فيض الألم في حياة الفلاسفة والشعراء

تكوين

يولد الانسان كتلة روحٍ وجسد… ولا يطول الأمر كثيراً لتتلاقى داخل ذاته ثنائية المعاناة النفسية والوجع الجسدي، فيمضي في هذه الحياة المكتوبة له، قصيرةً كانت أم مديدة، حاملاً على كتفه ثقل ما تضمره له الأيام الآتية من ألمٍ لا مفرّ منه. ومن هذا الألم الملتصق بمصيره، تنبثق إرادته للانعتاق بحثاً عن سعادةٍ ما، في مكانٍ ما، وفي زمانٍ لا يعود له اختيار توقيته. ولا شكّ في انّ الفلسفة، منذ بداياتها، طرحت مسألة الألم ضمن إشكالياتٍ متعدّدة ومفاهيم فلسفية خاصة. ومن الفلاسفة من عاش الألم وتعايش معه، فوُسمت حياته به، ومن الشعراء كذلك من خاض تجارب مماثلة أوصلتهم إلى حدّ الابداع.

وممّن أفاض الألم في ذواتهم، فأعلنوا عنه جهاراً، أو حاولوا إخفاءه خلف الأقنعة، إخترنا عدداً من الكبار في الفلسفة والشعر.

أولاً: في الفلسفة الاغريقية

  بثيابٍ رثّةٍ بالية، جال سقراط (470-399 ق.م.) في شوارع أثينا، تغمره سعادة لقاء المتعطّشين للمعرفة والاصغاء إلى خفايا الذات لتلمّس الفضيلة ومحاولة تجسيدها في العلاقات المجتمعية… فاصطدم باتهامه بإفساد العقول وازدراء الآلهة، وتألّم حتماً لأنه علّم الخير ووجه بالشرّ! إلاّ أنه، وبرضوخه الطوعيّ للحكم عليه بالاعدام، حوّل ألمه إلى عبرةٍ فلسفيةٍ لكلّ الأجيال الآتية من بعده. وكانت صلابته المتميّزة خلال دقائق حياته الأخيرة قبل تجرّع السمّ، وكما وصفها أفلاطون بتفاصيلها في كتاب “فاذن” Phédon ذات قصديةٍ أخلاقيةٍ واضحة: أموت، وأُلقي بالسمّ داخل جسدي، وأحوّل آلامي إلى سعادة تلقين الآخرين كيف يرحل الكبار، ليخلّدوا مبادئهم الكبيرة.

أمّا عند أفلاطون (428-347 ق.م.)، فتبرز إشكاليّتان أساسيّتان تخصّان الألم: ألمه الذاتيّ، وتوصيفه آلام الآخرين. فقد تألّم أفلاطون لفقدانه أستاذه ومثاله الأعلى سقراط، وحملته معاناته إلى الهروب والتنقّل بين مدينتيّ ميغارا وقورينا، وزار مصر وإيطاليا، ووقع ضحيّة استعباد دنيس الأول، ملك جزيرة صقلّية. ولدى تحرّره، عايش ألماً آخر تمثّل في صدماتٍ متتالية إزاء محاولاته ممارسة السياسة التي دخل في أغوارها، ووقع في مطبّاتها، وخرج منهزماً. فحاول التعويض عن هزيمته بمؤلّفَيه “الجمهورية” و “النواميس”.

صحيح أنّ من يقرأ حوارات أفلاطون، حيث تنساب التعابير والردود، والردود المضادّة، بسلاسةٍ مطلقة، ومن كان يستمع إلى محاضراته في أكاديميّته، يرى فيه الفيلسوف الذي ابتدع عالم المُثُل، فلا بدّ أن يكون سعيداً بعطاءاته هذه. إلاّ انّ الألم الذي تغلغل في داخله، تارةً في شكلٍ علنيّ وطوراً في شكلٍ خفيّ، ما لبث أن تظهّر في “أسطورة الكهف” في الجزء السابع من كتاب “الجمهورية”، حيث أراد أن يُطفئ ظلمة الجهل المسيطرة على عقول سجناء الظلال، بتفكيك قيودهم الجسدية والنفسية لينفتحوا مع الفيلسوف المنقذ (سقراط) على عالم الحقيقة المطلقة. وفي التحرّر من القيد، خروج من حالة عدم الابصار الحقيقي والرؤية السليمة، نحو اندهاشٍ، فرفضٍ أوّلي، فقبولٍ تدريجيّ لعالم الحقائق، فألمٍ أقلّ وفسحة أمل لم يملكوها يوماً.

 

ثانياً: في الشعر والأدب الأوروبي في القرن التاسع عشر

من أعظم الشعراء والنقّاد الفنّيين الفرنسيين شارل بودلير (1821-1867)، لم يعرف الهناء والسكينة منذ طفولته، وحتى ارتحاله عن الدنيا. عاش ألم فقدان الأب، ثمّ فقدان حنان الأمّ رغم وجودها، ولاقترانها بضابطٍ فرنسيّ كان يكنّ له الكره.

هو العبقريّ في الشعر، وفي استنباط الصور واستحضار مستمرّ لعصفٍ من المشاعر والأفكار الممتزجة بالكآبة والغضب، حيث تصطدم رهافة الشاعر بجفاف الواقع، وبوحدة الانسان الموحشة، كما عبّر عن ذلك خصوصاً في ديوانه الشعري “أزهار الشرّ” الذي تعرّض لسيلٍ من المقالات النقدية اللاذعة، وحمله إلى قاعات المحاكم.

هو الذي ناجى الألم المتربّص بالحياة، قائلاً في قصيدة “العدوّ”:

“أيّها الألم إنّ الزمن يُبلي الحياة

والعدوّ الغامض الذي ينهش قلوبنا،

على دمنا المسفوح ينمو ويقوى.”1

وهو الذي تسلّل التشاؤم إلى حنايا قلبه، فاستجمع مصطلحات المقابر والمدافن والأناشيد الجنائزية، مبدعاً في قصيدة “الشؤم” حيث كتب:

“أكثر من جوهرة ترقد مكفّنةً بالظلام والنسيان

لا تدركها فأس ولا يصل إليها مسبار

وأكثر من زهرة تريق عطورها المنعشة

في الخفاء على الأماكن الموحشة.”2

وهو الذي حدت به أوجاع تفاصيل حياته كلّها إلى ثورةٍ شعريةٍ جمالية غير مرتهنة لا لدينٍ ولا لعرفٍ ولا لتقليد، حتى اتّهم بحياة الصخب والتحرّر المطلق قولاً وفعلاً… فكانت “أنشودة الحسناء” التي اختتمها كما يلي:

“أيّها الملاك – أيّتها المرأة الفاتنة

أيّتها الجنّية المخملية العينَين

أيّها الايقاع – والعطر والبريق

يا مليكتي الوحيدة ليت يديك

تجعلان العالم أقلّ بشاعة

والثواني أقلّ ثقلاً.”3

شاعر “شواطئ الموت”، و “أحزان القمر”.. شاعر الانسان الذي ينقلب “وحشاً ضارياً”، شاعر الأروقة المفتوحة “على الآفاق المجهولة”.. والدموع التي رآها تُضفي “السحر على وجه المرأة”.. شاعر السماء التي وصّفها كهفاً “جدرانه خانقة”.

عاش بودلير وحيداً ورحل وحيداً.. وبين البداية والنهاية، تآكله الألم، فانبثقت منه عصارة إبداعاته الشعرية.

 

وفي الحقبة ذاتها، برز الروائيّ والفيلسوف وكاتب القصص الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881)، ليعيش الألم فيلهمه في كلّ ما كتب. فقد عرف النفي والاعتقال، وعانى من مرض الصرْع.. فقد والدته خلال فترة مراهقته، وقُتل والده، فاغتمره ألم الحياة.

ذاك الولد النحيف والمتهوّر والعنيد، ذاك الشاب الانطوائيّ والرومانسيّ.. تأثّر بكلّ تفصيلٍ مرّ في حياته. وكان يوجعه جداً أن يرى المرضى الفقراء المتألّمين في المستشفى الذي كان يقع بالقرب من منزل العائلة. تزوّج مرّتَين، وكان دوماً في حالة عدم استقرارٍ عاطفي. أدمن القمار وأفلس مراراً، وخطف الموت منه ابنته وابنه صغاراً. ومن موت الأطفال الذي حفر فيه عميقاً، لا سيّما في زمن الحروب، قال في كتاب “الفقراء”: يا إلهي لماذا يموت الأطفال؟ لماذا لا ترفعهم إلى السماء مؤقّتاً ريثما تنتهي الحرب، ثمّ تعيدهم إلى بيوتهم آمنين. وحين يسألهم الأهل محتارين: “أين كنتم؟” يقولون مرحين: “كنا نلعب مع الغيوم”.

وفي الكتاب ذاته، وصف “الهمّ والحزن وخيبة الألم”4 لدى شخصية الوالد، والمرض العضال الذي أتلف جسد الوالدة وروحها مستنزفاً كلّ قواها.. “ظلّ المرض ينخر جسمها، مثلما تفعل الدود، ويقودها حتماً نحو القبر. ظلّ كلّ ذلك مكشوفاً لعيني: أراه، وأشعر به، ولكم كان مؤلماً!”5 هو هذا الألم الذي جعله يلج عالم الكتابة المنعقدة على خيبات مراحل حياته كلّها، فرسم أبطال رواياته وكأنهم يرتدون لباس المعاناة، ويحتضرون بصمتٍ قاتلٍ بين السطور وخلف معاني الكلمات، فيبرز وهنهم الجسدي والنفسي في آن، وتثقل ضمائرهم إنفعالات الندم على سوء أفعالهم، كما في “الجريمة والعقاب”، ويحقدون على العالم كما في “الأبله”. وإذ رأى أنّ عذاب الكبار يمكن تصوّره وتحمّله، فقد أبى أن يتقبّل عذاب الأطفال الأبرياء أو رؤية دموعهم، فلم يرَ في الأمر أيّ مسوّغٍ وأيّ منطق، كما في “الاخوة كارامازوف”.

وفي “الجريمة والعقاب” كذلك، وعندما قتل راسكولنيكوف المرابية العجوز الشريرة كما وصفها، وذهب إلى الشرطة ليسلّم نفسه، لم يعترف بأنه ارتكب جريمة، لأنه أنقذ الناس من شرّها. ما كان يعذّبه هو كبرياؤه المجروحة حيث لم يستطع أن يكون ضمن الفئة العليا من البشر.

والملفت في شخصيات دوستويفسكي أنهم عاشوا الشقاء بكلّيانيّتهم، بدون أيّ نفحة ادّعاء أو تظاهر أو مبالغة، تماماً كما فعل هو خلال حياته. وهو لم ينسَ مطلقاً ألم النضال في سبيل قضيةٍ نبيلة، والذي يجلب للمناضل، في رأيه، روح شرّ الآخرين، بدلاً من روح التعاطف للأسف.

تألّم دوستويفسكي، وترجم ألمه في مؤلّفاته، متمنّياً في “المقامر” أن يُبعث بعثاً جديداً، وأن يحيا حياةً جديدة. وبقي طوال حياته على اعتقاده الحازم أنّ الأفكار إنّما تنشأ من الألم، لا بل إنّ الآلام تنادي الأفكار.. فإذا كان الانسان سعيداً، فهذا يعني أنه لم يفكّر قط!!

 

ثالثاً: أبو العلاء المعرّي (973-1057): تجربة الألم المرّ

كثيرون من الشعراء والفلاسفة العرب عرفوا الألم، لكنّ تسلّل هذا الألم إلى كلّ مفصلٍ من مفاصل حياة أبي العلاء المعرّي، جعلنا نختاره دون سواه للتعمّق في تأثير هذه التجربة المريرة على حياته وأبيات شعره.

فقد أصابه مرض الجدري وكان لم يزل طفلاً في الثالثة من عمره، ففقد عينه اليسرى، وغطّت عينه اليمنى غشاوة بيضاء، فنشأ ضريراً، كسير الجناح. وتوالت صفعات الحياة لتحرمه من والده في الرابعة عشرة من عمره، وليُفجع برحيل والدته بعد عامَين، الأمر الذي جعله متشائماً، ساخطاً على الدنيا، لا يرى فيها سوى الشرّ المستطير، المتغلّب دوماً على الخير:

“قد فاضت الدنيا بأدناسها     على براياها وأجناسها

وكلّ حيّ بها ظالم             وما بها أظلم من ناسها”6

ولم يرَ في الانسان كذلك سوى كائنٍ مجبولٍ بالشرّ والفساد، يغتذي من الحقد والكذب والطمع، في حياته الشخصية والاجتماعية والسياسية:

“فجبلة الناس الفساد وقل من        يسمو بحكمته إلى تهذيبها

والطبع في كلّ جيل طبع ملأمة   وليس في الطبع مجبول على الكرم

الشرّ في الجد القديم غريزة        في كلّ نفسٍ منه عرق ضارب.”7

وبلغ تشاؤمه حدّ قوله: “إنما أنا حيّ كالميت، أو ميت كالحيّ.”8

تخيّل المعرّي، في تفكّره الفلسفي، مجتمعاً قائماً على المُثّل العليا، بعيداً عن المصالح والتزلّف والرياء.. فيما اصطدم، في واقعه وعزلته بسيلٍ من المصائب والآلام، دفعته إلى اعتبار الموت خيراً من الحياة. ولم يصبّره على طريق حياته الموحشة سوى إيمانه بالله حيث تماهت العقلانية مع الوجدانية، في ظلّ اضطرابٍ مستفحلٍ داخل ذاته. وقد أوصى سجين العمى والعزلة والقلق أن يُكتب على قبره:

“هذا جناه أبي عليّ        وما جنيْت على أحد.”9

 

خاتمة

  في نظرةٍ شاملة على حياة غالبية العظماء من المفكّرين والكتّاب والفلاسفة والشعراء والفنّانين… نجد الألم متربّصاً بذواتهم، يخترق قلوبهم، يستحضر تفاصيل حياتهم، فتفيض معاناتهم ليبلغوا معها درجةً إبداعيةً عالية، وتُحفر أسماؤهم في تاريخ هذا الابداع.

وفي المقابل، لا يمكن ولا ينبغي أن نغفل عن الشعوب التي تتألّم، كباراً وصغاراً، نتيجة صراعاتٍ وصداماتٍ وحروبٍ قائمة على المصالح السلطوية، وعلى اللاإنسانية المفتعلة بقسوةٍ جارحة. وبينما أراد دوستويفسكي أن يرسل الأطفال ليلعبوا مع الغيوم في زمن الحروب.. فإننا نرى الحكّام في منطقتنا وفي العالم اليوم يحرقون الأطفال مع ألعابهم، فيما الغيوم تمطر دمعاتٍ لاهبة على أجسادهم القابعة في برودة الموت.

  أيّ ألمٍ أقسى من هذا الألم؟!

 

المراجع:

] 1 [ – بودلير، أزهار الشرّ، ترجمة حنّا الطيار وجورجيت الطيار، al-hakkak.fr.

]2[ – المرجع نفسه.

]3[ – المرجع نفسه.

]4[ – دوستويفسكي، الفقراء، ترجمة أحمد الويزي، بيروت، لبنان، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2015، ص. 40.

]5[ – المرجع نفسه، ص. 44.

]6[ – جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1981، ص. 291.

]7[ – المرجع نفسه، ص. 293.

]8[ – المرجع نفسه، ص. 295.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete