في الهرمنيوطيقا الإسلامية: الجزء الثاني…حول مشكل التجديد الديني

تكوين

-1-

لا يزال سؤال التجديد مطروحاً في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر. صدمة الاحتكاك المبكرة بالحداثة الغربية كشفت عن حالة مزمنة من التراجع الحضاري، وفتحت النقاش على طبيعة النظام التراثي الديني السائد منذ قرون، ومدى حاجته إلى التطوير. بشكل عفوي، جرى التعبير عن هذه الحاجة بمصطلح ” الإصلاح”، وهو مصطلح عملي يشير إلى أهداف تغييرية ذات طابع جذري مباشر.

الآن، ومع تراجع الزخم المدني الناجم عن التمدد الأصولي، تتقلص هذه الأهداف من مستوى الحديث عن إصلاح ” موضوعي” شامل، إلى حديث “إجرائي” عن لغة “الخطاب الديني “. وهي صياغة مخففة، تكاد تبدو اعتذارية، لعملية التغيير، التي صارت تتهيب من مقاربة النظام التراثي، وتعكس حالة من التحسس السياسي المبالغ فيه خيال المضغوط الأصولية.

في المرحلة المبكرة ومع تصاعد الوعي بأزمة “الواقع” بدا واضحاً أن مطلب التجديد يعمل لحساب “النظام الاجتماعي” المتململ من هيمنة: “النظام الديني التراثي”، وجرى طرح المسألة بشكل صريح: النظام التراثي لم يعد قادراً على تقديم إشباع كاملً وسلس لحاجات النظام الاجتماعي، والنظام الاجتماعي لم يعد قادراً على تحمل الإكراهات التقليدية للنظام التراثي. الصورة الأوضح هنا ظهرت في نموذج “الدولة الوطنية “، الذي فرض نفسه بسهولة وهو يخترق النظام القديم من جانبه الأكثر هشاشة وهو الجانب السياسي.

لكن مطلب التجديد كان يحقق في الوقت نفسه مصلحة ضرورية للنظام التراثي، هي تخفيض الضغوط التي صار يتعرض لها بفعل حركة التطور. تاريخياً، وبحكم طبيعته الدوجمائية، لا يتنازل النظام الديني عن سلطته الملزمة داخل المجال العام، بل يضطر إلى هذا التنازل عملياً وبشكل تدريجي تحت الضغط، حيث يفرض “التجديد الاجتماعي” نفسه عليه بحكم الواقع. الجديد الاجتماعي – هنا- لا يطلب موافقة مسبقة من النظام التراثي، بل يواصل حضوره على أرض الواقع إلى جوار السلطة النظرية      ” المعطلة” للتراث. (راجع – مثلاً – التجاور القائم داخل المجتمعات “الإسلامية” بين أحكام الفقه التقليدي المتشددة، وأنظمة وسلوكيات اجتماعية واقتصادية مناقضة تتعلق بالاختلاط، والملابس، والأزياء والفنون، والموسيقى، والغناء، وعمل المرأة، والأقليات والبنوك).

-2-

التجديد الديني

بالنسبة إلى النظام الاجتماعي: التجديد عملية تغير طبيعي متواصلة تجرى بشكل دوري، وتهدف إلى إشباع حاجات المجتمع. وبالنسبة إلى النظام الديني: التجديد عملية نظرية قصدية، تجري بواسطة النظام الديني وعبر آلياته الداخلية، وتهدف إلى حماية هذا النظام ذاته من ضغوط التطور التي صارت تهدد سلطته الإلزامية.

بشكل رئيسي يعتمد النظام الديني في هذه العملية على آلية “التأويل” أي إعادة تفسير النص / التراث بحيث يمكن تكييفه مع المفاهيم الاجتماعية الجديدة، أو إعادة تفسير هذه المفاهيم بحيث يمكن تسكينها داخل النص/التراث.

التجديد الديني – إذن – عملية “تأويلية” تتضمن الإقرار من جانب النظام التراثي بواقعة التطور الاجتماعي، وبحاجته إلى إعادة التكيف معها. وتتضمن في الوقت نفسه الإقرار من قبل النظام الاجتماعي بحاجته إلى قرار رسمي صادر من النظام التراثي لشرعنة واقعة التجدد. هذه الحاجة الأخيرة تظل قائمة طالما لم يصل التطور في الهياكل الكلية (الاقتصادية / العقلية / الاجتماعية) إلى حد التحول الجذري، أي إلى الحد اللازم لإزاحة النظام التراثي بقوة الأمر المواقع.

النظام الديني والنظام الاجتماعي

-3-

بالاستقراء، يمر النظام الديني الكتابي بمراحل ثلاث:

  • مرحلة التأسيس: التي تشد ظهور المنطوق الأول للديانة.
  • مرحلة التدوين: وهي مرحلة تأسيس ثانية، تظل فيها بنية الديانة مفتوحة لاستقبال تراكمات إضافية تنظم إلى المنطوق الأصلي وتعيد تشكيله.
  • مرحلة التجميد: وهي المرحلة الأخيرة، حيث يجرى صب الديانة في صيغة نهائية مغلقة تقدم، عبر عدد من المدونات المذهبية، كمنظومة إلزامية مؤبدة في الزمن.

واقعياً، يتكون النظام الديني محملاً بخصائص الاجتماع السائد

في حقبة التأسيس، فهو في النهاية معطى اجتماعي زمني. لكن فيما يستمر النظام الاجتماعي في التطور يحكم قوانين العالم، يتم تجميد النظام الديني في مدونة ثابتة ومحصنة بفكرة المقدس. ولأن النظام الديني يصر على حكم النظام الاجتماعي، يصبح التناقض بين النظامين – عند نقطة ما ضروريًا.

هذا التناقض يظهر بشكل تدريجي: في المراحل المبكرة يبدأ طفيفاً، ومن ثم يمكن استيعابه من داخل آليات النظام الديني، ويظل كذلك طالما أن التحول الاجتماعي ظل قريباً من اجتماعيات التأسيس، أي لم يصل إلى نقطة التناقض الجذري معها. الوصول إلى هذه النقطة يؤشر على أن النظام الديني لم يعد يشبع الحاجات المباشرة للنظام الاجتماعي، والنظام الاجتماعي لم يعد يتقبل سلطة النظام الديني. هنا يصبح التناقض عصيًا على الاحتواء، ويتحول إلى صدام، وسلسلة من المواجهات تسفر تدريجياً عن “تراجع” النظام الديني. القانون الذي يحكم هذه الحالة هو قانون رفع التناقض. وهو مبدأ استقرائي من مبادئ الاجتماع الطبيعي: حركة الاجتماع تؤدى إلى ظهور تناقضات داخل العالم، لكن هذه التناقضات، عند نقطة بعينها، تتجه إلى التنافي بنزوع التناغم، الذي يسفر عن ظهور الجديد على حساب القديم (النموذج الكلى لديالكتك هيجل، الذي يمكن تقديمه بالمصطلح الإسلامي كسنة من السنن الإلهية).

في السياق التاريخي للتدين الكتابي، لم يحدث تطور جذري في هياكل الاجتماع الكلية قبل مراحل الحداثة، التي شهدت بزوغ العصر الصناعي، وتبلور الرأسمالية، ونتائج العلم التجريبي. طوال المراحل السابقة على الحداثة، كانت التطورات الكلية تنتمي إلى طبيعة الهياكل. القديمة ذاتها: البنى الاقتصادية ظلت في مجملها رعوية أو زراعية ريعية، والبنى الاجتماعية ظلت عشائرية قبلية وذات طابع شمولي، فيما ظلت البني العقلية تسليمية غيبية، أو نظرية تأملية أسيرة لتقاليد الفكر اليوناني السابق على التجربة.

الضغوط الحداثية التي فرضت التراجع على النظام الديني المسيحي في الغرب، لم تواجه المحيط الإسلامي بعد إلا بشكل “جزئي” يكفي لخلق حالة توتر، وليس لإحداث صدام تراجع صريح. يحدث التراجع إذن كرد فعل لقوة الضغط الاجتماعي ويتناسب معها طردياً وهو يمثل الآلية الوحيدة الممكنة لتغيير النظام الديني، الذي لا يقدم تنازلات طوعية على مستوى السلطة، أو تعديلات جوهرية على مستوى النص بعد دخوله في مرحلة التجميد. ومن هذه الزاوية يمكن تكييف المقاربات التجديدية الراهنة في السياق الإسلامي كتراجع “جزئي”، أو كموقف دفاعي استباقي تحركه غريزة البقاء.

بالفعل تبدو العلاقة معقدة بين الدين والاجتماع؛ فالنظام الديني في الواقع جزء من التاريخ الاجتماعي، وبالتالي فالتغيير الديني في نهاية التحليل عملية اجتماعية تخضع لقوانين العالم الطبيعي. تاريخياً، لم يبدأ الدين حضوره المبكر “كفكرة خالصة” ولا “كخيار فردي” محض، بل تمثل حضوره على الدوام من خلال صيغ الاجتماع أي داخل “المجتمع”، وفرض نفسه كسلطة شمولية تهيمن على مؤسساته العضوية (العائلة – العشيرة – القبيلة – الدولة )، وتتداخل مع أنساقه الجمعية ( العرف – الأخلاق – القانون ).

محمد عابد الجابري باعتباره مفسرا للقرآن

وبلغ هذا التداخل ذروته مع التدين التوحيدي الكتابي، الذي بسط سلطته – من خلال فكرة الشريعة – على مساحة أوسع من بنية الاجتماع الكلية.

لكن النظام الديني التراثي لا يقبل بهذا التحليل، بل يقدم نفسه كمطلق مفارق قادم من خارج الاجتماع، وبالتالي كمعطى حصري مؤبد له حكم العالم، وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة التجميد. بهذه الصفة، وضع النظام الدين نفسه كمرجع خارجي بالنسبة إلى النظام الاجتماعي، وهو ما يشرح فكرة المقابلة بين النظامين كطرفين متمايزين .

المشكل يكمن في حالة التجميد المحصنة بفكرة المطلق المقدس؛ من وجهة النظر الاجتماعية  (الوضعانية )، التجميد حالة وقتية مهما طال الزمن، فهي تؤدى إلى تعطيل التغيير الديني، أي إلى تبطيئ إيقاع الاستجابة للضغط الاجتماعي، لكنها لا تستطيع إيقاف فاعلية الضغط على المدى الطويل. ومن وجهة النظر الدينية: لا يتعلق الأمر بتعطيل مرحلي، بل هي طبيعة المطلق الذي يعني نفى قابلية الديني للتغير، ومن ثم إنكار مفهوم الضغط الاجتماعي من أصله.

التأويل والتجديد

-4-

في المراحل المبكرة – حيث تكون السياقات متقاربة وحركة التطور محدودة – لا يواجه النظام الديني صعوبات حقيقية في التكيف مع النظام الاجتماعي، ويمكن له احتواء حاجات التطور من خلال أدواته النظرية الداخلية. وفي هذا الإطار تظهر قدرة النص على استيعاب الواقع من خلال “التأويل”. لكن مع تواصل حركة التطور تتناقص هذه القدرة تدريجياً، قبل أن تتوقف تماماً عند نقطة بعينها هي نقطة التناقض الجذري. هنا تنكشف “محدودية” التأويل أمام جسامة التغير في بنية الواقع. وهذه هي لحظة الانسداد التأويلي، حيث يصبح النظام الديني عاجزاً عن تبرير وجوده بدون تنازل أو تحوير جوهري في منطوقه الأصلي.

في النموذج الغربي وصلت المسيحية الكاثوليكية إلى نقطة الانسداد التأويلي تحت ضغوط الحداثة المتواصلة، التي أجبرتها على سلسلة من التنازلات الجوهرية، تشمل التخلي عن سلطاتها السياسية والتشريعية والمعرفية، وصولاً إلى التساهل حول مبدأ ” الخلاص الحصري” بالمسيح.

( راجع الانفتاح المتدرج للكنيسة الكاثوليكية على فكرة التعددية الدينية، بامتداد القرن الماضي، وبوجه خاص مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني، والتوجهات المتأخرة للبابا فرانسس ).

على المستوى الإسلامي، سنقرأ المسألة من خلال المقارنة بين لحظات “تأويلية” ثلاث متباعدة زمنياً : ١- لحظة الشافعي في القرن الثاني. 2 – لحظة الشاطبي في القرن الثاني – 3 – اللحظة الإسلامية المعاصرة.

تكشف المقارنة عن فوارق موضوعية ومنهجية واضحة بين نظرية الأصول الشافعية التي اعتمدت “القياس”، كمفهوم مركزي، كاشفة عنا هرمنيوطيقا جزئية ذات طابع بيان لغوى، ونظرية الأصول الشاطبية التي تجاوزت مفهوم القياس الجزئي إلى مفهوم “المقاصد” الكلية، الأكثر تعبيراً عن المضمون الاجتماعي للنص.

هذه الفوارق النظرية تعكس فوارق الواقع الاجتماعي بين اللحظتين من جهة، وبين كل واحدة منهما ولحظة النص التأسيسية من جهة ثانية وبالقياس إلى الشافعي، كان الطرح التأويلي الذي قدمه الشاطبي “تجديدياً”، لكنه سيبدو رجعياً محافظاً – كما سنرى – بالقياس إلى حاجات اللحظة الاجتماعية المعاصرة.

في سياقات الشافعي القريبة نسبياً من زمن وبيئة النص، كان الحراك الذي أطلقه ظهور الإسلام قد أسفر عن تحولات سياسية وثقافية. لكن هياكل الاجتماع التحتية (الاقتصادية / العقلية) ظلت مطابقة تقريبًا للهياكل التي أفرزت النص في عصر التنزيل. هذا التطور الجزئي بدأ يمثل تحدياً طفيفاً للنظرية الفقهية “النقلية” التي تقتصر على المنطوق الحرفي للنص. لكنه كان قابلاً للاحتواء من داخل النظرية بعد تطويرها بتقنية القياس، التي جعلت النص قادرًا على التمدد خارج منطوقة الحرفي وتغطية الوقائع الجديدة.

كان الشافعي قد افترض أن النصوص تغطي جميع الوقائع المتجددة سواء بمنطوقه الحرفي أو بالقياس عليه. ومع ذلك أثبت الواقع أن القياس لم يكن كافياً لتقديم تغطية نصية شاملة، فجرى الاعتراف – لدى جانب من النظرية – بمصطلح المصلحة المرسلة مع تقييدها بشروط تقنية تخفف من حدة التناقض من المقدمات الأصولية الشافعية والكلامية الأشعرية. في المقابل كانت نظرية الشاطبي تصدر في الأندلس عند القرن الثامن  في سياقات زمنية وبيئية أبعد بالنسبة النص، وفي مناخ عقلي اجتماعي مختلف نسبيا عن مناخ القرنين الثاني والثالث في المشرق الإسلامي .

-5-

نظرية المقاصد الشرعية

قدم الشاطبي طرحاً تأويلياً للنص أكثر وعيًا بالواقع، وتجاوز منهجية الشافعي الجزئية اللغوية، إلى منهجية كلية ذات نفس عقلي: تقوم نظرية الشاطبي على مبدأ الاستقراء العام، فالجمع بين النصوص الجزئية يؤدي بالتواتر المعنوي إلى إنتاج مبادئ عامة یسميها ” الكليات الشرعية”، ومن هذا الطريق أثبت الشاطبي المصالح الخمس الكلية ( النفس، المال، النسل، العقل، والدين) بوصفها “مقاصد” ضرورية للشريعة، رغم أن هذا المعنى لم يرد في منطوق نص جزئي صريح، فالشريعة بحسب الأصل “وجدت لمصلحة العباد” ( الموافقات، ج2، ص 3)، هنا كان الشاطبي يتجاوز – أيضًا – المنهجية الأشعرية، التي تقرأ المصلحة البشرية كمعطى كلامي للإرادة الإلهية، وتجعل المصلحة المعتبرة في الشريعة هي طاعة الله، الذي ليس عليه أي التزام باستهداف المصلحة البشرية ) .

اعتبر الشاطبي أن هذه المصالح الضرورية تبرر جميع الأحكام الشرعية، وبالتالي فهي بمثابة “علة كلية ” يمكن القياس عليها. فإذا ما ظهرت مصلحة اجتماعية جديدة تستدعى تشريعاً لا يتضمنه نص، يصح اعتماد هذا التشريع مالم يكن مناقضاً لأحد المقاصد الخمس الكلية. هذا يعنى الاستغناء عن آليات القياس الشافعي الجزئية التي تشترط قياس المسكوت عنه على نص جزئي محدد، أي على “علة جزئية” في عبارة أخرى: لم يعد القياس ملزماً كطريق وحيد للاجتهاد كما قرر الشافعي، بل يمكن النظر مباشرة في المصلحة الجديدة من جهة توافقها مع الكليات الخمس الضرورية. وهذه نقلة تجديدية واسعة على مستوى الأصول.

مع ذلك، ورغم إقراره بيقينية المبادئ الكلية المستنبطة بالاستقراء، ظل الشاطبي يسلم بإلزامية النصوص الجزئية التي” تخالف” هذه المبادئ، أي ظل يسلم بمفهوم ” النصية” السائد: حيث لا يجوز استبعاد الجزئي المناقض لكلية، لأن المفترض هو أن هذه النصوص لم ترد عبثاً من قبل الشارع، بل لعلة مصلحية، قد تكون حماية كلية أخرى، أو حماية جانب من الكلية ذاتها (فالحكم بالقتل قصاصاً يعارض المبدأ الضروري بحفظ الحق في الحياة، لكنه في المقابل ضروري لحفظ هذا المبدأ ذاته، من خلال التخويف بالردع. وينطبق ذلك على الحكم بقطع السارق أو جلد الزاني. انظر الموافقات، السابق، ص 4).

بالنتيجة، ظل الشاطبي محتفظاً بلازمة العقل الكتابي التي تقول بأبدية التشريعات الجزئية، حتى لو خالفت المصالح الكلية، أي حتى لو خالفت التطور. ومن هنا فإن نظرية المقاصد الشاطبية، رغم توسعها في مساحة التأويل الاجتهادي، تظل قاصرة عن مواجهة حاجات اللحظة التشريعية الحاضرة: فهي بالفعل قد توفر حلاً لمشكل التشريع “بما يخالف نص” لكنها لا توفر حلًا لمشكل التشريع “عند عدم وجود نص”. وهذا المشكل الأخير هو المعضلة الحقيقة التي تواجه الفكر الإسلامي التجديدي المعاصر، حيث صارت حاجات التطور لا تناقض أحكام الفقه الاجتهادية فحسب،  بل تناقض أيضا أحكام “النصوص” الصريحة، التي يعجز التأويل اللغوي على تطبيعها مع ثقافة الواقع (راجع مثلًا الأحكام التكليفية المنصوصة حول القتال الوجوبي فيما يعرف بجهاد الطلب، أو القتل الوجوبي في حد الردة، أو طلب الجزية، والأحكام التي تميز بين المسلم وغير المسلم في القصاص والحقوق السياسية، وكذلك بين الرجل والمرأة، …).

نظرية المقاصد الشاطبية

بوجه عام، تظل نظرية المقاصد الشاطبية نظرية في “أصول الفقه” أي مصممة للتعاطي مع الشق التشريعي من النص. وصحيح أنها – في ظل المستوى الراهن للضغوط الحداثية – لا تزال قادرة على إنتاج حلول ” جزئية” لمشكل التناقض الفقهي، قياساً إلى نظرية الشافعي. لكن المشكل القائم في مواجهة النظام الديني لم يعد يقتصر على التناقضات التشريعية التي تدخل في فقه المعاملات بل صار يفتح النقاش على تناقضات نظرية جوهرية تتعلق بالسردية الإسلامية والدينية إجمالًا. وهو ما يعكس التحولات الحداثية الفادحة على المستوى العقلي والنفسي، التي طالت بنية الوعي لدى الإنسان المعاصر، وغيرت طريقة التفكير في المسألة الدينية ككل .

-6-

الفكر الإسلامي المعاصر يبدى اهتماماً واضحاً بنظرية الأصول الشاطبية، ويكاد يعول عليها كآلية قادرة على تجاوز المشكل التجديدي. وهو توجه يشير إلى طموحات اجتماعية أكثر تطوراً بالقياس إلى التوجهات السلفية ذات الطابع الحرفي. لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن هذا الفكر لا يزال ينظر إلى التجديد بوصفه مسألة فقهية أصولية، تتعلق بطريقة التعاطي مع النص، أي بوصفه مشكلاً “تأويلياً” يمكن حله من داخل منظومة التفكير الديني التراثية. المشكل هنا يختزل في شروط قراءة النص، ويتجاهل حجم التطور الجسيم في بنية الواقع، حيث يفترض أن النص حتى في شقه التشريعي مطلق أي شمولي مؤبد قادر على احتواء أي تطور اجتماعي .

( المعنى الإطلاقي للنص، يقضى لا شعورياً في العقل الديني الكتابي إلى تخفيف الوعى بالواقع، ومن ثم بحجم التطور: في المدى الطويل وعند الوصول إلى نقطة التناقض الجذري، يفرض التطور الاجتماعي نفسه على الوعي الديني. لكن بالوصول إلى هذه النقطة لا يكون “وجه المسألة” قد تغير فحسب، بل منطوق المشكل نفسه، أي يكون ثمة مشكل جديد ناجم عن أسئلة الواقع الجديدة. نحن هنا لسنا بصدد تغيير في زاوية الرؤية إلى المشكل، بل بصدد تجاوزه كلياً إلى مشكل مختلف، ناجم عن تحول في طريقة التفكير ومادة الوعي ذاته).

مقاربات التجديد الديني

كيف يفكر العقل الإسلامي المعاصر

-7-

بوجه عام، يتوجس الوعي الإسلامي من مصطلح التجديد، فهو يتداخل مباشرة مع مفهوم “البدعة” الذي يحذر صراحة من مقاربة “المحدثات” خصوصاً في الدين، بوصفها ضلالة مفضية إلى النار. وهو مفهوم مركزي في الثقافة الإسلامية، صادر عن التصور الموروث للدين كنظام مطلق.

ومع ذلك يمكن الحديث عن فوارق، نسبية، في مقاربة التجديد داخل السياق الإسلامي المعاصر:

  • التيار السلفي المتشدد

وهو الوريث الحارس لثقافة أهل الحديث النقلية. عملياً، لا يكاد هذا التيار يشعر بوجود الضغوط التي صارت تفرضها الحداثة على النظام الديني. وهو لا يكيف المسألة بفكرة التناقض بين النص التراثي والواقع الاجتماعي الراهن، حيث النص مهيأ لاحتواء الواقع في كل زمان ومكان. المشكل هو أن الواقع الاجتماعي انحرف عن مقتضيات النص، والحل هو تغيير الواقع كي يعود من جديد إلى التوافق مع النص. أو أن ثمة “سوء فهم ” للنص يمكن رفعه بالرجوع إلى “فهم السلف”، وليس من خلال التوسع في “التأويل” طلباً للتوافق مع الحداثة الضالة.

يظهر هذا التوجه – بالأساس – في الأدبيات والفتاوى الوهابية، التي صارت تتوفر منذ أواخر القرن الماضي على مساحات أوسع للحضور والتأثير داخل المحيط الإسلامي السني. وهو يقع في صلب المرجعية الفقهية لجماعات العنف الأصولي، أو السلفية الجهادية التي تتولى بنفسها، عن طريق القتال، عملية تغيير الواقع وتكييفه من جديد مع النص التراثي.

كنموذج لهذه الرؤية السلفية، أشير إلى التفسير الذي قدمه المفتي الوهابي المعروف ابن باز، للحديث النبوي الشهير ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”. (الحديث “صحيح” بمقاييس الإسناد السلفية، فقد صححه الحاكم في المستدرك والسخاوي في المقاصد الحسنة، والسيوطي في الجامع الصغير، وابن حجر في فتح الباري، وحظي أخيراً باعتماد الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة / 599 ).

معنى الحديث كما يشرح ابن باز – هو: “أنه كلما انحرف الكثير من الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم نعمته ورضيه لهم دنيا، بعث إليهم علماء أو عالماً بصيراً بالإسلام وداعياً رشيداً يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع، ويحذرهم من محدثات الأمور ويردهم عن انحرافهم إلى السراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فسمي كل ذلك “تجديداً” بالنسبة إلى الأمة، لا بالنسبة إلى الدين الذي شرعه لهم وأكمله، فإن التغيير والضعف والانحراف إنما يرد مرة بعد مرة على الأمة، أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم” (فتاوى اللجنة الدائمة 247/2/248).

يسقط ابن باز تأويله السلفي الخاص على مصطلح التجديد، بحيث لا يكتفى بتفريغه من دلالة التغيير فحسب، بل ليكرس من خلاله دلالة التثبيت، وليؤكد على مشروعية “التقليد”.

لا يطرح التجديد هنا لحساب النظام الاجتماعي، أعنى لا يناقش كمشكل يتعلق بأزمة المجتمع وقدرة المدونة التراثية على تقديم حلول لها، بل يطرح لحساب النظام الديني كمشكل يتعلق بانحراف المجتمع عن المدونة. نحن حيال خطاب فقهي وعظي تقليدي، غارق في سياقات التفكير السابقة على الحداثة، أي يتجاهل المشاغل الحقيقية للواقع، والمشاكل النظرية الجادة التي صار يصدرها لفكرة الدين ذاته.

2 – التيارات التجديدية المعتدلة،،

وهي التيارات التي أفرزتها صدمة الاحتكاك الحداثي المبكرة، وتضم أنساقاً متعددة من التفكير تحت مظلة المدونة الإسلامية.

تبدو هذه التيارات واعية بضغوط الحداثة، وهي تقر بوجود تناقض بين النص التراثي وحاجات الواقع الراهنة، وخلافاً للتوجهات السلفية المتشددة، تعترف بوجود مشكل يتعلق بفهم النص، والحل يكمن في إعادة تفسيره من خلال التأويل”.

تنطلق هذه التيارات من موقف مشترك حيال الحداثة، يسعى إلى التصالح جزئياً معها في ظل البقاء تحت سقف النص.

وهي تصدر في مجملها عن روحية أشعرية ذات نزوع توفيقي، وتتسع – أحيانًا- لممارسات تأويلية جريئة ذات طابع اعتزالي عقلي. كنماذج لهذه الممارسات يمكن الإشارة إلى أدبيات التفسير القرآني التي أصدرها محمد عبده، ورشيد رضا، وأمين الخولي. وهي كتابات ذات غرض دفاعي، تحاول “عقلنة” المفاهيم القرآنية ذات الطابع الغيبي، أو تسكينها قريباً من مناطق الوعي الحداثي بطابعة العلمي ومشاغله العملية المباشرة.

من خلال التأويل أمكن لهذه التيارات تسويغ الالتقاء بين الإسلام وفكرة الدولة الوطنية الحديثة، التي فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع. وفي هذا الإطار جرى تقديم ” الشورى، بوصفها صورة مبكرة من صور الديموقراطية، وجرى الحديث عن البرلمان بوصفه النسخة المعاصرة لأهل الحل والعقد. فالديموقراطية – كما يشرح رشيد رضا في تفسير المنار – مفهوم إسلامي منصوص عليه في القرآن: ليس بين القانون الأساسي الذي قررته هذه الآية على إيجازها وبين القوانين الأساسية لأرقى حكومات الأرض في هذا الزمان إلا فرق يسير، نحن فيه أقرب إلى الصواب وأثبت في الاتفاق منهم إذا نحن عملنا بما هدانا إليه ربنا: هم يقولون أن مصدر القوانين الأمة، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنة كما قرر الإمام الرازي، والمنصوص قليل جدًا”.

في الهرمنيوطيقا الإسلامية… الجزء الأول: التفسير والتأويل والتفكيك

في الاتجاه ذاته، وتطويراً لهذا الموقف التوفيقي، سيزايد حسن البنا إلى حد القول بأن “السياسة الإسلامية نفسها لا تنافى أبدًا” الحكم الدستوري الشورى. وهي واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى “وأمرهم شورى بينهم” فالديموقراطية فيها الشورى وتبادل الرأي، وفيها إطلاق الحريات الفردية، فجعلها مشروطة بحقوق الجماعة وقيدها بذلك”. (رسائل البنا، رسالة مؤتمر الطلبة 1939).

البنا يخلط – بسذاجة – بين مفهومي الديموقراطية والشورى. فالديموقراطية الحديثة بسياق تشكلها التاريخي لا تعنى حكم الشعب بالمعنى الذي يقابل الحكم الفردي (الأوتوقراطي) فحسب، بد قبل ذلك بالمعنى الذي يقابل الحكم الديني (الثيوقراطي). ولذلك فإن مشكل الدولة الحديثة مع النظام الإسلامي ينبع بالأساس من طبيعته الحصرية المؤبدة، التي تنكر التعددية وتصر على تثبيت الشريعة ، ما يعنى التناقض جوهرياً مع قيم الدستور المدني التي تقوم على مبدأي المواطنة والقانون، وتحمى حرية الفكر والاعتقاد، ولا تميز بين الأفراد بسبب الجنس أو اللغة، أو العرق، أو الدين.

بالمعنى الحرفي، الشورى ليست أكثر من أخذ الرأي، وهو معنى يتوافق مع ثقافة الحكم الفردي الموروث إسلامياً، حيث يدور النقاش الفقهي حوله حدود النصيحة ومدى التزام الحاكم بقبولها، خلافاً للنظام الدستوري الذي يقوم مبدئياً على فكرة توزيع السلطة. أما تاريخيًا، فسواء في الواقع السياسي أو على مستوى النظرية، لم يترجم نص الشورى إلى أي صيغة “شعبية” تضمن حق الجمهور في اختيار الحكومة أو الرقابة على سلطة الحاكم الفرد بشكل عملي. وتماهياً مع الثقافة الاجتماعية الموروثة من بيئة النص، اختزل مفهوم الشورى في “أهل الحل والعقد”، وهم بحسب النظرية الفقهية مجموعة ضيقة قد يصل عددها إلى اثنين أو ثلاثة أفراد تسند إليهم مهمة اختيار الحاكم وإسداء النصح له، دون التزام منه بقبول النصيحة. لكن الأهم أن النظرية عادت فنسفت هذا المبدأ نفسه من خلال إقرارها بمشروعية “التغلب”، كآلية من آليات إسناد السلطة، ترجمة لحالة الأمر الواقع. ثمة فارق واضح بين خلفية الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة في العصر الوسيط الإسلامي والتي أنتجت هذا المفهوم الضيق للشورى، وخلفية الثقافة السياسية الاجتماعية الحديثة التي أفرزت النسخة الراهنة من الديموقراطية والدستور المدني.

مثل هذا النوع من التأويل يبدو متكلفاً وهو يسعى الى إجراء مصالحة جزئية أو مؤقتة بين النظام السياسي الإسلامي والدولة المدنية الحديثة، أي بين طرفين متناقضين جوهرياً. وهو التناقض الذي صار ينكشف بشكل أوضح، بعد تبلور التيارات الأصولية الجديدة و الأكثر سلفية وعنفًا )، ومن خلال أدبياتها السياسية.

بوجه عام، لا يبدو الطرح التجديدي الذي تقدمه التيارات المعتدلة قادراً على تجاوز المشكل الذي فرضته الحداثة على النظام الديني والنظام الاجتماعي معاً، والذي يتفاقم الآن بفعل الضغوط الأصولية المضادة. في السياق الإسلامي المعاصر تبدو عملية التجديد الديني أكثر تعقيداً، أعنى أكثر صعوبة مما نتصور عادة:

ففي ظل المستوى الراهن للتطور الاجتماعي، حيث تبقى عملية التجديد بحاجة إلى إقرار من قبل النظام الديني، يظل السؤال مطروحًا حول معضلتين إسلاميتين:

  • الأولى، تتعلق بمن يمثل النظام الديني في هذه العملية من يملك صلاحية اقتراح ومناقشة واعتماد ” التغيير” وضمه إلى متن المدونة. في ظل غياب مؤسسة جامعة ذات سلطة إنشائية؟
  • الثانية، تتعلق بمضمون العملية. ما حدود التغيير “المسموح” من قبل النظام الديني في ظل المفهوم السائد للدين كمعطى مطلق غير قابل للتجديد؟ أو إلى أي مدى يمكن التنازل عن مبدأي الحصرية والتأبيد (حصرية الخلاص، وأبدية الشريعة) ؟

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete