تكوين

كتب عباس محمود العقاد، في حق محمد عبده كتابا يصفه بوصف “عبقري الإصلاح والتعليم” لقد أجاد العقاد الوصف، ولا شك بأن العقاد من كبار المثقفين من أبناء جيله الذين استفادوا كثيرا من فكر محمد عبده(1849م/1905م) الرجل لم يعمر طويلا، فعمره لم يتجاوز56 سنة، كانت كافية ليكون له أثر كبير في الشرق والغرب.  تراث محمد عبده بقي حاضرا طيلة القرن العشرين، وحتى وقتنا الراهن، وهو تراث غني بالتفكير والمبادرة والإقبال على تبني مختلف الأفكار والاجتهادات التي يترتب عنها حل مشكلات وقضايا العصر. فالقارئ لما كتبه محمد عبده، في زمانه بالمقارنة مع ما مكتبه الكثير من علماء عصره، سيجد الرجل على وعي كبير، بأن حل مشكلة العالم العربي والإسلامي حينها، لا تتأتى بالاكتفاء بمختلف متون ومعارف الثقافة الإسلامية في مختلف مجالات المعرفة، وفي الوقت ذاته لا تتأتى بالاكتفاء بكل ما هو وارد من الثقافة الغربية.

الاجتهاد الحضاري

الحل في نظر عبده يعود إلى تدشين قاطرة الاجتهاد بمفهومه الحضاري، وهي مسألة في نظره تتطلب العناية بالمتون التي تعلي من قيمة الاجتهاد في الثقافة الإسلامية، وفي الوقت ذاته العناية بمختلف الطروحات والمؤلفات العلمية في زمنه. من هنا نفهم اهتمام عبده بمتن ابن خلدون (-808هـ/1406م) وكتابه المقدمة، وبمتن الشاطبي (-790هـ) وكتابه الموافقات، وبمتن مسكويه (-4021ه/1030م) وكتابه (تهذيب الأخلاق)، ولا شك بأن تراث هؤلاء وغيرهم تراث يدفع في اتجاه الاجتهاد. فابن خلدون من زاوية البحث في معرفة السنن المتحكمة في التاريخ وبناء الحضارة والعمران، والشاطبي من جهة فهم الشريعة من زاوية الكلي والغائي والمقاصدي فيها، بدل الاهتمام بالأجزاء والفروع وفروع الفروع، وما يترتب عن ذلك من نزعة مذهبية ضيقة. وابن مسكويه من زاوية العناية بموضوع الأخلاق. فبضعف الأخلاق تضعف الأمم، والأخلاق هنا بمفهومها الفلسفي الذي يؤطر فعل الإنسان في نظرته لذاته، وفي علاقته بمجتمعه وبوطنه، وصدقه في عمله…

قال أحمد شوقي:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت /*/  فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

الأفكار الإصلاحية محمد عبده

لسنا هنا بصدد تقييم جهود محمد عبد الإصلاحية، وقد كتب حول تجربته الكثير من النقاد، ولكن الذي يهمنا هنا التنبيه لأهمية السبق عند محمد عبده في وضع اليد على متون في غاية الأهمية (ابن خلدون، الشاطبي، مسكويه)، وهي متون حظيت بكثير من الدراسة والتحليل على طول القرن العشرين.

  • أولويات الإصلاح

من أهم الأفكار الإصلاحية التي انتبه لها محمد عبده، وعمل من أجلها، هي حصول الوعي لديه بأن فكرة الإصلاح والنهوض الحضاري، يبدأ من إصلاح التعليم ونظم التربية،[2] وهذه مسألة في غاية الأهمية، فمختلف تجارب النهوض عبر التاريخ، كان فيها لإصلاح نظم التعليم حظ كبير، ولا يعقل العمل على تشييد نهضة بمعزل عن المعرفة والتعليم والتعلم، فآيات الله في القرآن الكريم وفي الآفاق والأنفس لا يعقلها إلا العاقلون. وقد أعلى القرآن الكريم من قيمة وشأن العلم والعقل والنظر والفكر والتفكر… فالإيمان يأتي على قاعدة العلم بدل الجهل، فبالنسبة إلى القرآن الكريم منذ اللحظة الأولى لا قيمة عنده للجماعة إن لم ترفع من شأن العلم والقراءة، وكان من البديهي أن يدشّن القرآن الكريم حضوره بمفردة “اقرأ”.[3]

هذه الرؤية للقراءة التي يحضر فيها الوسع بمعرفة مختلف المعارف، في مجال الدين والدنيا، آيات الله في الكتاب المنزل وآياته في كتاب الخَلق، بذل محمد عبده مجهودا كبير من أجل استرجاعها وإحيائها من داخل الأزهر، وهي رؤية تشكلت على ضوئها الحضارة الإسلامية في زمنها المزدهر، فالقارئ لكتاب محمد عبد الإسلام بين العلم والمدنية سيلحظ هذا الأمر بشكل واضح، فإصلاح مجال التعليم في تصور محمد عبده، يرتبط بتوسيع مجال القراءة والاطلاع على مختلف معارف العصر، والعناية بمختلف العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية… مع استحضار مختلف النصوص المغيبة، واستحضار الأعلام الكبار في التاريخ الإسلامي الذين لم تنل مدوناتهم حظها من النظر والاهتمام، من قبيل الشاطبي وابن خلدون… فمحمد عبده على وعي منهجي بأن العلم والإسلام لا تعارض بينهما، فالعلم والتربية والتعليم هو السبيل لنهضة الإسلام من جديد.

في ذكرى رحيل الإمام محمد عبده: الجزء الأول…أين يقع الشيخ من محاولات التصنيف؟

لقد تشبث الشيخ محمد عبده بموضوع إصلاح التعليم، شكلا ومضمونا، وننقل عنه بهذا الشأن قوله: “إن نفسي توجهت إلى إصلاح الأزهر[…] فقد شرعت في ذلك فحيل بيني وبينه، ثم كنت أترقب الفرص، فما سنحت إلا واستشرفت لها وأقبلت عليها، حتى إذا صادفت الموانع لويت وصبرت مترقبا فرصة أخرى.”[4] وقد خاطب الشيخ محمد عبده بعض من زواره من مفكري الغرب عندما التقوا به في حجرة صغيرة بالأزهر بقوله: “ها أنا ذا كما ترونني، وحيدا ليس لي من الأساتذة من يساعدني، ولا من دعاة الخير من ينصرني. أريد أن أعلّمَ في هذا الجامع شيئا نافعا بدلا من هذه الشروح العتيقة البالية الخالية من المعنى، التي هي أضر من كتبكم القديمة المؤلفة في القرون الوسطى …ولكن هل أجد من يساعدني على ذلك؟ وإن لم أجد فهل أفلح فيه وحدي؟”[5] أقوال الشيخ محمد عبده، تعكس لنا صعوبة المهمة التي سعى من أجلها، ولم يجد من يقف معه في طريق مشروعه الإصلاحي، الذي واجه معارضة مزدوجة، من لدن الاتجاه الجامد على كل ما هو قديم ولا يقبل بأي جديد، والاتجاه الذي يرى نفسه منقادا إلى الآخر (الغرب) دون وعي. وهي مشكلة مركبة لا يعي أصحابها الغائية والقصد من مطلب التجديد بكونه شرط للبقاء ولاستمرار الوجود.

  • الدولة المدنية بدل الدولة الدينية

عندما نشر فرح أنطون مقالات في مجلة (الجامعة) كان مفادها، وضع الإسلام في قفص الاتهام بدعوى كونه دين يتعارض مع العلم، ويفضي إلى استبداد الحكام، والحل في نظر فرح أنطون هو التشبث بالعلمانية كما هي في فرنسا. رد عليه الشيخ محمد عبده  وهو مفتي مصر، في مجلة المنار التي كانَ يُصْدِرُها تلميذُهُ بمصر محمد رشيد رضا، مدافعا عن الإسلام بكون العلم قد انتشر وازدهر معه، وبأن الإسلام ليس فيه كهنوت ولا قولٌ بالدولة الدينية بخلاف ما كان عليه الأمر في المسيحية في أوروبا العصور الوسطى، ويرى المفكر اللبناني رضوان السيد بأن عبده في حواره هذا مع فرح أنطون قد ساهم في تطوير القول بالدولة المدنية في الإسلام[6] بمعنى أن الشيخ عبده ليس مع الدولة الدينية. وهذه نقطة في غاية الأهمية.

  • تعدد أفكار الإصلاح عند محمد عبده

أفكار وطروحات محمد عبده الإصلاحية متعددة ومتنوعة، وهي تغطي كثير من المحاور أهمها: محور إصلاح التعليم في الأزهر، محور بيان بأن الإسلام لا يتعارض مع العلم والمدنية. محور تجديد فهم القرآن الكريم، محور التقريب بين المذاهب والأديان… وقد أثبت الزمن ومختلف التجارب بأن ما كان عليه محمد عبره هو الطريق الصواب نحو النهضة والإصلاح، وقد تأثر الكثير بدعوته في مصر والعالم الإسلامي.

  • نقد محمد عبده

من الكتابات التي انتقدت محمد عبده ما كتبه عبد الله العروي، فهو يرى أن الرؤية التي انطلق منها الشيخ محمد عبده في نظرته الإصلاحية، مسؤولة عن “إضاعة الفرصة التاريخية لإصلاح حقيقي كان من شأنه تخليص الأمّة من قيود الاستتباع وأسر الماضوية؛ إذ ذهب الشيخ -وفق زعم العروي- إلى محاولات بلا جدوى حقيقية للبحث عن وسيلة للتصالح بين الماضي والحاضر؛ تحصنا بالذات مما رآه هيمنة للإرادة الأوروبية المسيحية الساعية إلى اكتساح العالم.. وقد اعتبر العروي، عبده بذلك نموذجا للمصلح السلفي الذي رأى في هذا المنزع التوفيقي حلا يكفل تحولا في التاريخ يحفظ الذات، وقد تزينت ببعض مزايا الحداثة الغربية”.[7] هذا النقد الذي وجهه العروي للشيخ محمد عبده في مصر هو نفس النقد الذي قال به في حق علال الفاسي بالمغرب.

وقد جاء هذا النقد الذي قال به العروي في سياق نقد ثلاث اتجاهات أو تيارات، تيار الشيخ، وتيار الزعيم السياسي، وتيار الداعية إلى التقنية، إذ يفترض “التيار الأول ـالشيخ- أن أم المشاكل في المجتمع العربي الحديث تتعلق بالعقيدة الدينية، والثاني ـالزعيم السياسي- بالتنظيم السياسي والثالث ـالداعية إلى التقنية- بالنشاط العلمي والصناعي”،[8] “فالشيخ والزعيم السياسي وداعية التقنية لحظات ثلاث يمر بها تباعا وعي العرب وهو يحاول منذ نهاية القرن الماضي [القرن19] إدراك هويته وهوية الغرب”.[9] والسؤال هنا هل بالفعل امتثل العالم الإسلامي، لكثير من أفكار محمد عبده؟ أم أن عبده شكل صرخة في الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد، لم يكتب لها أن تلقى العناية من لدن مختلف المؤسسات العلمية والتعليمية؟ مع العلم أن عبده وجد في طريقه الكثير من الموانع والاعتراض من الكثير من أقرانه في المؤسسة الدينية وغيرهم، ولم يهتم بأفكاره إلا قلة من تلامذته.

ولا أحد من المتشددين ومن ذوي النزعة الدينية المتضخمة منذ النصف الأخير من القرن العشرين، نجده اعتنى بتراث وبدعوة محمد عبده الإصلاحية، الأمر الذي لا شك فيه، بأن طروحات محمد عبده طروحات تجديدية متقدمة عن زمانها بكثير، ما قاله العروي في حق محمد عبده، ينطبق بشكل كبير على تلميذه رشيد رضا، وقد شكلت مواقفه وتصوراته نقطة ردة وتراجع على إصلاحية محمد عبده. وهذه مسألة في حاجة لكثير من التوضيح.

من بين الأفكار التي انتقدت محمد عبده، موقف عبد الجبار الرفاعي من كتاب “رسالة التوحيد” لمحمد عبده، وهو الكتاب الذي يرى فيه البعض بأنه فيه تجديد لعلم الكلام، فالرفاعي يرى في كتاب “رسالة التوحيد” بأنه كتاب لا يؤسس لأي جديد لأن صاحبه “كان يفكِّر بذهنيةٍ كلاميةٍ قديمة، ويفتقر للحسِّ التاريخي، ولم يجتهد في بناءِ مفهومٍ للوحي خارج الذهنية التقليدية. علمُ التوحيد لديه هو الكلامُ التقليدي ذاته، يجد الدارسُ إسهامَ محمد عبده في علم الكلام في «رسالة التوحيد» التي استأثرت باهتمامٍ واسعٍ من دارسِي فكره، ووصفها بعضُهم بأنها محاولةٌ رائدةٌ في تأسيس علم كلام جديد، لكنَّ قراءةً متأنيةً لهذه الرسالة ترينا أنها تعبِّر عن موقفٍ من علم الكلام أكثر مما تعبِّر عن موقفٍ في علم الكلام.”[10] وفي جميع الأحوال نحن مدينين لجهد وتراث محمد عبده بوجوه متعددة.

 

المراجع:

[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2]  أنظر بهذا الصدد، الاعمال الكاملة، لمحمد عبده، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق، ط.1، 1993م، ج.3، ص. 191 إلى ص.215

[3]  قال تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)” (العلق)

[4]  محمد عبده، الاعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق، ط.1، 1993م، ج.3، ص.193

[5]   نفسه، ج.3 ص. 201

[6] رضوان السيد، مقال: الدين والدنيا والدين والدولة في الإسلام المعاصر، مجلة التسامح، العدد 19

[7]  ماهر الشيال، العروي والتراث لحظة محمد عبده، نشر بتاريخ: 17/نونبر/2022م. موقع: https://aswatonline.com/

[8] عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، ط.2، 1999م، ص. 39

[9] نفسه، ص. 48

[10]  عبد الجبار الرفاعي مقدمة في علم الكلام الجديد، مؤسسة هنداوي، عام 2024م، ص.113

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete