علم الاجتماع الغربي ونظرية الحقيقة المزدوجة

مقدمة

في دراسة هامة نشرها عالم الاجتماع الأمريكي ألفن جولدنر Alvin Gouldner (1920 – 1980) بعنوان “ضد المينوتور: أسطورة علم الاجتماع المتحرر من القيمة” (1962) Anti-Minotaur: The Myth of a Value-Free Sociology[1]، ذكر أن نظرية التحرر من أحكام القيمة في علم الاجتماع الغربي وخاصة في النسخة الأمريكية منه، إنما يعيد إنتاج نظرية الحقيقة المزدوجة twofold truth التي ترجع إلى ابن رشد وطورتها من بعده الرشدية اللاتينية. في نظر جولدنر، فإن فَصْل علم الاجتماع الغربي بين القيم والوقائع يناظر، ويعيد إنتاج، فصل الرشدية اللاتينية بين الإيمان والعقل، ثم محاولة الاعتراف بهما معًا، حتى ولو كانا في تعارض. وقد وصف جولدنر علم الاجتماع المتحرر من أحكام القيمة value-free sociology  بأنه “مينوتور” Minotaur، وهو كائن خرافي هجين (جسد الثور ورأس الإنسان)، صنعه ماكس ﭬيبر، وظل يسيطر على علم الاجتماع الغربي، فهو برأس إنسان دليلاً على العقل والعقلانية، الذي يحكم ويضبط جسد ثور، المفترض فيه الانفعال والهياج. الهجين هذا هو كائن خرافي غير موجود في الواقع ويستحيل وجوده، وكذلك علم الاجتماع المتحرر من القيمة وفق جولدنر، كائن هجين مستحيل وجوده وهو خرافة.

اشتهر جولدنر بأنه مؤلف الكتاب الهام “الأزمة القادمة في علم الاجتماع الغربي” The Coming Crisis of Western Sociology (1970)[2]، والذي يعد علامة بارزة في مسار علم الاجتماع وفي تراث الفكر السوسيولوجي الحديث. إذ قيَّم فيه مجمل التوجهات النظرية والبحثية في علم الاجتماع الغربي في عصره، وأوضح الطابع الأيديولوجي المحافظ لعلم الاجتماع الأمريكي تحديدًا، وكان ما يقصده بعلم الاجتماع الغربي هو الاتجاه الوظيفي لدى تالكوت بارسونز وتلاميذه الأمريكان. لكن قبل أن يبدأ جولدنر في هذا الكتاب، كان قد كتب عددًا من الدراسات التي تعد الأسس التمهيدية للكتاب، وقد وضع فيها المحاور والتوجهات الأساسية التي توسع فيها بعد ذلك في كتاب “الأزمة القادمة”. وتعد دراسته التي أتناولها هنا “ضد المينوتور: أسطورة علم الاجتماع المتحرر من القيمة”، تمهيدًا وتأسيسًا للحجة الأساسية التي وسعها في كتاب “الأزمة القادمة”.

ويذكر جولدنر، ابن رشد والرشدية اللاتينية في الربع الأخير من دراسته، ويعيد ذكرهما في الفقرة الأخيرة منها. وهو يسمي النظرية Twofold truth، وليس double truth؛ والمصطلحان مترافدان، ويظهران معًا في في الدراسات المخصصة للرشدية اللاتينية في الغرب، لكن مصطلح Twofold truth أقدم، مما يعني أن مراجع جولدنر (وهو لم يذكر مراجعه التي استقى منها معرفته بابن رشد والرشدية اللاتينية، والمُرجَّح أنه كان يكتب من الذاكرة على خلفية قراءاته السابقة) التي أخذ منها هذا المصطلح قديمة، ترجع إلى أوائل القرن العشرين.  وبوجه عام فإن جولدنر من بين القلائل من علماء الاجتماع الأمريكان الذين تحضر في كتاباتهم أسماء الفلاسفة، خاصة في العصر الذي ظهر فيه الذي كان يتصف بانغلاق تخصص السوسيولوجيا على نفسه وإقامته لحدود حاسمة وأسيجة كثيرة بينه وبين أفرع الإنسانيات والعلوم الاجتماعية الأخرى.

تكشف لنا دراسة جولدنر عن علاقة من نوع ما بين ابن رشد والرشدية اللاتينية من جهة وعلم الاجتماع الغربي من جهة أخرى؛ رغم تباعدهما الظاهر. فابن رشد (1126 – 1198) هو فيلسوف عربي مسلم، وكان فقيهاً وقاضياً في عصره؛ وعلم الاجتماع الغربي هو ابن عصر التنوير والثورة الصناعية والثورات السياسية الأوروبية والبورجوازية الصاعدة، فكيف ربط جولدنر بينهما؟ ذهب جولدنر إلى أن علم الاجتماع الغربي، وخاصة في صيغته الأمريكية المتأثرة بماكس ﭬيبر، وفي تمسكه بنظرية التحرر من أحكام القيمة Wertfreiheit/ value free، إنما يعيد إنتاج نظرية الحقيقة المزدوجة التي ظهرت لدى الرشدية اللاتينية منذ القرن الثالث عشر، والتي ترجع إلى ابن رشد وفصله بين الشريعة والحكمة، في كتابه “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”[3]، كما في أعمال أخرى كثيرة.. (وسوف أستخدم في هذه الدراسة التعبيرين “نظرية الحقيقة المزدوجة” و”نظرية ازدواجية الحقيقة” بمعنى واحد وبالتبادل؛ إذ هما يعنيان الشيء نفسه، ويظهران معًا في الدراسات الحديثة فيهذا الموضوع). وحسب جولدنر فإن نظرية التحرر القيمي “هي امتداد حديث للصراع الوسيطي بين الإيمان والعقل”[4]؛ فالقيمة في نظر جولدنر تساوي الإيمان قديماً، والعلم يساوي العقل أو الحكمة قديماً، مما يعني أن ثنائية الإيمان والعقل يعاد إنتاجها مرة أخرى داخل علم الاجتماع الغربي في صورة الثنائية بين القيمة والعلم، أو أحكام القيمة والعلم الموضوعي العقلاني.

إنني لا أُسَلِّم بصحة وصف جولدنر لفلسفة ابن رشد وللرشدية اللاتينية، ولا بصحة رصده لمعالم أطروحة ازدواجية الحقيقة، لكنني أعرض ما فهمه منها لمعرفة كيفية ربطه لها بأطروحة الحياد القيمي في علم الاجتماع الغربي، والتي يقول عنها إنها تنتمي إلى تراث أطروحة ازدواجية الحقيقة لدى ابن رشد والرشدية اللاتينية.

نقد جولدنر لأطروحة التحرر القيمي في علم الاجتماع الغربي

حسب التوجه السوسيولوجي الذي يرصده جولدنر وينقده، فكي يكون العلم الاجتماعي موضوعياً ومحايداً، يجب عليه استبعاد أحكام القيمة، من توجيهها لبحثه ومن إصدارها لأحكامه التي يجب أن تكون “علمية”، ابتعاداً عن التحيزات والتحاملات الشخصية، وإبعاداً للعلم الاجتماعي عن قضايا السياسة والصراعات السياسية. لكن في نظر جولدنر فإن علماً اجتماعياً متحرراً تماماً من القيمة مستحيل ولا يمكن وجوده، وهو في نظره خرافة myth. ولأن عالم الاجتماع لا يستطيع التحرر التام من القيم، التي توجهه في حياته وسلوكه وجوانب عديدة من فكره، فهو يكبتها ويضعها في منطقة مظلمة من نفسه، كي لا تؤثر على ممارسته العلمية، وبذلك يصنع من نفسه كائناً خرافياً، جسد ثور ورأس إنسان، والثور هو الجانب الانفعالي والعاطفي الذي تعبر عنه القيم، ورأس الإنسان رمز للحكمة والعلم. ومثلما يستحيل وجود المينوتور أو الثور الذي برأس إنسان، فيستحيل وجود “علم اجتماع خالٍ من القيمة” Value-Free Sociology. هذه الثنائية الحادة التي يقع فيها علم الاجتماع الغربي الحديث، هي التي يقارنها جولدنر بنظرية الحقيقة المزدوجة twofold-truth لدى ابن رشد والرشدية اللاتينية، تلك النظرية التي يعتبرها حاضرة في علم الاجتماع الغربي، وينظر إليه على أنه استمرار حديث لها. وكما سعت الرشدية اللاتينية في نظر جولدنر إلى الجمع بين حقيقتين متناقضتين، الإيمان والعقل، أو الدين والفلسفة، أو الشريعة والحكمة بتعبير ابن رشد، فإن علم الاجتماع الغربي هو الآخر يكشف عن حضور النقيضين، القيمة والعلم؛ فالقيمة في نظر ﭬيبر وأتباعه مناقضة للعلم، والجمع بينهما هو جمع بين نقيضين؛ لأن علم الاجتماع الغربي في نظر جولدنر وبعد أن يفصل بين العلم وأحكام القيمة، تظل هذه الأحكام مسيطرة عليه وتتسرب إلى ممارساته البحثية. ويذهب جولدنر إلى أن ثنائية الإيمان والعقل ظلت مسيطرة على الفكر الغربي منذ أن دشنتها الرشدية اللاتينية وطوال العصر الحديث، حتى ورثها علم الاجتماع الغربي في نسخته الأمريكية التابعة لماكس ﭬيبر.

إن إدخال جولدنر لابن رشد والرشدية ونظريتها في الحقيقة المزدوجة في دراسة “أسطورة” التحرر القيمي في علم الاجتماع، دليل على أن الرشدية كانت على الدوام حاضرة في أذهان الباحثين المحدثين، حتى أن جولدنر يتذكرها ويستحضرها بسهولة وسط بحثه النقدي في توجهات علم الاجتماع الغربي. فلا يقتصر الأمر على مجرد استطراد أو ملاحظة جانبية عابرة وسريعة يربط فيها جولدنر بين الرشدية اللاتينية وعلم الاجتماع الغربي، أو مجرد وحدة موقف كل منهما من مسألتين متناقضتين، الإيمان والعقل من جهة، والقيمة والعلم من جهة أخرى، بل الحقيقة هي أن جولدنر، وكما تنص عباراته، ينظر إلى وضع علم الاجتماع المعاصر له، والأمريكي منه على وجه الخصوص، على أنه يمثل استمرارية تاريخية وفكرية للرشدية اللاتينية ونظريتهافي الحقيقة المزدوجة.

وقد سبق لجولدنر أن أرجع أصول النظرية الاجتماعية الحديثة إلى أفلاطون في كتابه “أعماق أفلاطون”[5] Enter Plato، فهو في نظر جولدنر الأصل الأول لكل فكر يؤسس لفكرة النظام الاجتماعي وتكامل عناصره وضرورة اندماجها معاً لتحقيق وظائف هذا النظام. وبذلك لم يكن ربط جولدنر علم الاجتماع الغربي بابن رشد والرشدية اللاتينية بالربط الأول ولا الوحيد ولا الغريب في أعماله مع تراث فلسفي قديم. وبالنظر إلى ضيق الأفق الأكاديمي الأمريكي حول علم الاجتماع وكونه تخصصاً مغلقاً على نفسه ومن ثم مقطوع الصلة بالفلسفة خاصة، فإن إدخال جولدنر لابن رشد والرشدية اللاتينية، وبعدهما لأفلاطون، في دراسة عن علم الاجتماع الغربي، يعد ربطاً مبتكراً في ذلك العصر ووفق تلك الحال للعلم الاجتماعي الأمريكي، وهو من وجهة نظر أمريكية يعد ربطاً عجيباً مدهشاً لم يألفه الباحثون الغربيون.

إذا كان جولدنر قد كشف عن استمرار حضور نظرية الحقيقة المزدوجة لدى ماكس ﭬيبر، وإذا كان قد حاول كشف سياق حضورها لدى ﭬيبر، فلنا أن نتساءل: هل كان لماكس ﭬيبر سابقون على المستوى الفلسفي ظهرت لديهم هذه النظرية؟ نعم. إنه كانط. معروف عن ﭬيبر توجهاته الكانطية الجديدة. ثنائية القيم والوقائع سائدة لدى الكانطية الجديدة ومتوارثة من كانط الذي فصل بين عالم الظاهر وعالم الأشياء في ذاتها، وبين العقل النظري والعقل العملي. وهذه كلها صياغات حديثة لنظرية الحقيقة المزدوجة، حاضرة لدى كانط وممتدة إلى الكانطية الجديدة وإلى ﭬيبر.

أغراض جولدنر في دراسته

نستطيع استيعاب وفهم الربط الذي يقيمه جولدنر بين ابن رشد والرشدية من جهة وعلم الاجتماع الغربي من جهة أخرى بمعرفة موضع هذا الربط في دراسته؛ ولمعرفة الموضع يجب علينا أولاً معرفة أغراض جولدنر في الدراسة. فهي تهدف في المقام الأول والأعم إلى نقد “عقيدة” التحرر القيمي في علم الاجتماع الغربي بوصفها أيديولوجيا رسمية وليست تهدف إلى أي موضوعية أو حياد. وكونها أيديولوجيا رسمية، غير مطبقة بالفعل في أعمال علماء الاجتماع الغربيين، يخول لنا النظر إليها على أنها مثيلة لثنائية المذهب المشهور والمذهب المستور لدى فلاسفة الإسلام، إذ تمسكوا بتعليم ظاهر أو مشهور exoteric إرضاءًا للعامة وتسكينًا لرجال الدين، في مقابل مذهب مستور esoteric هو رأيهم وما يقتنعون به بالفعل بين أنفسهم.

وفي المقام الثاني الأكثر تخصيصاً تهدف دراسة جولدنر إلى توضيح حضور هذه العقيدة الأيديولوجية لدى علماء الاجتماع الأمريكان المعاصرين له، وهو في ذلك يكشف عن السياق الأكاديمي والمؤسسي لعلم الاجتماع الأمريكي الذي شكَّل الأرضية المناسبة لتلقي هذه العقيدة من ماكس ﭬيبر وتبنيها، ثم تبيئتها في السياق الأمريكي لممارسة العلم الاجتماعي.

والمفارقة هنا، وهي التي لم يلاحظها جولدنر نفسه، هي أن رصده وتشخيصه لتبني علم الاجتماع الأمريكي لعقيدة التحرر القيمي من ﭬيبر، تستوعبهما نظرية ﭬيبر في الاختيار القرابي elective affinity، والتي تفسر تبني جماعات ونظم لأفكار سابقة على أساس وجود تناسب ما بين هذه الأفكار القديمة والوضع والحالة التي عليها تلك الجماعات[6]. فمن منطلق هذه النظرية، اختار علم الاجتماع الأمريكي عقيدة التحرر القيمي من ماكس ﭬيبر لأنها متناسبة مع وضعه الأكاديمي والمؤسسي، ومع الوضع الطبقي لعالم الاجتماع الأمريكي داخل مجتمعه وسياقه السياسي ودوره في نظام توزيع القوة في المجتمع الأمريكي.

الأطروحة لدى ﭬيبر

لم يتناول ﭬيبر أطروحة التحرر القيمي بتوسع وتركيز إلا في مقال واحد فقط، ظهر لأول مرة سنة 1913، وأعيد نشره سة 1917، بعنوان “معنى التحرر القيمي في العلوم السوسيولوجية والاقتصادية”[7]؛ وهو مقال سجالي كتبه في سياق نزاعه مع المدرسة التاريخية الألمانية في العلم الاجتماعي، وخاصة في سياق نزاعه مع أساتذته وزملائه في “اتحاد السياسة الاجتماعية” وأهمهم شمولر  Schmoller Gustav von (1838 – 1917). لم يتعرض جولدنر إلى هذا السياق الخاص بماكس ﭬيبر والذي شكل الباعث الأساسي لوضعه لنظريته في التحرر القيمي، لكنني أذكره هنا لضرورته الحاسمة في فهم مجمل موقف ﭬيبر والكشف عن السياق الخاص به والذي يمثل الأرضية التي انطلق منها في وضعه لنظريته. فجولدنر كان مهتماً بالسياق الأمريكي وحده في تبني وتوظيف هذه النظرية، لا بسياق ﭬيبر. والأمر الهام الذي يجب الإشارة إليه هنا هو أن هذا المقال هو الوحيد والمتفرد من بين أعمال ﭬيبر كلها والذي خصصه حصراً لتناول مسألة التحرر القيمي، كما أنه لم يطبق نظريته في التحرر القيمي في أعماله السوسيولوجية، سواء السابقة على المقال أو اللاحقة. وبالنظر إلى أن مقال ﭬيبر يتناول التحرر القيمي في قاعات الدرس الجامعي وفيما يخص علاقة الأستاذ بطلابه داخل الجامعة، فيبدو أن نظريته لا تنسحب على الأعمال الأكاديمية والفكرية التي يكتبها الأستاذ الجامعي، فهو لم يتناول في مقاله المذكور مسألة كشف الأستاذ عن قيمه والدعاية لها في كتبه.

وإذا كان ﭬيبر قد أراد من نظريته في التحرر القيمي أن يمهد لقبول علم الاجتماع في الجامعة ويجعله محايداً وعلماً تقنياً احترافياً، وإذا كان هذا التوجه يكشف كما ذهب جولدنر عن نظرية الحقيقة المزدوجة لدى ابن رشد والرشدية اللاتينية، فهذا يعني أن الرشدية اللاتينية وتراث نظريتها في الحقيقة المزدوجة يقعان عند اللحظة الأولى لتأسيس علم الاجتماع الغربي في فرعه الﭬيبر ي. فمثلما يفصل ابن رشد والرشدية اللاتينية بين حقيقة الإيمان وحقيقة العقل (أي فصل المقال بين الشريعة والحكمة، أو الدين والفلسفة، أو الوحي والعقل)، أو حقيقة النص المقدس وحقيقة الفلسفة، وكي يَفُضَّا الاشتباك والصراع بينهما، يحتفظا بمجال خاص للإيمان ومجال خاص للعقل، لا يختلطان ولا يتصارعان؛ وهذا الفصل هو الواضح في علم الاجتماع الأمريكي المتبع لعقيدة ﭬيبر في التحرر القيمي، والتي تفصل بين القيمة والعلم. والحقيقة أن هذا الفصل يتفق تماماً مع نظرة ﭬيبر إلى الحداثة على أنها عملية في تمايز مجالات القيمة value-differentiation.

إن ماكس ﭬيبر صاحب الدعوة إلى علم اجتماع متحرر من أحكام القيمة، والذي فصل بين العلم الموضوعي وأحكام القيمة التي هي عنده لا يمكن أن تكون موضوعية، هو نفسه صاحب أطروحة “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”، التي تدعي قيام الحضارة الغربية على قيم العمل البروتستانتية[8]. كما أن ﭬيبر هو أيضًا صاحب أطروحات في سوسيولوجيا الأديان كانت تُعلي من شأن المسيحية البروتستانتية على حساب أديان الشرق؛ ففي نظره أعاق الإسلام ومعه البوذية والكونفوشية والطاوية وأديان الهند مجتمعات الشرق عن التحديث والتطور الرأسمالي، اللذان لم يتحققا إلا في الغرب الأوروبي وحده بفضل البروتستانتية (مرجع). هذه النظرة الاستعلائية على كل العالم اللاغربي وعلى أديانه وثقافاته وقيمه، مقامة على خيارات قيمية واضحة لدى ﭬيبر، وهي تُختزَل إلى منطق ثنائي ساذج: قيم الشرق أعاقته عن التحديث والرسملة، وقيم الغرب ساعدته عليهما. ومن ثم فإن ﭬيبر صاحب دعوة علم الاجتماع المتحرر من القيمة هو في الوقت نفسه الذي تظهر لديه نزعات قيمية وأحكامًا أخلاقية متعصبة تجاه أديان الشرق ومتطرفة تجاه قيم حضارته هو، خاصة شقها البروتستانتي؛ إذ يصل تعصبه لقيم الغرب البروتستانتي إلى حد إقامته لتصنيف تراتبي يضع الحضارة البروتستانتية في الصدارة وباقي العالم دونها، بما فيه الجزء الكاثوليكي من العالم الغربي. لم يكن ﭬيبر مطبقًا لمبدأ الحياد القيمي والتحرر من الأحكام الأخلاقية الذي نادى به، وكشف عن نزعة استشراقية متعصبة للغرب ومضادة للشرق، أي الاستشراق الكلاسيكي الذي لا يداري استعلاءه وتعصبه ولا يخفيه خلف خطاب علمي مزعوم كما سوف يحدث بعد عصر ﭬيبر.

نظرية الحقيقة المزدوجة لدى ابن رشد والرشدية اللاتينية

يذهب جولدنر إلى أن ما يكشف عنه مبدأ التحرر القيمي والحياد الأخلاقي من تكيف علماء الاجتماع مع الإدارات الجامعية والأنظمة السياسية ليس شيئًا جديدًا، إذ قد ظهر توجه شبيه في فلسفة العصور الوسطى لدى ابن رشد والرشدية اللاتينية؛ “ذلك لأن أطروحة علم الاجتماع المتحرر من القيمة هي امتداد حديث للصراع بين الإيمان والعقل في العصور الوسطى”[9]، وهو الصراع الذي تمت محاولة تسكينه وتلطيفه “في التوجه الذي نشأ في القرن الثالث عشر نحو إقامة فواصل وحدود بين الاثنين، كطريقة لحفظ السلام بينهما. ونجد أحد أبرز علامات هذا التوجه في أعمال الفيلسوف العربي ابن رشد… اعتقد ابن رشد أن الحقيقة ليست في الوحي بل في الفلسفة، التي كانت تعني لديه فلسفة أرسطو. وقد اعتقد أن الوحي والإيمان وأحكام اللاهوتيين [علماء الكلام] هي نوع من الفلسفة الشعبية، الضرورية لأولئك الذين يفتقدون الانضباط العقلي، وهي لازمة لهم كي يصيروا متحضرين. لكن لعلم ابن رشد بأن اللاهوت يتضمن شيئًا من الحقيقة رغم أنها أدنى من حقيقة الفلسفة، ولكونه حكيمًا، فقد أوصى بأن يلتزم كل من الفلاسفة واللاهوتيين [علماء الشريعة] بمجالهم الخاص، وأن على الفلاسفة ولكونهم الأعلى عقلًا، احترام [علماء الشريعة]. واقترح أن يُبقي الفلاسفة الحقيقة لأنفسهم، ويكتبوا مؤلفات اختصاصية لا تقلق أو تشتت عقول البسطاء”[10]. ورغم أن جولدنر لا يحيل إلى المراجع التي استقى منها هذه الأفكار، إلا أنني أعتقد أن مصدرها ربما يكون كتاب إرنست رينان “ابن رشد والرشدية”، وأعمال إتيين جيلسون في تاريخ فلسفة العصر الوسيط، فهو الذي ارتكز على نظرية الحقيقة المزدوجة بوصفها هي التي تحدد هوية الرشدية اللاتينية.

وحسب جولدنر فقد اتبع تلاميذ ابن رشد في الغرب اللاتيني الوسيط توصيته، وهم الذين يُطلق عليهم “الرشديون اللاتين أو المسيحيين”؛ وكانت استراتيجيتهم في تأمين أنفسهم حسب جولدنر هي في تحديد هويتهم بوصفهم باحثين محترفين متخصصين في الفلسفة وحدها، وأن مهمتهم الأساسية هي دراسة وتعليم الفلسفة والوصول إلى نتائج من داخل حقل الفلسفة الاحترافي وفق قواعد وأصول الفلسفة. و النتائج التي يتوصلون إليها داخل حقلهم الاختصاصي تتصف بالضرورة، أي بالصدق العقلي، لكونها صادرة عن الحجج البرهانية المنطقية؛ لكن إذا تعارضت هذه النتائج مع معتقدات الوحي، فليست مهمتهم التوفيق بين الجانبين، بل يجب عليهم الاعتراف بصدق الوحي وصدق العقل حتى إذا تعارضا، وإبقاء كل منهما داخل مجاله. ومن هنا حسب جولدنر نشأت أطروحة ازدواجية الحقيقة، التي لا ننكر حضور صورة منها لدى ابن رشد، فهو قد وضع كتابه الشهير “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، من أجل الفصل بين مجالي الشريعة والحكمة، ومبدأ الفصل هو في أساس أطروحة الحقيقة المزدوجة[11].

وفي نظر جولدنر فقد تجسدت أطروحة ازدواجية الحقيقة في قول أحد أشهر الرشديين اللاتين وهو جون الجاندوني في قوله: “إنني أؤمن بصدق هذه الأشياء [العقائد الإيمانية]، لكنني لا أستطيع البرهنة عليها؛ وأتمنى التوفيق لمن يقدر على هذه البرهنة”[12]. وبذلك صنع الرشديون اللاتين انشقاقًا حادًا بين الإيمان والعقل وفصلًا حسامًا بينهما، استمر لدى توماس الأكويني رغم محاولاته إقامة الجسور بينهما، لكنه حسب جولدنر حافظ على الأطروحة كاملة، وقال بصدق الفلسفة واللاهوت معًا، وبأن كلًا منهما صحيح داخل مجاله. هذا الفصل الحاد بين اللاهوت والفلسفة، وبين الإيمان والعقل، ظل يطبع كل الفكر الأوروبي التالي له. ومع ظهور العلم الحديث استمرت محاولات فصله عن العقائد الدينية[13]، وهي كلها محاولات سعت إلى استقلال العلم بفصله عن مجال الدين، مع اعتراف العلماء المحدثين بمصداقية الوحي داخل مجاله ومصداقية العلم داخل مجاله. ومن هنا نتبين كيف أن أطروحة الفصل الرشدية بين الشريعة والحكمة قد ظلت سائدة وحاكمة لمسار الفكر الأوروبي بعد أن طورتها الرشدية اللاتينية ووسعتها في صورة أطروحة ازدواجية الحقيقة.

ثم يقول جولدنر: “إن أطروحة ماكس ﭬيبر حول علم اجتماع متحرر من أحكام القيمة، والتي تقيم هوة عميقة بين العلم والقيم، تنتمي إلى هذا التراث؛ ويمكن النظر إليها على أنها الصيغة البروتستانتية للمحاولة التوماوية [نسبة إلى توماس الأكويني] في تكييف العلاقات بينهما”[14]، أو بالأحرى إقامة شرعية لتواجدهما معًا رغم تناقضهما الأصلي.

وقد نظر علماء الغرب منذ العصور الوسطى وطوال عصر النهضة إلى نظرية الحقيقة المزدوجة على أنها ترجع إلى ابن رشد، والتي نادى بها أقطاب الرشدية اللاتينية أمثال سيجر البرابانتي (1240 – 1284) وجون الجاندوني (1285 – 1328). وقد ظلت هذه النظرية حية في تاريخ الفكر الغربي الحديث، لكنها ترسخت فيه بحيث فقدت ارتباطها الأصلي بابن رشد والرشدية اللاتينية، وصارت مكوناً أساسياً في فكر الكثير من الفلاسفة المحدثين. وقد استمرت نظرية ازدواجية الحقيقة لدى كانط، واتضحت في العديد من أعماله، ومنها تقسيمه للعقل إلى عقل نظري وعقل عملي، وأهمها كتابه في “صراع الكليات الجامعية”، الذي يوصي فيه بإقامة حدود حاسمة بين الكليات، وخاصة كلية اللاهوت وكلية الفلسفة، كي لا يحدث اشتباك بين العاملين فيها نتيجة الاختلافات في الرؤى والأفكار. ونظرًا لأن جولدنر لم يفحص في طرق وصول نظرية الحقيقة المزدوجة إلى ﭬيبر  ومنه إلى علم الاجتماع الغربي، فيحق لنا افتراض أنها وصلت أولًا إلى ﭬيبر  عن طريق كانط والكانطية الجديدة، إذ أن كانط هو الوريث الحديث لهذه النظرية، بفصله الحاد بين العقل النظري والعقل العملي.

ويجب أن ننتبه إلى أن علم الاجتماع الغربي إذا كان يكشف عن نظرية ازدواجية الحقيقة بين الوقائع والقيم، فهو لم يكن يتبنى هذه النظرية بالكامل وكما ظهرت لدى الرشدية اللاتينية، لأن أطروحة ازدواجية الحقيقة كانت تخدم الرشدية اللاتينية في إظهار الفيلسوف قابلًا لحقيقة العقيدة المسيحية وحقيقة العقل معًا في حال تعارضهما؛ أي كان الفيلسوف الذي يتبنى هذه الأطروحة يحاول إرضاء رجال الدين وتحييد ما يمتلكونه من سلطة التفتيش في الأعمال الفلسفية والحكم عليها وإدانتها، وفي الوقت نفسه يتيح لنفسه الاشتغال بالفلسفة حتى ولو كان فيها ما يعارض العقيدة المسيحية.

الصورة التي ظهرت بها نظرية الحقيقة المزدوجة لدى فلاسفة الإسلام

ظهرت نظرية الحقيقة المزدوجة لدى فلاسفة الإسلام بصورة مختلفة عن تلك التي ظهرت بها لدى الرشدية اللاتينية. كان لدى فلاسفة الإسلام خيار آخر لم يكن متاحًا للفلاسفة اللاتين  الذين تبنوا أطروحة ازدواجية الحقيقة؛ ذلك لأن الفيلسوف في الإسلام حال أن وجد تعارضًا بين العقيدة والفلسفة، أو الدين والعقل، لجأ إلى تأويل النص الديني بوصفه مجازًا، مُصدِرًا حكمًا على النص الديني بأن معناه الحرفي الظاهري هو الذي يبدو في تعارض مع العقل؛ وعن طريق التأويل يكشف الفيلسوف الإسلامي عن مجازية المعنى الحرفي الظاهري ومن ثم يؤوله عقليًا. وليس معنى هذا أن فلاسفة الإسلام لم تظهر لديهم نظرية ازدواجية الحقيقة، بل قد ظهرت لديهم بالفعل، لكن في صورة أخرى غير تلك التي نجدها لدى الرشدية اللاتينية. إذ أجمع فلاسفة الإسلام على أن في النص الديني مستويين من المعنى، المستوى الظاهري الحرفي المناسب للعامة، والمستوى الباطني العقلي المناسب للخاصة؛ كما أجمعوا على أن النص الديني قد تَكَيَّف مع أذهان العامة وطرقها في الفهم، وهي طرق حسية خيالية، ومن ثم تم تقديم الإله في صور حسية وتجسيمية مراعاة لفهم العامة، فهي ليست قادرة على فهم الطبيعة المجردة للإله. ومن ثم قال فلاسفة الإسلام بازدواجية في الخطاب؛ فالمعنى الحرفي الظاهري في النص الديني هو خطاب للعامة، استخدم فيه النص الطرق العامية في الإقناع وفي تمثيل الحقائق العقلية المجردة في صورة تمثيلات حسية، أما باطنه فهو يخاطب الخاصة، أو “الراسخون في العلم”.

لكن لم يكن متاحًا أمام فلاسفة الرشدية اللاتينية خيار التأويل المجازي للنص الديني، فظل التعارض بين الدين والعقل حادًا والانشقاق بينهما عميقًا. أما جولدنر فعندما يشخص علم الاجتماع الغربي بوصفه كاشفًا عن استمرار نظرية ازدواجية الحقيقة لديه، فلم يكن يقصد أن علماء الاجتماع أرادوا التخفي أو حماية أنفسهم من اضطهاد يمكن أن يتعرضوا له بتمسكهم بالعقلانية سرًا والتظاهر بتمسكهم بعقائد أخرى تخالفها؛ فلم تكن ازدواجية الحقيقة لدى علم الاجتماع الغربي أسلوبًا في الكتابة المستورة esoteric writing أو طريقة لإخفاء مذهب مستور وحمايته من الاضطهاد، بل كان قصد جولدنر أن علم الاجتماع الغربي مصاب بثنائية واضحة بين الوقائع والقيم، تكشف عن وعي منشق على نفسه، لا يستطيع التوفيق بين حقائق العالم الاجتماعي والقيم المتضمنة في هذا العالم والتي توجهه، وتوجه معه الباحث الاجتماعي نفسه دون وعي منه. إن جولدنر بذلك يكشف عن معنى آخر أكثر عمقًا لأطروحة ازدواجية الحقيقة لدى علم الاجتماع الغربي، فلم تكن هذه الأطروحة لديه مجرد طريقة للتظاهر بقبول العقيدة وقبول الفلسفة العقلانية المخالفة لها في الوقت نفسه، بل كانت ثنائية فعلية تكشف عن وعي منشق في هذا العلم، وهذا الوعي المنشق هو جزء أساسي مما أسماه بعد ذلك بأزمة علم الاجتماع الغربي.

نظرية التحرر القيمي في علم الاجتماع الغربي بوصفها كاشفة عن نظرية الحقيقة المزدوجة

كان على علم الاجتماع الغربي الدعاية لنفسه من منطلق استبعاده لأحكام القيمة والأحكام الأخلاقية كي يلقى قبولًا على مستويات عديدة: قبولًا أكاديميًا كي لا يظهر في صورة أيديولوجية معينة، وهو من السهل تحميله بأي حمولة أيديولوجية، وخاصة بالماركسية، وقبولًا لدى طلاب الجامعات في السياق الأمريكي، وقد كان معظمهم يأتي من أسر موسرة، بورجوازية، لا ترضى لأبنائها أن يدرسوا علمًا يَبُث فيهم ما ينظرون إليه على أنه تحيزات أيديولوجية؛ وفوق ذلك كان علماء الاجتماع حريصين على صورتهم أمام جهات التمويل والمَنْح المادي التي تنفق على كراسي علم الاجتماع في الجامعات وعلى الأبحاث الاجتماعية وعلى مراكز البحث الاجتماعي، وهي كلها جهات رأسمالية. فالحياد مطلوب وسط ذلك السياق الأكاديمي والسياسي والاقتصادي. لكن في النهاية وضع علم الاجتماع الغربي نفسه وخاصة في نسخته الأمريكية في خدمة هذا النظام الرأسمالي القائم، بتركيبته الطبقية والسياسية المحافظة.

تبدو الدعوة إلى علم اجتماع متحرر من أحكام القيمة أنها جزء من توجه علماء الاجتماع نحو إضفاء الموضوعية والحياد على علمهم، وهما ضروريان للغاية لتقديم صورة مقبولة للعلم الاجتماعي أمام المجتمع وأمام الإدارات الجامعية وأمام السلطة السياسية، سعيًا وراء نيل الاعتراف والاحترام لهذا العلم حديث النشأة والجديد في الجامعات آنذاك. والملاحظ أن علماء الاجتماع ظلوا ينظرون إلى علمهم على أنه علم جديد لفترة طويلة بعد تأسيسه، بل إن الإحساس بحداثة هذا العلم ظلت مصاحبة له في كل مراحل تطوره، مما جعل علماء الاجتماع في حالة دائمة من تبرير شرعيته وإثبات نفعه للمجتمع. وهنا تكمن المفارقة، إذ ظلوا يثبتون فائدة “علم الاجتماع” للمجتمع!!. وربما أتاهم هذا الشعور من إحساسهم أن علم الاجتماع لم يكن قد تأسس بعد على قواعد نظرية ومنهجية مستقرة، مما شعروا معه، وشعر معه متخصصو العلوم الاجتماعية الأخرى أنه دخيل على باقي العلوم الاجتماعية التي كانت قد استقرت من قبله طويلًا، مثل علم الاقتصاد وعلم السياسة والقانون وعلم النفس. هذا الشعور الدائم بحداثة العلم والملازمة له طوال تاريخه وعدم اقتصاره على لحظة تأسيسه الأولى هو الذي جعل علماء الاجتماع يشددون على مبدأ الحياد القيمي والتحرر من أحكام القيمة طوال كل مراحل تطور هذا العلم.

ولكن مع استحالة تخلص عالم الاجتماع من إصدار أحكام القيمة على موضوع دراسته، واستحالة عدم تعامله مع القيم التي تتبناها الجماعات التي يدرسها، يحكم جولدنر على دعوة التحرر القيمي بأنها خرافة، لكنها في تحليله خرافة ضرورية نظرًا لحتمية تبني علماء الاجتماع لها من أجل الصورة العامة التي يريدون أن يظهر بها علمهم[15]، أمام المجتمع وأمام الإدارات الجامعية وسلطات الدولة. وهي خرافة لأن علماء الاجتماع أنفسهم يعرفون استحالة تحقيق هذا التحرر من القيم، لكنهم رغم ذلك يتبنون هذه الدعوة ويقدمون علمهم في مظهر التحرر القيمي.

هذه الازدواجية بين شيء لا يعتقد العالِم في صدقه وفي الوقت نفسه يتمسك به ويدعو إليه، هو ما جعل جولدنر يربط دعوة التحرر القيمي في علم الاجتماع الغربي بأطروحة ازدواجية الحقيقة لدى الرشدية اللاتينية. نصت أطروحة ازدواجية الحقيقة لدى الرشدية اللاتينية على أن الفيلسوف يمكنه أن يقبل عقائد دينية وهو يعرف أنها غير صحيحة في العقل العلمي البرهاني، مثل إعلانه عن قبول الإيمان المسيحي الكنسي بالثالوث والتجسد وحضور اللاهوت في الناسوت في شخص المسيح، وبقاء النفس بعد موت البدن، وخلق العالم من العدم، في حين أن العقل البرهاني لا يستطيع البرهنة على صحة هذه العقائد، بل يناقضها. ومن هنا كانت ازدواجية الحقيقة تعني لدى الرشدية اللاتينية موقفًا مزدوجًا من القضية الواحدة، يقبلها الفيلسوف إيمانًا وتسليمًا وهو يعرف أنها باطلة لدى العقل البرهاني، وفي الوقت نفسه يقر بقضية يبرهن عليها العقل وهو يعرف أن العقيدة الإيمانية تُناقِضها. وبذلك يأخذ الفيلسوف أطروحة الخلق من العدم من منطلق الإيمان والتسليم بسلطة التراث الديني والكنيسة والكتب المقدسة، وفي الوقت نفسه يتنبى أطروحة قدم العالم من منطلق أنها قضية مبرهن عليها في الفلسفة وفق العقل البرهاني، ذلك البرهان الذي وجده الفلاسفة اللاتين في شروح ابن رشد على أرسطو. ويتمثل الامتداد السوسيولوجي لهذه الأطروحة في ازدواجية الحقيقة في تبني علماء الاجتماع لقيم معينة بينهم وبين أنفسهم، وهم يعلمون أنها غير موضوعية وغير محايدة، ويُظهِروا الموضوعية والحياد القيمي في عملهم الأكاديمي وأمام الإدارات الأكاديمية.

ويعني التحرر من أحكام القيمة والحياد الأخلاقي في نظر علماء الاجتماع أشياء كثيرة، منها عدم الاكتراث بالتوابع والمتضمنات الأخلاقية لأبحاثهم؛ وأن عالم الاجتماع يمكنه أن يتبنى قيمًا في حياته الشخصية ونشاطه العام دون أن يسمح لهذه القيم بأن تدخل في عمله الأكاديمي، لكن هذا هو ما يصيبه بازدواجية عميقة بين حياته الخاصة وآرائه الشخصية من جهة، وحياته الأكاديمية من جهة أخرى، وهو ما يكشف في النهاية عن وعي منشق. كما يعني الحياد القيمي توقف العالِم عن تقييم سياسة عامة حتى ولو كان على معرفة علمية بالتبعات السلبية لهذه السياسة؛ وتوقفه عن الدعاية لأفكار معينة أو لنسق أيديولوجي معين لطلابه، في الوقت الذي تشكل فيه هذه الأفكار والأيديولوجيات توجهاته الأكاديمي لكن دون وعي منه. في هذا السياق يمكن لعالم الاجتماع أن يدرس المجتمع من منطلق نظرية صراع الطبقات دون أن يفصح لطلابه عن ماركسيته، أو يخفي توجهاته الأيديولوجية في الوقت الذي تشكل فيه هذه التوجهات عمل البحثه كله. وهنا يتحول الحياد القيمي إلى أسلوب في التخفي، يستر به العالِم الاجتماعي توجهاته الأيديولوجية التي يتبناها سرًا، تمامًا كما كانت أطروحة ازدواجية الحقيقة لدى الرشدية اللاتينية آلية فكرية يستر بها الفيلسوف أفكاره المخالفة للعقيدة المسيحية خوفًا من أضطهاد الكنيسة وسلطات التفتيش، وتطويرًا لثنائية المذهب المستور والمذهب المشهور، السائدة لدى أغلب فلاسفة العصور الوسطى المسيحيين والمسلمين واليهود.

وكان تجنب اضطهاد السلطات هو الحاضر بوضوح لدى الدعوة إلى علم اجتماع متحرر من القيمة؛ ذلك لأن ماكس ﭬيبر، الواضع الأول لهذه الأطروحة، كان يخشى من تعبير علماء الاجتماع عن قيمهم وتوجهاتهم السياسية، إذ يمكن أن يؤدي هذا إلى تدخل الإدارات الجامعية وإقامتها الحظر على هذا العلم الجديد، أو التدخل في نشاطه مما يؤدي إلى فقدان استقلاله[16]، تمامًا كما كان يخشى فلاسفة الرشدية اللاتينية تدخل السلطات الكنسية في تعليم الفلسفة في الجامعات ومن ثم حظر الدراسات الفلسفية. إن عالم الاجتماع هو أولًا وقبل كل شيء أستاذ جامعي، والجامعة في النهاية هي جزء من الدولة مهما كانت درجة استقلالها عنها، ومن ثم لا يستطيع الأستاذ الجامعي الإفصاح عن قيم مضادة للنظام القائم أيًا كان، ولا عن قيم معاكسة للأيديولوجيا الحاكمة للدولة والمجتمع. إن الخوف على استقلال علم الاجتماع وعالِم الاجتماع، مثيل لخوف الرشدية اللاتينية على الفلسفة وعلى الفيلسوف من فقدان الاستقلال الأكاديمي والاضطهاد الشخصي، وهذا هو أصل التشابه الذي يرصده جولدنر بين الأطروحة السوسيولوجية قي الحياد القيمي والأطروحة الفلسفية في ازدواجية الحقيقة.

لا ينظر جولدنر إلى مبدأ التحرر القيمي على أنه سيء أو سلبي على طول الخط، بل يعترف له بمميزات وفضائل، لكنه يُشَخِّص سلبياته على أنها تعصف بإيجابياته. فهذا المبدأ في نظره قد مكَّن علماء الاجتماع من الانفلات من تحيزات مجتمعاتهم، وتعصباتها ضد الأقليات وضد المرأة، ومن الصراعات الحزبية وضغوط الإدارات الجامعية، مما أتاح لعلم الاجتماع التركيز على قضاياه البعيدة عن التعليقات الصحفية على الأحداث الجارية، كما أتاح وضعًا مناسبًا لتطوير الفكر النظري السوسيولوجي. والخلاصة أن مبدأ التحرر القيمي أسهم في نمو علم الاجتماع وتطوره بحثيًا ونظريًا[17]. كما أتاح هذا المبدأ لعلماء الاجتماع ضبطًا عقليًا لانفعالاتهم الأخلاقية، وقد كان يمكن أن يطوروا معه حسًا أخلاقيًا أعلى من المستوى القيمي العام السائد في مجتمعاتهم، متجاوزين أخلاقيات القبيلة ومنفتحين على التنوع الأخلاقي الذي يجدونه في مجتمعات مغايرة لمجتمعهم[18].

لكن كان لمبدأ التحرر القيمي آثار سلبية فادحة عصفت بكل مميزاته وفضائله، وصارت هذه الآثار السلبية هي الحاكمة لعلم الاجتماع، إذ أصابتهم باللامعيارية anomy واللامبالاة الأخلاقية moral indifference، وجعلتهم يمارسون علمهم على أنه أداة ووسيلة في خدمة كل مشترٍ يريد توجيه أبحاثهم لأغراض الدعاية والتسويق والبروباجاندا السياسية، أو لخدمة أي مصالح يمكن أن تكون سلبية أخلاقيًا. وبذلك وجدنا الأبحاث الاجتماعية تُستخدم في الدعاية لشركات التدخين والترويج لعقاقير نفسية ولسلع استهلاكية وللسيطرة على الجماهير وتطويع عقولها بكل الطرق ولكل غرض. وفي النهاية وجدنا علم الاجتماع الغربي يُوَظَّف لخدمة السوق الرأسمالي وتدعيم النظم السياسية الرأسمالية، صامتًا عن السياسات الإمبريالية العالمية لهذه النظم.

كما أدى الحياد القيمي إلى عزل علماء الاجتماع عن القضايا الحيوية لمجتمعاتهم، مثل قضية التسلح النووي وسباق التسلح بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي وما تبعه من صراع أيديولوجي عنيف بينهما، وتوقفوا عن الدفاع عن حق شعوب العالم الثالث في الاستقلال وتقرير المصير بعيدًا عن الهيمنة الغربية. ونتيجة لهذا العزل الذاتي عن تلك القضايا الحيوية والمصيرية، شكَّل علماء الاجتماع الأمريكان لأنفسهم معازل فكرية، كانت عبارة عن جيتوهات صنعوها بأنفسهم لأنفسهم. والحقيقة أن العلم الاجتماعي الصامت إزاء الصراعات الاجتماعية والدولية هو ضمنيًا راضٍ بصمت عن سياسات الدول الرأسمالية وممارساتها الإمبريالية، ما عدا الحفنة القليلة جدًا من الأكاديميين الأمريكان اليساريين الذين عارضوا السياسات الأمريكية بوضوح، مثل رايت ميلز، وتشومسكي (لغوي وعالم سياسة)، وريتشارد وولف (اقتصادي)، وديفيد هارفي (جغرافي). كان هؤلاء خوارج، يغردون خارج السرب، ويقعون في مربع منعزل خارج التيار السائد في الأكاديميا الأمريكية، لكنهم هم أنفسهم الذين مثلوا علامات مضيئة لشباب الباحثين.

ومن سلبيات مبدأ الحياد القيمي – الأخلاقي، أنه لم يُمَكِّن علماء الاجتماع من اتخاذ مسافة نقدية من مجتمعاتهم ونظمها السياسية، واضمحلت بذلك توجهاتهم النقدية، ولم يستطيعوا توجيه النقد إلا إلى زملائهم في المهنة؛ وكانت الصراعات بينهم حول التوجهات النظرية والاختيارات المنهجية، التي لا تهم المجتمع، والخالية من أي مردود اجتماعي جماهيري في المجال الثقافي العام. وفي النهاية يُشَخِّص جولدنر مبدأ التحرر القيمي على أنه كان صفقة مع المجتمع ونظمه الاقتصادية والسياسية، ومع الإدارات الجامعية. ففي مقابل الحصول على استقلال للعلم الاجتماعي وحرية أكاديمية وتمويل للأبحاث، كان على علماء الاجتماع التخلي عن توجهاتهم النقدية، وإخفائها أو طمسها خلف مبدأ الحياد القيمي[19]، والرضا بتوظيف أبحاثهم خدمة للمصالح الرأسمالية المهيمنة. وصار علم الاجتماع من ثم في خدمة رجال الأعمال والاحتكارات الكبيرة ورجال السياسة التابعين لها. وبذلك كان ثمن التخصص والمهنية professionalism  هو المسايرة والتكيف مع الوضع القائم accommodation، وانسياقًا مع نظام الهيمنة السائد.

نقد ليو شتراوس لنظرية التحرر القيمي

كان ليو شتراوس (1899 – 1973)، الفيلسوف الأمريكي، الألماني اليهودي الأصل، قد سبق جولدنر في نقد ثنائية الوقائع والقيم لدى ماكس ﭬيبر، وأطروحة ﭬيبر في الحياد الأخلاقي. صحيح أن شتراوس لم يشخص هذه الثنائية بوصفها كاشفة عن أطروحة ازدواجية الحقيقة كما فعل جولدنر، إلا أن نقد شتراوس لﭬيبر  يستبق جولدنر ويتوازى معه. يذهب شتراوس إلى أن رفض العلم الاجتماعي لأحكام القيمة يقوم على المُسَلَّمة القائلة بعدم قدرة العقل البشري على حل الصراعات بين القيم وأنساق القيم؛ ولما كان الصراع هو السائد في الحياة الاجتماعية، وكذلك بين الأمم، فهذا يعني أن الحياد الأخلاقي يؤدي إلى إنكار قدرة العقل الإنساني على الفصل بين هذه الصراعات أو الحكم عليها، بحجة أنها صراعات على القيم التي هي خارج مجال العقل[20]. ولما كانت المجتمعات البشرية مقامة بصفة أساسية على القيم، لا على مجرد الجوانب التقنية، فإن إنكار إمكان الضبط العقلاني للقيم يعني ترك العقل الإنساني للمهام التقنية والإدارية في مجالات الاقتصاد والإنتاج وتحويله إلى عقل أداتي[21]. وقد كان تحول العقلانية إلى عقلانية أداتية instrumental rationality من أهم التحولات التي حدثت لمفهوم العقل والتي نقدتها اتجاهات نقدية عديدة أشهرها مدرسة فرانكفورت. إن شتراوس بذلك وعن طريق تشخيصه لدعوة ماكس ﭬيبر إلى علم اجتماعي متحرر من القيمة، إنما يضع يده على انشقاق أعمق في هذا العلم بين العقل والقيمة. هذا الانشقاق هو الذي حلله جولدنر على أنه كاشف عن حضور أطروحة ازدواجية الحقيقة لدى علن الاجتماع الغربي والتي ترجع في نظره إلى ابن رشد والرشدية اللاتينية.

والشيء الغريب المدهش أن ليو شتراوس الذي سبق جولدنر في نقد أطروحة الحياد القيمي والتحرر من الأحكام الأخلاقية لدى ماكس ﭬيبر في كتابه “الحق الطبيعي والتاريخ” Natural Right and History، على امتداد 42 صفحة، لا نجده يربط هذه الأطروحة بأطروحة ازدواجية الحقيقة لدى الرشدية اللاتينية، في حين أن ليو شتراوس نفسه هو أحد أهم الدارسين المحدثين الذين أعادوا الاهتمام بفلاسفة الإسلام، إذ أشار إلى أهمية الفارابي وابن رشد والفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون في دراسات عديدة، لمس فيها أطروحة ازدواجية الحقيقة عندهم بوصفها كانت وسيلة للتخفي وللكتابة المستورة esoteric writing التي تعتمد على كتابة نص متعدد المعنى، وعلى إخفاء آراء الفيلسوف تجنبًا للاضطهاد[22]. ومن ثم فإن الربط الذي أقامه جولدنر بين نظرية الحقيقة المزدوجة الرشدية وأطروحة التحرر القيمي في علم الاجتماع كان ربطًا خاصًا به ومن إبداعه الشخصي.

 

قائمة المصادر والمراجع:

[1]) Alvin W. Gouldner, Anti-Minotaur: The Myth of a Value-Free Sociology, Social Problems, Volume 9, Issue 3, Winter 1962, Pages 199–213; reprinted in, Gouldner. For Sociology: Renewal and Critique in Sociology Today. (Harmondsworth: Penguin, 1975), pp. 3 – 26.

[2]) Alvin W. Gouldner. The Coming Crisis of Western Sociology. (London: Heinemann, 1970).

[3]) ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. مع مدخل ومقدمة تحليلية للمشرف على المشروع د. محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى 1997.

[4]) Gouldner. For Sociology, p. 20.

[5]) Alvin Gouldner. Enter Plato. Classical Greece and the origins of Social Theory (New York: Basic Books, 1965).

[6]) كان ماكس فيبر هو الذي استخدم هذا المصطلح بالمعنى الذي ذكرناه في المتن. انظر في ذلك:

Hans Gerth and C.Wright Mills, From Max Weber: Essays in Sociology (London: Routledge and Kegan Paul, 1948), pp. 62 – 63, 67, 284 – 285.

[7]) Weber, “The meaning of “value freedom” in the sociological and economic sciences”, in Max Weber. Complete Methodological Writings, translated by Hans Henrik Bruun. (London: Routledge, 2012), pp. 304 – 334.

[8]) Weber. The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, translated by Talcott Parsons (London and New York: Routledge, Taylor and Francis, 2013), pp. 1 – 12.

[9]) Gouldner. For Sociology, p. 20.

[10]) Ibid, loc cit.

[11]) انظر في ذلك، أشرف منصور، العقل والوحي – منهج التأويل بين ابن رشد وموسى بن ميمون وسبينوزا، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014، ص 80 وما بعدها؛ انظر أيضًا في تفسير فلسفة ابن رشد بوصفها كاشفة عن نظرية الحقيقة المزدوجة، أنطوان سيف. (1995). ابن رشد في رؤية عربية معاصرة: فرضية إزدواجية الحقيقة. الفكر العربي، مج 16, ع 81 ، 48 – 77.

[12]) Gouldner. For Sociology, loc, cit.

[13]) Gouldner. For Sociology, p. 21.

[14]) Ibid, loc. cit.

[15]) Gouldner. For Sociology, pp. 4, 6.

[16]) Gouldner. For Sociology, p. 9.

[17]) Gouldner. For Sociology, pp. 10 – 11.

[18]) Gouldner. For Sociology, p. 12.

[19]) Gouldner. For Sociology, p. 15.

[20]) Leo Strauss. What Is Political Philosophy? and Other Studies. (Glencoe, Illinois: Free Press, 1959), pp. 22 – 23.

[21]) Leo Strauss. Natural Right and History. (Chicago: University of Chicago Press, 1953), pp. 39 – 50.

[22]) Leo Strauss. Persecution and the Art of Writing (Chicago: University of Chicago Press, 1952), pp. 7 – 37.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete