قراءة في سرديات التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي… الميدان السياسي نموذجًا

تكوين

تعرضنا في المقال الأول من تلك السلسلة لنماذج من قضايا التعصب المذهبي التي أثارت النقاش والجدل في الميدان العقائدي. وبيّنا أن اختلاف وجهات النظر حول صفات الله وأصول الدين قد تسبب في إذكاء نيران التكفير والتفسيق المتبادل بين الفرق الإسلامية وبعضها البعض. في المقال الثاني، تابعنا القراءة في سرديات التعصب في التاريخ الإسلامي، من خلال رصد مجموعة من نماذج الصراع، الذي وقع بين أصحاب المذاهب الفقهية وبعضهم البعض. لنفهم كيف تبدلت طبيعة الخلاف الفقهي عبر السنين. ليتحول من خلاف سائغ مقبول يدل على التنوع والثراء والتعددية وخصوبة الحضارة العربية الإسلامية، إلى صراع عنيف تبادل فيه الخصوم التشهير والتكفير والاتهامات بالخروج من الملة، والانحراف عن الصراط المستقيم.

في هذا المقال، نختتم تلك السلسلة بإلقاء الضوء على سرديات التعصب في الميدان السياسي، لنرى كيف استغل الساسة حالة التعصب القائمة في مجالات العقيدة والفقه، وكيف جرى توظيف تلك الحالة للبطش بالأعداء السياسيين بهدف إحكام القبضة على السلطة. الأمر الذي يؤكد أن السياسة والدين كانا وجهين لعملة واحدة. وأنه لا يمكن فهم التجربة الإسلامية إلا بتحليل الظاهرتين الدينية والسياسية معًا. أو كما قال أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير إحياء علوم الدين: “المُلك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع…”.

في الوسط السني

استغل الساسة الخلاف الفقهي كثيرًا للوصول إلى أهدافهم. في الكثير من الحالات تحيز السلاطين والخلفاء والأمراء والولاة لأحد المذاهب الفقهية طمعًا في نيل التأييد والدعم من قِبل الجماهير. على سبيل المثال في القرن الثاني الهجري، عرض الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور على الفقيه مالك بن أنس الأصبحي، أن يجعل من كتابه الشهير “الموطأ” عمدة للفقهاء في استنباط الأحكام. رفض مالك هذا العرض، وطلب من الخليفة الإبقاء على المذاهب الفقهية المنتشرة في كل مصر من الأمصار الإسلامية.

في المشرق الإسلامي، دار الصراع الدامي بين الشافعية والأحناف لسنين طويلة، بسبب تمذهب بعض الحكام بأي من المذهبين. على سبيل المثال، في سنة 393ه تمكن شيخ الشافعية أبو حامد الإسفراييني من إقناع الخليفة العباسي القادر بالله بتحويل القضاء من الحنفية إلى الشافعية. فلما فعل “احتج الحنفية ودخلوا في مصادمات مع الشافعية”، وذلك بحسب ما ذكر تقي الدين المقريزي في الخطط المقريزية. تبدل الوضع عقب وصول السلاجقة الأتراك إلى السلطة في القرن الخامس الهجري، تعصب السلطان السلجوقي الأول طغرلبك، ووزيره عميد الملك الكندري ضد الشافعية، وكانا يكثران من الوقيعة فيهم، حتى اُضطهد في زمنهما العديد من علماء الشافعية، وعلى رأسهم كل من أبي القاسم القشيري، وأبي المعالي الجويني. الصراع بين الشافعية والأحناف سيصل إلى مداه في النصف الأول من القرن السابع الهجري. يذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في كتابه “شرح نهج البلاغة” أن التناحر بين المذهبين اشتد في أصبهان في سنة 633ه. ووصل الأمر إلى قيام بعض الشافعية بالذهاب إلى المغول ليعرضوا عليهم المساعدة، فقبل المغول العرض وحاصروا أصبهان “…وفُتحت أبواب المدينة، فتحها الشافعية على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية ويعفوا عن الشافعية. فلما دخلوا البلد بدأوا بالشافعية، فقتلوهم قتلًا ذريعًا، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا الحنفية، ثم قتلوا سائر الناس”.

المغرب الإسلامي أيضًا لم يكن ببعيد عن تلك الظواهر. في الأندلس، ضمن بعض الحكام الدعم الجماهيري من خلال استهدافهم لبعض الفقهاء والعلماء. في القرن الخامس الهجري، قام المعتضد بن عباد ملك إشبيلية بنفي الإمام ابن حزم وأحرق كتبه، بسبب آراء الأخير المهاجمة لملوك الطوائف. وفي القرن السادس الهجري، عانى الفقيه والفيلسوف الشهير أبو الوليد بن رشد من الأمر ذاته. بعدما أمر الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف المنصور بإحراق كتب الفلسفة التي خطها ابن رشد طوال حياته.

بين أهل الحديث والمعتزلة

تتحدث المصادر التاريخية عن المئات من الحوادث التي أظهرت تعصب السلطات السياسية وتغولها في المجتمع تحت ذريعة الدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية القويمة. يمكن أن نرصد تلك الحوادث بشكل واضح بدءًا من زمن الدولة الأموية. وصل الأمويون للحكم بعدما تلطخت أياديهم بدماء آل البيت والصحابة والأتقياء. ومن ثم عمل خلفاء بني أمية على نشر المذهب الجبري، والذي يروج لحكمهم باعتباره حكمًا إلهيًا قاطعًا لا يمكن تبديله أو رفضه. في هذا السياق، تبنى المعارضون السياسيون مذهب القدر، والذي يؤكد على أن الإنسان حر في أفعاله. وبالتالي، تحول الصراع بين الأمويين ومعارضيهم من حلبة السياسة إلى حلبة الدين. ورفع الأمويون راية السنة، في الوقت الذي وصفوا فيه أعدائهم بأنهم من أصحاب البدع والأهواء.

في هذا السياق، من الممكن أن نتفهم السبب الذي حدا بالسلطة الأموية للقضاء على العديد من المفكرين الأوائل الذين نادوا بالقدرية. ومنهم على سبيل المثال، معبد الجهني، والذي تحدث شمس الدين الذهبي في كتابه “سيّر أعلام النبلاء” عن مصيره فقال: “كَانَ الحَجَّاجُ -يقصد الحجاج بن يوسف الثقفي- يُعَذِّبُ مَعْبَداً الجُهَنِيَّ بِأَصْنَافِ العَذَابِ وَلاَ يَجْزَعُ، ثُمَّ قَتَلَهُ…”. وغيلان الدمشقي، الذي قام الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بقطع يديه ورجليه، ثم صلبه على أحد أبواب دمشق. والجعد بن درهم، الذي قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة يوم عيد الأضحى، واعتبره أضحية يتقرب بدمها إلى الله!

الصدام بين الأرثوذكسية السنية والأفكار المخالفة لها سيتجدد مرة أخرى في القرن الثاني الهجري. في سنة 218ه ستبدأ المحنة المعروفة باسم محنة خلق القرآن. وذلك عندما أراد الخليفة العباسي -المتأثر بالأفكار المعتزلية- المأمون أن يفرض على الفقهاء الإقرار بأن القرآن مخلوق. في تلك الظروف تم القبض على عدد كبير من العلماء المخالفين لرأي السلطة. من هؤلاء أبو مسهر الدمشقي، ومحمد بن نوح، والبويطي تلميذ الشافعي، وعلي بن المديني، ونُعيم بن حماد، والفضل بن دُكين، ومحمد بن سعد، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل. كما شهدت تلك المحنة قتل الفقيه أحمد بن نصر الخزاعي على يد الخليفة الواثق بالله في سنة 231ه.

بعد وفاة الواثق بالله، ووصول أخيه المتوكل على الله لكرسي الخلافة في سنة 232ه تغير شكل المعادلة مرة أخرى. تبنى الخليفة الجديد أفكار أهل الحديث الرافضة للقول بخلق القرآن “…فنهى الناس عن الكلام في القرآن وأطلق من كان في السجون من أهل البلدان، ومن أخذ في خلافة الواثق، فخلاّهم جميعًا وكساهم، وكتب إلى الآفاق كتبًا ينهى عن المناظرة والجدل…”، بحسب ما يذكر اليعقوبي في تاريخه. وبعدها بدأ في استهداف رموز المعتزلة من أمثال الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات، وقاضي مصر محمد بن أبي الليث المعتزلي، والوزير أحمد بن أبي دؤاد.

في سنة 408ه، وجهت مؤسسة الخلافة العباسية ضربتها الأقوى باتجاه المعتزلة بعدما أعلن الخليفة العباسي القادر بالله عن الوثيقة المعروفة باسم الاعتقاد القادري. والتي كفر فيها جميع المسلمين الذين لا يقرون بآراء أهل السنة. يذكر ابن كثير الدمشقي في كتابه “البداية والنهاية” أن الخليفة استدعى علماء المعتزلة وهددهم “فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم…”. كذلك سرت فاعلية تلك الوثيقة خارج بغداد، فعلى سبيل المثال قام السلطان الغزنوي محمود بن سبكتكين بتهديد جميع المذاهب المخالفة لأهل السنة في الهند وأفغانستان “فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة، والمشبهة والجهمية والمعتزلة، ولعنوا على المنابر”.

السنة والشيعة

إذا كان التعصب السياسي قد ظهر في العديد من المواقف التاريخية، فإنه -أي التعصب- أخذ شكله الأشد وضوحًا والأكثر دموية في التاريخ الإسلامي في حالة الصراع السني الشيعي على وجه الخصوص.

بدأ التدخل السياسي في الخلاف السني الشيعي زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان في العقد الخامس من القرن الأول الهجري. يتحدث ابن أبي الحديد عن تلك الفترة، فيقول: “…قُتلت شيعتنا بكل بلدة وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان من يذكر بحبنا -أي المعسكر العلوي- والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو هُدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عُبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام. ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتله وأخذهم بكل ظنه وتهمة حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يُقال شيعة علي…”.

في القرن الرابع الهجري، تأثر الخلاف السني الشيعي بدخول قوة عسكرية جديدة إلى الميدان السياسي. تمكن البويهيون من فرض سيطرتهم على أجزاء كبيرة من بلاد فارس، وما لبثوا بعدها في فرض سلطتهم على بغداد نفسها. واستعانوا بمذهبهم الشيعي لترسيخ وجودهم في الحكم، فصاروا مع مؤسسة الخلافة السنية ككفتي الميزان، تعادل كل واحدة منها الأخرى. الأمر الذي تسبب في فتح الباب واسعًا أمام العامة للاقتتال واثارة الفتنة في كل فرصة ممكنة. في كتابه “البداية والنهاية” يذكر ابن كثير أخبار بعض من تلك الفتن. فيقول في سياق تأريخ أحداث سنة 353ه أن الشيعة المؤيدين من قِبل الدولة البويهية أقاموا عزاء الحسين في العاشر من محرم “فاقتتل الروافض وأهل السنة في هذا اليوم قتالًا شديدًا، وانتُهبت الأموال”. في السنة التالية، وقع الصدام مرة أخرى بين الفريقين “…وتسلط أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم، مسجد براثا الذي هو عش الروافض، وقتلوا بعض من كان فيه من القوم”. أما في عاشوراء سنة 363ه فقد تعاظمت الفتنة بين السنة والشيعة “…وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة جملًا وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي، فقُتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير، وعاث العيارون في البلد فسادًا، ونُهبت الأموال…”.

في الحقبة ذاتها تقريبًا، تمكن الفاطميون من السيطرة على مصر. لم يعمل الفاطميون على نشر دعوتهم بين العامة، ولكنهم لم يتوانوا في القضاء على أي معارض سياسي -مذهبي لحكمهم. في هذا السياق، يحكي ابن كثير خبر مقتل الفقيه السني أبو بكر النابلسي على يد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي. يذكر ابن كثير أن الخليفة استدعى الفقيه وقال له: “بلغني أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بسهم، ورميت المعزيين بتسعة، فقال له النابلسي: ما قلت هذا، بل قلت: ينبغي أن يرميكم بتسعة، ثم يرميكم بالعاشر، قال المعز: ولم؟ فرد عليه النابلسي قائلًا: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية…”. فأمر المعز عندها بسلخه حيًا!

في القرن السادس عشر من الهجرة، سيتجدد الصراع الدموي بين السنة والشيعية في صورة الحرب الضروس التي اندلعت بين الدولة الصفوية الشيعية في بلاد فارس من جهة، والدولة العثمانية السنية في الأناضول من جهة أخرى. على مدار السنين، تبادل الطرفان النصر والهزيمة، وفي كل فرصة ممكنة، استغل كل من الطرفين انتصاره ليمارس الإبادة الجماعية ضد السنة/ الشيعة المقيمين في أراضيه. في تلك الظروف، تم تحويل إيران لتصبح دولة شيعية بعد إجبار الآلاف من الفرس على التحول للمذهب الإمامي الإثني عشري. على الجهة المقابلة، قُتل الآلاف من الشيعة الذين عاشوا في الأناضول.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete