في التأسيس لثقافة التعايش

عن كتاب (التحول الكبير: بداية تقاليدنا الدينية) لـ "كارين آرمسترونغ"

تكوين

كانت “جينفير مايكل هيكت Jennifer Michael Hecht” صاحبة الكتاب الشيّق والمُمتع (تاريخ الشك Doubt: A History)[1]، قد وصفت “كارين آرمسترونغ Karen Armstrong” بأنها مؤرخة بارعة للأديان. فهي إذ تستحضر تاريخ التطوّر الديني للشعوب المختلفة، فإنها  تعمل على سرد ذلك التاريخ الفكري بطريقةٍ أدبية بارعة ليكون أكثر قابلية للنفاذ إلى عقول القرّاء وقلوبهم أيضاً. وكأن التأسيس لثقافة التعايش بين الحضارات والأديان بحاجةٍ من ثمَّ إلى رسوخ وجداني بقدر ما هي بحاجةٍ إلى رسوخ معرفي كذلك.

ويقيناً، ستظهر براعة “كارين آرمسترونغ” الأدبية والمعرفية على السواء، في أكثر من كتاب من كتبها [تُرجمت كثير من كتبها للعربية][2] وأحدها هو كتاب: (التحول الكبير: بداية تقاليدنا الدينية The Great Transformation: The Beginning of Our Religious Tradition) الذي نتناوله بالتفصيل ها هنا. فمن جهة ستسرد “كارين آرمسترونغ” في هذا الكتاب التاريخ الديني للعديد من الديانات القديمة، لا سيما في المنطقة الهندية والأراضي الصينية ومنطقة الشرق الأوسط واليونان؛ سرداً مشوّقاً من الناحية الأدبية ومفيداً من الناحية المعرفية. وفي المحصلة سيندرج هذا السرد تحت باب التأريخ لما حدث في زمن سابق، وسيكون بمقدور أيّ كان، أعني أي مُشتغل بالبحث والدَّرس العلمي، أنْ يفعله ويُنجزه إذا ما بذل بعض الجهد في تجميع وتبويب وفرز المراجع والخروج منها بما يتلاءم وغرضه البحثي. لكنها، أي كارين آرمسترونغ، من جهة ثانية ستتجاوز هذا السرد بصيغته التأريخية أو التوثيقية، والانتقال من مرحلة إبصاره إلى مرحلة استبصاره والكشف عن الإمكان الإنساني العميق الذي تنطوي عليه تقاليدنا الدينية الأصلية التي كان قد أسَّس لها أسلافنا القدامى. هذا الانتقال من الإبصار إلى الاستبصار، أو الانتقال من مرحلة التأريخ والتوثيق لهذا الإرث العظيم التي يمكن أن يُنجزها أي باحث إلى مرحلة تبصّر الكنز المدفون وسط ركام ذلك الإرث، لا يتأتّ إلا للقلّة في العالَم، ففعل الاستبصار هنا فعل تجاوزي ليس للبحث وغرضيته المعرفية فحسب، بل وللحدود الفاصلة والقاتلة بين بني البشر أيضاً! فكارين آرمسترونغ تبحث بصبرٍ وأناةٍ، وتُنقِّب عما هو كامن في أعماق تلك التقاليد، من إمكانٍ تصالحي خَيِّر، يمكن التأسيس عليه لإنقاذ عالمنا المعاصر الذي يرزح تحت وطأة كراهيات قاتلة ومميتة.

مرحلة السرد والتأريخ والتوثيق والإبصار، يمكن اختصارها بالعنوان الفرعي للكتابThe Beginning of Our Religious Tradition، أي بداية تقاليدنا الدينية. أما مرحلة الاستبصار والكشف والتنقيب عن الإمكان الإنساني في التقاليد الدينية، أمكن اختصارها بالعنوان الرئيسي للكتاب The Great Transformation، أي التحوّل الكبير، الذي يمكن أن يُشكّل حالة الإنقاذ المنشودة. أيَّ أن الفكرة الإنقاذية والأعمق تكمن في النتائج أو في الخلاصات التي وضعتها كارين آرمسترونغ بإزاء البشرية، لكن لم يكن لهذا الفكرة أو الخلاصة أن تتبلور في ذهن الكاتبة لولا التوافر على كمٍّ هائل من الملاحظات والتواريخ والأرشيفات والبيانات والتجارب والقصص والحكايات.

إذاً، رغم أنَّ الحيز الأكبر في الكتاب هو لمرحلة السرد والتأريخ والتوثيق والإبصار، والحيز الأصغر هو لمرحلة الاستبصار وتقديم رؤية إنقاذية للعالَم؛ إلا أنّ أهمية الكتاب الحقيقية تكمن في حيزه الأصغر، لما ينطوي عليه من خير كبير يهمّ الإنسانية جمعاء، لا سيما في ظروفها الحالية حيث تفتك بها فواجع وحروب أليمة ومميتة. ففي ظلّ سطوة عمليات فرز قاسية ومؤلمة يقوم بها أتباع كثير من الديانات بحقّ كل من يختلف معهم ولا يتفق مع مُنطلقاتهم ومآلاتهم؛ فإنَّ “كارين آرمسترونغ” تنزل إلى أعماق البئر الديني الإنساني، وتنشل منه ماءً عذباً –بعد أن تكون قد كشفت عن عِرقه الأنقى- وتضعه بإزاء العطاشى من كل الأجناس.

بداية تذهب الكاتبة إلى الفيلسوف الألماني “كارل ياسبرس Karl Jaspers”[3] وتستعير منه مصطلح “العصر المحوري” لتؤسِّس عليه مفاهيميتها حول التحوّل الكبير. وستكون عبقرية هذا العصر المحوري في قدرة تعاليمه على الانتقال أو العبور من الزمن الماضي إلى زماننا الحاضر، نظراً للحمولة الإنسانية الكبيرة التي تنطوي عليها تعاليم العصر المحوري، فهي تعاليم أبدية وتصلح لكل الأزمنة. “فمن نحو عام 900 إلى 200 ق.ب، وفي أربع مناطق مميزة ظهرت إلى الوجود التراثات العالمية العظيمة التي استمرت في تغذية البشرية؛ الكونفوشيوسية والداوية[4] Daoism في الصين، والهندوسية والبوذية في الهند، والوحدانية في إسرائيل، والعقلانية الفلسفية في اليونان. هذه الفترة كانت فترة بوذا، وسقراط، وكنفوشيوس، وإرميا، ومتصوفو الأبانيشاد، ومينسيوس Mencius، ويوربيديس. فخلال هذه الفترة من الإبداع المركّز كانت هذه العبقريات الفلسفية والروحية رواداً لنوع جديد كلياً من التجربة البشرية. لقد عمل العديد منهم دون أن يُعرَفوا، بينما أصبح آخرون نجوماً ساطعة بإمكانهم أن يملؤونا بالإحساس، لأنهم يبينون لنا ما الذي ينبغي أن يكون عليه أي كائن بشري”.[5]

فعند تلك النقطة الفارقة بدأت تظهر ملامح التحوّل الكبير، بحسب تعبير كارين آرمسترونغ، حيث تمركز العصر المحوري على أيدي أشخاص عِظام، ساهموا بشكلٍ حقيقي في نقل الأطر القومية التي تموقعت فيها أديانهم، إلى أفقٍ إنساني شامل، إذ ضمنوها ما هو أعم وأشمل من جغرافياتهم وتواريخهم الخاصة بهم، وإبقائها ضمن تلك الأُطر ظلم لها؛ فهي تنطوي على بُعدٍ عابر للأذهان والأزمان، أي لديها القدرة أن تنتقل نقلتين كبيرتين: نقلة أولى من القومية إلى الإنسانية؛ أو من كونها خاصة بجغرافية بعينها وأناس بعينهم إلى جميع سُكَّان الكوكب، وفي أي مكان تواجدوا فيه. ونقلة ثانية من الزمن الذي وُلِدَتْ فيه تعاليمهم إلى زمن أبدي، أي الانتقال بها من التاريخ المُنتهي الصلاحية إلى الأبد الباقي.

فـ “لم يكن حكماء عصر المحور مهتمين بتزويد مريديهم بنقلة أعلى قليلاً، والتي بعدها يمكنهم العودة بقوة متجددة إلى حيواتهم العادية المتمحورة حول ذواتهم. بل كانت غايتهم هي خلق نوع مختلف من الكائن البشري. لقد بشر جميع الحكماء بروحانية الشعور بما يشعره الآخر، والرحمة. لقد أكدوا على أنه ينبغي على البشر أن يتخلوا عن نزعة الأنانية، وعن الجشع، وعن عنفهم، وعن قسوتهم. لم يكن خطأ أن تقتل إنساناً آخر وحسب، بل عليك ألا تنطق كلمة أو تبدي حركة تغيظه. زد على ذلك، أدرك جميع حكماء عصر المحور تقريباً أنه يتوجب ألا يقتصر تسامحك على أناسك، بل يجب أن يتسع اهتمامك بحيث يشمل العالم كله”.[6]

من هنا، يمكن استشراف الإمكان العابر لهذا العصر المحوري، فالقيم التي يحملها من الأهمية بمكان في التأسيس لاجتماع إنساني جديد. أي يُمكن أن نُعيد النقطة المركزية لذلك العصر المحوري بما هي نقطة: 1- تشاركية بين بني البشر وليست أحادية يستأثر بها أحد على حساب الآخرين. 2- تفاعلية تسير في نطاق أفقي وليست قهرية تنزل من أعلى بما يفصل البشر عن بعضهم البعض، ويجعل من بعضهم فوق بعض. 3- تصالحية تنتصر للاختلافات المُثمرة وتحدّ من غلواء الخِلافات المُدمّرة. وفي الأخير 4- إنسانية تشمل البشر جميعاً. فـ “عندما بدأ العصر المحوري، حاول جميع الفلاسفة والأنبياء والمتصوفون مواجهة وحشية وعدوانية عصرهم من خلال الترويج لروحانية قائمة على اللاعنف”[7]

لكن هذا العصر المحوري الذي انطوى على تحوّلٍ كبير لم يتأتَّ من فراغ، بل ساهمت التقاليد الدينية العنيفة التي اضطلعت بها الشعوب المحورية كما اسمتها “كارين آرمسترونغ”، في الدفع قدما ناحية تجاوز هذه التقاليد العنيفة والتأسيس لحالةٍ روحانية تسعى إلى السلام والمحبة. وكما أشرتُ سابقاً فقد عنت آرمسترونغ بالشعوب المحورية تلك التي عاشت في مناطق السهول المتاخمة للحدود الروسية والصين والهند واليونان والشرق الأوسط. أي أنَّ العنف لم يُولِّد عنفاً، بل تمَّ تفريغه من حمولته المُدمّرة وطاقاته السلبية على أيدي أشخاص عِظام، وتمَّ التأسيس لأخوة إنسانية تقوم على الحب والسلام. “فبعد أن استقر الآريون في السهوب تصاعد العنف. وقد نشأت جماعات منهم تحترف السرقة والنهب الذين عرفوا باسم سارقي المواشي. وكان بطلهم إله اسمه Indra، فـ “لقد غدا إندرا الأنموذج الذي كان يطمح إليه الغزاة… وعندما كانوا يحاربون، ويقتلون، ويسرقون رعاة البقر الآريين، كانوا يشعرون أنهم متحدين مع إندرا، الإله العدواني الذي أرسى استقرار العالم بقوة السلاح”.[8] من وسط هذا الركام الكريه صعد شخص اسمه “زرادشت”[9]، لم يكن راضياً عن غزوات سارقي المواشي. سيساهم مساهمة حقيقية في إنتاج العصر المحوري، ولو بعد حين. أي أنه أوقف عجلة الكراهية، أو حدَّ من سُرعتها العالية، وأرسى جزءاً من تقاليد العصر المحوري، الذي ينتصر للحبّ أكثر من انتصاره للحرب.

بعد ذلك، أخذت جماعة من الآريين بالتوسّع، فهاجر قسم منهم إلى أن حطّت بهم الرحال أخيراً “في الأرض الخصبة في البنجاب بين روافد نهر Indus”[10] وقد رافق هذا الاستقرار تطوّر في التقاليد الدينية، من طقوس وشعائر وتعاليم أيضاً عرفت بتعاليم (الفيدا)[11]. أخذ البعض –لا سيما الشعراء- يرددها فيشعر بأنه ينتمي إلى عالم أرحب من العالم الذي يعيش فيه. “لقد وضع الشعراء أسساً للعصر المحوري الهندي. ففي هذا التاريخ المبكر جداً قاموا بجهد متعمد للمضي إلى ما وراء المعرفة الإمبريقية (العملية)، وعرفوا بالعقل الشعوري حقيقة أعمق وأكثر جوهرية. مع ذلك كان الشعراء يمثلون أقلية صغيرة من المجتمع الآري. فالمحاربون والغزاة كانوا يعيشون في عالم روحي مختلف كلياً…فبعد الانقلاب الشتوي كانوا يسرجون خيولهم وثيرانهم وينطلقون إلى البرية في دورة جديدة من الغارات ليجددوا ثروة الجماعة”[12]

ولم يكن الوضع مختلفاً في الصين الذي حكمته سلالة شانغ[13]. فقد “كان في دين شانغ وحشية وعنف”[14] وهذا ما استنكره موزي Mozi –أحد فلاسفة العصر المحوري- “فقد ثار بكل وضوح على القتل الطقوسي للخدم والأتباع العاثري الحظ”[15]

“أما الشرق الأوسط –في القرن الثاني عشر ق.م- كان غارقاً في محنة قضت على ممالك الإغريق والحثيين والمصريين، وغرقت المنطقة كلها في عصر مظلم… أما في اليونان فكانت مملكة ميسينا مفككة. شعوب يائسة مشتتة كانت تتجول في المنطقة بحثاً عن عمل وعن أمن”[16] ومن وسط هذا الظلام، “ظهرت خلال عصر الظلام؛ حضارة إغريقية جديدة نهضت من أنقاض ميسينا. واتحاد قبائل يسمى إسرائيل ظهر في تلال كنعان”[17]

وفي أعقاب سردٍ ممتع لتقاليد هذه الشعوب المحورية وسيرورة حيواتها التي أفضت لاحقاً إلى عصر محوري، تضيف “كارين آرمسترونغ”:

“لم يكن العصر المحوري قد بدأ بعد. جميع هذه التراثات كانت تتسم بمستوى عالٍ من القلق. فقبل تغير الحياة في السهوب من جراء عنف لصوص المواشي، كان الدين الآري مسالماً ولطيفاً، لكن الصدمة التي أحدثها هذا العنف غير المسبوق قد أجبر زرادشت أن يطور نظرة لا أدرية قطبية [هكذا]. وفي إسرائيل والهند أيضاً فإن انعدام الأمن، والصعوبات التي تبقي المجتمع في منطقة معادية جديدة، قد أدخلت صور العنف والعدوان في العقيدة، فالناس لا يستطيعون العيش إلى ما لا نهاية مع هذه الدرجة من التوتر. لقد علمهم الطقس أن ينظروا في الجحيم، ويدركوا أنه كان بالإمكان ان يصمدوا في وجه المحال وأن يعيشوا. في القرن التاسع [قبل الميلاد بطبيعة الحال]، الأغريق الشعب الرابع من الشعوب المحورية كانوا يبدؤون الخروج من عصرهم المظلم، وأظهرت تجربتهم كيف أن مسرحيات الطقوس ساعدت أناس العالم القديم أن يتعاملوا بإبداعية مع كارثة ويأس تاريخيين”[18]

إقرأ أيضاً: الأنسنة أفقا للتعايش الآمن من خلال أعمال محمد أركون

ثم ستأخذ دعوة “كارين آرمسترونغ” إلى ما اسمته التحوّل الكبير -بما هو تحوّل يتضمن في سيرورته على عصر محوري عابر للأزمان والأذهان- بعداً تأكيدياً في عناوين فصول كتابها، فبعد الحديث عن التقاليد الدينية التي مارستها شعوب العصر المحوري، ودورها الرئيسي في تشكيل بدايات هذا العصر، لا سيما في جابنها الديني وما انطوى عليه من ممارسات قربانية وطقوسية، ستكون بقية العناوين دالّة على فكرتها الأساسية، أعني فكرة التحوّل الكبير، ابتداء من الفصل الثالث المعنون بـ (إفراغ النفس من الأنانية 900- 800 ق.م)، وصولاً إلى الفصل العاشر (الطريق إلى الأمام)، الذي تركته بدون تأريخ كما في الفصول السابقة، لأنها ستنفتح فيه على أديان جديدة –من جهة- مثل المسيحية والإسلام، شكلّت حلقات في سلسلة العصر المحوري، وتبنّت خياراً يتجاوز ما يمكن أن تطرحه الذوات الأنانية والشخصيات القومية، إلى خيار تدعو إليه ذاتٍ مُطْلَقة لديها القدرة على تمثّل آلام وأحلام الإنسانية جمعاء. لهذا عمل الفلاسفة والحكماء المحوريون على تجاوز ذواتهم الأنانية أولاً وذواتهم القومية أو الدينية ثانياً، وصاروا إلى ذاتٍ كلّية أو مُطْلَقة، تتمثل البشر جميعاً، لاحقاً. ولغاية عبورهم إلى هذه الذات الكلية، “فقد وضع الحكماء المحوريون التخلي عن الأنانية، وروحانية الرحمة في قمة جدول أولوياتهم. بالنسبة لهم، الدين كان هو القاعدة الذهبية. لقد ركزوا على ما كان من المفترض أن يقوم به الناس؛ أن يتخلو عن جشعهم، ونزعة الأنانية، والحقد، والعنف. فما كانوا سوف يتجاوزون لبلوغه لم يكن مكاناً أو شخصاً يمكن تعريفه بسهولة، بل حالة من الجمال المطلق التي لا يمكن أن يتصورها الشخص غير المستنير، لنه لا يزال عالقاً في أحابيل مبدأ الأنا”.[19]

ومن جهة ثانية، ستنفتح “كارين آرمستورنغ” في كتابها على عصرنا الحالي بما هو عصر خلافات مُدمرة وحساسيات مفرطة وحدود مميتة، فما يحمله العصر المحوري من إمكان هائل على المحبّة والسلام يمكنه أن يساهم في إنقاذ كوكبنا وانتشال ساكنيه من هاوية الخلافات المدمرة والحساسيات المفرطة والحدود المميتة. فأولى بإنسان العصور الحديثة، مع كل ما حقّقه من تطوّر وتقدّم وووعي، أن يستفيد من إرث عريق.

فنحن “نعيش –وفقاً لكارين لآرمسترونغ- فترة خوف وألم كبيرين. إلا أن العصر المحوري قد علمنا أن نحتمل المعاناة كحقيقة لا مفر منها في الحياة البشرية. فقط عند تقبلنا لألمنا نستطيع أن نتعلم الإحساس بالآخرين. وفي أيامنا هذه، تغرقنا المزيد من صور المعاناة أكثر من أي جيل سابق: الحروب، والكوارث الطبيعية، والمجاعات، والفقر والأمراض الفتّاكة، تجتمع كل ليلة في غرف معيشتنا، فالحياة هي فعلاً معاناة. “من المغري أن ننسحب من هذا الرعب الكلي الحضور، وأن ننكر أنه ليس له علاقة بنا، وأن ننمي موقفاً إيجابياً عن عمد يستبعد ألم أي واحد ما عدا ألمنا. بَيْدَ أنَّ الحكماء المحوريين أكدوا ان هذا لم يكن خياراً. فالذين ينكرون معاناة الحياة ويدفنون رؤوسهم في الرمل مثل النعامة هم أشخاص زائفون. فما لم نسمح للأسى الذي يضغط على جميع الجوانب أن يغزو وعينا، لن نستطيع أن نبدأ مسعانا الروحي… بدلاً من الاستياء من هذه الحال، يخبرنا الحكماء المحوريون، أنه ينبغي علينا أن نتعامل معها كمناسبةٍ دينية، وبدلاً من السماح لألمنا أن يتقيح وينفجر في أشكال عنف وعدم تسامح، وكراهية، يجب علينا القيام بمحاولة بطولية كي نستخدمه بطريقة بناءة”[20]

إذاً، تعود “كارين آرمسترونغ” مؤرخة الأديان البارعة إلى زمنٍ سحيق، باحثة –مثل أنثروبولوجي حصيف ومُحبٍّ للحكمة- ومُنقبَّة عن نبع الماء الأصلي الذي يمكن أن يشرب منه عطاشى العصر الحديث، فينطفئ ظمأهم، ويصبحوا أكثر إنسانية، وأقل وحشية. تجد، أعني كارين آرمسترونغ، بعد بحث عميق ودقيق[21] في تقاليدنا الدينية التي أسَّس لها أشخاص استثنائيون، عِظام، عِرق ذلك النبع الأصلي، الذي يمكن أن ينقذنا الآن. فالأديان يمكنها أن تتحوَّل إلى حواضن جاذبة للتعايش السلمي[22]، وبَدَل أن يتحوّل أتباعها إلى قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه من يخالفونهم الرأي والمُعتقَد، يمكنهم أن يتحوّلوا إلى جسور واصلة بين أرواح معذّبة كثيرة وعديدة. لكن ذلك بحاجةٍ على الدوام –على اعتبار إمكانية عودة العنف في أي لحظة نظراً لتجذّره عميقاً في بنية الوعي البشري- إلى ذواتٍ جسورة تُدافع، حتى في أشد لحظات العنف شراسة وضراوة، عن الإمكان التراحمي، التواصلي، التشاركي، الذي تنطوي عليه تقاليدنا الدينية العريقة، تحديداً في عصورنا الحالية التي استشرى فيها العنف وأصبح ميزة من ميزات العصور الحديثة.[23]

فكتاب مثل كتاب (التحوَّل الكبير: بداية تقاليدنا الدينية) سيبقى كتاباً صالحاً للقراءة على الدَّوام، نظراً لفعاليته مرحلة ما بعد القراءة. فالمجال الحيوي الذي تتحرّك فيه المادة البحثية التي تشتغل عليها “كارين آرمسترونغ” مادة شاملة لجغرافيات واسعة وثقافات كبيرة. مع الإشارة أن “كارين آرمسترونغ” –كما هي عادتها في معظم كتبها- تبحث عن أبدع وأجمل ما في المادة التي تبحث فيها، بما يمنح كتاباتها –من ضمنها كتابها هذا- طابعاً نادراً، فهي ذاتها جزء من العصر المحوري الذي تحدَّثت عنه، ويمكن التأسيس على رؤيتها لتخليق سياقات أكثر رحمة بين بني البشر. فالعصر المحوري ذاته عصر عابر للأزمان والأذهان أيضاً، أي أنه غير خاصع لتراتب زمني، إذ لكي ننقذ عالمنا من مآسيه الحديثة، علينا أن نستحضر إرثنا العريق من تعاليم أدياننا وحضاراتنا القديمة، بل يمكن أن تكون كتابات العصر الحديث، بما هي كتابات تدعو إلى الحق والخير والجمال، جزءاً لا يتجزأ من إرث هذا العصر المحوري، فكتابات كارين آرمسترونغ أو كتابات بول ريكور أو كتابات فتحي المسكيني أو كتابات الدلاي لاما أو كتابات الدلاي لاما أو كتابات إدغار موران أو كتابات إبراهيم غرايبة وكتابات محمود درويش أو كتابات ميخائيل نعيمة أو كتابات جبران خليل جبران أو كتابات إمارتيا صن…إلخ، يمكن أن تتحوّل إلى طاقة هائلة تُضاف إلى الطاقات القديمة للعصر المحوري، شريطة أن يتم الاشتغال عليها والتأسيس لها، نشراً وتعميماً وتبيئة وتوطيناً ودرساً ومناقشة ومساجلة ومُحاججة، في الأذهان كما في الأعيان، وذلك بالتوافر على حواضن ترعى تلك الأفكار والأطاريح وتفعّل أنساقها، بطريقة تُفضي إلى نقلها من الأطر الفردية الخاصة بقلّة من الناس إلى سياقات جمعية تعني الكثير من الناس. ففي الأخير، ستبقى فكرة التعايش، التصالح، التشارك، التعاون، بين بني البشر، فكرة طوباوية يتم التغنِّي بمفاعيلها المعطوبة، مع كل حدث مأساوي أو حرب قاسية أم عمل دموي. فالإرث الخِلافي الهائل بين الأديان والحضارات، يمكن له أن يتفوق على أي ثقافة اختلافية، إذا لم يتم التأسيس، دون تأخير للحظة واحدة، الطويل والعميق لفكرة التعايش، بما هي لحظة حاسمة في تاريخنا البشري الذي تعرَّض ويتعرض وسيتعرض لنوبات كبيرة وعديدة من التوحّش والعنف، إذا لم يتم تعزيز فكرة التعايش، واعتبارها تجسيداً عملياً للقيم الإنسانية العليا؛ قيم: الحق والخير والجمال.

[1]  جينيفر مايكل هيكت، تاريخ الشك، ترجمة عماد شيحة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2014، العدد 2428. ولا أعرف إن كان قد ترجم لها كتب أخرى إلى العربية أم لا، رغم أهمية ما تكتب. فمن كتبها الأخرى كتاب: Stay: A History of suicide and the philosophies against it كذلك كتاب The Happiness myth: The historical antidote to what isn’t working today، وغيرها من الكتب الأخرى.

[2]  من كتبها التي ترجمت إلى اللغة العربية، كتاب (تاريخ الأسطورة، ترجمة وجيه قانصوه) وكتاب (الله والإنسان: على امتداد 4000 سنة من إبراهيم الخليل حتى العصر الحاضر، ترجمة ) وكتاب (الإسلام في مرآة الغرب: محاولة جديدة في هم الإسلام، ترجمة محمد الجورا) وكتاب (الحرب المقدّسة: الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم، ترجمة سامي الكعكي) وكتاب (معارك في سبيل الإله، ترجمة فاطمة نصر ومحمد عناني) وكتاب (تاريخ الكتاب المقدس، ترجمة محمد صفار)، وغيرها من الكتب التي أبدعت فيها أدبياً ومعرفياً، إذ تصلح كتاباتها لتكون جسراً واصلاً بين الشرق والغرب.

[3]  كارل ياسبرز، أحد أبرز الأسماء في الفلسفة الألمانية الحديثة، ولد سنة 1883 وتوفي سنة 1969. من كتبه التي ترجمت للعربية، كتاب (تاريخ الفلسفة بنظر عالمية، ترجمة عبد الفغار مكاوي) وكتاب (مدخل إلى الفسلفة، وله أكثر من ترجمة)، وغيرها من الكتب الأخرى.

[4]  تُعرف في العالم العربي أكثر بالطاوية، وأبرز أساتذتها الحكيم الصيني “لاو تسو” صاحب الكتاب القيّم (الطاو: إنجيل الحكمة الطاوية في الصين) وللكتاب عدّة ترجمات بالعربية، لكن من أكثر نفعاً ترجمة “فراس السواح” نظراً للدراسة الهامة التي أضافها للكتاب، وشرحت معالم هذه المدرسة العريقة.

[5]  كارين آرمسترونغ، التحوّل الكبير: بداية تقاليدنا الدينية، مرجع سابق، ص 11.

[6]  المرجع السابق، ص 27.

[7]  المرجع السابق، ص 23.

[8]  المرجع السابق، ص 28.

[9]  زرادشت: رجل دين فارسي، أسس الديانة الزرادشتية.

[10]  السابق، ص 34.

[11]  الفيدا: التعاليم المقدسة في الديانة الهندوسية.

[12]  السابق، ص 53.

[13]  سلالة شانغ: البيت الحاكم الأقدم في الصين (نحو 1600- 1027 ق.م). تعد شانغ السلالة الأولى التي تصل إلينا عن طريق سجلات مكتوبة، وعلى الخصوص في هيئة نقوش على عظام الكهانة والأواني الطقسية البرونزية. يمكن الرجوع إلى كتاب (الآثار التاريخية: حضارات – شعوب – أمم – معالم – مدن – عصور – علوم الآثار – حِرَف – لغات) من تأليف حسين فهد حماد.

[14]  السابق، ص 53.

[15]  السابق، ص 58.

[16]  السابق، ص 59.

[17]  السابق، ص 73.

[18]  السابق، ص 519.

[19]  السابق، ص ص 523- 524.

[20]  السابق، ص ص 524- 525.

[21]  من السهل جداً على أي باحث أو دارس أن يجد خلافات قاتلة ومدمرة في بنى الأديان، وهذا حال الأغلبية الكبرى منهم. لكن من الصعب أن تجد منهم من يبحث عن الاختلافات المُثمرة في تلك الأديان، وهذا حال الأقلية. وبرأيي أن الأمر يتجاوز حدود الاستطلاع ويصل إلى تخوم النوايا، نظراً لكثرة الخلافات وقلّة الاختلافات، في العموم.

[22]  هناك بعض النماذج التي اشتغلت على فكرة التعايش بين الأديان، مثل كتاب (الكفا: تاريخ الصراع بين عالم الميسحية وعالم الإسلام) لـ أندرو هويتكروفت. وكتاب (الحكمة القديمة والعالم الحديث) لـ الدلاي لاما. وكتاب (الذاكرة، التاريخ، النسيان) لـ بول ريكور. ورواية (السيد إبراهيم وأزهار القرآن) لـ إريك إيمانويل شميدت، وغيرها من الأطاريح التي عززت فكرة التعايش والوئام بين الأديان والحضارات الإنسانية على اختلافها.

[23]  طرح قريب من طرح كارين آرمسترونغ، كان قد طرحه “ولتر ستيس” في كتابه (التصوف والفلسفة)، إذ بحث عن المشتركات الكبرى بين الأديان، ويمكن أن تُساهم بشكل حقيقي في بلورة نسق إنساني خيِّر. وهو إضافة إلى الأطروحات التي سقتها في الهامش السابق، ويمكن إضافة الكثير عليها.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete