في الخواف من لقب الفيلسوف

أسئلة كثيرة تتعلق بوضع الفلسفة في العالم العربي الإسلامي درسا وكتابة ومنزلة في المجتمع، وسأحاول هنا، مناقشة مسألة أعتقد أنها على قدر كبير من الأهمية في سبيل تغيير النظرة إلى الفلسفة في المجتمع نحو الأفضل طبعا، يتعلق الأمر بسؤال: من هو الفيلسوف؟ وهل لدينا فلاسفة؟ ذلك أننا نلاحظ أن هناك “حرج” وتردد يصل درجة “الخواف” لدى الدارسين من إطلاق اسم “فيلسوف” على المشتغلين بالفلسفة عندنا في الفترة المعاصرة ، وفي مقابل هذا الإحجام أو التردد لا يجد هؤلاء الدارسين أي حرج في إطلاق لقب الفيلسوف على المشتغلين بالفلسفة الغربيين، دون النظر في مستوى أعمالهم ولا درجة إبداعهم، مما يوحي بما يمكن وصفه بعقدة نقص تجاه الآخر، وكذا غياب مفهوم الاعتراف في الساحة الفكرية العربية لاسيما في ميدان الفلسفة، وهي قضية انتبه لها بعض الباحثين العرب مؤخرا، على غرار الأستاذ مشير باسيل عون الذي نشر منذ أيام مقالا بعنوان: من هو الفيلسوف وهل يحتاج العالم إليه؟ (الأندبندنت العربية،31/01/2023) خلص فيه إلى أن “الإحجام عن منح لقب الفيلسوف في الأوساط الثقافية العربية يرتبط بأمرين متناقضين: الحقيقة المثالية التي تفرض على وعينا أن يكون الفيلسوف من أهل الإبداع الفريد، والحقيقة المخجلة التي تجعل كل أساتذة الفلسفة من أكسلهم إلى أنشطهم يرغبون في أن يدعوهم الناس بالفيلسوف”، مثلما ناقش هذه المسألة منذ بضع سنوات، الأستاذ محمد شوقي الزين بتفصيل مهم ضمن مقال وسمه بــــ: “اسم الفيلسوف عند العرب بين “أعلى العليين” و”أسفل السافلين”، (مؤمنون بلا حدود، 22/03/2018) أكد فيه أن الذهنية العربية “تقتل اسم الفيلسوف مرتين: عندما تخرجه من التاريخ بالشرط التعجيزي في استحقاق الاسم، وعندما ترمي به في قمامة التاريخ بوصفه المارد المارق”، وكلا الوضعين غير طبيعي ولا واقعي، لذلك يدعو شوقي الزين إلى ضرورة التحول من “ميتافيزيقا اللقب النخبوي” إلى “واقعية الاسم المهني”، بمعنى إرجاع الفيلسوف إلى مجاله التاريخي ووظائفه الواقعية والاجتماعية والحضارية، مثله في ذلك مثل المشتغلين بالتخصصات الأخرى؛ كالمؤرخ والطبيب والفيزيائي والقاص والروائي..الخ.

إذا أسقطنا طرف وضع الفيلسوف في “أسفل السافلين” في مقالة شوقي الزين، على اعتبار أن هذا المقام ليس للتفصيل فيه، إذ لا يعنينا هنا قول رافضي ومحرمي الاشتغال بالفلسفة، ولا متهمي الفلاسفة بالكفر والزندقة، كما لا تهمنا مبررات موقفهم، لأن غرضنا بعيد تماما عن هذا الطرح، فإننا سنكتفي بالنظر في الطرف الاول من التقابل ألا وهو وضع الفيلسوف في “أعلى العليين”، وهو وضع يمكننا حدسه في امتناع المشتغلين بالفلسفة عن إطلاق لقب الفيلسوف على قامات فلسفية مشهود لها بالتبحر والكفاءة والإبداع في ميدان الفلسفة، بل إن هذا الامتناع أو النفور امتد ليشمل هذه القامات نفسها، فلا أحد من متفلسفي العرب يكاد يجرؤ على تسمية نفسه أو غيره من أترابه بالفيلسوف، وهنا يطرح السؤال: لماذا هذا الخواف من إطلاق لقب الفيلسوف على المشتغلين بالفلسفة في الساحة العربية المعاصرة؟ أليسوا جديرين بهذا الاسم؟ وإذا كانوا كذلك، أي غير جديرين بهذا اللقب، فما الذي ينبغي أن يقوم به هؤلاء حتى يحصلوا هذا اللقب “المتمنع”؟ وكيف يمكن الوصول لوضع يسمح لنا بوصفهم بالفلاسفة دون تحفظ أو شعور بالحرج؟ ثم لماذا ابتدعنا في ثقافتنا كلمة “مفكر” لوصف أغلب المشتغلين بالفلسفة في السياق العربي الإسلامي بدل وصفهم بــ “الفلاسفة”؟ هل يستبطن ذلك أن “المفكر” أدنى مرتبة من الفيلسوف وأقل شأنا منه؟

سوف نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة تراجعيا، من الأخير إلى الأول؛ بداية، من الواضح أن كلمة “مفكر” تنطبق على المشتغل بالفلسفة مثلما تنطبق على المشتغل بغيرها من مجالات الفكر والثقافة، ومن ثم، فإطلاقها على المشتغل بالفلسفة فيه تعميم وتعويم يبعدنا عن الدقة المطلوبة، ينتج عن ذلك أن وصف المشتغل بالفلسفة بــ “المفكر” لا هو ينقص من قيمة الموصوف ولا هو يزيد منها، بل هو وصف عام لا هو بالدقيق ولا بالمفيد، وقد يبتذل حتى يصبح خال من المعنى، أما سؤال متطلبات المشتغل بالفلسفة حتى يلقب بالفيلسوف، فالعودة لتاريخ الفلسفة توضح لنا أن إطلاق لقب الفيلسوف على شخص ما ليس مشروطا بغزارة الإنتاج ولا ببناء نسق ولا بموسوعية الاطلاع ولا “بمعجزات” اختص بها دون غيره، ذلك أنه وجد في التاريخ فلاسفة لم يتركوا سوى شذرات أو مقالات قليلة، ومع ذلك استحقوا لقب الفلاسفة دون أي اعتراض.

من المهم أيضا التنبيه إلى “تاريخية” مفهوم “فيلسوف”، بمعنى تغير معناه ودلالاته عبر التاريخ، فما تعنيه الكلمة في المرحلة اليونانية (محب الحكمة) ليس مطابقا لما تعنيه في القرون الوسطى أين تداخل معناها مع ما تفيده كلمة “رجل دين”، والأمر نفسه يقال على الفترة الحديثة الذي ارتبط فيها لقب الفيلسوف بصاحب النسق الفلسفي المتسق، والمرحلة المعاصرة أين تحول الفيلسوف إلى محلل ومفكك للأنساق والمنظومات اللغوية والمنطقية، وإذا توقفنا في عصر التنوير مثلا، والذي يحدد بالقرن الثامن عشر فإننا نجد أن الكثير من التنويريين في أوروبا لم يكونوا فلاسفة بالاحتراف أو التكوين، ومع ذلك تناولوا مختلف القضايا السياسية والأخلاقية التي هي من صميم البحث الفلسفي، غير أن تناولهم كان نقديا وهو شرط رئيس في استحقاق لقب الفيلسوف.

الملاحظ الآن في المجتمعات الغربية والتي تتمتع فيها الفلسفة بمكانة مرموقة، أنها “لا تستنكف من منح لقب الفيلسوف لكل من تعاطى مهنة التفكير الفلسفي”(مشير باسيل عون)، وكثيرا ما يقدم الطلبة والباحثين المبتدئين المختصين المنتمين لميدان الفلسفة في وسائل الإعلام الغربية على أنهم فلاسفة ناهيك عمن لهم باع طويل في التأليف والتدريس في مجال الفلسفة، كما  أن الكثير ممن يطلق عليهم لقب الفيلسوف في المجتمعات الغربية ليسوا فلاسفة بالتكوين، بمعنى ليسوا خريجي أقسام الفلسفة ولا يملكون شهادات عليا في تخصص الفلسفة، ذلك أنه في ظل التقارب والتداخل بين التخصصات الانسانية والاجتماعية، نجد الكثير من المختصين في علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا أو علوم اللغة، وحتى بعض العلماء في الفيزياء والكيمياء والرياضيات يطلق عليهم لقب الفيلسوف دون أي حرج والأمثلة كثيرة (كلود ليفي ستروس، بيير بورديو، رولان بارت، ميشيل فوكو، توماس كوهن..الخ) وهذا إما لأن مقارباتهم لموضوعات اشتغالهم كانت ذات طابع نقدي، وبالتالي فلسفي، أو لأنهم وبحكم تقارب التخصصات وحاجتها لبعضها البعض يتداخل في دراساتهم ما هو نفسي أو اجتماعي أو لغوي بما هو فلسفي، دون أن يطرح ذلك أي إشكال أو حرج على مستوى التسمية. بل بالعكس، إن هؤلاء يقدمون خدمات جليلة في إثراء الدرس الفلسفي من خلال المناهج والمفاهيم والإشكاليات التي ينقلونها من تخصصاتهم الأصلية إلى ميدان الفلسفة، والأمثلة كثيرة في هذا السياق(مفهوم الأسطورة لدى ليفي ستروس، أو الرمز لدى بورديو أو العلم السوي والعلم الشاذ والباراديغم لدى توماس كوهن..الخ).

إذا عدنا للتاريخ العربي نلاحظ أن هذه المشكلة لم تطرح في الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية، إذ لا أحد يعترض على تسمية أمثال: ابن سينا أو الغزالي أو ابن رشد بالفلاسفة، في حين لو أطلقنا لقب الفيلسوف على عثمان أمين أو محمد أركون أو حسن حنفي أو غيرهم من العرب المعاصرين سنجد اعتراضات وامتعاضات وجدالات كثيرة، بل هناك من يقيم الدنيا ولا يقعدها، وكأننا خرقنا بهذه التسمية نواميس الكون، فنجد أنفسنا مطالبين بتبرير إطلاق هذا اللقب عليهم وإثبات استحقاقهم له قبل مناقشة أفكارهم وهو أمر عجيب غريب فعلا!! مفكرون قضى كل واحد منهم أزيد من نصف قرن في الاشتغال بالفلسفة درسا وتدريسا وتأليفا وإبداعا وتركوا عشرات الكتب والترجمات وناقشوا عشرات القضايا الفلسفية، ومع ذلك تجد من يعترض على إطلاق لقب الفيلسوف عليهم، وهو لا يبغي من ذلك إلا الانتقاص من قيمتهم وقيمة أعمالهم بكل تأكيد، وفاء منه –شعر بذلك أو لم يشعر-بعقدة النقص المرضية تجاه الآخر-الغربي- في حين يطلق هذا المعترض لقب الفيلسوف على أي مؤلف غربي مشتغل بالفلسفة، دون حاجة لتبرير ذلك الوصف ودون معرفة دقيقة بأعمال ذلك المؤلف في كثير من الأحيان.

يقول أحد الباحثين المشاركين في الكتاب الذي صدر مؤخرا بعنوان: موت الفلسفة(2023) “الفلاسفة العظماء كانوا بشرا فقط”، ثم يضيف: “النقطة المهمة هنا هي أن كل فيلسوف عظيم كان إنسانا يحاول اكتشاف الحياة من خلال ما نفعله بالضبط: القراءة والتفكير والملاحظة والكتابة”(موت الفلسفة، ص19) عبارة مفيدة جدا على بساطتها، إذ أنها تجنبنا تلك الخصوصية التي نفترض أنها صنو “الفيلسوف”، وتسمح لنا، بالتالي، أن نبعده عن كونه “نبيا”، أو “مخلصا” أو “شيطانا”، إنما هو شخص مثل غيره من المشتغلين بالمجالات الأخرى، مثل الأديب والفيزيائي والرياضي، ومثل الخباز والحداد والنجار أيضا..، لقب “فيلسوف” يدل على الاشتغال بموضوعات الفلسفة، وحسن توظيف أدواتها، مع حضور واضح للنقد الذي هو ميزة البحوث الفلسفية، “فالفيلسوف الحق إنسان جريء اكتسب مهارة التفكير النقدي الموضوعي البناء” (مشير عون)، ويتمايز المشتغلون في ذلك بين باحثين مبتدئين ومؤرخين ومبدعين..الخ، الأمر شبيه بإطلاقنا لكلمة “روائي” أو “فنان” أو “شاعر” دون حرج ولا “خواف”، أو “خباز” أو “نجار” أو غير ذلك، مع أن من نطلق عليهم لقب الروائيين، مثلا، تتفاضل أعمالهم وتتباين قيمتها من روائي لآخر، بل حتى لدى الروائي الواحد تجد التفاضل بين أعماله. والأمر نفسه يقال على التخصصات الأخرى. ويصدق أيضا على ما هو موجود في الفلسفة الغربية؛ دلك أن الفلاسفة الغربيون لا يمكن وضعهم في سلة واحدة فهناك تمايز وتفاضل بينهم سواء تعلق الأمر بكثرة الإنتاج أو درجة الإبداع أو قوة التأثير.

مما سبق يبدو أن الفكر العربي المعاصر بالغ في التعالي باسم الفيلسوف حتى امتنع من أن ينطبق على أحد، وهو لا يستحق كل هذا التعالي، ولا كل هذا الحذر والخواف، طبعا لا يعني ذلك ابتذاله وإطلاقه على أي كان، فهو اسم يدل على وظيفة واضحة هي الاشتغال بالفلسفة وموضوعاتها المختلفة أشكلة وتحليلا وتنظيرا وتبريرا ونقدا، ولأن كل وظيفة لها أدواتها الخاصة، فالفلسفة بدورها لها أدواتها الخاصة التي تتمثل في مفاهيمها ومناهجها وإشكالياتها وزوايا نظرها لمختلف الموضوعات، ولهذه الأدوات طرائق توظيف تختلف من مشتغل لآخر، وبفضل هذا الاختلاف تتباين رؤاهم ونتائجهم، والتفاضل بينها يكمن في قوة التأثير والإقناع التي يمكن أن تمارسها على القراء، ومن ثم فلا حرج ولا تطاول في إطلاق لقب الفيلسوف على من توفرت في نصوصهم هذا السمات مهما كانت جنسياتهم أو أصولهم، ومن المحجف حقا أن نمتنع عن إطلاق لقب الفيلسوف على أعلام الفلسفة في العالم العربي المعاصر الذين أثروا المكتبات بمئات الأعمال الفلسفية، فما الذي ينقص عبد الرحمن بدوي أو زكي نجيب محمود أو حسن حنفي أو محمد أركون أو محمد عزيز الحبابي أو أبو يعرب المرزوقي أو فتحي التريكي، والقائلة تطول، حتى يكونوا فلاسفة؟ وما الذي كان عليهم القيام به أكثر مما قاموا به فعلا حتى “نتكرم” عليهم بلقب “فيلسوف”.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete