في ذكرى رحيل الإمام محمد عبده: الجزء الثاني…من فتاوى الإمام

تكوين

تُمارس الفتوى عملَها في منطقة متداخلة بين الدينيّ، والاجتماعيّ، والسياسيّ، فتعمل على إنجاز موائمة بين التزامات وإلزامات الدّين الإسلامي من جانب، وبين اشتراطات الحياة الاجتماعية المتحركة المتغيرة من جانب آخر، بما يُسهم في تكْريس انتماء المسلم لفضائه الديني، فتحظى الفتوى بمكانة مرموقة في تاريخ الثقافة الإسلامية؛ لارتباطها بواقع الحياة اليومية للمستفتِي، ولوظيفة الفتوى القائمة على إيجاد حلول دينية للمشكلات الفردية والجماعية، فالفتوى مقدمة ضرورية لتحريك الأحكام الفقهية لتكون أكثر ارتباطا بالواقع الاجتماعي، وهذا ما أدركه الإمام محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥) أحد رواد الحركة الإصلاحية في تاريخ مصر المعاصر، وأول مَنْ شغل منصب مفتي الديار المصرية، بموجب مرسوم أصدره الخديوي عباس حلمي الثاني ٣ يونيو ١٨٩٩، لتصبح صناعة الفتوى في مصر موزّعة بين مؤسستي الأزهر ودار الإفتاء.

اجتهادات الإمام محمد عبده

ولم يكن قبول اجتهادات جديدة بالأمر اليسير، فأفدح خسارة مُنيَ بها العقل المسلم إغلاق باب الاجتهاد، حتى أنّ بعض الآراء جعلت الاجتهاد استثناءً في حياة الأمة، عرِفتْه في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فهو حقٌّ له دون غيرِه، وجعله آخرون مرتبطاً بالصحابة دون غيرهم حيث صحّت الذّمم، وصدقت النوايا، وكثر الصالحون، وجعلوا ما عداه من الأزمنة يندرج تحت ما أطلقوا عليه أزمنة الفساد الذي عمّ فيها الباطل، وخربت الذمم، وضعفُ اليقين، واتّجهت أكثرُ الآراء إلى تعطيل فاعلية التفكير والاجتهاد الإسلامي، وحصْرِه بآراء الفقهاء الأربعة، ففي عصور التقليد المتعاقبة صارتْ أقوال الأئمة واجتهاداتهم هي “النصوص” بمعنى أنّها صارت مجال الشرح، والتفسير، والاستنباط، والتعليل، أي مجال توليد النصوص، واقتصرت المؤلفات على شروح لمتون الكتب في الحواشي، وما يُقال عن الفقه يُمكنُ أنْ يُقالَ مثْلَه على العلوم العربية كافّة كالنحو والبلاغة وعلوم القرآن والحديث والتفسير، ولم تسلم كتب علم الكلام المتأخرة رغم كونها علوما عقلية من المصير نفسه.

أصدر الشيخ محمد عبده على مدار ستّ سنوات شَغَل فيها منصب مفتي الديار المصرية “٩٤٤ فتوى”، نشرتْها دار الكتب والوثائق المصرية بعنوان “فتاوى الإمام محمد عبده”، وهي صفحات كاشفة لتاريخ تطوّر الفكر الديني، وكيف واجه الإمام جمود وتقليد الفكر الديني بمزيد من الاجتهادات الفقهية، والفتاوى التي تُواءم بين رُوح الإسلام والعصر.

فبعد تولِّي الشيخ محمد عبده منصب مفتي الديار المصرية بأسبوع واحد في ١١ يونيو ١٨٩٩ رفض التصديق على عقوبة الإعدام التي أُحيلت إليه من محكمة الاستئناف الأهلية، وكانت المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا.. وعلّل ذلك بأنّ “كثرة القرائن لا تكفي بالحكم بالإعدام؛ لأنّ اليقين لا يبلغ بها إلى الحدّ الذي يُسوّغ الحكم بعقوبة لا يُمكن تدارك الخطأ فيها لو ظهر بعد ذلك”.

وهذا التعقيب الأخير في قوله: “لا يُمكن تدارك الخطأ” له أهميته في تضييق نطاق تطبيق عقوبة الإعدام الذي أصبح من إحدى المطالب الحقوقية العالمية اليوم بعد أن كانت عقوبة الإعدام تُطبَّق قديما على نطاقٍ واسعٍ وبطرق لا تخلو من التعذيب والتنكيل، فهي من أقدم العقوبات التي عرفتها البشرية..

وبالعودة إلى العقل الجمعي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي سنجد المسلمين يرفضون ارتداء القميص والبنطلون، أو البدلة، ويرون في ارتدائها مخالفة شرعية تستلزم التوبة، إلا أنّ الشيخ خالف الشائع وأفتى بجوازها، فلم يُكلّف الشرع المسلمين بزي مخصوص، وأنها تدخل في باب العادات..  فبعد أنْ كانَ هناك إجماعٌ دينيٌّ على تحريم البدلة؛ بوصفها زيّ غير المسلمين؛ وفي ارتدائها تشبها بهم، تراجع هذا الإجماع، وانزوى فلم يعد له وجود الآن سوى في أوساط بعض المتشددين، فالخطاب الديني بدأ في مسألة ارتداء البدلة (القميص والبنطلون) من نقطةٍ كان يخْلِطُ فيها بين العادة اجتماعية والشعيرة الدينية الواجبة، فالعادات والتقاليد الاجتماعية، وإن كانت جديرة باحترام ما تحملُه من خصوصية ثقافية إلا أنّ المنتِج لها في النهاية المجتمع بدافع من حاجاته القابلة للتغيير.

غير أن الأمر لم ينته بفتوى الشيخ محمد عبده، فبعد أن انتشر البنطلون والقميص في المدينة ظلّ من مصائب الدهر أن يرتديه زائرٌ إلى القرية المصرية على حدّ تعبير فريد أبو حديد؛ لأنّه من المنظور الريفي “ملابس قليلة الحيا تُجسم عورة الرجال”.. ثم تقبّله المجتمع الريفي في غير الصلاة، ثم تقبله في الصلاة لغير الإمام، ثم تقبّله لغير خطيب الجمعة، ثم تقبّله في مختلف الأحوال..

إقرأ أيضأً: في ذكرى رحيل الإمام محمد عبده: الجزء الأول…أين يقع الشيخ من محاولات التصنيف؟

وظلّ بعد رحيل الإمام تُثار معارك حول الملابس الشرعية للرجال، فالطربوش كغطاء للرأس عادة تركية، تخلّى عنها الأتراك رسميا، بعد أن أصدر كمال أتاتورك قرارا بالتحوّل من الطربوش إلى ارتداء القبعة، إلا أنّ هذا ما لم يقبله المصريون وغيرهم من العرب، وظل المصريون يرتدون الطربوش فترة.. وكاد أن تحدث أزمة بين تركيا ومصر بسبب الطربوش؛ لأن السفير المصري عبد الملك حمزة باشا في أنقره أصرّ على لبس الطربوش، والحضور به في المناسبات الرسمية، ولم يكن في تركيا شخص واحد على رأسه طربوش.

وكان من الأسئلة الأكثر تداولا في بريد القراء للعديد من المجلات كان هو “هل يختل إيمان أحد من المؤمنين بمحض لبس “البرنيطة” المعروف بـ “قلنسوة الإفرنجي”؟ هل كلفنا الشرع بلباس معين بحيث يُعدّ مرتكب غيره من أنواع الملابس خارجا عن الدين كما أفتى به أكثر علماء بلدنا رغم أنهم لم يبينوا لنا ضابط ما يجب منه، وما يحرم، وحجتهم فيه حديث “من تشبه بقوم فهو منهم”؟

وكان من ردود الشيخ رشيد رضا تلميذ محمد عبده عبر مجلة المنار: “لم يقل أحد من علماء السلف ولا الخلف أن الشارع كلف المسلمين زيا مخصوصا في غير الإحرام وقد ثبت في حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس الجبّة الرومية من لباس الروم وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لبس الطيالسة الكسروية من ملابس المجوس، وما كنت أظن أن من يوصفون أو يسمون بالعلماء في بلد السائل يتجرؤون على تكفير من يخالفهم في لبسهم كالزيّ الإفرنجي الذي يلبسه الملايين من الترك، والتتار، والعرب المصريين ، والسوريين وغيرهم.. إن أمثال هؤلاء الذين سماهم جهلاءُ قومِهم علماءَ قد جعلوا الإسلام والمسلمين سخرية بأمثال هذه الفتاوى والأقوال التي جعلوا بها بعض العادات هي جوهر الدين”

فاعتياد الناس للقديم من أكبر معوقات التجديد الفقهي التي واجهت الإمام، ومنها رفضهم التحوّل عن الأدوات القديمة في الطهارة إلى الأدوات الحديثة، ففي الوقت الذي حرّم أكثرُ صانعي الفتوى استخدام الحنفية/الصنبور، بديلا للمَيْضأة/ الحوض، أبطل الشيخ محمد عبده الوضوء من المَيْضأة/ الحوض؛ ليحفظ حياة الناس وصحتهم، فالمَيْضأة/ الحوض الواحد من الماء يجتمع الناس على غسل وجوههم ورؤوسهم وأقدامهم فيه، كان سببا في التّلوث ونقل الأمراض.

وعلى خلاف معاصريه، أجاز الإمام التصوير الفوتوغرافي، ونحت التماثيل، والتعامل مع شركات التأمين، وادّخار الأموال في البنوك، وأخذ الأرباح عليها، تلك الفتوى التي ما زالت رغم مرور ما يزيد عن قرن لا تحظى بقبول واسع، وإذا ما تبنّتْها المؤسسات الدينية كموقف فقهي متسق مع الواقع، وكونها صورة مشروعة من صور التعاقد، يأتي الصوت خافتا، لا نرى له حضورا واسعا في قاعات الدَّرْس، والفاعليات العلمية، ولا ترديدا بين القواعد الطلابية والأكاديمية.

كذلك أفتى الإمام محمد عبده بضرورة تقييد الطلاق وتوثيقه، فاشترط لوقوع الطّلاق أنْ يكون أمام القاضي أو المأذون بحضور شاهدين، فمن يُريد الطلاق عليه أن يحضر إلى القاضي الشرعي، ويخبره بالشقاق بينه وبين زوجته، وأن على القاضي أن يدل الزوج بأن الشريعة تمقت الطلاق، وأن عليه أن يتروى أسبوعاً، وإن أصرّ الزوج بعد أسبوع ينتقل القاضي إلى مبدأ التحكيم، وإن لم يصلح التحكيم يُقدم الزوج طلباً للمأذون للطلاق، وصلت حالات الطلاق الشفهي في بعض الدول إلى حالة طلاق شفهي كل أربع دقائق ورغم ذلك لم تأخذ بعدُ بفتوى الشيخ محمد عبده، الشيخ محمد مصطفي المراغي وغيرها من الاجتهادات التي رأت أن الزواج كما أنّه لا يثبتُ إلا بوثيقة وإشهاد موثّقٍ فلا يقع الطلاق إلا بوثيقةٍ وإشهاد موثّقٍ.

أسباب الطلاق فتاوي محمد عبده

كما أفتى الشيخ محمد عبده بأنّ من حقّ المرأة أن تطلب من القاضي تطليقها إذا تحققَ من الضرر، وجعل من الأسباب التي تُجيز طلب الزوجة للطلاق الهجر بغير سببٍ شرعي، والضرب، والسبّ..  ووافق الشيخ على مشاركة المرأة في الأمور السياسية، فكان أسبق في الدعوة إلى ذلك من قاسم أمين، حتى قيل إنّ كتاب “تحرير المرأة” لقاسم أمين، تأثّر فيه بالشيخ محمد عبده، وأنّه كتبه في “جنيف” في صحبة الشيخ، وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد.

ومن الملاحظ أنّ اتجاهات الإمام محمد عبده نحو تجديد الفقه إنّما قامت على مسايرة المستجدات والتّغيرات التي تطرأ على المجتمع، مخالفا أحيانا ما عليه جمهور الفقهاء، فأكثر الفقهاء أنّه لا يصحّ شهادة غير المسلم على وثيقة زواج المسلم، وعدُّوا الشهادة نوعا من الولاية على المسلم، وهذا ما أفتى الشيخ محمد عبده على خلافه، فأجاز شهادة غير المسلم على زواج المسلم، ردًّا على سؤالٍ وصل دار الإفتاء المصرية يستفتي الشيخ محمد عبده في زواج مسلم من ألمانية مسيحية بشهودٍ غير مسلمين، فأجابه بأنّه يجوز أخذا برأي أبي حنيفة وأبي يوسف، وهما لا يشترطان إسلام الشهود، بل يصحّ عندهما إذا كانت الزّوجة غير مسلمة، وهذا ما تأخذُ به المحاكم المصرية الآن.

ومن القضايا التي شغلت الأستاذ الإمام قضية “تعدد الزوجات” فربط الإباحة بسياق زمني واجتماعي، واشترط للجواز ما اشترطه الله من وجوب تحقق العدل، وحيث إنّه لا يتصور تحققه في زماننا، فقد جعله من المفاسد التي تضرّ بالمجتمع، وتتنافى مع رُوح الشرع الإسلامي، ومقاصده العليا، وفي مقدمتها العدل، فيقول: “إن من تأمل ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يُربي أمّة فشا فيها تعدد الزوجات، فإن مفسدة التعدد تنتقل من الأفراد إلى البيوت، ومن البيوت إلى الأمة بأسرها”.

ويقول رحمه الله “إن القرآن إنما نصّ على تعدد الزوجات في معرض الكلام على حقوق اليتامى، والنهي عن اغتصاب أموالهم، ولو بواسطة الزوجية، فنبّه القرآنُ المسلمَ إلى أنّه إذا خاف على نفسه أن يأكل أموال الزوجة اليتيمة وجب عليه حينئذٍ ألّا يتزوج بها، إذ أنّ الله أحلّ له أن يتزوج بغيرها من واحدة إلى أربع”، ويُكمل الإمام بأنّ الله قرّر في آية أخرى حكما آخر إذ يقول: “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم” ورجّح أن يكون المقصود هنا هو النّص على أنّ ميلَ القلب إلى واحدة من النساء، وإيثارها على غيرها، أمر يصعب فيه توخّي العدل، فيُجمل الإمام رأيه بوضوح بقوله: “إن من تأمّل الآيتين (يَعني آية “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة” وآية “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”) علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مُضيّق عليه أشد التضييق”. ويُؤكّد في موْضِعٍ آخر على أنّ التعدد من الأمور النادرة التي لا تدخل تحت الأحكام العامة أنّ القرآن الكريم تحدث عن زوجة في الميراث وليس زوجات.

ويُجيب الأستاذ الإمام عن السرّ في التعدد في مجتمع المسلمين الأول بقوله: “كان للتعدد في صدْر الإسلامِ فوائدُ، أهمّها صلةُ النّسبِ والمُصاهرة التي تقوى بها العصبية، ولم يكنْ له من الضرر مثل ما له الآن؛ لأن الدين كان متمكنا في نفوس النساء والرجال، وكان أذى الضُّرة لا يتجاوز ضرتها، أما اليوم فإن الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها، إلى والده، إلى سائر أقربائه، فهي تُغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها، وهو بحماقته يُطيع أحب نسائه إليه، فيدبّ الفساد في العائلة كلها”.

الإمام محمد عبده بعيون طه حسين المبصرة

وكتب الإمام قبل دروس التفسير بأكثر من عشرين عاما في “الوقائع المصرية” مقالا تحت عنوان “حكم الشريعة في تعدد الزوجات”، مما جاء فيه: “أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة، إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة… إن الإلزام بالعدل أمر حتمي لا يحتمل تأويلا، فكيف يسوغ لنا الجمع بين نسوة لا يحملُنا على جمعهنّ إلا قضاء شهوة فانية، واستحصال لذة وقتية، غير مبالين بما ينشأ عن ذلك من المفاسد، ومخالفة الشرع الشريف..”، وبعد أن حكى الإمام بعض المآسي والمفاسد التي تُصيب المجتمع المصري نتيجة تعدد الزوجات، يكمل قائلا: “غالبُ الناس عندنا من أغنياء وفقراء لم يفهموا حكمة الله في مشروعية التعدد، بل اتخذوه طريقا لصرف الشهوة، واستحصال اللذة لا غير، وقفلوا عن القصد الحقيقيّ منه؛ وهذا لا تُجيزه الشريعة، ولا يقبله العقل، فاللازم عليهم حينئذٍ إما الاقتصار على واحدة، إذا لم يقدروا على العدل كما هو مُشاهد، عملا بالواجب عليهم بنصِّ قوله تعالى: “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة”، وإمّا أن يتبصّروا قبل طلب التعدد في الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من العدل، وحفظ الألفة بين الأولاد، وحفظ النساء من الغوائل تُؤدي بهنّ إلى الأعمال غير اللائقة، ولا يحملونهن على الإضرار بهم وبأولادهم، ولا يُطلقونهن إلا لداعٍ ومقتضٍ شرعيٍّ شأن الرجال الذين يخافون الله، ويُوثرون شريعة العدل، ويُحافظون على حرمات النساء وحقوقهن”.

ويطلب الإمام من فقهاء المسلمين خصوصا فقهاء المذهب الحنفي “أن ينظروا إلى هذه المسألة (تعدد الزوجات) بعين الاعتبار، فهم لا يُنكرون أنّ الدين إنما جاء لمصلحة الناس، وأن من أصوله منع الضّرر والإضرار فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمنٍ لم تكن تلحقه في زمن قبله، فلا شكّ في وجوب تغيّر الحكم وتطبيقه على مقتضيات الحال الحاضرة، جريًا على قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”.

فخلاصة رأى الشيخ محمد عبده أنّ التعدد غيرُ مقصود في الإسلام، وإذا كان الشرع أباحه فلضرورة تسوق إليه، وبشروط تُقيّده، وتجعله من الأمور النادرة التي لا تدخل في الأحكام العامة، فأمر إباحة تعدد الزوجات أمر مُضيّق عليه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات.. فرأى عن قرب من خلال عمله بالمحاكم الشرعية استحالة تحقق شرط العدل بين الزوجات، وما ينتج عن التعدد الزوجات من سوء معاملة الأزواج لزوجاتهن والعداوة بين الأبناء من أمهات مختلفة، وانتهى محمد عبده إلى أن على الحاكم أن يُقيّد تعدد الزوجات طالما أن التعدد مصدر للمفاسد والشرور.

أخيرا، من يُطالع فتاوى الشيخ الإمام محمد عبده يُدركُ التباين الكبير بينه وبين غيره، ففتاوى الشيخ التجديدية سعتْ إلى مسايرة الفقه الديني لحركة الاجتماع المتطور، على حدّ قوله: “إنّ الناس تحدُث لهم باختلاف الزمان أمور أو وقائع لم يرد لها ذكر في كتب الفقه القديم، فهل نُوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ إنّ هذا أمر لا يُستطاع، إنّه جمود ومَوات يجعل العوام ينصرفون عن دينهم الذي لا يجارى واقع حياتهم”. بينما قدّم غيرُ الإمام من الشيوخ، حينها، حراسة التراث الفقهي على الاستجابة للواقع الاجتماعي، متجاهلين كون حركة الاجتماع حاكمة على الفكر الديني، فطبيعة الفقه أنّه مجموعة من الأحكام التي تشكّلت في سياق اجتماعي، وفي لحظة تاريخية بعينها مما يجعلها قابلة للتغيير، وإعادة النظر، وإنْ لم يحدث ذلك فنحن أمام أمرين: الأول أن يحدث ركود في الحياة الاجتماعية وتراكم لمشكلاتها في انتظار تجديد فقهي، لا يحدث عادة إلا بإلحاح من السلطة السياسية، وليس بدافع من الهمّ المعرفي للمؤسسات الدينية وتفاعلها مع حركة الاجتماع، والأمر الثاني أن تندفع الحياة الاجتماعية في حركتها بعيدا عن السلطة الروحية الدينية لعجز تشريعاتها عن تقديم حلول لمشكلاتها، فيصنع المجتمع حلولا وحياة موازية لا تحظى بشرعية السلطة الدينية، وهذا ما يضع السلطة السياسية في مأزق بين حركية المجتمع وسكونية المؤسسات الدينية؛ ويُعرّضها لاتهامات وتحريض جماعات التطرف الحريصة على السكون الفكري.

يُتبع

 

 

 

 

 

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete