تكوين
في النّصّ القرآنيّ ألفاظ متواترة اختلف القدماء في معناها وتعدّدت قراءتهم لها، على أنّ واحدا فقط من هذه المعاني شاع لدى المتقبّل المعاصر وتوطّد وجمد. وإنّنا نذهب إلى أنّ كثيرا من هذه الألفاظ القرآنيّة مفتقر إلى قراءة أخرى تُفكّك الجمود الدّلاليّ الّذي رسخ عبر التّاريخ، وتُفجّر من الكلم معاني أخرى دون تلك كلّسها التّقليد والكسل الفكري.
وسنشرع في سلسلة من المقالات تنظر في بعض الألفاظ القرآنيّة الشّائعة وتفتح لها إمكانات دلاليّة جديدة، وذلك إمّا بنفض التّراب عن التّراث المهمل أو بتسليط ضوء العلوم الإنسانيّة الحديثة. والمفهوم الّذي سنتطرّق إليه في هذا المقال هو مفهوم: “أهل الذّكر”.
+ المعنى الشّائع ل”أهل الذّكر” في عصرنا:
يُعمد إلى عبارة “اسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون” لبيان ضرورة أن يضطلع بالنّظر في مجال الدّين من يتمتّع وفق المجموعة بصفة “أهل الذّكر”. وعادة ما تشمل هذه الصّفة لدى أهل السّنّة ذَكَرا بالغا ممّن تشهد له الجماعة بالتفقّه في شؤون الدّين. أمّا لدى الشّيعة فتُسنَد هذه الصفة إلى الأئمّة الّذين تميّزهم درجة عليا تجعلهم يعرفون ما لا يعرفه سواهم وينفذون إلى ما لا ينفذ إليه غيرهم. وقد يختلف النّاس طبعا في تحديد أهل الذّكر ولكنّ اتّفاقهم حول إسناد الصّفة إلى شخص أو مجموعة يسمح بإقصاء من يُتصوّر أنّهم لا ينتمون إلى أهل الذّكر. وقد نتج عن هذه الاختلافات حديثا، سجالٌ في مجال الفتاوى ولا سيّما ما يُنشر منها على الأنترنت. ونستحضر مثلا ما سمّي ب”فتوى إرضاع الكبير” أو “فتوى نكاح الزّوجة المتوفّاة” وما تولّد عنهما من تراشق بالتّهم عن مشروعيّة التّصدّي للفتوى وعن مدى انتماء صاحبها إلى “أهل الذّكر”.
نتّفق أوّلا أنّ كلّ من سيقرأ نصّا من النصوص يجب أن يتوسّل إليه بمناهج ومعارف متنوّعة لها مراجع علميّة وأسس فكريّة دقيقة. ويتأكّد الأمر أكثر إذا كان ذلك النصّ مقدّسا. لذلك وضع علماء القرآن شروطا كثيرة لمن يضطلع بتفسير القرآن[1]. على أنّ المشكل أنّ من يمنع عن النّاس الاجتهاد في قراءة القرآن، لا ينقد تفسيرا مّا من حيث المنهج أو المضمون أو الأسلوب أو سواها، وإنّما هو ينقد مبدأ القراءة نفسه أي إنّه يصادر منذ البداية حقّ النّاس في تدبّر القرآن خصوصا وسائر النصوص الدّينيّة عموما. وكثيرا ما يستند البعض في هذه المصادرة إلى قول الله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “(النّحل،43).
لن نتبسّط في هذا المقال في مسائل بديهيّة وإن تكن مفتقرة إلى مزيد البحث والتّحليل شأن توجّه الله تعالى بخطابه إلى جميع النّاس ودعوتهم بلا استثناء إلى تدبّر القرآن وآيه[2]، وشأن تأكيده أنّه يخشى اللهَ من عباده العلماء دون تحديد مرجع هذه الكلمة[3]. لن نتبسّط في هذا كلّه الآن[4]، ولكنّنا نريد أن نبيّن أنّ المصادرة المبدئيّة للحقّ في الاجتهاد في قراءة النصوص الدّينيّة استنادا إلى الآية 43 من سورة النّحل، إنّما هي أمر قابل لإعادة النّظر بل للدّحض، وذلك بالعودة إلى تفاسير القرآن ذاتها لعبارة “أولي الذّكر”.
+ المعنى الممكن ل”أهل الذّكر” وفق مقام الآية 43 من النّحل:
إنّ الخطاب في الجزء الأوّل من الآية موجّه إلى الرّسولﷺ، يدلّ على ذلك استعمال ضمير المخاطب: “وما أرسلنا من قبلك”. والآية تثبت أنّ الله تعالى قد أرسل قبل محمّد رسلا آخرين اصطفاهم بالوحي[5]. فإذا جئنا إلى الجزء الثّاني من الآية، وجدنا أنّها تتوجّه بالخطاب إلى مشركي مكّة. وهذا ما يثبته الطّبرسي إذ يبيّن أنّ قوله تعالى: “فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون” “يخاطب مشركي مكّة وذلك أنّهم كانوا يصدّقون اليهود والنّصارى فيما كانوا يخبرون به من كتبهم”[6].
ويبيّن لنا أبو جرير الطّبري سبب مخاطبة الله مشركي مكّة، فيقول: “لمّا بعث الله محمّدا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمّد”[7]. وقد ذهب الرّازي المذهب نفسه، فهو يرى أنّ الآية تشير إلى إحدى شبهات النّبوّة من منظور المشركين فقال: “الشّبهة الخامسة لمنكري النّبوّة كانوا يقولون: الله أعلى وأجلّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا لكان يبعث ملكا”[8].
من هنا نفهم أنّ الآية قد وردت في مقام حجاج مع من ينكر نبوّة الرسول محمّد مستدلاّ بأنّ الله تعالى ما كان ليختار مجرّد بشر لاصطفائه بالرّسالة. وهي تريد أن تثبت لمنكري هذه النّبوّة أنّ سابقي محمّدا ممّن اصطفاهم الله تعالى بالوحي كانوا أيضا من البشر ولم يكونوا من الملائكة. وإذا كانت الآية تحيل على جدال تاريخيّ دقيق، فمَنْ أكثرُ قدرة من أهل الذّكر الّذين “قد قرؤوا الكتب من قبلهم: التّوراة والإنجيل، وغير ذلك من كتب الله التي أنزلها على عباده”[9]، حتّى يشهد أنّ سابقي الرّسول من الأنبياء هم بشر. وعبارة “أهل الذّكر” قد تخصّص فتحيل وفق بعض روايات الطّبري على “من أسلم من أهل التّوراة والإنجيل”[10]، وهي تحيل لدى الرّازي على أهل التّوراة فقط إذ “الذّكر هو التّوراة. والدّليل عليه قوله تعالى “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزّبور مِن بَعْدِ الذّكر” (الأنبياء/ 105)”[11]. والعبارة نفسها قد تعمّم إذ أشار صاحب مفاتيح الغيب إلى أنّ “أهل الذّكر” هم أيضا “أهل العلم بأخبار الماضين، إذ العالم بالشيء يكون ذاكراً له”[12].
هكذا نتبيّن أنّ ل”أهل الذّكر” مرجعا سياقيّا مخصوصا: إنّهم أولئك الّذين يعلمون، من خلال اطّلاعهم على الكتب السّابقة، بمجيء نبيّ ليس من “أهل السّماء”[13]، وهم بذلك قابلون لأن يتصدّوا لمنكري النّبوّة من قريش.
ممّا سبق، نفهم أنّ أهل الذّكر ليسوا بالضّرورة موضوع الصّراع التأويلي الّذي نلحظه هذه الأيّام بين بعض المسلمين. فليس أهل الذّكر من يعدّهم أهل السّنّة وأهل الشّيعة وأصحاب المذاهب جميعها، أهلَ ذكر إذا وافقوا مواقفهم وقراءاتهم، وينفون عنهم صفة أهل الذّكر إذا ما قدّموا قراءات مختلفة لهم. وواضح أيضا أنّ أهل الذّكر الّذين يطلب القرآن سؤالهم متّصلون بسياق ومقام إنكاري تاريخيّ مخصوص.
فإن قيل إن خصوص سبب النّزول لا يمنع إمكان القراءة العامّة للآية قلنا إنّنا لا ننفي ذلك ونرى من الجائز إخراج الآية من سياقها والحديث عن ضرورة سؤال أهل الذّكر أي أهل العلم في حال استعصاء الجواب وشحّ المعرفة. ورغم أنّ هذا الكلام يصبح من البديهيّات كقولك إنّ على الإنسان أن يشرب في حال العطش فإنّه لا بدّ في كلّ الأحوال من الوعي العميق بأنّ الذّكر والعلم نسبيّان إن من المنظور الزّماني أو من المنظور المكاني أو من المنظور الاعتباري التّعيينيّ. وهذا الوعي بنسبيّة القراءة البشريّة للنّصوص الدّينيّة شرط أساسيّ لفتح باب الاجتهاد والتّنوير بعيدا عن معارك الفرق والمذاهب وبعيدا عن الصّراع على امتلاك المعنى.
المراجع:
[1] انظر على سبيل المثال الشّروط الّتي وضعها جلال الدّين السّيوطي في الإتقان في علوم القرآن، بيروت، علم الكتب، (د-ت) ج1، ص145.
[2] “أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها” محمّد، 24.
[3] “إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماء” فاطر، 28.
[4] سنعود بإذن الله في مقالات أخرى إلى لفظي “العلم” و”التّدبّر” في القرآن ودلالاتهما الشّائعة والممكنة.
[5] سمة هؤلاء المرسلين أنّهم رجال. وكلمة رجال في هذا السياق قد تفيد المعنى الجندريّ أي إنّها قد تفيد الذّكور، وهذا المعنى يتلاءم مع الواقع التاريخي للأديان إذ أنّ الله تعالى لم يتّخذ من النّساء رسلا أو أنبياء. ولكن كلمة “رجال” يمكن أن تفيد معاني أخرى. والقرآن نفسه يستعمل كلمة رجال في ما هو سوى معناها الجندريّ إذ يقول الله تعالى: “وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق” (الحجّ، 27). وسنعود إلى قراءة لفظ: “رجال” في القرآن في مقال قادم.
[6] أبو الفضل بن الحسن الطّبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار المعرفة 1986، ج6، ص557.
[7] أبو جرير الطّبري، جامع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار الكتب العلميّة، ج-7 ص587.
[8] فخر الدّين الرّازي، مفاتيح الغيب، بيروت، دار الفكر 1985، مج 5، ج10، ص322.
[9] جامع البيان، ج7، ص 587.
[10] السّابق، الصّفحة نفسها.
[11] مفاتيح الغيب مج5 ج10، ص321.
[12] جامع البيان، ج7، ص578.
[13] السّابق، ص587.