لماذا نَدْرس الفلسفة في “كلية الآداب ويدرسها الألمان في “كلية الفلسفة“؟

تكوين

من كانط إلى الذكاء الاصطناعي

“صراع الكليات” موضوع فلسفي يعود إلى القرون الوسطَى؛ حيث اشترك مجال كل من اللاهوت المسيحي، والفلسفة في موضوعات أساسية، تنتمي غالبًا لمجال الميتافيزيقا، والأخلاق. ولما كان رجال الدين متمتعين بسلطة سياسية قاهرة، صار على الفلاسفة بيان الحدود بين المجالين؛ وذلك لكيلا يتدخل اللاهوتيون في مجالهم، أو ينتزعوا منهم شرعية الاشتغال ببعض المسائل الميتافيزيقية والخُلقية. و”صراع الكليات”-1798 واحد من أشهر عناوين الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804)، وهو آخر كُتبه، ويعالج فيه الحدود بين الفلسفة من جهة، وكل من اللاهوت، والطب، والقانون من جهة أخرى. واليوم، وبعد بدء صعود الذكاء الاصطناعي، وبعد أن حقق العلم الطبيعي –ربما- أهم فتوحاته: تخليق العقل، يعود صراع الكليات ليطرح نفسه مرة أخرى، ولكن بين الفلسفة، وبين كل العلوم الطبيعية، والإنسانية هذه المرة، وذلك بعد تصريح بعض العلماء مثل استيفن هوكنج، وبعض الفلاسفة مثل هيدجر، بأننا نشهد موت الفلسفة.[1] وأحد المداخل الهامة، والمناسبة لفحص العلاقة بين كل هذه المجالات هو معنى “فلسفة”، والعلاقة القائمة فعلاً في الجامعات الغربية اليوم بين الفلسفة وشتى العلوم، ومقارنتها بوضعها المحلّي في مصر.

الفلسفة الألمانية

لدينا مثال قوي للمقارنة هو الجامعات الألمانية؛ وسبب وجاهته هو أن ألمانيا مارست تأثيرًا نوعيًا فريدًا فعلاً على الثقافة الإنسانية، على مستوى عالمي جغرافيًا، ولقرابة ثلاثة قرون تاريخيًا. ومظاهر ذلك وأسبابه مدروسة، ومعروفة، ولا علاقة لها بأي تحيز عرقي، ولكنها ليست موضوعنا الآن. المهم أنه مما برزت فيه ألمانيا كتتويج لأثرها الثقافي هو بطبيعة الحال: الفلسفة. لذلك فألمانيا هي قِبلة مَن يريد فهم منابع العقل الحديث في موطنها، أو على الأقل بلغتها؛ وذلك نتيجة أنّ اللغة في العلوم الاجتماعية، وخاصة ما تعلق منها بالأدب، أو الفلسفة، يمكنها أن تصير حاجزًا حقيقيًا لا يمكن الالتفاف حوله. وإذا فكرنا في بلد، أو شعب، مسئول عن عصر فلسفي كامل مسئولية مباشرة، فلن نجد سوى بلدين/شَعبَيْن، هما: اليونان، والألمان. وقد ظهر فلاسفة مهمون كُثر سوى هؤلاء، من كل بقاع الأرض، ولكن لم يتركز إلا في اليونان، وألمانيا هذا العدد من الفلاسفة البارزين، ذوي التأثير العالمي، والتاريخي، في خطوط متصلة تمتد عبر عدة أجيال، يتتلمذ فيها اللاحقُ على السابق، ويهضمه، ثم ينقده، ثم يطور أفكاره في نسق جديد، وهكذا. ناهيك عن حقيقة أن غالبية فلاسفة اليونان وألمانيا أصحاب مذاهب مكتملة. ولغير المتخصص يكفي أن نقول إنها “درجة”، لا يرتقي إليها سوى أصحاب العقليات التركيبية المعمارية المتميزة، ذوي النظر البعيد الاستراتيجي، مع عمل منظم دؤوب يستغرق في العادة من عمر الواحد منهم عشرات السنين من دون مبالغة. على كل حال هذه هي الملامح الرئيسة لـ”حالة” ألمانيا في مجال الفلسفة، ولماذا أطلق عليها جيرانها لقب “أرض الأفكار” Land der Ideen.

كُلّية الفلسفة في ألمانيا

وإذا درستَ الفلسفة في ألمانيا، فلن تدرسها في “كلية الآداب”، ولا “كلية العلوم الإنسانية”، بل في “كلية الفلسفة” Die philosophische Fakultät ، التي تضم -بحسب جامعة كولونيا التي درستُ فيها على الأقل- أغلب تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية. وفي سواها من البلدان سوف تدرس الفلسفة غالبًا في “كلية العلوم الإنسانية”، أما إذا درستَها في مصر، فسوف تدرسها في كلية الآداب. وإنَّ ما تخصصتْ فيه كليات الآداب بمصر هو فعلاً العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتي يمكن ضمها بحسب الألمان تحت تخصص الفلسفة؛ بسبب أن كل هذه العلوم تقوم على نظريات عامة، هي موضوع الفلسفة الأساسي. وفي الحقيقة كل العلوم بما فيها الطبيعية تتمتع بالعلاقة نفسها مع الفلسفة، ولم يحدث قط أنْ انفصلتْ عنها، أو اتصلت بها بعد انفصال، فهي وثيقة الصلة طيلة الوقت بها، ولكن هذه الصلة الدائمة لا تبدو إلا للمختصين بالفلسفة؛ لأن مواضع اتصال الفلسفة بكل علم من العلوم، وبطول تاريخه، وتاريخها، يتخصص فيها غالبًا الفلاسفة، لا الباحثون في العلوم الطبيعية. ومن أهم مواضع ذلك الاتصال: المنهج العلمي التجريبي نفسه، الذي هو شبه مجهول لدى طلاب الكليات العلمية!

شاهد أيضاً: الفلسفة والتطرف مع هالة فؤاد أستاذة الفلسفة

وحين عرفتُ الوسط الأكاديمي الألماني من داخله أثناء إعدادي للدكتوراه بين عامي 2013 و 2018، وجدتُ أن الحال فيه ليست أفضل كثيرًا. وجدتُ هناك أساتذة، يعني يحملون لقب أستاذ جامعي، ولا يعرفون ما المنهج العلمي المتبع حاليًا بين العلماء: المنهج الفرضي-الاستنباطي Hypothetico-deductive method القائم على مبدأ القابلية للتكذيب Falsifiability. وهذا ليس غريبًا جدًا كما يبدو لأول وهلة؛ فطلاب العلوم، والهندسة، والطب، والصيدلة يدرسون النتائج، لا المناهج. في الأعم الأغلب يدرسون نتائج تطبيق المنهج، ويستطيعون تطبيقه بكفاءة مُرْضية، حتى لو لم يعرفوا معنى كلمة “منهج” أصلاً. ولاحظْ أن أغلب الشعراء الكبار في مختلف اللغات لم يدرسوا الأوزان، والقوافي، والبلاغة، .. إلخ؛ لأن هذه التخصصات ظهرت بعد تبلور تراث أدبي يستحق الدرس. وكلما درسنا علمًا، أو تخصصًا جديدًا، وجدنا أن الممارسة فيه قد سبقت النظرية. بيد أن هذا لا يعني بالبداهة أن النظرية “منفصلة”، أو أن لها هوية مستقلة عن الممارسة، حتى يمكننا من حيث المبدأ صياغة تلك المقابلة، التي عقدها بعض علماء الطبيعة البارزين، كاستيفن هوكنج، بين العلم والفلسفة؛ ففي حقيقة الأمر، وفي المناطق التي لم يدرسها هوكنج، والتي لا يدرسها أغلب المختصين في علوم الطبيعة، من المستحيل أصلاً فصل الفلسفة عن العلم الطبيعي أو الاجتماعي من حيث المفهوم، حتى إن أمكن التمييز بينهما من حيث المصطلح. فما تلك المواضع الخفية، التي تكمن فيها علاقة الفلسفة بشتى العلوم؟ وما سبب خفائها، الذي خدع حتى هوكنج نفسه، هوكنج الذي استنبط موت الثقوب السوداء، آخر لحظات الزمان والكون، التي يصير المكان بعدها خاويًا من أي مادة أو طاقة، مجرد فراغ متوسِّع، لا يمكن فيه مجرد تصور الوجود الطبيعي؟

 

PhD

أقرب مدخل لفهم طبيعة هذه العلاقة الخفية لغير المختص بالفلسفة هو اختصار “PhD”، الذي يمثل أعلى شهادة تخصصية في العلوم، بعضها علوم طبيعية (وهو اختصار يختلف بين الجامعات). ويعني هذا الاختصار حرفيًا: “مُعلِّم الفلسفة”. ولكنْ ما هو مُجمَع عليه هو أن هذا اللقب لا يقتصر بالتأكيد على المختص بالفلسفة، وينسحب على عشرات التخصصات. بعض التخصصات تفضل لقبًا خاصًا بها، مثل MD (الدكتوراه في الطب)، أو ThD (الدكتوراه في اللاهوت). مع ذلك فإنّ العلوم نفسها، التي يتخصص فيها هذا أو ذاك، تنتمي منهجيًا إلى الدائرة نفسها من العلوم، فالطب مجال تطبيقي، يقوم على أساس العلوم الطبية، التي هي فرع من العلوم البيولوجية، التي يتخصص فيها خريج كلية العلوم حاملاً اللقب نفسه. وعلم اللاهوت ينتمي بوضوح إلى العلوم الإنسانية. نريد أن نقول إن هذه الاختلافات في الألقاب، وأسماء الشهادات، في “بعض” العلوم، مثل الطب، واللاهوت، وإدارة الأعمال، بل والموسيقى، لا تعود أسبابها إلى طبيعة العلم نفسه، بل إلى المؤسسة التعليمية، التي تقرّ هذا أو ذاك. وبرغم هذه الاختلافات، فإن الحقيقة الواضحة هي أن أغلب شهادات الدكتوراه في أغلب التخصصات تحمل اسم”PhD”، الذي يعني “مُعلِّم الفلسفة”. فما الذي يعنيه أن أكون متخصصًا في الكيمياء مثلاً، وحاملاً لشهادة مفادها أنني مؤهل لتعليم الفلسفة؟ هذا يعود إلى معنى الدكتوراه نفسها.

الغرض الأساسي للدكتوراه، أيًا كان اسمها، أن يصل الباحث إلى مرحلة، يمكنه فيها أن يضيف إلى العلم، بعد أن كان جهده مقصورًا في مرحلة ما قبل التخرج على معرفة ما هو معروف فيه. بعبارة أوجز: أن يصل إلى مرحلة “فلسفة العلم”، التي هي أساس هذا العلم. والمفارقة أن المختصين، الذين لا يصلون إلى هذه المرحلة في مجال العلم الطبيعي بفروعه المتكاثرة يوميًا، يظنون أن أساس العلم هو المعلومات التي بُنيَ عليها في عملية تراكم رتيبة، لا المنهج، ولا القفزات الثورية في المنهج. وهو ما يدحضه بسهولة تاريخ العلم، الذي يدرسه أيضًا طلاب الفلسفة كمادة أساسية، لا طلاب العلوم الطبيعية (!) بالنسبة لتخصص علمي-تطبيقي كالطب مثلاً فإن أساسه العميق هو “فلسفة العلوم الطبية”، التي هي فرع من فلسفة العلم، التي هي فرع من نظرية المعرفة، التي هي إحدى نظريات الفلسفة الأساسية الثلاث: الأنطولوجيا، الإبستمولوجيا، الأكسيولوجيا، أو: نظرية الوجود، نظرية المعرفة، نظرية القيَم على الترتيب.

أعماق العِلم المظلمة

ولا يمكن لباحث أن يضيف إلى العلم، أن يُنتِج معرفةً، من دون فهمه العميق للأساس، الذي بني عليه هذا العلم منهجيًا، ونظريًا. وحين نتعمق في هذا الأساس، لا نجد ذلك اليقين العلمي الجميل الساذج، الذي يتناقض أصلاً من حيث كونه يقينًا مع منهجية العلم الطبيعي نفسها على نحو صارخ! في المناطق السحيقة لأي علم لا نقف إلا على جزُر متحركة، ولا نجد إلا مجموعة من الأسئلة الجوهرية، التي لا إجابة حاسمة لها حتى اليوم، وربما للأبد. وكي يتقدم علم من العلوم حقًا، يجب أن يتقدم أولاً في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة الخطيرة، التي ربما تهدم هذا العلم يومًا، أو -على الأقل- تضعه موضع السؤال. وكمّ من علوم، ومذاهب، قال أهلُها: ما لها مِن زوالَ!

باختصار: يبدأ الطالب تخصصه في علم من العلوم بمعرفة نتائج البحث المتراكم فيه. وكلما تخصص في مرحلة الدراسات العليا، كلما زاد لديه الشك تدريجيًا في ما تعلمه، وما قام به، بل ربما في ما يقوم بتدريسه، إذا كان عضوًا بالقسم. وفي أقصى مراحل التخصص، مرحلة الدكتوراه، يطّلع الباحث على المنطقة المحرَّمة، التي فيها يفقد أي يقين (هذا بالطبع إذا كان التعليم حقيقيًا، وإذا كان الطالب جادًا)، وفيها يعرف أن أقصى ما يمكن لمعرفتنا أن تصل إليه من حقائق العالَم هو فقط أفضل ما أمكن لها التوصل إليه، وفهمه، حتى اليوم، وأن مجال اليقين الوحيد لا يمتد أبعد من علمين أساسيين، هما فقط مجال اليقين بما هو كذلك على وجه الدقة، وهما اللذان يشكلان معًا “دائرة العلوم الفلسفية”، ويمثلان درَّة ما قدمته الفلسفة لغيرها من المجالات: الرياضيات، والمنطق. لكنهما للأسف لا يقولان شيئًا واحدًا عن العالَم الخارجي، خارج مجال الأفكار، ولهذا يطلَق كذلك على هذه الدائرة من العلوم اسم “العلوم الصُّورية” Formal. ولكن أهميتهما أن علمًا من العلوم لا يقوم أصلاً من دونهما، وأن المعرفة بالعالم الخارجي عمومًا لا يمكنها أن تكون واقعية من دون مقياس المنطق، والرياضيات، الذي يثبت، أو ينفي جدارة الفرضية بالبحث من حيث قابليتها للتكذيب منطقيًا، ويمحص العلاقة بين المقدمات والنتائج، ويحول الكيف إلى كمّ، كلما أمكن ذلك؛ فالعلوم الطبيعية تقوم على مبدأ تكميم الظواهر Quantification.

الثورة واليقين

وهذا هو السبب في أن كل العلوم عدا العلوم الصورية مرت بثورات بعد تأسيسها، بمعنى التحول الجوهري ، كثورة نيوتن في القرن السابع عشر، ثم ثورة الكوانتم، والنسبية في القرن العشرين؛ فالثورات المعرفية لا تقع في مجالات يقينية ثابتة أزلية. وحتى في الفلسفة نفسها وقعت الثورات ربما أكثر من أي مجال معرفي آخَر، حتى اعتدنا عليها كواقع شبه يومي! وقعت الثورات المعرفية في كل مجال، إلا مجال المنطق، والرياضيات، فلم تحدث ثورة واحدة في تاريخهما بالمعنى السالف أعلاه؛ لأنهما العلم اليقيني الوحيد. صحيح وقعت ثورات الهندسة اللا إقليدية، وقدّمَ جودل مبرهنتيه الثوريتين للايقين، وعدم الاكتمال، ولكن لم تهتز قوانين المنطق والرياضيات الأساسية، القائمة على مبدأ الهوية: أن الشيء هو نفسه. ولو اهتز هذا المبدأ في المنطق، والرياضيات، لما فهمنا كلامنا هنا مثلاً. ولا يملك سواهما من العلوم إلا أن يقنع فحسب بدرجة الموضوعية، التي لا تعبِّر عن اليقين، بل تعني أن النظرية، أو العبارة قادرة على إقناع غالبية المختصين على الأقل، لأن بإمكان كل منهم التأكد بنفسه من أدلتها. ويتفاوت قدر الموضوعية المتاح من علم إلى آخَر؛ فالفيزياء مثلاً تتمتع بأعلى درجة من الموضوعية، لكنها لا تتمتع بـ”اليقين”، بينما يتمتع علم النفس، أو علم الاجتماع بدرجة أعلى من الموضوعية مقارنة بمجال النقد الفني مثلاً، لكنها حتمًا درجة أقل مما يتيحه لنا علم المَيِكْروبيولوجيا Microbiology. هناك دائمًا درجة ممكنة من الموضوعية في كل علم، وفي كل كلام مفهوم؛ وإلا ما فهمناه كما قصد به قائله. وهي حجة قوية ضد القائلين بأن كل موضوعية وَهْمٌ صنعته الأيديولوجيا. ولكنْ باستثناء “العلوم الفلسفية” لا يوجد في العلوم كلها أي قدْر من اليقين بما هو كذلك، ولا يمكن أصلاً أن يوجد “قدْر من اليقين”، إذا قصدنا هذه العبارة على الدقة والحقيقة.؛ لأنه لن يصير يقينًا، لو تجزَّأ، بالبداهة.

التعددية في عهدة الفلسفة

ولأن أغلب الحاصلين على شهادات التخرج الجامعي لا يحصلون على شهادة الدكتوراه، ولأن أغلب من يحصل منهم عليها لا يستهدف الإضافة إلى العلم، بل يستهدف “الحصول عليها”، ولأنه يحقق عادةً هدفه بإضافات غير جوهرية، لا تساهم في نقل العلم إلى مرحلة أكثر موضوعية، بل لا يعرف أصلاً ما الموضوعية كمصطلح، فإن المختص لن يفهم أبدًا هذا الجانب من علاقة الفلسفة بسواها من العلوم، ولن يفهم بالتالي ما الفلسفة. كي تحقق تقدمًا فعلاً في علمٍ ما، عليك أن تقف على حدود المنهج فيه، أيْ أقصى ما يمكن لهذا المنهج أن يَعمل عليه من موضوعات كِيانية أو عَلائقية، طبيعية أو افتراضية. ولكي تقف على حدود المنهج عليك أن تتورط حتى العنق في مستنقع الشك، والحيرة، والغموض، الذي يمثل جذور شجرة العلم، المنغرسة في الوحل الأسود، والتي لا نراها في العادة إلا بالحفر، والتنقيب، والتحليل، إلا بجهدٍ، يتمثل أسوأ ما فيه في الشك في نتيجة بذله من البداية. لماذا كان الفيلسوف كانط ثورة حقيقية في الفلسفة، والعلم؟ ليس لأنه أضاف معلومات، كطالب الدكتوراه البراجماتي، النموذج الأكثر انتشارًا في كل البلاد، وكل التخصصات بالمناسبة، بل لأنه -كانط- بفلسفته النقدية قد وقف على أول تصور موضوعي لحدود العقل البشري بما يستوعب المنجَز المنهجي في الفيزياء النيوتونية، وفي عصر العلم الحديث عمومًا في القرن السابع عشر. ولهذا هي “نقدية”، أي كونها تختبر إمكانية عمل العقل البشري بمنهج علمي موضوعي في مجال الميتافيزيقا، في أي مجال لا يحدده زمان، ومكان، بإحداثيات معينة، واضحة. وعن طريقها نميز بين سؤالنا: هل زيدٌ موجود الآن في بيته؟ وبين: هل الله موجود؟ وهو ما يكشف -فيما يكشف- عن الوجه الثاني للعلاقة بين الفلسفة والعلم.

الأفق العالي

فإذا كان الوجه الأول من هذه العلاقة خافيًا تحت طبقات خادعة من “جزيرة الحوت”، ويحتل موضع أساس كل علم من العلوم المختلفة، الذي لا يتعمق إليه أغلب المختصين فيه، فإن الوجه الثاني -على العكس- يتعلق بنتائج تلك العلوم مجتمعة. إنه الأفق القصيّ، الذي لا يراه أغلب المختصين كذلك. من مَهام الفلسفة الأساسية الوقوف على تصور، يربط بين كل تلك النتائج القادمة من العلوم المختلفة، والتي تبدو لغير الفيلسوف معلومات متفرقة، لكلٍ منها معنى، ولكنْ لا معنى لاجتماعها معًا. من شأن الفيلسوف وحده أن ينظم تلك النتائج العلمية من تخصصات مختلفة في تصور شامل متسق، يتخذ شكل النظرية الأساسية، وربما -إذا اجتهد الفيلسوف حقًا وسمح له عصره بذلك- يصل إلى درجة المذهب، نسق النظريات المترابطة.

ما كان هيجل مؤرخًا، ولا كان ماركس مختصًا في الاقتصاد، أو الاجتماع بالمعنى الدقيق. ومع ذلك أنتج هيجل أهم نظرية حتى اليوم في فلسفة التاريخ، إذا اعتبرنا أن فلسفة التاريخ عند ماركس من النتائج الجدلية لنظرية هيجل نفسها (!) أما ماركس، الذي يعتبره البعض عالم اجتماع، وعالم اقتصاد، فلم يكن إلا فيلسوفًا، شكلت فلسفته للتاريخ جوهر مذهبه، وكان له تأثير بالغ في الاقتصاد، والاجتماع، فعلاً، لكنه لم يكن مختصًا في أيهما. ولا يكفي مجرد التأثير، مهما بلغ، لإطلاق صفة التخصص. ما قام به هيجل، وماركس، ببراعة نحسدهما بكل تأكيد عليها، هو ما تقوم به الفلسفة بما هي فلسفة: اكتشاف النظام الكامن، المحايث لفوضَى نتائج علوم كثيرة، لا يعرف المختصون فيها -بطبيعة عملهم لا بسبب إهمالهم- ما يجري في الغرفة المجاورة، التي تنتمي إلى قسم آخَر من أقسام الكلية.

وبينما كان الوجه الأول من هذه العلاقة بين الفلسفة والعلم خفيًا بسبب غَوْره البعيد، الذي لا يُضطر إليه، ولا يستطيع الخوضَ فيه أغلب المختصين بالعلوم، فإن الوجه الثاني أيضًا خفيّ عنهم؛ ولكنْ بسبب ارتفاعه الشاهق، حيث المستوى العالي، الذي تتلاقى عنده العلوم، والذي لا يبلغه سوى من تمتع بعقلية موسوعية من المختصين بالفلسفة. ولهذا فإن موسوعية طالب الفلسفة هي بالفعل من معايير تقييمه، ومن أهم أسباب أن بعض الطلاب مميزون عمن سواهم في مدرجات الفلسفة بفارق كبير، لا نجده بهذا القدْر إلا نادرًا في الأقسام أو الكليات الأخرى. ذلك أن الموسوعية في المعرفة، التي تقوم على النظرة العامة القادرة على الربط بين المعلومات، لا على كمية المعلومات، صفة نادرة، وينتج عنها، إن توافرت، فرق هائل، كالفرق بين الكائنات التي تحيا في بعدين أفقيين اثنين فقط، وبين كائن رفيع المقام، يراها من بعد ثالث هو الارتفاع. تخيلْ الفارق بينهما في الإدراك، والمعارف، والنظرة العامة.

وعند هذا الحد يمكننا أن نقول إن المنتَج الفلسفي، الذي لا يتمتع بأساس علمي، لا أساس له على الإطلاق، ولا قيمة له إلا بالصدفة. ولهذا قلنا إن الفلسفة لا تنفصل مفهوميًا عن العلم. وبالتالي لا يمكن أن نفصل بينهما على مستوى الممارسة، كل ما هنالك أن مواضع التقاء الفلسفة بالعلم تقع على أقصى الأطراف في الاتجاهين: الأعماق، والآفاق، التي لا حاجة بالطبيب مثلاً لدراستها كي يشخص مرضًا، أو يعالج مريضًا، ولا أولوية لها بالنسبة لمختص في القانون، أو مهندس كمبيوتر.

الأدب والفلسفة: من سقراط إلى عباس العقّاد

وبناءً على كل ما سبق: لماذا ندرس الفلسفة في “كلية الآداب”، لا في “كلية الفلسفة”؟ يعود هذا إلى أن “الأدب” كمفهوم هو المعادل العربي الأدقّ لما كان يعنيه الإغريق، ثم فلاسفة العصر الوسيط، بلفظ “فلسفة”. فبرغم أن الكندي قام بتعريب اللفظ في القرن الثالث الهجري ليعبر عن مجموع علوم الإغريق: ال، فإننا نجد في استعمالات الفلاسفة العرب أنفسهم ما يخرج عن حدود المعنى السائد للفظ عند فلاسفة اليونان. ولهذا يعتقد باحثون أن “فلسفة” ليست تعريبًا دقيقًا، بل هي استعارة للفظة يونانية للتعبير عن معنى مختلف، هو “الحكمة”.

يختلف مفهوم الحكمة في التداول اللساني العربي القديم، والحديث، عن معنى “محبة الحكمة”، الترجمة الحرفية لـ”فيلوسوفيا” اليونانية؛ فالحكمة عند العرب هي مطابقة العمل للنظر، بعد مطابقة النظر للواقع. وهو مفهوم يتمتع -بالإضافة إلى البعد المعرفي- ببُعد خُلُقي، وسلوكي، يتطلب ملاحظة نتيجة الفعل، وهو بعد يخلو منه المفهوم اليوناني المعرفي المعبر بالأساس عن محبة المعرفة الشاملة بالأسباب الأولى لكل شيء، ولا يتضمن نتيجة عملية. وقد مرَّ المفهوم اليوناني بعدة مراحل متمايزة: من “السفسطائي”، الذي يعني في الأصل “الحكيم”، إلى “مُحبّ الحكمة”، وهي الترجمة الحرفية لكلمة فيلسوف، وهو سقراط نفسه عدوّ السفسطائيين الطبيعي، وأخيرًا استقرت الكلمة بين يدي أفلاطون، وأرسطو لتغدو تصورًا مذهبيًا مركبًا، يتضمن النظريات الأساسية في كل المعارف المتاحة حتى عصرها، وغير المتاحة، التي جعلاها لأول مرة مُتاحة، واستقر بالذات مع أرسطو شكل الكتابة العلمية نهائيًا في هيئة المقال العلمي حتى اليوم، وكان قبل أرسطو إما محاورة أفلاطونية، أو قصيدة علمية كقصائد إنبادوقليس، أو شذرات شعرية مكثفة غامضة كهيراقليطس. بهذا تحدد نهائيًا التمييز بين شكل الكتابة العلمية، بلُغتها، ومعجمها، في مقابل الكتابة الأدبية-الفنية.

وحين جاء فلاسفة العرب مر المفهوم بتحول نوعي جديد، فتضمن بُعدًا عمليًا كما أسلفنا، بيد أن هذا التحول جعل التعريب: “فلسفة” غير مفيد في سياق تداوله العربي للتعبير عن مقصود اليونانيين بلفظ “الفلسفة”. وكان البديل هو “الأدب”. يعني “الأدب” عند العرب كل المعارف المتاحة منظومةً في عقد واحد واضح المعالم، ومتَّسِق. وظل هذا المفهوم الأخير على معناه الأقرب إلى معنى “فلسفة” عند الإغريق حتى القرن العشرين، وحيث تم في عقده الأول وضع حجر الأساس لبناء جامعة وطنية، أهلية، المعروفة اليوم بجامعة القاهرة، والتي تم استنساخها إلى حد كبير في عملية إنشاء جامعات مصرية بالمدن الكبرى، والأقاليم في عهد الملكية، ثم بعد إعلان الجمهورية. وبقي مفهوم “الأدب” محتفظًا بمعناه العربي القديم في أسماء الكليات، التي تجمع تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية في مصر، برغم أننا نستعمل “الأدب” للتعبير عن فنون الكتابة كالشعر، والرواية، والمسرحية. والسبب في أن لفظ “الأدب” يحمل المعنيين: الفلسفي، والفني، هو أن أسلوب عرض تلك المعارف، التي يتأدب بها الإنسان، في شكل متسِق، هو أسلوب أدبي، ما يظهر مثلاً من معالم أدبية هامة في كتابة المقال عند طه حسين، والعقاد، وعبد الرحمن بدوي، وهم أقرب اليوم للقارئ غير المتخصص من الجاحظ مثلاً.

وهذا هو السبب في أننا ندرس الفلسفة بكلية “الآداب”، بينما يدرسها الألمان بكلية “الفلسفة”.

[1]  بصدد تطور الفلسفة في عصر الذكاء الاصطناعي كتبنا مقالاً يعالج قضية “موت العلم”، ندعو القارئ للاطلاع عليه، هو: “الذكاء الاصطناعي ومفارقة فيرمي”: الذكاء الاصطناعي ومفارقة فيرمي: لماذا لا يخاطبنا أحدٌ في الكون؟ – حيز (7ayez.com)

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete