لماذا لا ينمو التسامح في المجتمعات العربية؟

تكوين

سواء أكان الإنسانُ عدوانيًا بطبعه كما يرى توماس هوبز، أو مدنيا بطبعه كما يرى غيرُه، فلا يُمكنه أنْ يعيشَ بعيدا عن تكوين اجتماعي يعترف أفراده بحقوق متبادلة، لا يمنّ فيها طرف على آخر، فلا يُوجد استحقاقية لدى الأكثرية تتفوق بها على الأقليات في الحقوق الأساسية.. غير أن بعض المجتمعات يُدير حركتها، ويُحدد اتجاهاتها، نسقٌ قيمي وأخلاقي يرتكز على مجموعة من القيم السلبية الموروثة من عصبية ورفض وإقصاء للآخر، وتشريع للعنف، ولا بديل عن مواجهتها بنسق قيمي وأخلافي يرتكز على إحلال “التسامح” في ثقافة وعقل وسلوك المجتمع، وتجفيف منابع اللا تسامح من التعصب والعنف والولاء المحدود للجماعة أو القبيلة على حساب المجتمع والدولة، لا بديل عن اجتثاث القمع والتّطرف من أجل بناء مجتمع يُمكنه استيعاب التّناقضات والتّقاطعات الحادّة بين الأديان والمذاهب والقوميات..

دلائل التسامح

وعندما نتحدث عن التّسامح فنحن أمام مدلولين: مدلول لغوي اجترّ عبر تاريخنا مشتق من السماحة بمعني الجُود، وفي “الجُود” يُوجد طرفان: يدٌ عليا واهبة، ويدٌ سفلى متلقية، فالتسامح بالمدلول اللغوي يُشير إلى وجود فارق اجتماعي بين متسامِح (بالكسر) ومتسامَح معه (بالفتح)، فليس هناك مساواة بين الطرفين، فالتسامح لا ينفك عن المنّة والكرم في المدلول اللغوي، ولمّا يُطوّر العقل العربي مفهوما ثانيا للتسامح؛ لأنه يستدعي تُراثا تراكميا يُعبر عن فكر واحد يتوحد معه، ولا يتنقل بين أنماط متنوعة من التراث على نحو يُمكنه من أن يُطوّر من أفكارنا..

في المقابل طوّر الدّرس الفلسفيّ مدلولا ثانيا للتسامح، فلم يعد مقصورا على مدلوله اللغوي في العربية أو الإنجليزية “Toleration”، مرتبطا بموقف فردي اختياري يتنازلُ فيه شخص عن حقٍّ من حقوقه تكرما ومِنّة على الآخرين، وإنّما أصبح واجبا تفرضه الحرية الشخصية التي يُراد لها أن تكونَ متساوية بين الجميع، فالتسامح الذي نُريد له أن يسود في مجتمعاتنا العربية هو موقف إيجابي يتفهّم ضرورة قبول تعدد وتنوع الأفكار والعقائد والمذاهب والثقافات، فيسمح بالتعايش مع المختلف بعيدا عن العنف الإقصاء..

التسامح بهذا المفهوم أحد قيم المجتمع المدني، فلا يُمكننا أن نتصوّر مجتمعا مدنيا دون تسامح، ولا تسامح دون مجتمع مدني كصيغة استيعابية للتنوع الديني والمذهبي والعِرقي للمجتمع في الدولة المعاصرة، وكصيغة يُمكنها تحقيق طموحات الجميع في حقوق متساوية، ونزع فتيل التوتر والصراع.

فدوما مقابل “الذات” أو “الأنا” الدينية، أو العِرقية أو العُرفية، أو الثقافية، يأتي الآخر، فإذا كانت “ذات الشيء دلالته على نفسه وعلى عيْنه، والذاتيّ لكل شيء ما يخصّه، وما يُميّزه عن جميع ما عداه”.([1]) ففي الجانب المُقابل يُوجَد دوما “الآخَر” بما يحمله من غيرية مختلفة عمّا عليه الذات/الأنا، ولا يُمكننا تجلية الأنا/الذات، والتعرف عليها إلا بوجود آخر مختلف ومغاير لها؛ لذا قيل على لسان أحدهم: “حدد ذاتك يتحدد الآخر”.

وبما أنّ كُلًّا منا هو الآخر لغيره، فكلّ منّا يُمثل الأنا والآخر في الوقت نفسه، فهو بالنسبة لذاته “الأنا”، وبالنسبة لغيره “الآخر”، فنحن جميعا في حاجة إلى القيم التي تحمي الآخر، وفي مقدمتها التسامح..

ويتعدد الآخر بتنوع دوائر مستويات الأنا والذات، فينجم عن ذلك وجود آخر ديني، ومذهبي، وقومي وعُرفي، وجغرافي، واجتماعي، وسياسي، فيختلف الآخر من دائرة إلى أخرى، فالموقع الذي يحدده الفرد أو المجتمع لنفسه هو بدوره الذي يحدد الآخر القريب أو البعيد،([2]) فلا بديل عن تسامح يقبل التعددية على مختلف المستويات..

ولا يُمكن أن ينمو التسامح في المجتمعات العربية منفصلا عن النسق الأخلاقي والفكري والاجتماعي الذي ينتمي إليه، “فالتسامح ليس مجرد مفهوم يُراد استنباته ضمن النسق القيمي للمجتمع، وإنما هو نسق ثقافي وفكري وعقيدي مغاير، له آليته في العمل وأسلوبه في التأثير، ومنهجه في التفكير، وطريقته في الاشتغال. فلا يمكن سيادة قيم التسامح ما لم تكتمل جميع مقدماته أي أن التسامح يقوم على سلسلة عمليات فكرية وثقافية يخضع لها الفرد والمجتمع؛ كي يعمل بشكل صحيح ومؤثر”.([3])

التعددية وحقوق الإنسان

فالتسامح لا ينفصل عن نسق كلي من مفاهيم التعددية وحقوق الإنسان والمواطنة والحرية الدينية والفكرية.. والتسامح هنا ليس هو التسامح الديني فحسب رغم مركزيته، وإنما التسامح بمفهومه العام الذي يشمل التسامح السياسي والاجتماعي والديني.

ولا يتعارض النسق الأخلاقي القيمي الذي يضم التسامح مع الدين، وليس مهددا للتجربة الروحية، وإنما يتعارض مع قراءات أحادية للدين، ومهدد لجماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين، فالإشكالية ليست في المقدّس لكن في فكر ديني ادّعى أنّه المقدس، فعلى الرغم من أن الإسلام غني يستوعب النسق الأخلاقي القيمي الذي يضم التسامح إلا أنّ القراءات المبتسرة للدين صوّرت التسامح مخلوقا لا إسلاميا، أو مفهوما مستوردا للإطاحة بقيم الدين الحنيف، وهي قراءات تشبث بها دعاة العنف والاحتراب، واجتزأوا آيات القرآن مهملين مصفوفات قرآنية كثيرة تدعو إلى المحبة والوئام، ونبذ العنف والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة..

التسامح والتعددية ليست غريبة في روحها عن الدين، فالذي يحول دون التسامح ليس الدين وإنما فكر ديني يستدعي موروث ثقافي وتاريخي واجتهادات شخصية أُدمجت في بنية المقدس بكثرة الترديد.

ومنها تقاليد وأعراف على نقيض التسامح تسللت تحت جلد المقدس، وسيطرت على العقل الجمعي فلم يُميز بين التقليد الديني والتقليد الدخيل على الدين، وهذا يتطلب منّا أن نُعيد هذا الدخيل إلى سياقاته كنتاج إنساني، من خلال عملية معرفية انتقالية نستفيد فيها من المناهج العلمية في الاجتماع واللغة والنفس وسائر الدراسات الإنسانية، حينها سنجد أنفسنا أمام آفاق رحبة لتقبّل القيم الإنسانية.

أهمية التسامح في بناء المجتمعات

وفي محاولة لتفكيك النسق الفكري المسيطر على العقل العربي للكشف عن منابع العنف والتعصب في ثقافتنا التي تجعل التسامح غير فاعل ولا مُؤثر في مجتمعاتنا العربية يُمكننا القول أننا نُواجه عشر معوقات، أجملها في التالي:

أولا: منطق الغلبة والاستحواذ التي عرفتها تجمعات الإنسان الأول، فحيث تندر الموارد يكثر السطو والنهب والسلب والغدر والاعتداء، فالارتداد للبدائية مرتهن بالاحتكام إلى منطق العنف، وعلى النقيض يعكس التسامح تمدن وتحضر المجتمعات القائم على الاحتكام للقانون.. فلا يُِمكن أن يصير المجتمع متحضرا يحترم القانون ويعترف بالآخر بينما العنف متفشٍ فيه.

ثانيا: تجميل التاريخ، وتقديمه في صورة مثالية، والتوحد معه والاحتماء به، وجعل العنف الذي انطوى عليه ليس مجالا للدراسة النقدية التي من شأنها أن تُساعدنا في اتخاذ مواقف أكثر نضجا في الحاضر..

ثالثا: نبذ المغاير، بدافع من القلق الوجودي والشعور بالتهديد، ويُصاحب ذلك خطابات تحقير وسخرية تسعى إلى تهميش وعزل المختلف، أو خطابات تحض على الكراهية والإرهاب تستهدف سحقه وقهره.. ونبذ المغاير يظهر في الأوساط الدينية والسياسية والاجتماعية، فكما أنّ مجتمعاتنا تُعاني من دعاة امتلاك الصوابية الدينية التي تُكفّر المخالف فإنها تُعاني كذلك من ساسة يدعون امتلاك الصوابية السياسية التي تُخوّن المعارض، فالاستبداد السياسي الرافض للآخر خصم حقيقي للتسامح، الذي يعتبر الاعتراف بحقوق الآخر جوهر التسامح الديني والسياسي والاجتماعي، ونبذ المغاير ليس قاصرا على الممارسة السياسية، لكن له وجود داخل الأسرة والعائلة والحي، وداخل قاعات الدّرس.

رابعا: الاحتكار المزعوم للحقيقة وطرق الوصول إليها مما يُؤسّس للمواقف العدائية والخصومات الطائفية والمذهبية؛ فمن المقاربات التي تدفع نحو التسامح إعادة النظر في علاقتنا بالحقيقة، والأقرب للتجربة الإيمانية القائمة على اليقين ألا ننظر للحقيقة من زاوية تحويل المطلق إلى نسبي محتمل في جميع الأطراف، وإنما القول بأنّ الحقيقة المطلقة واحدة في ذاتها، وتجارب الإنسان في بُلوغها متنوعة، فتتعدد التجارب الدينية الساعية للوصول إلى الحقيقة المطلقة، مما يعني تعددية الرؤى والمذاهب ضمن الدين نفسه، فمثل هذا الطرح يسلب احتكار جماعة أو طائفة للحقيقة، الذي على أساسه تتشكل المواقف العدائية والخصومات الطائفية.

فالله المُطلق الذي “ليس كمثله شيء” [الشورى:١١] اتصل بالإنسان النسبي، متنوع الثقافات، واللغات، عبر لغة الإنسان، “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه” [إبراهيم:٤] تلك اللغة التي تبدأ من داخل العقل/الفكر الإنساني، الذي لا يُدرك إلا عبر تصوّرات وتقييدات؛ لذا تتعدد وتتنوع التصورات؛ ليس لأنّ الله في ذاته تعدد، وإنما لأنّ الإنسان المتلقي متعدد متنوع في لغته وثقافته واجتماعه وتصوّراته، بهذا نُؤسس معرفيا لقبول التجارب الإيمانية والمذاهب المتعددة داخل الدين الواحد، ونحترم تعدد الأديان الذي هو من لوازم تنوع وتعدد الاجتماع الإنساني.

خامسا: حِدّة مشاعر الولاء للجماعة الدينية أو العِرقية، وتطرفها حبا وكرها، فبدافع من الانحياز العاطفي يُشيطن المخالف، ويُرفع المماثل إلى مستوى الملائكة، فيصعب على مجتمع يغلب عليه هذا النوع من المشاعر الحادة أن يكون مجتمعا متسامحا، يعترف بالخطأ، ويُعيد ترتيب أفكاره من جديد، يتقبل التنوع والاختلاف بلا قلق ولا هجوم، فعلى حد تعبير الدكتور طه حسين “من آفات الشرق حدّة المشاعر” التي ما زالت تحولُ دون تكوين عقلانية نقدية.. فالتسامح ينتمي لنسقٍ لا يقمع الآراء التي لا يُوافق عليها، كما لا يدعوك إلى أن تُحبّ أو تُشجع وإنما يدعوك إلى أن تسأل وتُفكّر.

سادسا: الاستسلام لمنظومة القيم السائدة التي لا يستند بعضها إلى مبدأ عقلي أو شرعي أو قانوني، فأكثر القيم الاجتماعية وليدة تراكمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وموروثات شعبية تجذّرت بسبب التخلف وبدائية الوعي، فالاجتماع صنع القيم السائدة ثم تناسى أنّه من صنعها، فصيّر الإنسان أسيرا لها لا يستطيع التّحرر منها.

التعددية في عهدة الفلسفة

فعندما ترتكز قيم المجتمع على العنف في تسوية الخلافات وانتزاع الحقوق، فإنّ الاحتكام إلى العقل والتسامح من قبل بعض الأفراد يصبح جبنا وعارا، وعندما يسود حالة من التمييز بين الرجل والمرأة يكون من المقبول اجتماعيا أن تسود نظرة دونية مثقلة بالشكوك وعدم الثقة تجاه المرأة؛ لذا يتعين تفكيك أنساق المنظومة القيمية القديمة السائدة بشكل يجعلها تستجيب لنسق قيمي جديد يقوم على التسامح.

فليس العنف فعلا خارجيا فحسب، وإنما عقل وخطاب وثقافة، فالتحول إلى اللاعنف يحتاج إلى تحول في مفاهيم القيم بحيث يرتكز الشعب على العقل والتفكير بدلا من اللجوء إلى العنف والقوة، فالتفكير في مقابل التكفير، والتسامح في مقابل التعصب، وقبول الآخر دون رفضه، وتحلّ التضحية بدلا من الأنانية، وهنا تترسّخ قيمة الإنسان في المجتمع، فالفرد قيمته مستمدة من كونه إنسانا، وليس من انتمائه لعِرْق، أو جماعة، فمناط التّكريم أنّه إنسان قبل كلّ شيء “ولقد كرّمنا بني آدم”، وعلى حد تعبير كارل روجرز: “لا يُوجد وحش في الإنسان، الإنسان به إنسان” إطلاقه سيُقود بالضرورة إلى النسق التسامحي مستفيدا من تراكم خبرته بالصراعات والحروب وما تُخلّفه من ويلات.

سابعا: التعصب، وهو وثيق الصلة بالعنف فتارة يكون ناتجا عنه، وتارة يكون سببا له إذ يُغْرِي الإنسان بممارسة العنف في فرض آرائه، وإذا كان التعصب سيظل حاضرا بقدرٍ ما في تكويننا الاجتماعي لا محالة، فنحن في حاجة إلى تفريغه من الشحنات السلبية؛ ليُصبح حاملا لقيم جديدة يتعصب فيها الفرد لصالح القانون واحترام النظام..

ثامنا: التطرف الديني “أحد أخطر منابع اللاتسامح، لتلبّسه ببعد شرعي، وتوظيفه للنص الديني، وسرعة تصديقه من قبل الناس، وقدرته على التخفي والتستر تحت غطاء الشريعة والواجب والجهاد والعمل الصالح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فالوعي الديني يُعاني من التباس الإلهي بالبشري عبر فتاوى وأحكام اجتهادية نسبية تسوّق على أنها تشريعات إلهية، تسلب الفرد حريته وإرادته عندما تفرض عليه قبليات المجتهد، سواء كانت عقدية أم أخلاقية، وتفرض عليه مواقف يلتزم بها بدوافع دينية، مهما تعارضت مع قيمه الإنسانية. ولعل الموقف من الآخر المختلف، بما فيه المختلف الداخلي أوضح المصاديق. يعيش معها الفرد حالة اغتراب عن طبيعته الإنسانية، فيحسب تصرفه تكليفا شرعيا قربة لله لتفادي تأنيب الضمير وقمع شكوك الحقيقة، وهي تُدوي في أرجائه. فنقد آليات وأدوات ومرجعيات ومباني الفقيه، مهمة أخلاقية لاستعادة الوعي، كخطوة أولى للنهوض الحضاري. والاجتهاد أحد المصطلحات الفقهية الخطيرة ارتفع به الخطاب الديني حد الاصطفاء الإلهي بعيدا عن حقيقته وأساليبه في تزوير الوعي بل وتشويه القيم الدينية الأصيلة عندما يُقحم الناس في صراعات عقدية وسياسية تحت عناوين طائفية وأيديولوجية، ويعتبر فتاواه وأحكامه ملزمة لأتباعه، ومبرئة للذمة”.([4])

تاسعا: تجاهل السياقات الخارجية للنصوص وفي مقدمتها آيات القتال واستصحابها وكأنها مراد الله من المسلمين في جميع المواقف، وهذا يتطلب الاستفادة من الدراسات اللغوية الحديثة لفهم أعمق لسياقات النصوص، بالإضافة إلى مواجهة الاستشهادات القرآنية للخطابات الدينية العنيفة باستشهادات قرآنية متسامحة، ليس بهدف خلْق حوار سجالي، أو صراع نصوصيّ، وإنما للتأكيد على طبيعة بنية القرآن، بوصفه مجموعة من الخطابات المتنوعة بتنوع السياقات الخارجية المصاحبة للنزول، التي جعلته صالحا لأن يستشهد به الخطاب المتشدد، وأن يستشهد به الخطاب الإصلاحي المتسامح لكن الخطاب الثاني أقرب إلى الله كليّ الرحمة والحكمة الذي خلق حالة التنوع التي هي طبيعة أصيلة في المجتمعات الإنسانية، فكيف يطلب الله منها نقيض طبيعتها المتنوعة!

عاشرا : تداخل المفاهيم التأسيسية على سبيل المثال: مفهوم الشريعة، ففي الاستعمال القرآني  الشريعة والعقيدة والدين بمعنى واحد بلا تمييز بينها، وظلّ هذا الاستخدام ماثلا حتي عصر ابن رشد الذي يرى أن البرهان و”الشريعة” أختان، ويقصد بالشريعة “الدين” بالمفهوم العام المشترك بين جميع الأنبياء، وليس الأحكام المختلفة باختلاف رسائل الأنبياء، بينما “الشريعة” في لغة المعاصرين تُشير إلى الأحكام الفقهية، فالشريعة بالمفهوم الأول محدودةٌ قيميةٌ من الله، لا تتعارض مع ثقافة التسامح بينما الشريعة بالمفهوم الثاني اجتهاد بشري وأحكام ذات سياقات اجتماعية يتعارض بعضها مع ثقافة التسامح لاختلاف السياقات المصاحبة لكل منهما.

من هنا تأتي أهمية تعزيز الإسلام/ الشريعة بمفهومه القيمي، ومبادئه القرآنية العامة، فهذا هو جوهر الإسلام الذي ينْهى عن الإفساد والظلم، ويأمر بالإصلاح والعدل، وهنا يلتقي الإسلام بطبيعته مع ثقافة التسامح، ويُعزّزها.

من جانب آخر يتعين ربط الشريعة بمفهومها الثاني الفقه بمبدأ تحقيق المصلحة للإنسان والمجتمع، وتقديم الفقه/ الشريعة في صورتها الحيوية المتغيرة المتنوعة المتفاعلة مع الاجتماع، وذلك لن يتحقق إلا بالرجوع إلى التاريخ الاجتماعي للتشريع، وكيف كان للتجارب الاجتماعية أثر في تطوير العمل التشريعي، وإنتاج أحكام فقهية جديدة بدافع من حراك المجتمعات.. ([5])

الوجودية: فلسفة تمرّد وحرية وتفكّر في القلق الوجودي!!

أخيرا، إذا لم تَسُدْ قيم التسامح، وتُصبح فاعلة على المستوى الفردي والاجتماعي، ستبقى أسباب الانفجار كامنة، تتحين الفرص لتظهر في شكل موجات عنف تُطيح بكلّ ما هو جميل في الحياة، ولا ينحصر الحلّ في المواجهات الأمنية التي ينتجُ عنها اختفاء العنف كفعل خارجي بينما يُمارس – وهو أشد خطورة في تستره- سُلطتَه على الصعيد الفكري والثقافي والسلوكي..

كي نُواجه خطابا متطرفا عنيفا منحازا لذاته، لا يرى إلا نفسه، يتعين علينا أن نُعزّز من سُبل التعريف بالآخر في برامجنا التعليمية والثقافية، فمن المؤسف أن الثقافة الإسلامية المعاصرة تعرّضت لاختطاف من جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين، فأمسينا في حاجة إلى التأكيد على المسلمات، وترديدها؛ حتّى يتمّ إدماجها في الوعي الجمعي مرة أخرى، ومنها: مقومات التسامح من حقوق المواطنة وسيادة القانون وإطلاق الحريات العامة وحمايتها، وأهمية التعرّف على الآخر، وقبوله، والاعتراف به.. فلسنا أمام اختيار، بل ضرورة لا غنى عنها لمنع التباعد، والاحتراب، وتحقيق التنمية المستدامة التي يحلم بها الجميع.

المراجع:

([1]) التعريفات، ص٥٧.

([2]) ينظر: محمد محفوظ، الآخر وحقوق المواطنة، ص١٥.

([3]) ماجد الغرباوي، التسامح ومنابع اللاتسامح، ص١٦.

([4]) التسامح ومنابع اللاتسامح، ص٧٦.

([5]) خير ما يعكس هذا في الحالة المصرية سجلات المحاكم الشرعية.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete