عوالم الخلاف بين المسلمين

(1)

تكوين

روي عن علي بن أبي طالب قوله الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. هذا التقسيم الثلاثي يذكرنا بمالك بن نبي وهو يحلل معضلة القابلية للاستعمار، فقد ميز بين ثلاثة من العوالم: الذين ارتقوا إلى عالم الأفكار، والذين يدورون في عالم الأشخاص، والذين يدورون في عالم الأشياء.

عالم الأفكار

فعالم الأفكار، عالم يسع ذوي الارتقاء الروحي والعقلي، الذين ينظرون لما حولهم بنظرة يحضر معها الفكر والنظر والحكمة، وقد تهمهم الفكرة بمعزل عن صاحبها ما دمت فكرة في مستوى من الإفادة ، كما أنهم يملكون إرادة معرفية في النقد والتحليل، فالحِكمةُ ضالَّةُ المؤمِنِ فحيثُ وجدَها فَهوَ أحقُّ بِها، والمؤمن هنا تقترن بالإنسان الذي يأمنه النَّاسُ على أموالِهم وأنفسِهم، وتقترن كذلك بالإنسان الذي سلم الناسُ من لسانه ويدهِ.[2] بمعنى الانسان السوي هو من لا ينخرط ولا ينجر الى الكلام الفارغ والقيل والقال الذي لا يترتب عليه علم ولا نظر ولا أثر. فمن وجد نفسه في عالم الأفكار وجذبه عشق المعنى والدلالة، ومعرفة حقائق النفس والوجود، يصدق عليه قول علي ابن طالب أنه عالم رباني، أو متعلم على سبيل النجاة. والحقيقة أن العلم في مختلف الميادين وبما يشمل العلم بالمادة وبالروح هو طريق النجاة ولا لا طريق دونه.

أما الذين يدورون في عالم الأشخاص، فكل شيء يقيسونه على رأي فلان أو علان، وينتظرون موقفا لذلك الشخص لكي ينتصرون له حتى ولو كان على خطأ، ويعيشون حالة من الوهم والخوف على الدين والوطن والعرض…ويتخيلون أنفسهم بأنهم حراس الدين والعقيدة، وبدونهم سينهار كل شيء، في وقت تجدهم لا يملكون معرفة حقائق الأمور وماهيتها، ولا يرغبون في ذلك، لأنهم  اتخذوا في حياتهم سادات وكبراء باسم الدين وباسم العلم في الدين، وقد يجعلون ذلك تبريرا لقصورهم وتقصيرهم، في أهمية العلم بالأحداث والوقائع وما هو مختلف حوله دون علم منهم قال تعالى : ” وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)”(الأحزاب)

إقرأ أيضاً: الاحتيال اللغوي لجماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين

معضلة الناس المرتبطين بالأشخاص، أي أنهم لا يقبلون على أي موقف إلا من خلال ما عليه أشخاص آخرون، حتى فيما يخص متطلباتهم اليومية والأسرية، وبالأخص في قضايا قد يتم الاختلاف حولها، والاختلاف من سنن الحياة، ولا حياة دون اختلاف من جميع الأوجه الدينية والثقافية والفكرية والاجتماعية… أنهم يشكلون واسطة بين الناس الذين يدورون في عالم الأشياء وبين الأشخاص الذين يرون فيهم النموذج والمثل الأعلى،  وبهذا الربط يكون لهم تأثير على الناس البعيدين كل البعد  عن الفكر والنظر والسؤال، (أي الذين يدورون في عالم الأشياء) فالكثير منهم يبصر العالم من خلال الأشياء والممتلكات التي يملكونها، بدل الوعي بالفكرة من وراء الشيء، وحتى التدين عند هؤلاء في كثير من جوانبه لا يسلم من النظرة الشيئية، التي تختزل أمر الدين في عمارة المسجد أو الكعبة وفي تجمع كم ضخمة من الناس في مناسبة باسم الدين،  فالنظرة الكمية والشيئية حاضرة عند هؤلاء…أما فهم الدين كفكرة وسؤال وتأمل وتذكر وفكر وتفكر… فهو أمر مستبعد.

تداخل دائرة الناس الذين يدورون في عالم الأشخاص مع دائرة الذين يدورون في عالم الأشياء، يسقط المجتمع في فخ الرعاع أتباع كل ناعق، وهؤلاء لا فكر ولا نظر لهم، وهذا الفخ سيصنع أشباه العلماء الذين يكثرون الكلام والصراخ بدون معنى، ويقللون من قيمة مختلف العلوم والتخصصات في مختلف المجالات العلمية بدعوى أنها تشكل خطرا على فهم الدين، أي الفهم الذي يريدونه لأنفسهم.

فخ الرعاع والغوغائية ظاهرة لا تخلو من مختلف المجتمعات عبر التاريخ، وكثيرا ما يرتبط ما يقبل عليه الغوغاء بأنهم يقدمون معروفا  في خدمة الدين والحرص على ضياعه بالدفاع عنه، وقد يلجأ الغوغاء الى الاستهزاء والسخرية كأسلوب للتعبير وللدعاية ولتجميع واستقطاب الأنصار، ونذكر هنا بأن الأنبياء والرسل من بينهم محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قد عانوا كثيرا من استهزاء الغوغاء بهم وبما يدعون إليه.

(2)

لماذا حدث الخلاف بين المسلمين؟

حتى لا يشتغل الرسول بموضوع لا يستحق الاهتمام، وهو موضوع الاستهزاء والإساءة له وبمن آمن معه، جاء القرآن موجها له ومذكرا ألا يشغله ذلك عن البلاغ وعن الدعوة، والجدال بالتي هي أحسن.[3]

ليس هم الرسول النيل من الذين يستهزئون به ويسيئون له، بل همه الأكبر هو أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وييسر سبل الهداية أمامهم فهو الرسول الرحمة المهداة للعالمين. قال تعالى” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (الأنبياء/107) قال تعالى: ” ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (النحل/125)

مع الأسف جزء كبير اليوم في العالم الإسلامي  من الناس، يعترضون على الذين يقولون برأيهم في مختلف المواضيع التي تعنى بالمنهج وبتجديد أمر فهم الدين. إذ لا فائدة بالجمود والبقاء على كثير من الآراء وهي لأناس قالوا بها وفق ظروف ومتطلبات زمانهم ومحيطهم الاجتماعي، ومع الأسف قد تحولت مختلف تلك الآراء والأقوال والاجتهادات الى دين وثوابت لا يقبل مسها أو طرح السؤال حولها من لدن أشخاص ارتأوا في أنفسهم الكمال وظنوا بوعي أو بدونه بأن أمر الدين أمر لهم لوحدهم، مع الأسف هؤلاء يساهمون بشكل مباشر أو غير مباشر بخلق حالة من الغوغائية، نتيجة كتاب صدر لا يتوافق مع تصوراتهم أو مؤسسة لا تقول نفس أقوالهم…

قال تعالى: “وإنك لعلى خلق عظيم”(القلم/4) هذا هو الرسول الكريم الذي نال درجة الخلق العظيم باتباعه لما جاءه من عند رب العالمين، فهل المسلمون اليوم يعرفون الرسول بهذه الصورة وبهذا المنهج؟ مع الأسف الأصولية في العالم الاسلامي تنتهز الفرص مرة بدعوى الدفاع عن الرسول وسنته الشريفة، ومرة بدعوى الدفاع على الإسلام وتعاليمه السمحة، وكل شغلهم هو شتم مخالفيهم والاستهزاء منهم، والحط من قيمة مختلف العلوم من بينها علم الفلسفة، فمختلف الاتجاهات الأصولية وهي اتجاهات تدور في عالم الأشخاص، تستعدي الفلسفة وتصفها بالزندقة، ولا علم لها بأهمية العلوم الإنسانية في الزمن الحاضر.

إن الإسلام والرسول ليس في حاجة إلى من يدافع عنه، بل هو في حاجة إلى من يتدبر ما أنزل إليه من ربه، وفي حاجة إلى أناس لهم القدرة على البلاغ وعلى صناعة الحياة بدل الموت، وصناعة مجتمع الحوار والتواصل والجدال بالتي هي أحسن، بدل مجتمع الاستهزاء والكلام الفارغ الذي يجيش عواطف عموم الناس بدون فائدة، إننا في حاجة اليوم الى قاعدة في علم الاجتماع تنسجم مع قوله تعالى: “وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)”(الفرقان) ولا شك أن هذا الوضع الذي يقدم قيمة السلام عن غيرها، ينسجم مع ما ينبغي أن يكون عليه العلماء في مختلف مجالات المعرفة، وهم يخبرون المجتمع عن أسرار ما رسخ لديهم من حقائق ومعرف وأراء.

المراجع:

[2]  قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ﴾ (المائدة) وقال رسول الله ﷺ (المؤمنُ من أمِنَه النَّاسُ على أموالِهم وأنفسِهم) رواه ابن ماجه وأحمد. وقال أيضا ﷺ (المسلمُ من سلم الناسُ من لسانه ويدهِ، والمؤمنُ من أمنه الناسُ على دمائهم وأموالهم) رواه الترمذي والنسائي، وأحمد.

[3] قال تعالى “يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون” (يسن/30) قال تعالى ” وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً “(الفرقان/41) قال تعالى” وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ” (الأنعام/10) قال تعالى” وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب”(الرعد/32) قال تعالى:” فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ” (الحجر/94-95)

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete