قراءة في سرديات التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي… الميدان الفقهي نموذجًا

تكوين

تعرضنا في المقال الأول من تلك السلسلة لنماذج من قضايا التعصب المذهبي التي أثارت النقاش والجدل في الميدان العقائدي. وبيّنا أن اختلاف وجهات النظر حول صفات الله وأصول الدين قد تسبب في إذكاء نيران التكفير والتفسيق المتبادل بين الفرق الإسلامية وبعضها البعض.

في هذا المقال، نتابع القراءة في سرديات التعصب في التاريخ الإسلامي، من خلال رصد مجموعة من نماذج الصراع، الذي وقع بين أصحاب المذاهب الفقهية وبعضهم البعض. لنفهم كيف تبدلت طبيعة الخلاف الفقهي عبر السنين. ليتحول من خلاف سائغ مقبول يدل على التنوع والثراء والتعددية وخصوبة الحضارة العربية الإسلامية، إلى صراع عنيف تبادل فيه الخصوم التشهير والتكفير والاتهامات بالخروج من الملة، والانحراف عن الصراط المستقيم.

وضع الأحاديث تعصبًا للمذاهب

تسبب التنافس الذي دار بين أصحاب المذاهب الفقهية المختلفة في وقوع العديد من المخالفات الشرعية، والتي وصلت إلى حدود وضع الأحاديث والروايات المكذوبة ونسبتها إلى النبي نفسه.

لجأ الكثيرون من المنتمين إلى المذاهب الفقهية للكذب في محاولة للإعلاء من شأن مذهبهم، أو لرفع مقام أئمتهم وعلمائهم. على سبيل المثال، عمل الأحناف على نشر عدد من الروايات التي تعلي من قدر إمامهم أبي حنيفة النعمان، وفي الوقت ذاته تقلل من شأن باقي الأئمة. ومن ذلك الرواية المشهورة “يكونُ في أمَّتي رجلٌ يُقالُ له: محمَّدُ بنُ إدريسَ، أضرُّ على أمَّتي من إبليسَ، ويكونُ في أمَّتي رجلٌ يُقالُ له: أبو حنيفةَ، هو سراجُ أمَّتي، هو سراجُ أمَّتي”.

من جهة أخرى، اعترف العديد من الفقهاء بتلفيق وتزوير الأحاديث خدمةً لمذاهبهم. من ذلك، ما ذكره أبو العباس القرطبي في كتابه “المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم” في سياق حديثه عن فقهاء الحنفية: “استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس الجلي إلى الرسول نسبة قولية، فيقولون في ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا! ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة تشبه فتاوى الفقهاء، ولأنهم لا يقيمون لها سندًا”. كذلك، اعترف أبو شامة المقدسي في كتابه “مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول”، أن العديد من فقهاء الشافعية اعتادوا الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة والموضوعة لنصرة آرائهم. ومن هنا غيروا ألفاظ الروايات بحسب ما يتراءى لهم “فتارة ينقصون منها، وتارة يزيدون فيها”.

الصراع بين المذاهب

سادت روح الوئام والتسامح بين أصحاب المذاهب الفقهية وبعضهم البعض في الكثير من الفترات التاريخية. ولكن في أوقات أخرى، اشتدت الخصومة بين الفرق المذهبية، وتسبب ذلك -بالتبعية- في إذكاء نيران التعصب، ونشر الفتنة، والميل للعنف، والاقتتال والتناحر.

تتحدث المصادر التاريخية عن العديد من النماذج المبيّنة لظروف تلك الفتنة. على سبيل المثال، كان أشهب تلميذ الإمام مالك بن أنس يدعو على محمد بن إدريس الشافعي ويتمنى موته. كما قيل إن: الشافعي قُتل بمصر على يد فتيان ابن أبي السمح المالكي عندما “…ضربه بمفتاح حديد فشجه، فمرض الشافعي منها إلى أن مات…”، وذلك بحسب ما يذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه “توالي التأسيس”.

بدورها، عرفت بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، التعصب نفسه في القرن الرابع الهجري، لمّا صنف الإمام محمد بن جرير الطبري كتابه “اختلاف الفقهاء” لم يضع أحمد بن حنبل في قائمته لكبار الفقهاء. فثار ضده الحنابلة واذوه وضربوه حتى اعتزل الناس ومات بعدها متأثرًا بجراحه.

التعصب الفقهي سيصل مبلغه في فترات الخصومة المنعقدة بين الشافعية والأحناف والحنابلة. على سبيل المثال، في القرن الخامس الهجري، وجه الإمام أبو حامد الغزالي الشافعي اللوم والنقد للمنهجية الفقهية التي بني عليها أبو حنيفة النعمان مذهبه، فقال في كتابه “المنخول من تعليقات الأصول”: “وأما أبو حنيفة فقد قلب الشريعة ظهرًا لبطن وشوش مسلكها وغير نظامها…”. المقصد ذاته، ذهب إليه كبار فقهاء الشافعية في معرض انتقادهم لفتاوى الحنفية المُجيزة لشرب بعض أنواع النبيذ. في هذا السياق، اشتهرت إحدى الفتاوى التي قال بها الشافعية بأنه إذا سقطت قطرة نبيذ في طعام فإنه يتم إلقاؤه لكلب أو لحنفي. على الجهة المقابلة، تعصب علماء الأحناف لمذهبهم. وردوا على التعصب الشافعي بتعصب مقابل، لا يقل حدةً ونكايةً.  نقل شمس الدين الذهبي في كتابه “ميزان الاعتدال” عن أحد شيوخ الأحناف قوله: أصحاب أحمد بن حنبل يحتاجون أن يُذبحوا. كما ينقل عن فقيه حنفي أخر قوله: “لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية”.

من جهة أخرى، سيتمحور الخلاف بين الشافعية والأحناف حول بعض المسائل الجدلية المتعلقة بمفهوم الأيمان. مثلت قضية جواز الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ – بمعنى أن يقول أحدهم: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّه – أحد أهم القضايا الجدلية المتسببة في وقوع الخصومة بين المذهب الحنفي والمذهب الشافعي. أجاز الشافعية الاستثناء، ولم يجدوا فيه بأسًا. على الجانب المقابل، رفض الاحناف الاستثناء، وعدوه شكًا في الإيمان، حتى ذهبت طائفة منهم -أي الحنفية- إلى “تكفير من قال أنا مؤمن إن شاء الله ولم يقيدوه بأن يكون شاكًا في إيمانه…”. وتأسيسًا على هذا الحكم، ذكر الفقيه ابن نُجيم الحنفي، في القرن العاشر الهجري، في كتابه “البحر الرائق” إن هناك طائفة من الأحناف حرموا زواج الحنفي من الشافعية. فقالوا: “لا ينبغي للحنفي أن يزوج بنته من رجل شفعوي المذهب”. بينما تساهل بعض الحنفية وأجازوا هذا الزواج “تنزيلًا لهم -أي الشافعية- منزلة أهل الكتاب”!

لنا ان نتخيل أن الخلاف بين الفريقين -الأحناف والشافعية- قد وصل لحدود رفض إمامة المخالف في الصلاة. في ذلك يقول: المحدّث المعاصر ناصر الدين الألباني في كتابه “أصل صفة صلاة النبي”: “.. كانت هذه المسألة -يقصد الخلاف حول صفة الصلاة- وأمثالها مَثَار فتن عظيمة بين الحنفية والشافعية، حتى لقد دفعَتْهم إلى وضع القاعدة المشهورة عند الفريقين: (وتكره الصلاة وراء المخالف في المذهب)!”. يشهد على ذلك ما ذكره الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي من أن الأحناف والشافعية كانوا يرفضون الصلاة في جماعة واحدة، وأنه -أي أحمد شاكر- شهد على بعض المواقف في مسجد الحسين بالقاهرة، والتي رأى فيها “أن الشافعية لهم إمام يصلّي بهم الفجر في الغلس، والحنفيّون لهم إمام يصلّي الفجر بإسفار. ورأينا كثيرًا من الحنفيين -من علماء وطلاّب وغيرهم- ينتظرون إمامهم ليصلّي بهم الفجر، ولا يصلّون مع إمام الشافعيين، والصلاة قائمة، والجماعة حاضرة…”.

شاهد أيضاً: التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي

في ظل تلك الأجواء الملبدة بغيوم التعصب والكراهية ظهرت العديد من الفتاوى الدموية التي حسب أصحابها أن العنف طريقًا إلى الفردوس. تقدم اجتهادات الفقيه الحنبلي تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني في القرن الثامن الهجري نماذج ممتازة على ذلك النوع من الفتاوى. من ناحية، عانى ابن تيمية من تعصب الفقهاء ضده لاجتهاده في بعض الفتاوى الخارجة عن إجماع جماهير الفقهاء في عصره، كموقفه من حكم طلاق الثلاث، ورفضه شد الرحال لزيارة قبر النبي بالمدينة المنورة. من ناحية أخرى، شارك ابن تيمية في إذكاء حالة التعصب المذهبي عندما أصدر بعض الفتاوى المتشددة التي لا نزال نعاني من آثارها حتى اللحظة. على سبيل المثال، رفض ابن تيمية المجاهرة بلفظ النية أثناء الصلاة، وقال: “الجهر بلفظ النية ليس مشروعًا.. ومن ادعى أن ذلك دين الله وأنه واجب، يجب تعريفه الشريعة واستتابته من هذا القول. فإن أصر على ذلك قُتل”. كذلك، رفض الفقيه الدمشقي إجازة تأخير الصلاة لأي ظرف، ورد على سؤال حول حكم تأخير الصلاة لقضاء بعض الأعمال “…لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار… ومن أخرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يُستتاب فإن تاب والتزم أن يصلي في الوقت ألزم بذلك، وإن قال: لا أصلي إلا بعد غروب الشمس لاشتغاله بالصناعة والصيد أو غير ذلك، فإنه يُقتل”.

عبر القرون المتتابعة، انغلقت المذاهب الفقهية على بعضها. وطور المذهبيون مفهومهم عن التقليد وضرورة التزام المقلد بواحد من المذاهب الفقهية السنية الأربعة. وفي ذلك قال الفقيه أحمد الصاوي المالكي في حاشيته على تفسير الجلالين: “لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح، والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر”!

هكذا إذن، صار الاجتهاد الفقهي خارج إطار المذاهب الاربعة المعتمدة سبيلًا للكفر وترك الدين. ومن هنا كان من الطبيعي أن يبالغ المتمذهبين -من العلماء والعامة- في إظهار تمسكهم بدقائق كل مذهب. على سبيل المثال، تعجب الشيخ الهندي صدِّيق حسن خان في كتابه “الروضة الندية في شرح الدرر البهية” من تعصب أهل المذاهب الفقهية للتفاصيل الصغيرة والهامشية في العبادات، ومنها مسألة وضع اليُمنى على اليُسرى. فقال مظهرًا اندهاشه: “…ومن الغرائب أنَّها -أي تلك التفصيلة- صارَتْ في هذه الدِّيار، وفي هذه الأعصار عند العامَّة ومَن يُشابههم ممن يظنُّ أنه قد ارتفع عن طبقتهم من أعظم المنكرات، حتَّى إن المتمسِّك بها يصير في اعتقاد كثيرٍ في عداد الخارجين عن الدِّين! فترى الأخَ يُعادي أخاه، والوالد يفارق ولده إذا رآه يفعل واحدةً منها – أيْ: مِن هذه السُّنن – وكأنَّه صار متمسكًا بدِين آخَر، ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها، ولو رآه يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل النَّفس، أو يعقُّ أحد أبويه، أو يشهد الزُّور، أو يحلف الفجور، لم يَجْرِ بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسُّك بهذه السنن أو ببعضها!”.

مسائل فقهية احتدم حولها الخلاف

من اللافت للملاحظة، أن هناك العديد من المسائل الفقهية التي احتدم حولها الخلاف والجدل بين المذاهب المختلفة. حتى انتقل النقاش حولها من ميادين الفقه إلى مدونات العقائد وعلم الأصول. من تلك المسائل كل من متعة الحج، وزواج المتعة، والاختلاف في طريقة الصلاة، والخُمس…إلخ.

من أشهر تلك المسائل، الخلاف حول الوضوء والمسح على الخفين. ذهب أهل السنة والجماعة لضرورة غسل الرجلين في الوضوء، كما قالوا: بجواز المسح على الخفين. على الجهة المقابلة، قال الشيعة الإمامية الإثني عشرية: بمسح الرجلين عند الوضوء، ورفضوا مسح الخفين. مع مرور الوقت، تحولت تلك المسائل إلى سمات مميزة لكل من السنة والشيعة. وانتقل النقاش حولها للكتب العقائدية والأصولية. من ذلك ما ورد في متن “العقيدة الطحاوية”، لصاحبها أبي جعفر الطحاوي الحنفي “ونرى المسح على الخفين، في السفر والحضر، كما جاء في الأثر”. وهو ما فسره ابن أبي العز الدمشقي، في شرحه للعقيدة الطحاوية بقوله: “تواترت السنة عن رسول الله بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة …”. كذلك نص نجم الدين النسفي في متن العقائد النسفية على المعنى ذاته، فقال: “ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر”، وفسر سعد الدين التفتازاني هذا القول: “لأنه وإن كان زيادة على الكتاب لكنه ثابت بالخبر المشهور”، ويبرز بعدها قول الكرخي: “إني أخاف الكفر على من لا يرى مسح الخفين، لأن الآثار التي جاءت فيه في حيز التواتر”، ويعلق بعدها: “وبالجملة من لا يرى المسح على الخفين فهو من أهل البدعة”. على الجانب الأخر، غضت المصادر الشيعية الإمامية الإثني عشرية بالروايات التي تنهى عن المسح على الخفين. من ذلك ما أورده الحر العاملي في كتابه “وسائل الشيعة” من أن الإمام السادس جعفر الصادق قد نهى أتباعه وشيعته عن المسح على الخفين، فقال: “لا تمسح، ولا تصلِّ خلف من يمسح”. وما ذكره محمد بن يعقوب الكليني في “الكافي” نقلًا عن الصادق أيضًا “التقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين”.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete