لماذا كان الرجال قوّامين؟ ولماذا لم يعودوا كذلك؟ محاولة لإعادة قراءة القوامة في الإسلام

تكوين

عنترة بن شداد وأفروديت: الرجولة والأنوثة

يحاول هذا المقال إعادة فهم منطق الشريعة الإسلامية ككل، وذلك بإجابة سؤال أساسي: ما حاجة مجتمع القانون للشريعة؟ بعبارة أخرى: لماذا تضمن الإسلام جانبًا تشريعيًا، إذا كان بمستطاع الإنسان التوصل إلى القيم الخلُقية بعقله، وبتوافق الناس حول القانون في مجتمع القانون؟ ولهذا يندرج هذا الطرح تحت عنوان “أصول الفقه”. على أن الصلة بين أصول الفقه من جهة وفلسفة القانون من جهة أخرى قارّة ومعروفة. ولذلك يندرج هذا الطرح كذلك تحت مسمى فلسفة القانون. ويتخذ المقال مسألة القوامة في الإسلام نموذجًا. ولكي ننجز هذه المحاولة، نحتاج إلى تركيب مفاهيم أساسية بمنهج ظاهراتي، أيْ –لغير المختص- الوقوف على التصورات في العقل الجمعي اعتمادًا على البداهة، بقطع النظر عن مصدر تلك التصورات، وعن حكمنا عليها بالصواب أو الخطأ. والمدخل المفهومي البدهي هو الذي يغطّي ثلاثة مفاهيم في عبارة “الرجال قوامون على النساء”: الرجال، والنساء، والقوامة.

يمكن التمييز بدءًا بين الرجولة والأنوثة على أساس التمييز بين الديناميكي، المتحرك، وبين الإستاتيكي، الثابت، من جهة، وكذلك التمييز بين الإتيقي، الخلُقي، ما يتعلق بالأخلاق، وبين الإستطيقيّ، ما يتعلق بالجمال، من جهة أخرى. فالرجولة مفهوم خُلقي، ديناميكي، يتعلق بالميول في صلتها بالسلوك، بحيث يقيَّم الرجلُ بأفعاله، وكلامه، وبالعلاقة بينهما، أي الوفاء بالوعد، مطابقة الكلام للفعل. وهو ديناميكي؛ لأننا لا نحكم على الرجل في حال الثبات، بل بملاحظة القول، والفعل، أي ملاحظة حدَث، يتمّ في زمان، وكأننا نصدر حكمًا على مشهد تمثيلي، لا نراه مكتملاً في لحظة واحدة. لا يمكننا مثلاً فهم نُبل أخلاق عنترة بن شداد في سيرته الشعبية إلا بسرد قصته. ويجب الإشارة إلى أن تعبير “خلُقي” لا يعني حُسن الأخلاق، بل يعني مجال الحكم أصلاً بالحُسن أو القبح في الأفعال.

أما الأنوثة فهي مفهوم جمالي، استطيقِيّ، وإستاتيكي، كتمثال أفروديت، يتعلق بالأثر في الحس، والشعور، وفي طبيعة العلاقة بينهما في الموضع الواحد. وهو إستاتيكي، ثبوتي، لأننا نحكم على المرأة -من حيث أنوثتها- كما نحكم جماليًا على عمل تشكيلي، مكاني. وبينما يتحرك الرجل في الطبيعة، والنفس، والأنثى، فإن الأنثى بالنسبة للرجل عالَم كامل من عوالمه الثلاثة (الطبيعة، والنفس، والأنثى). إنها أقرب إلى لوحة مجسمة، يتحرك فيه الرجل بجسده، وعقله معًا، وتمثل له مجالًا من المجالات النادرة جدًا في الواقع لتَحقُّق الخيال، والأحلام. ذلك أنّ الرجل قد لا يجد ما يتخيل في الطبيعة حوله، أو في نفسه بداخله، إلا نادرًا، لكنه كثيرًا ما يجد في الأنثى ما يتمنى، حتى إذا ظلت بعيدة المنال. الخلاصة الجزئية هي أن الأنثى بالنسبة للرجل ليست ديكورًا مسطحًا، بل مجالًا ثلاثي الأبعاد لحركته هو نفسه. الرجل يتحرك “في” الأنثى، حين يتحرك نحوها، حين يتخيل الأنثى المثالية، ثم يجدها، أو حين يجدها في الواقع، لترسم له ملامح الأنثى، التي يشعر معها أنه كان عليه أن يتخيلها. والخلاصة الكلية هي أن الرجولة فِعْل، وزمان، إذا كانت الأنوثة كينونة، ومكان.

أما القوامة، المفهوم الثالث، فهي، كما يفهمها الناس، مرادف للرئاسة، وذلك بناء على صلاحية الرجل للقيادة. فما مؤهلات الرجل، التي مكّنته، أو تمكنه، من هذه الميزة؟ وهل هي ميزة فعلاً؟

هرمونات المجتمع الجنسية

يمكن القول مجازًا بأن للمجتمع ككل هرمونات جنسية، تقوم بصوغ بنيانه، وتوجيه أفعاله، كما أن للفرد فيه هرموناته، التي تشكّل جسده، وتوجه سلوكه. بسبب فاعلية الهرمونات الجنسية يشعر كل رجل، وكل امرأة، وعلى نحو لا واعٍ غالبًا، بالحاجة للحصول على اعتراف مجموعته، وذلك عن طريق نيل اعتراف الجنس الآخر، ولكنْ بطريقتين مختلفتين. طريقة التستوستيرون الذكري مختلفة عن طريقة الإستروجين والبروجستيرون الأنثويين. بسبب هذا الاختلاف الهرموني يسعى الرجل لكي يكون رجلاً جدًا، وتسعى المرأة لتكون امرأة للغاية. وحين تفعل الهرمونات الجنسية الذكرية فعلها، يتوجه الرجل إلى استعراض نفسه: إذا كان عضوًا بفريق بحث، سعى إلى أن يكون الأذكى، أو الأمهر، أو الأحكم في القيادة، وإذا كان عضوًا بالمافيا، اجتهد في أن يكون مجرمًا شرسًا. ولهذا السبب لوحظ في الأبحاث أنَّ أكثر المجرمين السيكوباتيين (منعدمي الضمير) هم أصحاب النَّسَب العليا من هرمون الذكورة. ليس لأنّ هرمون الذكورة مسبب للعنف، أو الخداع بلا وازع خلُقي، كما يظن البعض، أو كما كان يظن العلماء في الماضي القريب، بل لأن هرمون الذكورة استعراضي عمومًا. ولهذا كان الطاووس أجمل من أنثاه. ولكنْ ما تفسير ذلك؟ لماذا يتجه الرجل بسبب هرموناته إلى الاستعراض؟ السبب هو أن الرجل اللافت لنظر الأنثى أقدر على الفوز بها؛ لأنه فاز فعلاً بمعركته قبل أن تبدأ. بالأحرى يبدأ الرجل معركته مسبقًا، قبل أن يخاطب الأنثى بأي صورة. وكل ذلك يسير في هذا المسار على نحو تلقائي، لا افتعال فيه، ولا تخطيط له، وبلا وعي به.

ولكي تكون الأنثى أنثى جدًا، فإنها –في المقابل- تسعى لأن تكون هدفًا لكل الذكور. صحيح أنها أظهَر في الاستعراض من الرجل في التجمُّل، والتعطُّر، وإظهار المفاتن، التي قد تكون مفاتن غير جسمانية بالمرة، كادعاء الغموض، والعمق، أي بيان كونها مجالاً أعقد، وأعمق لحركة خيال الرجل، ولكنْ علينا أن نلاحظ أنه فعل يتم في المكان الواحد، غير متبوع غالبًا بحركة من جانبها. هذا بينما لا يكتفي الرجل بطبيعة الحال بالاستعراض، ولا يغفل عن حقيقة أن هذا استعراضه ما هو إلا الخطوة الأولى في طريق، ينتهي بالتوصل إلى هذه الأنثى، ويجب أن يمر بمرحلة مخاطبة هذه الأنثى بالمعنى الوسع للمخاطبة. وبينما هو هرمون الذكورة هرمون عملي، بمعنى أن هذا الاستعراض الذكوري هو كذلك تفوق في عمل، أو مهنة، ويخدم الهدف المجتمعي إذا كان مشروعًا، وهامًا، كما يخدم الهدف الجنسي في آنٍ واحد، فإن هرمون الأنوثة غير عملي بالمعنى السابق، ويخدم الهدف الجنسي فحسب، ولا يؤدي إلى تفوق المرأة بغريزتها في دراسة، أو مهنة. وهذا ما جعل الاختلاف بين نوعي الهرمونات يذهب إلى أبعد من كل ذلك في نطاقين: نطاق ضيق كمجموعة من الرجال، أو النساء، ونطاق واسع هو نطاق المجتمع ككل.

النطاق الأول: صراع النساء وصداقة الرجال

لماذا قال نيتشه إن النساء لا تصلحن للصداقة؟ تفسيرنا هو أن الصداقة كما يفهمها الرجال مفهوم خلُقي، يتعلق باستثمار بعيد المدى لعلاقة متزنة مع النُّظَراء من الرجال. وهي “متزنة” بمعنى وقوف هذه العلاقة بين رجل ونظيره على الحد الفاصل بين التضحية بحق الأنا، وبين الجور على حق الآخَر. بعبارة أخرى: يتميز الرجل من حيث كونه “رجلاً” في مجتمع من الرجال الجالسين على مقهي مثلاً بكونه عليمًا بالحدود غير المرئية بينه وبين رفاقه؛ فلا يَخضع حين يقع عليه الظلم، لكنه كذلك لا يستعدِي غيره كي ينال حقه. وقد تصل الصداقة إلى حد الوفاء لصديق بلا انتظار مقابل، لكن هذا يشترط تقديم هذه التضحيات طواعيةً، وفي حال، يمكن للرجل فيها من حيث المبدأ أن يضنّ بالتضحية إن أراد. وكلها أحكام خلُقية، تتناسب مع كون مفهوم الرجولة مفهوم خلُقي بالأساس. ولكن الحال جد مختلفة في مجتمع من النساء الجالسات على المقهى ذاته.

لأن مفهوم الأنوثة غير خُلقي، لم تتكون بين النساء وبعضهنّ عادةً، واعتمادًا على الغريزة لا القصد الواعي، هذه العلاقة، التي ندعوها الصداقة بالمعنى السابق أعلاه. ربما تتكون صداقة بين امرأتين، كانتا لمدة طويلة زميلتَي دراسة، أو عمل، ومرتا معًا بالكثير من الخبرات، والمعاناة المشتركة، لكن هذا يختلف اختلافًا جذريًا عن الصداقة بين رجل، ورجل، التي لا تشترط مثل هذا الشرط الصعب، الذي يقتضي أنْ تستمر العلاقة عبر سنين عديدة، وخبرات متنوعة. ولهذا، بسبب غياب الصداقة بالمعنى السابق بين النساء، تتحكم الغَيْرَة، والحسَد، والمقارنة في علاقة المرأة بنظيراتها في مجموعة النساء المفترَضة. ولا تجد النساء عادة في مجموعة مثل هذه غضاضةً في الاغتياب، والنميمة. ليس لأن المرأة كائن شرير، أو لأن المرأة شريرة مع المرأة تحديدًا، بل لأن مفهوم الأنوثة نفسه مفهوم جمالي.

لو تخيلنا أن الحياة قد دبّتْ في مجموعة من اللوحات الفنية، وأن هذه اللوحات الفنية تتفاعل فيما بينها، لكان السؤال هو: أيها أجمل؟ وليس: أيها أحسن خلُقًا؟ باختصار: ليست المرأة كائنًا شريرًا، كما ظن الرجال قديمًا، وكما يظنون أحيانًا في يومنا الحالي، بل هي كائن لا-أخلاقي Non-ethical، أيْ لا تنطبق الأحكام الخلقية بالخير أو الشر على أفعاله، وكلامه. ويمكن التمثيل لذلك بسهولة حين نلاحظ أن قيمة الوفاء بالوعد، حتى لو كان تافهًا، وبسيطًا، مثل تحديد موعد محدد للقاء، من معايير تقييم الرجل للرجل، لكنه ليس معيارًا على الإطلاق لتقييمه للمرأة، ولا لتقييم المرأة للمرأة. ومما لا تفهمه المرأة بالبداهة كيف يضحّي زوجها، أو خطّيبها بالمال، أو الوقت، بسبب كلمة شرفٍ، لا يصح معها أن يتراجع فيها، حتى لو جاء الوفاء بها على حسابه. في هذه الحالة تعتقد المرأة أن هذا الرجل غبي ببساطة، أو خانع بالطبيعة، بينما يعتقد هو أن هذا واجبه، ولا يدرك أن طبيعة هرمون الذكورة الاستعراضي هي التي أملت عليه هذا التصرف. صحيح أن الوفاء بكلمة الشرف تلك قد لا يؤدي إلى اجتذاب أنثى، لكنّ الهرمونات تفعل فعلها، حتى لو لم تؤدِّ إلى غايتها الأصلية. إنها تشكل سلوكنا نحو أنفسنا، ونحو الآخرين، حتى مع انتفاء الغاية من هذا السلوك، فالهرمونات في حد ذاتها عمياء.

لذا وقع صراع بين كل امرأة وأي امرأة غيرها؛ بسبب أن مفهوم الأنوثة جمالي أولاً، وغير خُلقي ثانيًا، لكن الرجال –في المقابل- لم يتورطوا داخليًا في صراع؛ لأن سلوكهم في الصراع يؤثر على تقييم الناس لرجولة الرجل منهم. قد يغتاب الرجل رجلاً، لكنه يظل سلوكًا شائنًا، حتى في المجموعات، التي تسمح بهذا السلوك، وعلامة على ضعف الموقف، والخسة. أما المرأة فهي مدفوعة بقوة مختلفة تمامًا، قوة أن تبدو أجمَلَ، ومن دون عوائق، تلقيها في طريقها الحاسّة الخلُقية.

النطاق الثاني: الشرَف المادي والشرَف المتخيَّل

وقد مارست التربية دورها لكي يصير الرجل رجلاً حين يكبر، وكي تصير المرأة امرأة لأقصى حد. تتمحور تربية الطفل الذكر عادةً، وخاصة في مجتمعات ما قبل الحداثة التصنيعية، حول القدرة على التحمل دون شكوى، وإخفاء مظاهر المعاناة، بل إخفاء المشاعر ذاتها دون انطواء، نوع من الدبلوماسية إن جاز التعبير. لكن إظهار المشاعر لدى الفتاة في المقابل لا عيب فيه. لهذا ترتسم العواطف ارتسامًا واضحًا على ملامح الفتاة منذ الطفولة إلى الشيخوخة، لكنها تختفي تدريجيًا إبّان البلوغ لدى الولد. وبينما يمكن قراءة نفسية المرأة من وجهها، كخطوط على لوحة فنية، فإننا لا نستطيع عادةً قراءة أفكار الرجل، ومشاعره، إلا إذا لاحظنا سلوكه لفترة، وفي مواقف بعينها تختبر هذا السلوك. إذا أردنا فهم امرأة، علينا أن نمعن النظر إلى وجهها، ولغة جسدها، بينما يمكننا فهم الرجل بترتيب أفعاله، وردود أفعاله في البيئة المحيطة.

إن تدربهم منذ البلوغ غالبًا على التحكم في السلوك -بما هو فضيلة تحت أسماء مختلفة- هو الذي جعل متوسط الرجال، إذا ما قورنوا بمتوسط النساء، أبعد نظرًا، وأقدر بالفطرة على تولي مناصب قيادية، ودبلوماسية، في حين أنَّ انتفاء مثل هذا التدريب هو الذي جعل للنساء شهرة في الاندفاع في التصرف، والكلام، حتى أن كثيرًا من الرجال لا يعتبر المرأة أنثى حقًا إلا إذا تميزت بقدر ملحوظ من التهور، والمزاجية، والتردد. وهو ما أدى إلى أنْ يصير الرجل كائنًا خياليًا، بمعنى أن عالمه يزدحم عادةً بأمور متخيلة: الأنثى المثالية من وجهة نظره، والأهداف، التي لم تتحقق بعد، والطريقة المثلى للتصرف في مواقف لم تقع، وربما لا تقع له أبدًا، في حين تعد المرأة مقارنة به واقعية، وحيّة في العالَم المادّي.

وقد ارتبط هذا بخاصية بُعد النظر سابقة الذكْر؛ لأن الخيال القابل للتحقق من حيث المبدأ يعني أن للرجل زمانين: زمانًا في التصوُّر، زمان العقل، فيه يتخيل الرجل كيف يمكن إعادة ترتيب الأحداث، أو تركيب الأجزاء، لتخدم هدفًا أفضلَ، أو لتغدو الأشياء أجملَ، كما قال صلاح عبد الصبور ذات مرة “أمضى عندئذ، أتسكع في الطرقات/ أتتبع أجساد النسوة/أتخيل هذا الردف يفارق موضعه ويسير على شقيه/ حتى يتعلق في هذا الظهر/ أو هذا النهد يطير ليعلو هذا الخصر/ وأُعيد بناءَ الكون“. أما الزمان الثاني فهو الزمان الطبيعي، الذي تجري فيه الأفلاك في السماء، وتسير فيه على الأرض النساء. وإذا لم يجد الرجل –لذلك- امرأةً له في الزمان الطبيعي، ظل حبيس زنزانة زمان العقل الانفرادية، وظل يخطب وحده وسط موجودات العقل الافتراضية. وفي المقابل لا تشعر المرأة، التي لا تجد رجلاً لها، سَجنًا، ولا انفرادًا، ولا وجودًا افتراضيًا لا ينتهي. الرجل بلا امرأة مسجون على مستوى معين من مستويات وجوده، أما المرأة بلا رجل فهي تشعر بالوحدة، التي نشعر بها وسط الغرباء، لكنها لا تستشعر السجن. الرجل الوحيد مسجون وحده، أما المرأة الوحيدة فهي في أسوأ الأحوال مطلقة السرح في صحراء. لذلك فالمرأة مجال من مجالات تحقق خيال الرجل كما قدّمنا، ومفتاح من مفاتيح باب الحرية.

إذن ليس بُعد النظر هو الذي منع الرجال من الاندفاع، بل هو المهارة في التحكم في الذات، في النفس، التي تدربوا عليها، هي التي منحتهم سعة زمانية أصلًا لتخيل ما هو بَعيد من الأهداف، والأشكال. كل الموضوع هو أن لدى الرجل عادةً وقتًا أطول ببساطة للتفكير قبل الفعل. ولأن الرجل يجمع بين ميزتي بُعد النظر، وقوة الجسد، صار أصلح للحركة، للقيادة، والريادة، بينما جمعت المرأة جمالَها مع قدرتها على استغلال هذا الجمال، والتحكم في صفاته، ولهذا صارت أصلح لأن تكون موضوعًا للفن، كما هي بحكم جسمها وغريزتها بيتٌ للطفل، وأصبحتْ على نحو عام أنسبَ لأنْ تغدو مجال حركة خيال الرجل سابق الذِّكر. وفي الحقيقة العميقة: العكس هو الصحيح بوجه عام، فقوة الجسد، وخفة الحركة بالمعنى المادي للحركة، هي التي أنشأت مفهوم الرجولة، الذي يتمتع بانتشار أنثروبولوجي، وإثْني، يقترب من التغطية الكاملة، في مقابل انتشار مقابل لنفس المفهوم عن الأنوثة، الناشئ في المقابل عن نعومة جسم المرأة، وألوانه الطبيعية، والصناعية، وروائحه المتنوعة، الطبيعية منها، والصناعية.

بناءً على كل ما سبق: متى ينتقص الفعل من رجولة الرجل أو أنوثة المرأة على نحو غريزي؟ حين نحاول إجابة هذا السؤال، يتضح الفرق جليًا بين الجنسين في مسألة الأخلاق، ونفهم لماذا نعتَ الرجالُ قديمًا النساءَ بالشرّ. ينتقص الفعل من رجولة الرجل على نحو غريزي، حين يظهر مِن سلوكه ما نعتبره بسببه “صديقًا سيئًا”، أو “صديقًا للا أحد”، أيْ رجلًا لا يُوثَق به. هذا بينما لا ينتقص الفعل السيئ مِن أنوثة المرأة، سواءً خالفت وعدًا، أو سلكت سلوكًا عاهرًا. ترى أغلبُ النساء العاهرةَ امرأةً سيئة الخلُق، لكنهن لا يرينها أنثى غير كاملة، بل قد تكون في نظرهن “طاغية الأنوثة”. والسبب في ذلك كما نعتقد هو أن شرف الرجل غير مادّي، وأن شرف المرأة على العكس مادي، وعضوي. وطالما كان شرف الإنسان عمومًا ذا محلٍّ، وذا عضوٍ، فإن سلوكه لا ينسحب على الحكم على جنسه. بعبارة أوضح: يجب أن يتمتع الرجل بسلوك معين، كي نعتبره رجلاً، حتى إنْ افتقر إلى بعض مظاهر الذكورة العضوية كنعومة المظهر مثلاً، ومن ثم الفرق بين “الرجولة” و”الذكورة”، بينما لا نشترط سلوكًا ما في المرأة كي نعتبرها امرأة. وهناك مجال للحكم الخلقي على الجنسين، لكنه قد ينتقص من رجولة الرجل، بينما لا يتعلق أصلاً بأنوثة المرأة، مهما فعلتْ. وبذلك فإنّ شعور الرجل برجولته، وشعور الناس كذلك بها، يتوقف على سلوكه، بينما لا تتوقف أنوثة المرأة على أفعالها.

والنتيجة الهامة هنا هي أن للرجل مؤهلات خلُقية فطرية، إذا انتفَى مجتمع القانون، أي في حالة غياب مؤسسة تشريعية وقضائية مستقلة. ذلك أننا، حين نفتقر إلى مجتمع القانون، نعتمد تلقائيًا على غريزة الرجل الخلقية. ومع ذلك فالعكس ربما هو الصحيح: فإن قدرة الرجل الفطرية على القيادة ربما هي التي خلقت مفهوم “الرجولة” بالمعنى السلوكي في هذا السياق؛ كي نضمن حدًا أدنى من القانون غير المكتوب. ولكنْ، وبقطع النظر عن مصدر ذلك المفهوم، سواءً أكان فطريًا أم مجتمعيًا، فإن عضوية الشرف الأنثوي، ولا مادية الشرف الرجولي، هي التي أهّلت الرجل للعب الدور القيادي، الذي لا يمكن فيه الاكتفاء بالقدرة على القيادة، بل يجب أن تتوفر لهذه القيادة كذلك قوانين خلُقية؛ لكي لا تتحول إلى أداة لتحقيق المنافع الشخصية.

متى تصبح المرأة عبقرية؟ بين أنجيلا ميركل وأنجيلا ديفيز

لكل ما سبق تتناسب مؤهلات الرجل تلقائيًا مع القيادة في مجتمع اللا قانون، بينما يحدث هذا عند النساء على سبيل الاستثناء. ولهذا، وفي مجتمع لا يتمتع بالحد الأدنى من استقلال مؤسسات القانون، فإن قوامة الرجل، وأسبقيته على كل امرأة تنافسه في مجاله، هي الأقرب إلى التحقق بنسبة ساحقة في الأماكن القيادية. ولا تصل منهن إلى مركز ملك، أو إمبراطور، أو فنان عظيم، أو مفكر مؤثر، أو عالِم طبيعة، أو ثائر سياسي، أو ديني إلا الاستثناءات النادرة حقًا من النساء. وهن نادرات جدًا، لأننا نتكلم عن المنافسة على أرض الخصم، وفي نقاط قوته الخاصة، مع فارق ضخم منذ بداية المنافسة. هذا الفارق قد يبدو غير عادل من وجهة نظر المرأة، لكنها تظن ذلك حين تغفل عن جانب تميزها كأنثى. إن الإمبراطورة كاملة السيادة تجمع بقبضة واحدة بمجرد توليها هذا المنصب كلاً مِن مميزات الرجل والمرأة: مميزات الرجل القيادية، ومميزات الأنثى الجمالية، وذلك بغض النظر عن مؤهلات تلك الإمبراطورة الفعلية.

وبرغم ذلك فإن صعوبة التوصل إلى المكانة الاجتماعية بصفة عامة لهي –بمنطق اقتصاد الندرة- نقطة تفوق هائلة للنساء، ولكن فقط لصالح من لديها بالفعل ملَكات القوة، والمرونة، والعناد، وطول النفَس، التي تؤهلها بالسعي الجاد الطويل إلى إخضاع عدد كبير من الرجال والنساء، والتأثير في مصير أمم، كالملكة فكتوريا، أو كاثرين العظيمة، أو شجرة الدر، أو أنجيلا ميركل. ونلاحظ أنهن، مقارنة بعدد المؤثرين العظام من الرجال على مجرى التاريخ، قليلات فعلاً. يكفي أن نقارن بين عددهن في كل المجالات، وبين عدد الأنبياء في الديانات الحية اليوم فقط من الرجال، ليتضح الفارق.

ونلاحظ كذلك ما هو أهم.. هو أن من الأيسر على المرأة أن تكون مؤثرة من خلال قهر السلطة السياسية، إذا ما قورنت الحال ببقية المجالات بالتدريج، من الأيسر إلى الأصعب. من الوارد أن ترث امرأة منصب ملِك، أو إمبراطور، ومن الأندر أن تصير بقدراتها الخاصة رمزًا للثورة على ذلك الملك، أو الإمبراطور. ولعلنا نجد عند أقصى درجات طيف الصعوبة العكس: الثائرة بدلاً من القاهرة. وهو ما سيعني أن الأسهل على المرأة أن تكون شريرة، وشرسة، ومتسلطة، وربما متكبرة، وكاسرة، عن أن تكون، وتبقى على حال كونها الأنثى الشجاعة الطاهرة، وربما المتعصبة بإخلاص، والمتهورة. من الأسهل أن تكون المرأة أنجيلا ميركل عن أن تكون أنجيلا ديفيز.

لهذا صارت أقوى نماذج الأنثى في التاريخ غالباً نماذج سلطوية، أو ربما سيكوباتية شريرة، تقابل مجرد بضع أسماء لنساء، عادةً من العصر الحديث، كن مثالا للخير المحض العجيب، الذي قد يلد في صمتٍ أعجوبة الأعاجيب. وهكذا نشأت ثنائية الأنثى التي هي فقط إما عاهرة جدًا، أو طاهرة جدًا؛ فكل منهما –بسبب تطرفها في أحد الاتجاهين- أقرب إلى الشهرة، وخلود السيرة. وحتى في مجال العاهرات فإن هناك فرقاً بين شخصية رابعة العدوية في المخيال الشعبي مثلًا، وبين شخصية سالومي، بين إيزيس، وبين ليليث. ولهذا يصعب على الرجل فهم المرأة غالبًا؛ لأن المرأة في الواقع ليست غالباً هذا أو ذاك. لكن القويات جداً منهم هن فعلاً، اللاتي إما هذا وإما ذاك!

وبسبب سوء فهم الرجال للنساء يتسع مجال تنوع شخوص الرجال –من وجهة نظر الرجال- على حساب مدى تنوع شخصيات النساء. وكلما تمتع الرجل بمستوى اجتماعي أعلى، وكلما عرف نساء من طبقته، أو طبقات أعلى، كلما تأكدت له هذه الثنائية، التي تصير غير دقيقة، حين يقوم هو بتعميمها. ذلك أن المرأة –كما قلنا- كلما ارتفعت مكانتها الاجتماعية، كلما اقتربتْ من هذه الثنائية، بشرط أن تصل إلى مكانتها على نحو عصامي. وهي لن تفعل ذلك إلا في حالة استقطاب، إذا كانت مثالاً للخير، وأسرفت في زهدها في استغلال جمالياتها، أو مثالاً للشر، وأسرفت في العكس. لهذا فإن الرجل الذي ينتمي إلى طبقة عليا، أعلى الشريحة المتوسطة، فأعلى، يعتقد عادةً أن شخصيات النساء عموماً في كل الطبقات قليلات التنوع. وما دامت غير قديسة –كما سيفكر هذا الرجل- فهي عاهرة، والعكس؛ فكيف تكون بهذه القوة ولا تكون أيًا منهما؟ والمشكلة أن الرجل في هذه المنزلة الاجتماعية يصير أقوى من أن تتم معادلة أثر استغلاله للنساء من طبقات أدنى. ولهذا فالنساء مستغَلات من جهة الرجال، بكل الصور، في كل البلاد، وإلى اليوم، ومنذ فجر التاريخ. ولا توجد وسيلة واحدة حتى اليوم لحمايتهن بصورة فعالة كاملة من يد الرجل، تارة بتحرشه بجسمها، وتارة بالبطش بها، وبحيث لا يؤثر على هذا الوضع كون بعض النساء قد وصلن بقدراتهن الخاصة إلى درجات غير مسبوقة من السلطة، والقوة، والتأثير.

مجتمعات الغريزة وآية القوامة

وما يزيد الوضع تطرفًا هو أن مجتمعات عبودية القانون، عكس “سيادة القانون”، أو بالأحرى “العبودية بالقانون”، لا يصلح فيها عادةً إلا الرجل في محلّ القيادة. فكما قدمنا: حين نفتقر إلى الحد الأدنى من سيادة القانون، نعتمد على الغريزة، وغريزة الرجل أقرب للقيادة من حيث عاملين: القدرة الفطرية على القيادة، والصلة العضوية بين مفهوم الرجولة وبين الأخلاق. وهكذا يرتفع سهمه في تلك الحال في اختبار القوامة. ولهذا جاء الإسلام بهذا الحكم، ليس بخصوص حالة عرب شبه الجزيرة في القرن السادس الميلادي بالذات، ومطلع السابع، بل كحد أدنى عامّ من التشريع، يصلح لإقامة مجتمع، لا سيادة فيه للقانون؛ لأن أغلب مجتمعات البشرية عبر التاريخ كله دائمًا ما كانت تشتمل على أناس قلائل فوق القانون، بل فوق الدستور إن وُجد. وهو ما يجعلهم لا يثقون إلا في حدود دائرة الأسرة الواحدة الصغيرة. وسر نجاح المافيا الإيطالية هو أنها نشأت في إقليم تقليدي كصعيد مصر مثلاً، يتمتع سكانه بمفهوم العائلة الممتدة، مع صلات رحم متينة متفرعة. على كل حال فإن تلك العائلة المتماسكة على قمة هرم المجتمع، ولكي تضمن ولاء ما وراء حدودها، تتعاون مع طبقة من كبار موظفي الدولة، في مقابل مميزات ضخمة، تجعلهم فوق الدستور حرفياً. ومن هنا يبدأ الفساد السياسي، والمالي، وينتقل من قلة إلى كثرة، ومن الطبقات العليا إلى الدنيا. وهذا ما يصير عادةً سبب انهيار النظم القمعية؛ واستبدالها بنظم قمعية أخرى، أو أشد قمعًا؛ فإن الانقلابات العسكرية أكبر عدداً بكثير مقارنة بعدد الثورات الشعبية. وهي أسرع حسمًا، وأشد فاعلية في التغيير الثوري الفوقي. وبالتالي فهذه الأسرة الحاكمة تلعب، كي تبقى في القمة المظلمة المتجمدة، بالنار. ومن ثم تستمرّ حالة عبودية القانون.

ولأن العكس كانت الحال في مهبط المسيحية في ظل حكم الرومان، أرباب القانون في العصر القديم، لم تتضمن الأناجيل عادةً ما يمكن أن نطلق عليه بالمعنى الاصطلاحي الإسلامي لفظ “الشريعة”. هذا بينما كان الإسلام مضطراً إلى الاعتماد على الغريزة، ليقيم أساس أسرة ودولة بالقانون في مكان لا سيادة فيه لقانون. وعلينا ألا ننكر أنه نجح في ذلك لقرون.
مع ذلك لا يمكن أن يقصد الإسلام في الأصل، و كوضع دائم، أن نعتمد على الغريزة، وإلا ما غادرنا حالة عبودية القانون. آية القوامة، إذا صحت تلك الاستنتاجات السابقة، إنما ترشدنا إلى الحد الأدنى اللازم لقيام مجتمع الأسرة النووية، لا الحد الأقصى بالبداهة. وهي –الأسرة- بدورها الحد الأدنى كوحدة أولية للمجتمع الإنساني عموماً. وهي التي قد تتمدد، وقد تصير أسرة ملكية، وسلالة حاكمة، ولكن أغلبها لا يتطور كمًا أو كيفًا، ويبقى على حال بقائه قائماً بفضل ما يلائم الغريزة في مجتمع اللا قانون: قوامة الرجل.

ولهذا فإن آية القوامة بالضرورة لا تنطبق بالضرورة إلا على مجتمع يفتقر إلى سيادة القانون في حدها الأدنى الضروري. وبالعكس؛ فإن المجتمع، الذي يسود فيه القانون، لا غضاضة فيه في تولي امرأة أرفع المناصب، حتى القضائية منها، والسياسية. والسبب هو أن القانون، واللوائح التنظيمية، هي في هذه الحالة وسيلة الضبط، وتحقيق شروط القيادة، لا الغريزة. وهنا يقع بعض التقارب بين مكانة المرأة عمومًا وبين مكانة الرجل عمومًا. ومع ذلك لا تتحقق المساواة الكاملة في المجتمع بين الرجال والنساء، حتى في أكثر المجتمعات تقدمًا من جهة استقلال القانون؛ لأن سيادة القانون الكاملة في كل مجال، وعلى كل مستوى في المجتمع، بصورة تامة، غير متحققة، وقد لا تتحقق أبدًا. بيد أن عدم بلوغ الكمال لا يعني الاستحالة.

لكل ما سبق نختم بنتيجة أنّ سيادة القانون بحدها الأدنى هي الضامن العميق، والوحيد في الواقع، للمساواة بين الرجال والنساء في الحقوق. بعبارة أوضح: إذا تساوَى كل الرجال أمام القانون بمنطق معين، لصار المنطق ذاته أساسًا للمساواة بينهم وبين النساء. ولا يوجد في نظرنا أي أساس، أو معنى، للمساواة الحقيقية بين الجنسين سوى هذا.

وعلى النساء أن يجبن بأنفسهن لأنفسهن عن السؤالين التاليين:

هل تصلح المرأة –بناء على كل ما سبق- للمناصب القيادية الهامة في مجتمع اللا قانون؟

وهل هناك أي جدوى حقيقية لتشتيت الجهود، وتزييف القضايا، بالمطالبة بالمساواة مع الرجال في مثل هذا المجتمع، التي قد تجمِّل صورتنا أمام الغرب تجميلاً سطحيًا، بدلاً من المطلب الحقيقي الفعّال، أيْ استقلال مؤسسات التشريع، والقضاء، ونزاهة مؤسسات إنفاذ القانون؟

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete