار بظاهرة التشبث بالماضي، كأنما أصبحت متنفسا له.”[2]

وقد دعا مالك بن نبي لمواجهة تيار الجمود والاعتكاف على التراث لوحده دون فهم علمي، فذلك في نظره يعد “محاربة للدين باسم الدين [وهو] أهم شعار يمكن أن نصف به جماعة المفكرين المسلمين الذين لاذوا بالفرار عندما بهرتهم الحضارة الغربية، ففضلوا الاستكانة والرجوع إلى إسناد ظهورهم على جدران الحضارة الإسلامية، لقد واجهتهم الحضارة الغربية بما بهرهم، وسحر أبصارهم، وبعث خيالهم الى استلهام مجد حضارتهم، ورشف كؤوسهم على تعداد ما أنتجته الحضارة الإسلامية السالفة”[3]

الاستشراق والقرآن

لا شك بأن مالك بن نبي قد استفاد من طروحات وأفكار رجال النهضة، وهذا لم يمنعه من مراجعة الكثير من أفكارهم، فهو يخلص مثلا، الى أن جمال الدين الأفغاني رغم أنه كان باعث الحركة الإصلاحية، فإنه لم يكن في ذاته مصلحا بمعنى الكلمة،[4] أي أنه لا يملك مشروعا واضح المعالم في الإصلاح والتغيير. كما انه أشاد بطرح محمد عبده بالتركيز على موضوع التربية وتغيير الأفكار لتغيير ما بالأنفس والمجتمع، ففي نظره لا ينبغي الاكتفاء بهذا إذ بالضرورة تزويد كل ذلك بثقافة العصر.[5] الحس النقدي عند مالك بن نبي جعله يقف موقف النقد من أفكار سيد قطب، الذي كانت أفكاره نتيجة أزمة نفسية عند زيارته لأمريكا، كما أنه لم ينجر الى مواقف مجانية ليكون ضد جمال عبد الناصر، وهو أمر جعله في نظر المحسوبين على الإسلام السياسي، بأنه طالب حضارة وليس طالب دعوة. وهو أمر صحيح؛ ففلسفة الحضارة تقتضي النقد والتحليل وإيقاظ ملكات العقل والقلب، بينما الاستقطاب الى التنظيمات الحزبية والدعوة إليها وتجميع الناس حولها، وتقديمها بأنها تمثل الاسلام، يقتضي العاطفة الجياشة والحماس والشعارات، والكيل بمكيالين، فالإسلاميين لم يجدوا في أفكار مالك بن نبي ما يقوي شوكتهم بتجميع عموم الناس من حولهم. وليس من الغريب أن يكون جودت السعيد الداعي الى شرعة السلم والسلام، من بين الذين تأثروا بأفكار بن نبي.

فلسفة الحضارة مالك بن نبي

  • التمييز بين روح الحضارة وتكديس الحضارة

ميز مالك بن نبي بين حالة تكديس الحضارة وبين حالة روح الحضارة، وقد حذر العالم الإسلامي من آفة التكديس، ودعاه ليقدم حالة الروح على حالة التكديس، فحالة الروح تقتضي الاهتمام والعناية بالأفكار الكامنة من وراء الأشياء ومختلف المنتوجات، أما التكديس تقتضي الذهاب الى عالم الأشياء مباشرة دون وعي بعالم الأفكار. وإذا تمعنا في واقنا اليوم سنجد أنسنا في حالة من التكديس التي تجعلنا في حالة التبعية والاستهلاك، فنحن لا نصنع لباسنا ولا ننتج غذاءنا ولا نصنع دواءنا، كل ما بين أيدينا هي مواد أولية نقايضها مع الغير، أو يعتمد علينا في بعض من الصناعات الثانوية التي لا تقدم ولا تأخر، من أجل مصلحة الغير بدرجة أولى. الآن عندما تنزل في أي عاصمة من عواصم العالم الإسلامي؛ فقد لا تحس بالفرق، بينها وبين مختلف عواصم الدول الغربية من جهة المستلزمات اليومية والمرافق والمنشآت…الفرق؛ أنك في العالم الإسلامي داخل حضارة مكدسة ومستوردة بالكامل؛ بعيدة من عالم الأفكار، وفي الغرب فأنت في حضارة تملك عالم الأفكار ولها القدرة لتتصرف في عالم الأشياء بشتى الطرق. ومع الأسف العالم الإسلامي مهووس بالأشياء بدل البحث في الأفكار التي من ورائها.

“فالحضارة هي التي تصنع منتجاتها، وعليه فلو أننا عكسنا القضية بأن نحاول صنع حضارة من منجاتها فسيكون هذا بكل بساطة من قبيل ـ وضع المحراث أمام الثورـ هذا الانقلاب في الوضع هو الذي يتسم به التقدم الفوضوي البطيء للنهضة الإسلامية، ونحن ندين له بهذا التكديس والتكويم الذي يبدو أنه يقود تطور المجتمع الإسلامي نحو حضارة شيئية “.[6] وبهذا التحليل يكون ابن نبي سابق لزمانه، فالمثقف والمفكر هو الذي يمتلك القدرة للتفكير في المستقبل، بالعمل على توجيه التاريخ في الاتجاه الذي يخدم فكرة بناء الحضارة.

مفهوم الحضارة مالك بن نبي

[حضارة = إنسان + تراب+ وقت][7]

بهذه المعادلة الفيزيائية حدد مالك بن نبي مفهوم الحضارة، فهي في نظره لا تتجاوز هذه العناصر الثلاثة، و لا شك أن الفاعل المحوري بين هذه الثلاثية هو الإنسان، فبدونه لا يمكن أن نتحدث عن شيء اسمه الحضارة؛ التي تقتضي التركيب و البناء و الربط بين عنصر التراب و الوقت من لدن الإنسان، وهذا يستحيل وقوعه مع المخلوقات الأخرى، فالإنسان إما داخل الحضارة بقدرته على التركيب بين هذين العنصرين، أو خارج الحضارة بعجزه و ضعفه عن التركيب و الربط بين هذين العنصرين، هذا يدفعنا إلى السؤال، ما هي العوامل و الدوافع التي تجعل من الإنسان قادرا على التركيب؟

هذه القدرة يكتسبها الإنسان استجابة لفكرة ما، لأن أي “حضارة ما هي إلا نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدفع به إلى التاريخ” [8]، ومن هنا تأتي أهمية الفكرة الدينية و ما يتمحور حولها من أفكار، لان الحضارة في نظر مالك بن نبي ما هي إلا استجابة و نتائج للفكرة الدينية ” فكلما أوغل المرء في الماضي التاريخي للإنسان في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو في المراحل البدائية لتطوره الاجتماعي وجد تطورا من الفكرة الدينية”[9] فالحضارة” لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية”[10] إلا أن مالك بن نبي يميز بشكل دقيق بين الأفكار الميتة و الأفكار الحية، فالعقيدة الدينية و نقصد هنا الإسلامية لم تأتى إلا بأفكار حية تزرع الحياة في الإنسان وتهبه القدرة على الإبداع و التركيب، و الذي ينبغي أن يتنبه إليه الإنسان هنا هو ضرورة أهمية التجديد في عالم الأفكار، و إلا بقي رهين أفكار خرجت من دائرة الحياة إلى دائرة الموت و من هنا “يمكن القول أننا إذا عرفنا تاريخ مجتمع معين، فسنجد أنه كما أن لديه مقبرة يستودعها موتاه فإن لديه مقبرة يستودعها أفكاره الميتة، الأفكار التي لم يعد لها دور اجتماعي” [11]، و هذا ما نص عليه القرآن في مواطن عديدة، بالدعوة إلى  تكسير كل أصنام الأبائية و التقليد و التقوقع، قال تعالى: “قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)”(سورة المائدة) فالحضارة في نظر مالك بن نبي تأتي في صلة الإنسان بعالم الأحياء بدل الأموات، و بعالم الشهادة و العلم و المعرفة بدل الوهم و الخرافة، و بهذا فبناء الإنسان هو المدخل الأساس في بناء الحضارة بدل وهم الاكتفاء بالنظر إلى الأشياء في معزل عن الأفكار، و عليه يرى مالك أن العالم الإسلامي لم يميز بعد بين تكديس الحضارة و بنائها.

أفكار ما لك بن نبي؛ ذات راهنية وأهمية كبيرة، لأنها أفكار تدفع في اتجاه التفكير والتأمل والسؤال، وهذا مدخل مهم من أجل تكوين جيل من الشباب، يجعل من عالم الأفكار نافذة يطل من خلالها على عالم الأشخاص والأشياء، فعالم الأفكار يأخذ صاحبه إلى مجالات النقد والتحليل والخلق والإبداع.

المصادر والمراجع:

[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، 1980م، ص.54

[3] شايف عكاشة، الصراع الحضاري في العالم الإسلامي، دار الفكر، ط.1، 1926م، ص. 17

[4]  المنظومة الحضارية عند مالك بن نبي، م. س. ص. 88

[5] نفسه، ص. 92

[6]  مالك بن نبي، فكرة الأفريقية الأسيوية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، طبعة 1981 ص.82

[7] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، دار الفكر طبعة 2000م، ص.49

[8] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم في العالم الإسلامي، ترجمة الدكتور بسام بركة والدكتور أحمد شعبو، إشراف وتقديم المحامي عمر مسقاوي، دار الفكر، طبعة 2000م ص41

[9] نفسه، ص.29

[10] شروط النهضة، م. س. ص.56

[11] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة ، دار الفكر، ص.46

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete