كيف فكَّرَ فلاسفة الإسلام في “أخلاقيات الاعتقاد”؟

تتأطَّرُ فلسفة الاعتقاد بمقدمتين: أولاهما مثار إدراك بنية المعتَقَد وصوره ومظاهره، وثانيهما مرتبطة بمسؤولية تبرير الاعتقاد تجاه الذات بتنزيل مضامينه أخلاقيا وعمليا في المجتمع. ولمّا كان الأمر كذلك، لزم اعتبار التفكير في المسألة الدينية الإسلامية، عند الفارابي* والعامري**، مدخلا إلى استنباط المحاولات الفلسفية الرامية إلى تكييف مقاصد الاعتقاد مع مقتضيات النموذج العقلاني الفلسفي، داخل المجتمع المسلم.

أدْرَكَ أبو نصر أنَّ التأسيس لفلسفة الاعتقاد، لا ينفصل عن التأصيل للأخلاق. ومتى تحقَّقَ هذا التلازم، كان الدين فاعلا إيجابيا في تجويد الوجود الفردي والاجتماعي والسياسي. مناسبة هذا الوعي الفارابي، هي تنبُّهُهُ إلى خصوصية السياق الإسلامي من جوانب عدّة، وتركيبته الثقافية والحضارية والروحية، التي تفرض على المفكِّر في قضايا مجتمعه أنْ يسعى إلى وضع الترتيب الأنسب لكل المكونات في هندسة واحدة متكاملة. ولعل ما ينبغي أنْ يؤطر نظم المجتمع الإسلامي هو الدين نفسه، بالنظر إلى قدرته على توجيه الوجدان الجمعي نحو الغايات السامية. إنَّ أكثر ما اهتمَّ به الفارابي، هو تخليق مجال الاعتقاد لحفظ لحمة المجتمع؛ إذْ لاحظَ أنَّ أشهر ما يُفسد شؤون الاجتماعات البشرية، ويُضعف استمرار الدول، هو الخلافات القائمة على الاعتقاد نفسه. لهذا، فإنَّ أولوية الترشيد الأخلاقي للدين هو السعي إلى ضمان وحدة الشعور الوجداني، وهذا ما يتبيّنُ في قوله: «(…) ويُحرِّمُ على نفسه ما كان حراما في ملّة نبيّه، ويوافِقُ الجمهور في الرسوم والعادات التي يستعملها أهل زمانه»[1]. يسمح الانخراط الكلِّي للأفراد في اختيار روحي واحد، بضمان الرؤى الموحَّدة في عمرانهم ككلٍّ، وليس من الفضيلة أنْ ينفرد منهم أحد برأيه متخذًا لنفسه تأويلا مغايرا للدين، لما في ذلك من تشويش على الذوق الوجداني العام. هذا النزوع الأخلاقي المرتبط بالاعتقاد، هو الذي يؤسس لدى كل واحد وعيا بمسؤولية ما يعتقد به. يبدو أنَّ تحليل وضعية “أخلاقيات الاعتقاد”* لا ينفصل عن فهم طبيعة المجتمع الإسلامي، وهو أمر لا يتعلّق بحفظ دين معيّن بقدر ما يُمثِّلُ اهتماما بمسألة هوية الأفراد الاجتماعية والسياسية. يمكن القول: إنّ موقف الفارابي من الاعتقاد لا يتجاوز حدود نظريته في المجتمع والدولة. وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ مشروع الرّجل يستحضر القوة الفاعلة للدين، ويروِّضُ متغيراتها بتوجيهات الفضيلة الأخلاقية. هذا ما يمكن أنْ ينعكس نزوعًا نحو فكرة المجتمع القومي، الذي تتظافر أرصدته الثقافية والروحية والمادية لتشكِّل مبررات انتمائه وتضمن استمراره.

بهذا الشكل، يتراءى للناظر في هذا الموقف توجيهًا أخلاقيا للاعتقاد في المجتمع، وحفظًا للوحدة الأفراد الروحية. غير أنَّ رسم حدود الدين خلف خطّ المجتمع لا يعني نفيه أو تجاوزه، بل يدلّ على ترشيد حضوره بين الناس، بجعله في خدمة مصالحهم بما يتطابق مع مقاصده. والظاهر أنَّ أبا نصر لم يولِ اهتماما كبيرًا بالفروق الداخلية المنبثقة عن التأويلات الدينية ليخوض فيها، كما لم يأخذ بعين الاعتبار الآراء الفلسفية التي لا تُنزِل الدين منزلته من الاجتماع البشري، بل كان «(…) يحيل إلى دلالة دينية اعتقادية أكثر مما يُحيل إلى مجرّد التعارض في وجهات نظر فلسفية بحتة، […] لا علاقة لها بمعطيات الثقافة والدين القائمة. وكُلُّ ما يدلُّ على التزام الفارابي بالطريق الفلسفي قد وضعه منذ البداية في حالة دفاع وتسويغ مستمرين جعلته، من غير شكٍّ، دائم الاعتبار للمعطيات الدينية عند كل تقرير فلسفي خالص»[2]. يستحضر هذا الطرح التجربة الدينية الإسلامية ضمن تصور شمولي للمجتمع والسياسة، بدءًا من وضعية الفرد الروحية إلى وضعية الدولة، غير أنّها لا تخرج عن معيارية الفضيلة الأخلاقية التي تحفظ للاعتقاد وظائفه الوجدانية التي تتطابق مع التوجُّه العام. وعليه، فإنّ التفكير في أخلاقيات للاعتقاد من داخل المجتمع الإسلامي، لا يقوم دون مبدإ تخليق الممارسة الدينية، ودون تصحيح لأفهام الاعتقاد نفسه، وهو أمر يعود بأبي نصر إلى التأكيد على وحدانية الله وصفاته، وعنايته بالعالم في جزئياته، حتى يتحقق الإيمان الواعي بمقاصد جوهره، ولكي يكون تسويغه العقلاني ممكنًا في الآن ذاته*. لهذا، تقوم «(…) مباحث الفلسفة الإلهية عند الفارابي […] على مبدأين هامَّيْن هما: “التوحيد” و”التنزيه”»[3]. إنَّ تأكيد الرّجل على تصحيح الاعتقاد وتأطيره بالأخلاق، لا ينمُّ سوى عن إدراك معرفي لوضعية الدين الفكرية واللاهوتية، التي ما فتئت تجنح نحو تأويلات لا محدودة، تُعيد النقاش في كلّ مرة إلى الأسس الاعتقادية والإيمانية، فتكون بذلك سببا في التفرقة بين الناس، وهو ما يعود بالضرر على مصلحة المجتمع. والداعي إلى هذا الإصرار على حسم القول في قضيتي: “التوحيد” و”التنزيه”، لا يفسره سوى الإرث الكلامي الإسلامي الذي كانتا من كبرى مقدماته الإشكالية، حتى تباينت الآراء والمواقف بين أفراد ثم جماعات، فعاد ذلك على الدولة بالأثر السلبي. وعليه، فإنَّ فلسفة “أخلاق الاعتقاد” عند أبي نصر لا تتجاوز الأصول الكلامية، ولكنها تعيد تأويلها على أرضية المقولات الفلسفية القادرة على تجريد مدلولاتها، والتي تبدو، في نظره، أكثر حيادا من المقولات الكلامية التي تُحيل على مذهبية معيّنة. هذا الرهان نفسه هو ما قد يعكس مرامي الرجل إلى “خلق نظرة فلسفية كونية” في المسألة الدينية، وإخراج مقاصدها إلى فضاء التفلسف الذي لا ينفيها بقدر ما يُعيد موضعتها على نحو صحيح، ينسجم مع مقتضيات العقل، من حيث هي منضبطة للأخلاق.

تُكافِئُ الحاجة إلى الدين، من حيث أهميّتها، الحاجة إلى الفضائل الأخلاقية، ولا يكون العاقل رافضًا للتجربة الروحية، إلا حين يغفل عن الرابطة المثلى بين مقاصد الإيمان وقوام السلوك البشري. وكأنَّ نظرية الفارابي في الدين لا تبرز منفصلة عن نظريته في الأخلاق أو تصوُّره للمجتمع والسياسة، ولا يتحقّقُ جوهر الاعتقاد بمنأى عن شروط نشأته ومقام اختباره. من هنا، تصير فلسفة الأخلاق مُستدخلةً للدين من باب التعزيز والتقوية، وفي الآن ذاته، مُكلَّفةً بتنزيل مقتضياته على أرضية المجتمع. قال الفارابي: «(…) العاقل يحتاج إلى دين، والدين […] هو الفضيلة. […] العاقل من كان فاضلا وجيِّد الرّويّة في استنباط ما ينبغي أنْ يؤثر من خير ويجنّبَ من شرٍّ»[4]. تنشأُ مقاييس الخير والشر في العقل والأخلاق، وعن طريقهما يكون تقييم السلوك البشري. إلا أنّ حاجة العاقل إلى الدين تُرسِّخُ الاعتقاد بفضيلة الفعل الخيِّرِ، وتُكَرِّه في نفسه الشرور والمفاسد، وهنا يلعب الإيمان الروحي دوره في تدعيم الأخلاق. إنَّ الالتزام الديني لا يمكن أنْ يكتمل غرضه دون تحقق الالتزام الأخلاقي؛ ذلك أنَّ الأول منوط بالإيمان المستند على رسالة الدين؛ أما الثاني فقائم على الوعي الذاتي والضمير، اللذين يُمثِّلان صوتا داخليا يدعو إلى الخير بالضرورة. لهذا، يُضمر أبو نصر، في نفسه، سؤالا إشكاليا قد يكون هو الآتي: هل من حق القناعات الدينية أنْ تنتصر لحرية الضمير عند الفرد على حساب لحمة المجتمع ووحدته واستقراره؟ لا يبدو أنَّ الإلزام الغائي الذي نظَّر له أبو نصر يفتقد إلى مبرراته الأخلاقية والعقلانية، لذلك فهو إلزام للذات والتزام مع الغير في المجتمع، وفي ظل النظام الحاكم والمشرف على الخير العام. الظاهر أنّ مسؤولية الاعتقاد محكومة بإعادة تعريف مفهومي “الحرية” و”الاختيار” من جديد، حتى لا يُفهم من معاني الاعتداد بالعقل والفضيلة والاستقلال شيءٌ مما قد يجعل فلسفة الرّجل إخضاعية وإلزامية. لذلك، فإنّ أولوية المؤمن هي الحرص على سلامة مجتمعه، وذلك لا يتمّ إلا بإيثار مصلحة الآخرين على قناعاته الخاصّة؛ وهو الأمر نفسه الذي يُدمج الوعي الأخلاقي في هذه السيرورة الذاتية على مستوى الفرد، القابلة للتعميم على الآخرين. وعليه، فإنَّه من حيث يريد المؤمن أنْ ينتصر لـ”الحق” في معتقده، يُذكِّرُهُ الفارابي بحق الآخرين عليه، وهذه خلاصة فلسفة أخلاق الاعتقاد عنده: «(…) التزام أخلاقي ناشئ عن علاقة بين خيرات وشرور ذاتية معيّنة، وبين الطريقة التي بها نكون معتقداتنا ونتمسك بها»[5]. تبدو طبيعة العلاقة بين الأخلاق والدين محكومة بمعيارية التقييم الدائم لثنائية “الخير” و”الشر”، التي لا تظهر أبعادها من منظور الإيمان الديني وحده، بل تُراجَعُ وتُصَحَّحُ معانيها عندما تدخل الأخلاق على الخط. لهذا، بدت هذه الأفكار الفلسفية غريبة شيئا ما عن التقاليد الاعتقادية التوحيدية؛ ولما كان هذا الرهان باديا على مسار مشاريع عدة في التراث العربي الإسلامي، فإنَّ أصحابها كَيَّفوا ما قد يدعم التصور الفلسفي ويُطابق، صوريا، بعض أسس الإسلام[6]. وهو أمر متحقِّقٌ في شقٍّ كبير منه في تجربة أبي نصر الفارابي، غير أنَّه لا ينقص من قيمة المقاربة الرائدة للمسألة الدينية عموما، والإسلامية منها بالخصوص في سياقه الاجتماعي ولحظته التاريخية. وبالتالي، فإنَّ القول بأنَّ الرّجُلَ قد حاول مطابقة الشريعة الإسلامية مع مقولات الفلسفة صوريا، لا يُبيِّنُ حقيقة مشروعه كليًّا، الذي لا يرتكزُ على الانتصار للبعد الروحي والعقدي إلا بالمقدار نفسه الذي يوافق مقتضيات الأخلاق ويخدم مدينته الفاضلة. وبالتالي، فإنّ الغاية من تخليق الشأن الديني هو ضمان “سعادة” الفرد و”إسعاد” الآخرين، كما سينزِّل مقتضياتها أبو الحسن العامري نفسه. إنّ التجربة الإيمانية التي لا تتجاوز حدود الذات الفردية قاصرة عن إدراك حقيقة الدين.

يعتاص إدراك العلاقة الصحيحة بين الأخلاق والسياسة في التراث الفلسفي العربي الإسلامي، دون التنبّه إلى مفهومين عامريَيْن: “السعادة” بوصفها تدبيرا فرديا للذات، و”الإسعاد” بوصفه تدبيرا لشؤون الغير. ومن هنا يظهر العبور من الأخلاق إلى السياسة. وجسر العبور هذا هو الدين، الذي على أرضيته يقوم تأويل مقاصد الوجود الفاضل والخيِّر للأفراد في علاقاتهم الاجتماعية. ثم إنَّ “السعادة” شعور يجلب للذات نوعًا من الامتلاء والكمال، غير أنّها خاصّة بفرد واحد دون غيره. ولما كان بلوغها مشروطًا بطريق الفضيلة، فإنّ الفاضل لا يمنع عبور الخير من طريقه إلى الآخرين. واللحظة التي يعي فيها مُحصِّلُ السعادة أنّه فاضل وكامل، فإنّه بذلك يشرع في تقاسم تجربته تلك مع مجتمعه، وهذا مناط مفهوم “السياسة” عند أبي الحسن، وعند هذه النّقلة المفصلية يبدأُ “الإسعاد”.

لقد مثَّلَ هذا الإطار النظري والمفاهيمي أرضية مشتركة بين تجربة الفارابي والعامري، غير أنّ رؤية الأوّل محكومة بتصوّره للسياسة والمجتمع، أما رؤية الثاني، فهي منطلقة من إصلاح الشأن الديني بالأساس، لكي ينشأ عنه تصور سليم للاجتماع البشري ككلٍّ لا يتجزأ. لهذا الغرض، شخَّصَ أبو الحسن أسباب فساد «الدين في ثلاثة: زلّة العلماء، وميل الحكماء، وتأويل الرؤساء. ومن لم يكن معه عقل مرصوص، لم ينتفع بالحديث المقصوص»[7]. تدور مشكلة “الدين” عند العامري على مدار تأويل أصوله، وأكثر ما يؤثر في ذلك على مصير المجتمع هو استنباط الآراء المؤثرة في مصير الشأن العام للأفراد. لذا، يمكن تصنيف هذه الأسباب ضمن ثلاث دوائر كبرى: أولاها معرفي صرف يتحمل مسؤوليته أهل العلم، وثانيها ذاتي خاص بالمصالح الخاصة للحكماء على حساب مصلحة مجتمعهم؛ أما ثالثها فسياسي محض يقوم على إرادة الطبقة الحاكمة والمحتكرة للسلطة. هذه المعضلات جميعها منبثقة عن إرادة توجيه المقاصد الدينية نحو مسار غير سليم، ولا مردَّ لها إلا بإعادة تقويم سبيلها أخلاقيا. وبالتالي، فإنَّ “فلسفة أخلاق الاعتقاد” عند العامري قائمة على رصد الاختلالات المسؤولة عن سوء فهم الدين أو عن تأويل مغرض له.

يبدأ مشروع أبي الحسن الإصلاحي مع مراجعة التراكم المعرفي والنظري والمنهجي لكل من المتكلمين والفلاسفة في السياق الإسلامي، معتبرا أنَّ حلَّ إشكالية فساد الدين، لا علاج لها إلا بتخليق أصولها الاعتقادية، بتصحيح منطلقاتها التاريخية ومقدماتها النظرية بالأساس. ولمّا تبيّنَ أنّ الإيغال في تأويل أصول الشريعة من دون استحضار مصالح المجتمع مفسدة لأمر العمران، كان ذلك مدخلا إلى نقد آراء المتكلمين بوصفها سببًا مؤدِّيًا إلى نوع من الفراغ الروحي. كما لم تكن آراء الفلاسفة المكتفية باجتهاد العقل في مقابل منقول الدين سوى نكوصٍ عن الضرورة التكاملية لأنماط المعرفة المتنوعة، والتي تسعى في كليّتها إلى وضع تصور شمولي لإسعاد الأفراد. وكلا الفريقين ساهم، في نظر أبي الحسن، بتأويلاته في توسيع الهوّة بين الناس، وفي زرع بذرة الاختلاف فيما بينهم، فبات «(…) الدين الحقيقي عندهم مقترن بالسَّفَه والغباوة؛ كأنَّ الهدى والرّشد موكول، بزعمهم، إلى التعامس* والبلادة؛ كل ذلك حيل منهم لاستصفاء الحق لطبقاته، ولاستخلاص الصواب لِغُواتِهِ. ولعمري إنّ هذه الطوائف قد بلغوا من عظيم ضررهم وظاهر آفاتهم إلى أنْ صيّروا العلوم سُبَّةً لدى الدهماء، وإصابة الحكم نقيصة عند الرؤساء، وتعرّف الحقائق عاراً على ذوي الألباب»[8]. يرفض هذا التصور الانغلاق الركود الذي يحول دون تجديد الأنظار في مقاصد الشريعة، حتى اعتبر سوء الفهم ضربا من إنتاج خطاب بديل عن الدين الحقيقي لإحراج صيغة شبيهية تلائم المصالح الشخصية، أو توافق التوجهات المذهبية، والميول المعرفية. ومادام التأويل لا ينضبط لمقاصد الفضيلة الأخلاقية في استنباط أحكام مصالح العامّة، فإنّ نتائجه لن تقود إلى أفق السعادة.

واستناد على ذلك كلِّه، يتحددُ الأساس المنهجي لمشروع تخليق الشأن الديني، عند أبي الحسن، في التذكير بمقاصد الممارسة السياسية في المجتمع، والتي تجعل رأس السلطة في الحكم ملتزما بحفظ أمن الأفراد الروحي، وتوحيد توجّههم العقدي من داخل دين الإسلام نفسه، الذي هو «(…) التسليم والانقياد»[9]. لا شكَّ أنَّ مسألة الدين غير منفصلة عن إرادة السلطة وإمكاناتها، وهي تجربة تاريخية أدركَ الرّجُلُ نجاعتها وأهميتها في تجنيب مختلف طبقات المجتمع الوقوع في صراعات سببها تأويل معيّن. لهذا الغرض، تقوم مسؤولية حراسة “أخلاقيات الاعتقاد” من إرادة الدولة نفسها، التي من مهامها أنْ تُغلق الباب على كلِّ فهم مناقض للتوجه الرسمي الضامن للاستقرار الروحي لأفراد المجتمع. وإذا كان الأمر على هذا الشرط، فإنّ: «الحيلة في استدامة العامّة، والترغيب في الألفة، وحظر الشتات والفرقة»[10]، جميعها قيمٌ ضرورية لتحصين الهوية الدينية. يتخذ السبيل الإصلاحي مسارا نقديًّا لتأسيس أخلاقيات للاعتقاد في الفضاء الإسلامي. وتُجسِّدُ رؤية العامري الوعي الفلسفي بضرورة تحديد المسؤوليات التاريخية لأسباب الفساد والإصلاح في تاريخ العقل المسلم. لأجل تلك الغاية، لم تكن الرُّدود على المتكلِّمة* سوى مدخلٍ نظريٍّ إلى إبعاد الآراء “العدمية”، في القضايا العقدية المتعلّقة بـ”الذات” و”الصفات” و”الأفعال”، عن التشويش على الاعتقاد الجمعي لباقي المسلمين. وعلى هذا المنوال، فإنّ سياسة الاعتقاد هي تدبير التأويل، والاقتصاد في الاعتداد بالعقل في مقابل التجربة الإيمانية، قبل أنْ تكون سياسة الحكم والسلطة التي تُشرف عليها الدولة.

يبدو أنَّ فلسفة العامري في تنظيرها لـ”أخلاقيات الاعتقاد”، تحصر مجمل العوائق على مستوى النخبة المثقفة أو الطبقة الحاكمة في المجتمع الإسلامي. لكنها لا تقوم بذلك إلا وفق رؤية تستحضر الهاجس الاجتماعي تُمثِّلُ العامَّة قاعدته الأساسية؛ ذلك أنَّ “الفضاء العمومي” الإسلامي مُشترك بين مختلف هذه المكونات وغيرها، فكان من شروط الاعتلاء لسدّة الهيمنة على العقل مُحَدَّدٌ في مدى التحكّم في تأويل الدين نفسه، وهذا عائق معرفي ومنهجي أمام تخليق الشأن العقدي، ليحمل المتأمِّلَ على إعادة السؤال إلى أصله عند أبي الحسن؛ على اعتبار أنَّ «كيفيّة الإسعاد إنّما هي كيفية السياسة التي بها تحصيل السعادة. وأقول إنّه لا فصل بين أنْ يقول قائلٌ كيف يسوس؟ من يسوس؟ وبين أنْ يقول ما كيفيّة السياسة؟»[11]. يبتدئُ التمييزُ بين الأخلاق في مستوى “السعادة” والسياسة، من التفريق الذي أقامه أبو الحسن بين “التأديب” و”التدريب”؛ إذْ الأول يتخذ طابعًا تعليميا، بينما يحيل الثاني على نوع من التأهيل. ومساءلة السياسة في بعدها الأخلاقي، لا يرتكز على بنية السلطة وممارساتها، بل يقوم على أساس توحيد الوجدان الجمعي، بما يضمن استمرار المجتمع واستقراره، ليتحقق الانتقال من “السعادة” إلى “الإسعاد”، بفعل «(…) السائس بما يَسْعَدُ به المُساس»[12]. وأول ما يُصِرُّ عليه العامري في هذا الباب، أنْ يكون الدين فعالية للاجتماع البشري، وأنْ تكون مرتبته مُعتبرة من حيث الاعتقاد به، كون إنكاره، مع إمكان وجوده، غير مفيد في سعادة الأفراد. وفي هذا وعي بأهمية التجارب الروحية الموحّدة داخل المجتمع، وحفظُ مكانتها الرمزية من شأنه أنْ يكون مدخلا إلى مصالح كثيرة. وبيان ذلك في قوله: «(…) فإنهم مع اختلافهم في فروع الشرائع يتفقون على أنّ الجاحد لأبواب لعبادات كلها، والتارك لصنوف المعاملات، والمنكر لوجوه المزاجر، لن يصلح له دين ولا دنيا، ولا تحصل له آخرة ولا أولى. وإذا كان هذا معتقدهم، وعليه مدار أمرهم؛ فقد صار المُعرضُ عن الشرائع الدينية لفرط شغفه باتباع ما أوجبه العقل مُتّبعا لما أجمعت الأمم كلها على خلافه»[13]. ينظر العامري إلى أهميّة الدين في جانبه التأطيري والإرشادي الذي يستطيع توجيه الذوق العام، وترسيخ الأخلاق روحيا، من خلال مقاصد الاعتقاد الرامية إلى جلب الخير العام، وطلب المصلحة العليا للمجتمع. وعلى أساس ذلك، سيكون طرح العامري أقرب إلى محاولة تكوين شبكة من القضايا المتسلسلة والمترابطة، لكي تقود نتائجها السببية إلى نتيجة واحدة؛ ومعنى ذلك: أنَّ تخليق الاعتقاد مشروط بتصحيح التأويلات والأفهام في الدين من قبل النخب المثقفة، ومتَّصل بمصير المجتمع واستقراره السياسي. وجماع هذا كله، هو جعل المغزى الروحي في خدمة المشروع المجتمعي، ومحاصرة كل نزوع نحو التفريق بالناس باسم الدين؛ ذلك أنَّ “أخلاقيات الاعتقاد” تقوم على تصحيح الفهم، ثم تحمّل مسؤولية الدين، وتبرير مواقفه أخلاقيا لفائدة الأغيار. إنَّ مهمّة الأخلاق في مجال الاعتقاد، هي كبح جماح المعرفة وإرادات القوّة المتوارية خلف تأويل الدين.

بناءًا على ما سبق، يمكن الخلوص إلى نتيجة مفادها: أنّ محاولات الفارابي والعامري لدمج الأخلاق في مشروع الإصلاح الفلسفي للخطاب الديني في المجتمع الإسلامي، قد استند إلى مقومين: أولهما قدرة الدين على ترسيخ القيم الأخلاقية الفاضلة إذا تمَّ توجيه إرادته نحو مشروع مجتمعي وسياسي واضح. وثانيهما مضمونه أنَّ بناء صرح أخلاقي للاعتقاد يقتضي بداية نقد الأطر النظرية والمعرفية والمنهجية للنخب المثقفة التي أثَّرت في متغيرات المجتمع الفكرية والتاريخية، ثُمَّ ترشيد هذا الاعتقاد نحو غاية يكون فيها المجتمع والسلطة في وضعية التزام أمام أمن الأفراد الروحي واستقرارهم الوجداني. وهذا عينه ما اتفق الرَّجُلان على تسميته: “السعادة” و”الإسعاد”. وإذا كان أبو نصر الفارابي قد ساهمَ في تأسيس الأرضية المفاهيمية لفلسفة رائدة في تحليل الشأن الديني، من داخل السياق العربي الإسلامي ضمن مشروعه الاجتماعي والسياسي لإنشاء “مدينة فاضلة”، فإنّ مظاهر بروز نظريته لن تكون أكثر وضوحًا من دون تتبُّع مظاهر تأويله لوظائف “الملَّة” في أبعادها السياسية والاجتماعية.

 

*– هو محمد بن محمد بن محمد بن طَرخان، المشهور بـ”أبي نصر الفارابي”. وُلد بفاراب عام 260هـ/874م، ودخل بغداد وهو ابن العشرين من عمره، وقيل إنَّه لم يكن يعرف العربية قبل دخوله هذا. واشتهر بكونه من أوائل من برعوا في الفلسفة والمنطق، وممن يعود إليهم الفضل في شرح مستغلق أفكار اليونان، والتعليق عليها، فضلا عن تآليفه في مختلف تصانيف العلوم، حتى لُقِّبَ بـ”المعلِّم الثاني”. توفي (قُتل؟) عام 339هـ/950م وهو في كنف سيف الدولة الحمداني. من أشهر مصنَّفاته: “إحصاء العلوم”، “آراء أهل المدينة الفاضلة”، “السياسات المدنية”، “تجريد رسالة الدعاوى القلبية”، “رسالة في العقل”، “شرح رسالة زينون الكبير اليوناني“، “فصول منتزعة”، “كتاب الجمع بين رأي الحكيمين”، “كتاب الحروف”، “كتاب الملّة”، “كتاب تحصيل السعادة”، “ما ينبغي أنْ يُقَدَّمَ قبل تعلُّم الفلسفة“.

**- هو محمد بن يوسف أبو الحسن العامري النيسابوري. وُلد بنيسابور عام 302هـ/914م، وتنقَّل في أرجاء البلاد الإسلامية آنذاك، حتى أخذ مختلف العلوم عن كبار رجالاتها، حتى برع في الفلسفة والكلام والمنطق والفقه والتصوُّف. توفي سنة 381هـ/991م بنيسابور، وقد خلَّف وراءه إرثًا فلسفيا فريدًا، توَّجَ أفكار القرن الرابع الهجري. ومن أبرز مؤَلَّفاته: “السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية”، “رسالة القول في الأبصار والمبصر”، “كتاب الإعلام بمناقب الإسلام”، “التقرير لأوجه التقدير”، “إنقاذ البشر من الجبر والقدر”، “الأمد على الأبد”. كما تجدر الإشارة إلى شهرة ثلاثة مصنَّفات أخرى مفقودة، وهي: “الإبانة على علل الديانة”، و“الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد”، و“النسك العقلي والتصوّف الملِّي”.

المراجع:

[1]– محمد أبو نصر ابن طرخان الفارابي، شرح رسالة زينون الكبير اليوناني، (حيدر آباد: مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، 1349هـ، الهند)، ص. 9.

*– نستعمل مفهوم “أخلاقيات الاعتقاد-Ethics of Belief” استعمالا إجرائيًّا للدلالة على مجمل المقاربات التي سيقوم بها الفارابي والعامري، والتي تنسجم في أبعادها النظرية والإشكالية مع القواعد الثلاث التي يتأسس عليها التفكير الفلسفي في أخلاقيات الاعتقاد كما وضعها وليم كليفورد-William Kingdon Clifford (1845-1879م)، وهي: 1. “واجب التحقق من الاعتقاد” – 2. “اعتدال سلطة الاعتقاد” – 3. “حدود الاستدلال على الاعتقاد”. راجع:

William Kingdon Clifford, «The Ethics of Belief», (in: The Ethics of Belief), Edited by: A.J. Burger, Revised Edition, (New-York: Acid Free Paper, 2008, U.S.A.), pp. 9-40.

[2]– فهمي جدعان، نظرية التراث، (عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع، 1985م، الأردن)،  ص.ص. 237-238.

*– الظاهر أنَّ نقد الفارابي لبنية العقل الفقهي والكلامي معاً، لا يقوده إلى موقف بديل خاص به، بصورة واضحة، لكنه يُصرُّ على أهمية ربط مقاصد الدين بتقويم السلوك الفردي والجماعي، فضلا عن جعل الاعتقاد الروحي حصيلة تطهير النفس وتجويد عمل العقل. راجع: ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة: كمال اليازجي، (بيروت: الجامعة الأمريكية-الدار المتّحدة للنشر، 1974م، لبنان)، ص.ص. 165-167.

[3]– زينب عفيفي، الفلسفة الطبيعية والإلهية عند الفارابي، تصدير: عاطف العراقي، (الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2002م، مصر)، ص. 252.

[4]– محمد أبو نصر ابن طرخان الفارابي، رسالة في العقل، تحقيق: موريس بويج، (بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1938م، لبنان)، ص. 5.

[5]– ألفن بلانتنجا، «هل الاعتقاد بالله اعتقاد أساسي؟»، ترجمة: محمد سيد سلامة، (ملحق كتاب: “مدخل إلى إبستيمولوجيا الدين”)؛ (بيروت: نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الثانية 2022م، لبنان)، ص. 170.

[6]– أنظر: بيار دوهيم، مصادر الفلسفة العربية، ترجمة: أبو يعرب المرزوقي، تقديم: روجي أرنالداز، (دمشق: دار الفكر، 2005م، سوريا)، ص.ص. 19-20.

[7]– محمد أبو الحسن ابن يوسف العامري، كتاب الإعلام بمناقب الإسلام، دراسة وتحقيق: أحمد عبد الحميد غراب، (الرياض: مؤسسة دار الأصالة للثقافة والنشر والإعلام، 1988م، السعودية)، ص. 185.

*– عمس، يعمس، عمسًا: أي “تَغافَل” و”تَجاهَل”. والقصد السياقي في قول العامري غرضه بيان رفض الاستزادة من المعرفة التي تزيح ربقة الجهل والشبهات في الحقائق الدينية.

[8] – محمد أبو الحسن ابن يوسف العامري، رسالة القول في الأبصار والمبصر، دراسة وتحقيق: سحبان خليفات، (عمان: منشورات الجامعة الأردنية، 1988م، الأردن)، ص. 412.

[9]– النعمان أبو حنيفة ابن ثابت، الفقه الأكبر، مراقبة: السيد شرف الدين أحمد، (حيدر آباد: مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الثالثة 1979م، الهند)،  ص. 6.

[10]– محمد أبو الحسن ابن يوسف العامري، السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية، تقديم وتصحيح: حسين قدمى، (قم: منشورات آية إشراق، 1398هـ، إيران)، ص. 186.

*– يُعلِّقُ أبو حيان التوحيدي (ت. 414هـ/1023م) على هذه المحاولات النقدية للمتكلمين التي قام بها العامري في كتابه: “إنقاذ البشر من الجبر والقدر”، قائلا: «(…) وهو كتاب نفيس، وطريقة الرجل قوية، ولكنه ما أنقذ البشر من الجبر والقدر؛ لأنَّ الجبر والقدر اقتسما جميع الباحثين عنهما والناظرين فيهما». علي أبو حيان بن محمد التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تصحيح وضبط وشرح: أحمد أمين وأحمد الزين، (بيروت: دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر والتوزيع، 1950م، لبنان)، الجزء الأوّل، ص. 223.

[11]– محمد أبو الحسن ابن يوسف العامري، المصدر السابق، ص. 172.

[12]– المصدر نفسه، ص. 279.

[13]– محمد أبو الحسن ابن يوسف العامري، كتاب الإعلام بمناقب الإسلام، ص.ص. 98-99.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete