مفهوم التنوير الديني وأسسه: لماذا يخشاه الأصوليون؟

تكوبن

ما وراء المفاهيم…

كثيرة هي المفاهيم التي بدل أن تصنع العقل البشري، وتساهم في تحديث آليات تفكيره، وتعمل بكل إمكاناتها على الخروج من حالة الاستقطاب الحاد الذي توصلنا إليه بعض الإيديولوجيات العابرة للعقول، تتحول إلى مشاريع لتفخيخ العقول، أو وضع الكائن البشري على فوهة الصدام الحضاري القاتل مع الذات ومع الآخر. هكذا هو قدر الإنسانية، وهكذا هو مصيرنا كأفراد ومجموعات لا تعي وجودها إلا في ظل تكتلات وتحيزات وهويات قاتلة. وبما أن للمفاهيم هذه القدرة القاتلة على تسميم الحياة الإنسانية، فإننا نختار في هذه الدراسة مفهوم التنوير، كإحدى المفاهيم الجدلية التي تجعل العقل المسلم خاصة في شقه الأصولي والحركي السياسي في حالة من التيه الوجودي، والعداء المطبق، والخصام الحاد مع مفهوم يتم شحنه بكل الدلالات السلبية، والمعاني العدوانية، ليتحول من دلالاته الإنسانية، إلى ما يمكن وصفه بحالة تزوير وتضليل ثقافي ومفاهيمي، الهدف منها خلق حالة عدائية مع فكرة التنوير، وبناء حصون من الدلالات التي تستثير الرغبة، وتستفز المشاعر والغرائز، لعقل لم يخرج بعد من حدود ما تمليه عليه جروحه النرجسية.

ما هي أفكار التنوير؟

هذا الانقلاب المفاهيمي يشير في إحدى تجلياته إلى الانقلاب في العقل والمعايير والآليات، التي تم تحريفها على مدار تاريخ طويل، استطاع فيه الكهنوت الديني أن يتسلط على كل مقدرات الإنسان، ليبني مؤسسته الدائمة والأبدية، مؤسسة الإنسان المهدور من طرف ثلاثي الهدر المشهور: الديكتاتوريات، الأصوليات، والعصبيات. نحن أمام ثقافة نحتاج أن ندخل فيها كي نخرج عليها، أو بتعبير عبد الرزاق الجبران:” في هذا العالم أحيانا لا تدخل على الحياة إلا بالخروج عليها، ولن تصلي حتى تترك الجماعة، ولا تؤمن بالله حتى تكفر بالمعبد الذي يرفع اسمه، ولن تعانق الحكمة حتى تتخلى عن كتب فلاسفتها “[1]. معنى هذا الكلام أننا ونحن في صلب حديثنا عن التنوير، نكتشف حجم الكذب والتزوير الذي يرافق مسيرته، خاصة من أولئك الذين جعلوا من حياتهم ومساراتهم وإيديولوجياتهم حصونا للتخلف، والتشدد والتطرف. وإذا كانت الجريمة هنا هي هذا الانقلاب المفاهيمي الذي حاول عبر تاريخ طويل من التضليل حرف مفهوم التنوير، وجعله مرادفا للإلحاد، ومحاربة كل أشكال التدين، فإننا نجزم بأن ما تقصده هذه الحركات من الدين ليس هو الدين في بعده المكتمل والمطلق، بل يقصدون تحديدا معبدهم، وترسانتهم الإيديولوجية، وقواعدهم التأصيلية. لأن المشكلة ليست في الدين أو التنوير، باعتبارهما حالتان يخرج بهما الإنسان من ربقة الجهل، وعتمة الخرافة. بل المشكلة في تدينات الناس، وأنماط تفكيرهم الديني، دين الفقيه، والمؤسسة، والسلطة، والحاكم بأمر الله، والشريعة، والحدود، والمثقف، والإيديولوجي. المشكلة هي أننا بدل أن نقرأ التقارب بين المفاهيم من أجل الإنسان ومصلحته العليا، نسقط في الأفخاخ التي تنصبها لنا كل الأصوليات في رغبة مستديمة بإطالة أمد الصراع، وكأننا نطبق عبارة الجبران:” كسبنا كثيرا من الأسماء وخسرنا كثيرا من الأشياء، كسبنا من الإسلام أشياءنا، وخسرنا منه أشياءه “[2].

هنا يحق لنا السؤال:

  • ما التنوير؟

إذا بحثنا في الجذر اللغوي لكلمة تنوير واستنارة فسنجدها تنحدر من الجذر اللغوي نور، وهي ترجمة لعدة كلمات في اللغات الأوروبية، مثل enlightenent الإنجليزية، ومن كلمة light التي تعني نور. وللتنوير مرادفات كثيرة في الحقل الدلالي الفلسفي، حيث يطلق عليه أيضا عصر التنوير، أو حركة الاستنارة، وفلسفة التنوير الذي تعني كل ما يخالف الجهل والظلام والخرافة[3]. وإذا ما أردنا أن نبحث عن هذا المعنى أيضا داخل النصوص القرآنية فسنجد أن هناك آيات كثيرة تحدثت عن النور مثل قوله تعالى:” اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[4]، فالنور هنا هو الحالة المقابلة للظلمات، وهي لا تختلف عن الثنائيات الصلبة التي يحفل بها العقل الميتافزيقي، مثل نور ظلام، مدني عسكري، ديني لا ديني. وبالتالي فكلمة نور القرآنية تعبر في الكثير من الأحيان على الحالة التي يبدد فيها ظلام الجهل، وينتشر العقل العلمي بدل العقل الخرافي الغارق في سحرية العالم وبدائيته، لهذا وصف الله نفسه بالنور:”  اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[5]. ومن هذا المنطلق لا يمكن أن يكون الدين معارضا لفكرة التنوير والاستنارة، كما لا يمكن أن تكون آيات القرآن الكريم متعارضة مع هذا المفهوم الرباني، أو تحمل منه أي حساسية، إلا إذا استثنينا الخطابات الأصولية والسلفية التي تحاول حرف كل المفاهيم المتعارضة مع خطاباتها أو أصولها الفكرية والعقدية.

ما هي أفكار التنوير العامة حول الدين؟

لكن إذا عدنا لسؤال التنوير فلا بد أيضا من أن نتعرف قليلا على اللحظة الكانطية، فكانط هو الذي طرح سؤالا مباشرا عن معنى التنوير، وأجاب عنه إجابات تقتضي منا الوقوف عندها بإمعان شديد. ولكن قبل أن نتعرف على هذه الإجابة من خلاله مقاله الشهير:” ما التنوير؟ ” لا بد من الإشارة إلى أن اللحظة الكانطية كما يحب أن يدعوها لوك فيري[6] هي لحظة انقلاب مفاهيمي في التاريخ الفلسفي الحديث، فلقد كانت فلسفته تجديدا للمعرفة الموضوعية، والقيم الأخلاقية، والحس الجمالي، والفهم التاريخي. لأن أعماله العظيمة كانت تغطي مجموعة من المجالات، خاصة تلك الرؤى التي كانت تؤمن بأن هذا العالم متناغم ومنسجم بشكل كبير كما كانت ترى الرواقية وغيرها من الفلسفات القديمة. وإذا كان العالم بالمنظور الكانطي قد أحدث قطيعة من الكوسمولوجيات القديمة، وأصبح عالما من الفوضى الخلاقة، ونسيجا من القوى المتنازعة، فإن المعرفة لم تعد تأخذ شكل تأمل خالص، ومن هنا يجب على الإنسان العالِم أن يدخل بعضا من النظام في عالم يفتقد إلى الكوسموس في مجالات متعددة، كأن يدخل من خلال مبدأ السببية بعضا من الروابط المنطقية بين السبب والنتيجة، ويحدث نوعا من العلائق التي تبدو مترابطة للوهلة الأولى.

وإذا كان هذا هو شأن المعرفة بالنسبة للحظة الكانطية فإن هذا الأمر سينعكس بشكل أكبر على المسألة الأخلاقية، فهي لم تعد تستند بدورها إلى مرجعية عليا، أو نظام عقلي لما قد تتطلبه الطبيعة البشرية التي يبدو أنها لم تعد موجودة. إنه انقلاب مفاهيمي وجذري بامتياز، قد اخترق المسألة الأخلاقية برمتها، وهنا سيعجز الإنسان عن أن يجيب على سؤال: ماذا يجب علي أن أفعل؟ إذ كيف لنا أن نحاكي نظاما كونيا لم يعد موجودا. بل يبدو أن هذا السؤال يحيلنا بشكل أكبر للتفكير في ميولاتنا وسلوكاتنا وقيمنا، إذ أنه يبدو بأن طبيعتنا البشرية لم تعد طيبة كما نتصور، بل تخترقها الأنانية والحسد والحقد وكل نوازع الشر الكامنة فينا. وإذا كان هذا هو شأن العالم بالنسبة للمعرفة والأخلاق والقيم الإنسانية، فنحن إذن أمام عالم تغيب عنه كل أشكال التناغم والانسجام الممكنة، وهنا يكون خلاص الإنسان ليس هو الذوبان في عالم نفى فكرة الكوسموس والتناغم على الكون، بل فيما يسميه كانط بالفكر المتسع، أي ذلك الفكر غير المحدود الذي يتعارض مع النظرة القصيرة للأشياء، وهو بالذات الفكر الذي يتوصل من خلاله الإنسان إلى الإفلات من وضعه الأصلي الخاص إلى معرفة الآخر عبر التأمل. وهذا سيحدث بدوره فكرة التنسيب، أي تنسيب كل المطلقات، ما دام الإنسان هو المحرك لدواليب وجوده، وسيحدث نوعا من الشرخ في المعرفة الإنسانية بين الإنسان المتناهي، والإلهي المطلق، ويصبح الإنسان مفصولا ومعزولا عما هو مطلق.

وانطلاقا مما سبق وحسب التصور الكانطي فماذا يعني التنوير في هذه الحالة؟ هنا يمكننا رصد بعض ملامح التنوير، وأيضا معرفة مدى ملاءمتها ومطابقتها للتصور الديني الإسلامي انطلاقا من المقالة المشهورة لكانط: ما التنوير؟[7]

  • الخروج من حالة القصور العقلي: يرى كانط من خلال مقالته بأن التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه. هذا القصور يعبر عنه كانط بعدم القدرة على استخدام العقل إلا بتوجيه من إنسان آخر، وقد نزيد أيضا هنا مؤسسات أخرى، أو طوائف ومذاهب ومجموعات بشرية مختلفة. والأخطر في هذا كله هو أن هذا القصور يجلب للإنسان إحساسا غير متوقع بالذنب والإثم، نتيجة الافتقار إلى العقل.

وإذا كان كانط يؤكد على أهمية التنوير للخروج من حالة القصور العقلي، فإن القرآن الكريم أيضا ينسجم وهذا الطرح التنويري في كونه رفض كل أشكال القصور العقلي، ودعا بما لا مجال للشك فيه إلى استخدام العقل، والتفكر والنظر، وجعل كل ذلك وسائل للفصل بين عالم الإنسان المكرم، وباقي المخلوقات والموجودات، وإذا تأملنا قوله تعالى:” وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ[8]، فهنا يوضح القرآن الكريم بأن اتباع الآباء، وتقليدهم، والمحاججة بصوابية السلف لا مسوغ شرعي أو عقلي له، ما دام الإنسان قد منح بشكل فطري ملكة التفكير والتعقل، لهذا يضعنا القرآن الكريم أمام احتمالية عدم تعقل الآباء وعدم اهتدائهم، هنا يكون القصور العقلي مسألة وراثية، تنتقل بشكل طوعي وإرادي، كما قد تنتقل بشكل قهري بفعل الضغط الاجتماعي والثقافي:” وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا[9].

  • رفض الوصاية: يرى كانط بأن هناك عوامل كثيرة تجعل الإنسان يختار حياة العبودية والقصور العقلي اتجاه الآخرين، بعد أن خلصته الطبيعةمنذ أمد بعيد من كل وصاية غريبة عليه. ولعل أهم هذه العوامل نجد الكسل والجبن، لأن هذا النسق المغلق الذي يعيشه الإنسان القاصر عقليا، والراضي بفرض الوصاية عليه، يبدو أنه يخلق حالة من الراحة النفسية والذهنية لعقول ترفض الاستخدام والاستعمال، وكأن الإنسان في هذه الحالة يقول: إن الوصاية عليَّ لمريحة! وما دمت أجد الكتاب الذي يفكر لي، والراعي الروحي الذي يغني ضميره عن ضميري، والطبيب الذي يقرر لي نوع الطعام الصحي الذي أتناوله، فما حاجتي لأن أجهد نفسي؟ ليست هناك ضرورة تدعوني للتفكير، ما دمت أقدر على دفع الثمن، وسوف يتكفل غيري بتحمل مشقة هذه المهمة الثقيلة. نحن أمام حالة ذهنية خطيرة من التجهيل الممنهج، وحالة نفسية يعشق معها الإنسان قصوره العقلي والفكري دون أن يشعر بأدنى إحساس بالخجل. حالة العجز هذه تديم ما يسميه كانط بالقصور المستديم، وكل من يرغب في التحرر من هذه الأغلال الذهنية والفكرية، لا يستطيع أن يقفز فوق أضيق الحفر إلا قفزة غير مطمئنة؛ لأنه يدرك تماما أن هذا الأمر يتجاوز قدراته. ولهذا قليلون هم من يحاولون أو يكون لهم شرف المحاولة، بانتزاع أنفسهم من الوصاية المفروضة عليهم.

وإذا كان كانط قد أشار إلى خطورة الوصاية على عقول الناس، والتفكير من خلالهم ولحسابهم كما تفعل الأصوليات المختلفة، فإن الإسلام نفسه ومن خلال القرآن الكريم أشار إلى هذا الواقع الديني المستفحل في كل الأنساق الدينية منذ لحظة الظهور الأولى. إذ أن رجال الدين والناطقين باسمه، والموقعين نيابة عن الناس مهما اختلفت أسماؤهم ووظائفهم قاموا بهذا الدور الاحتكاري والتخريبي لكل ما هو عقلي، تارة باعتمادهم أساليب الغلو والإطراء السياسي والديني، والوقوف ضد كل المقدرات الإنسانية الرامية إلى الانعتاق والحرية. وتارة بالاستخدام المفرط لما يسمى بالقوى الناعمة في المجتمع ضد المجموعات والأفراد المختلفين معهم، عن طريق التضليل والتزوير والتشويه الممنهج. والقرآن الكريم باعتباره النور والهداية الربانية للإنسانية في مسيرتها الأرضية، يكشف جانبا من هذه التحولات الدرامتيكية في مسيرة الإنسان: حيث يقول: ” اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله”[10]. وهي آية تسبر أغوار النفس الإنسانية، وتكشف أبشع ما فيها، من العبودية المختارة، والرغبة في إدامة سطوة المتسلطين على مقدرات الناس باسم الإله أو الدين أو المعتقد. ولولا هذه الرغبة النفسية المخبوءة للكائن الإنساني، لما جعل بينه وبين الله وسائط تحجب عنه الرحمة الإلهية، والأنوار الربانية، والهداية المرفوقة باليقين الإيماني الخالص. فالرهبان، والأحبار، والفقهاء أو المفسرين، والقواعد والأصول البشرية، كلها تشكل العقل الاحتكاري والوصي على الناس، لهذا حذر القرآن الكريم منهم:” يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله “[11].

ما الهدف من عصر التنوير؟

  • المدخل إلى التنوير: إذا كان هذا القصور والوصاية هي العوامل المانعة من التنوير، فإن هذا الأخير يمكن اعتباره النقيض المباشر لكل أشكال الاحتكار الديني والسلطوي على عقل الإنسان، هنا يحثنا كانط ويجيبنا بوضوح على ما هو التنوير دون لف أو مواربة، أي أن التنوير هو كل ما يقوم به الإنسان للخروج من حالة الاستعباد الذاتي، والجهل الثقافي، والاستبداد الديني والسياسي. هذه الحالة التنويرية تحتاج إلى مناخ وفضاء من الحرية التي يحتاجها الكائن الإنساني، ويحتاجها أيضا من عينوا أو وضعوا أنفسهم بمثابة أوصياء على عامة الناس، لأن حالة الحرية قد تجعل من بينهم من يفكر وينظر بنفسه وينشر كل القيم التحررية حوله، بعد أن ينفض عن كاهله نير الوصاية. هذا هو التنوير، وهذه هي عوامله المؤثرة، ولكن مثل هذا التنوير لا يتطلب شيئًا غير الحرية، وهو في الحقيقة لا يتطلب إلا أبعد أنواع الحرية عن الضرر، ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور. بيد أنني يقول كانط أسمع أصوات المنادين تتردد من كل جانب: لا تفكروا،فالضابط يقول: لا تفكروا، بل تدربوا. والخازن يقول: لا تفكروا، بل ادفعوا. ورجل الدين يقول: لا تفكروا، بل آمنوا. وهي كلها معيقات للحرية الفكرية والعقلية، فأي هذه القيود يقف عقبة في سبيل التنوير؟ وأيها لا يعرقله وإنما يسانده؟. يجيب كانط: إن الاستخدام العلني العام للعقل ينبغي أن يبقى حرًّا في كل الأوقات، وهو وحده القادر على نشر التنوير بين الناس، أما استعمال العقل استعمالًا خاصًّا، فيجوز في أحيان كثيرة أن يقيد تقييدًا شديدًا، دون أن يؤدي هذا بالضرورة إلى إعاقة تقدم التنوير بصورة خطيرة. ولكني أقصد باستعمال الإنسان لعقله الخاص، ذلك النوع الذي يمارسه العالم قبل جمهور قرائه. وأما الاستعمال الخاص للعقل، فأعني به حق هذا العالم في استعماله في منصب يشغله أو وظيفة عهد إليه القيام بها في المجتمع المدني يقول كانط.
  • لماذا نحتاج إلى التنوير الديني؟

إذا كنا قد وصلنا إلى أن التنوير حالة فكرية وذهنية يرفض فيها الإنسان الوسائط والأغلال التي تقيد حركته العقلية، فإننا بذلك نستطيع أن نجزم بأن التنوير حالة من الصفاء الذهني ليست معادية للدين، ولا هي في الجهة المقابلة له كما تحب أن تروج له الأصوليات الدينية، والحركات التي تحتكر التحدث باسم الدين، أو باسم الإله. هذه الحالة لها سياقات تشكلها في الواقع الأوروبي، هذا ما سجله التاريخ، وأكدته الأحداث، ولكن هذا لا يعني بأن البيئة التنويرية لم يعرفها العالم الإسلامي، أو لن يحتاجها مرة أخرى بفعل المحن الثقافية التي تمر منها مجتمعاتنا. وإذا كان التنوير الأوروبي قد أنتج لنا واقعا سياسيا أفرز لنا الحداثة بكل تجلياتها، فإن هذا الميلاد الحداثي لم ينشأ في فراغ، كما لم ينبت من عدم، بل كان نتاجا طبيعيا لحركة متسارعة لمسار يفصل بين الدين والتدين، وبين الدين والفكر الديني بتعبير أدق. أي الخروج من مرحلة يتم فيها السطو على مقدرات الإنسان، وأنماط تفكيره بشكل سلبي، إلى مجتمع مستقلّ يستمدّ من ذاته قانونه. لقد كانت أوروبا تعبُر هذا النفق التاريخي ومعها العالم بأسره، وتعاني من التراكمات الثقافية والفكرية لولا توفر هذه الحركة التنويرية، والنقلة الفلسفية لعالم الحداثة الناتج عن ثلاث ثورات كبرى: الأولى: الاكتشافات البحرية والجغرافية التي قام بها الإسبان والبرتغاليون، والتي أدّت إلى ازدهار الحياة الاقتصادية في أوروبا، الثانية: تطوّر النّزعة الإنسانية humanisme وانتشارها في مختلف أنحاء أوروبا بفضل اختراع آلة الطّباعة، الثالث: الإصلاح الدّيني.[12] هكذا كان الواقع التاريخ لعصر الظلمات، وهكذا خرجت أوروبا من مخاضٍ سياسي وثقافي وفكري جعلها تعيش عهودا طويلة من الاستعصاء التاريخي، والاستبداد السّياسي، والتسلّط الكهنوتي، الذي مهَّد لعصر التنوير أو الاستنارة. وكان هذا هو المدخل الحقيقيّ نحو الحداثة السّياسية بتجلّياتها الأربعة: العقلانية، الذاتية، السّيطرة الكونية، التوتاليتارية. أو ما قام به ستراوس في تحليله لموجات الحداثة الثلاث: رفض الغائية، توسط التاريخ بين الواقع والمثال، التاريخانية[13].

إشكالية التنوير في عالم ما بعد الحداثة؛ هل ينبغي نزع السحر من العالم؟

وإذا كان التنوير السياسي والثقافي الناتج عن ثورة الصناعة والفلسفة والفكر قد أنتج لنا هذا الواقع، فإن التجلي الأكبر هو ذاك التنوير الديني الذي شكل بدوره قفزة نوعية في مسار التحديث، ورفع منسوب الوعي الفكري لدى عامة الناس، في عصر سيطرت الكنيسة فيه على كل مقدرات الإنسان العقلية والفكرية. ولعل الثورة الدينية التي أطلقها لوثر شكلت الضربة القاضية لكل أشكال الوساطات، خاصة ما كانت تقوم به الكنيسة حينذاك[14]. فحسب مارسيل غوشيه فالثورة الدينية قد أصابت النظام الواحد بأكمله، إذ أنها نددت بمزاعم السلطة الروحية المطلقة، التي تشكل جسرا بين الله وعباده، وليس ثمة شفاعة قادرة على منح الخلاص الذي يتعلق بحرية الله التي لا حدود لها، والتي تظهر حينما يوهب المخلوق رحمته.

وبما أننا أمام واقع تاريخي متكرر في الزمان والمكان، فالحاجة إلى التنوير الديني في سياقات مختلفة ومتشابهة، يجعلنا نؤكد على أهمية التنوير الديني في السياق الإسلامي لمجموعة من الاعتبارات نرصدها فيما يلي:

  • سيادة العقل الخرافي والأسطوري: إذا كانت العصور الوسطى قد انتهت بشكل نهائي في أوروبا، فإن امتداداتها الثقافية والفكرية لم تنته عندنا بالكامل، بل ما زالت تلقي بظلالها ومخلفاتها وتراكماتها على المشهد الثقافي العربي والإسلامي على حد سواء. هذا ما أكده هاشم صالح[15] وهو يرصد مسار التنوير في عالمنا بعدم نجاح مسلسل الحداثة وعدم تغلغله في الذاكرة الجماعية للطبقات الشعبية العميقة، وما انتشار الحركات الأصولية التي تجر بكل ثقلها وموروثها إلى الماضي إلا تجسيدا عمليا لهذا الارتكاس الثقافي.
  • العقل خادما للإيديولوجية الدينية: بالرغم من كل التقدم الذي أحرزته الإنسانية خلال مساراتها المختلفة، إلا أن الخطاب اللاهوتي ما زال مقدما على العقل في دوائر تفكيرنا. بل الأخطر أنه منذ الانقلاب المسيحي على الفكر المسيحي أصبح العقل خاضعا لسلطة التفكير الديني، وخادما لأجندته، حيث تحول بذلك العقل إلى أداة تستدعي النص للتبرير والشرعنة، وليس للتفكير والتأمل. وهنا يمكننا الإشارة إلى أن حتى في تاريخ العصور الوسطى كان هناك فلاسفة ومفكرون وكتاب لهم من الفكر ما يحدث انقلابات مفاهيمية كبيرة، غير أنهم كانوا خاضعين بشكل كبير لسلطة الكهنوت الديني، لأن الخروج من دوائر التفكير السائد، أو من المساحات التي يسمح بها التفكير الجمعي كان أمرا غير ممكن. وهذا ما وثقه التاريخ، وشهدت عليه فصوله الأكثر دموية.
  • الإنسان وعقدة الذنب: حينما يغيب العقل، ويحظر التفكير، ويصبح الإنسان آلة لترداد السائد والمتعارف عليه، لن يكون المنتوج إلا إنسانا ضعيفا وهشا ومتهالكا من شدة الإحساس بالنقص والدونية والذنب. هذا ما حدث لإنسان العصور الوسطى، الذي كان ملاحقا بعقدة الخطيئة الأصلية، التي لم يستطع التخلص منها، أو التحايل عليها من جراء إحساسه بالذنب وضبابية نجاته في الحياة الأخرى. وحينما تتعمق هذه العقدة في نفوس الناس، تتغير نظرتهم إلى الحياة، وتصبح كل الأشياء الدنيوية لا قيمة لها، وينتشر الزهد، ومظاهر التقشف، ويصبح الدين نقيضا للحضارة والتقدم والتطور الإنساني، ولهذا عجز إنسان العصور الوسطى عن إنجاز الحضارة بمفهومها الإنساني، كما عجز مسلم اليوم عن إنتاج منظومة قيمية متقدمة ينافس بها باقي الحضارات، لأن جزءا من الحضارة يكمن أساسا في النظرة إلى الحياة نظرة إيجابية وتقدمية.
  • العقلية الخرافية والرمزية: هذا مشترك إنساني لدى جميع الناس حينما يكونوا سريعي التصديق، لما يروى لهم، معتمدين بشكل كبير على ما تتناقله الأفواه دون دراسة أو تمحيص، أو على الأقل دون قدرة على السؤال والنقد. من هنا كانت النظرة إلى الأشياء الخرافية غاية لدى الكائن الإنساني، تستهويه خيالاتها، وشخصياتها، وأمكنتها وأزمنتها، وكأنه أمام رواية مجهولة الهوية، غير أن المطلوب منه أن يصدقها دون تفكير أو نظر. وحينما دخل الإنسان لعصر الحداثة والتنوير أحدث الإنسان قطيعة مع هذا النمط في التفكير البدائي الخرافي، وأصبح مشدودا إلى كل ما هو علمي، بعد أن عاين مستوى التفكير الإنساني البدائي مقارنة مع ما وصلته الإنسانية من تفوق على جميع المستويات.

 

لماذا يخشى الأصوليون من التنوير الديني؟

كلما تحدثنا عن الأصوليات كلما وجدنا أنفسنا داخل بنيات مغلقة تحتاج منا الكثير من الفهم والتفكيك، وهذا راجع بالأساس إلى صعوبة التواصل المعرفي مع هذا النوع، وهذه الأشكال من التفكير الضيق، هنا نجد أنفسنا نشاطر الكاتبة كارين أرمسترونج[16] أنه ينبغي أن نمعن النظر في كلمة الأصولية نفسها، لأنها تحتوي على العديد من التناقضات الداخلية التي تجعل منها عرضة للنقض والانتقاد. ولعل المثير في هذا السياق، أن أول من استعمل لفظ الأصولية هم الأمريكيون البروتستانت، في رغبة منهم للتميز عمن يسمون أنفسهم بالليبراليين. والدافع للتمييز من وجهة نظر هؤلاء البروتستانت، هو أن الليبراليين يحرفون الكتاب المقدس، ويشوهون تعاليمه، وبالتالي فالعودة إلى الأصول الأولى، والفهم الأصلي للكتاب المقدس، هو المنقذ من هذا الجدل الديني والثقافي. بعد ذلك تلقفت العديد من الجماعات والحركات ذات الأبعاد الدينية هذا المصطلح، وأصبح يعني كل الحركات التي تنطلق من أصل موحد ومطلق، في مواجهة ما تعتبره تحريفات أو تأويلات خارجة عن حدود الدين ومنطلقاته. لكن بالرغم من أن لفظ أصولية يبدو للناظر بأنه لفظ فيه نوع من الوحدة والتناغم، إلا أن الأصوليات تختلف وتتميز عن بعضها البعض إلى حدود التناقض الجذري، فكل أصولية هي قانون بحد ذاتها، ولها ديناميتها الخاصة بها.

وإذا انتقلنا إلى السياق الإسلامي فسنجد أن الأصوليات الدينية النابعة من التربة الإسلامية، أو الفكر الديني والمذهبي الطائفي تتبنى هذا الطرح الماضوي السلفي، ولعل أهم ما تتميز به هو مفهوم العصبة، التي تميز العقل العربي، والجماعات الإسلامية بمختلف مكوناتها، وحينما نذكر مفهوم العصبة فإننا نعنى الحالة من التعصب الفكري والذهني والنفسي من خلال روابط مادية ومعنوية تجعل انتماء المرء إلى العصبة في حالة من التماهي والاندماج الكلي في الجماعة. وقد أشار مصطفى حجازي[17] وهو يدرس هذه البنية الفكرية المغلقة إلى صعوبة هذه الأنساق الاجتماعية، حيث تصبح هوية الإنسان قائمة كليا على هذا الانتماء الكياني، فينمو لدى الفرد شعورا واستعدادا بالذوبان التام داخل الجماعة، وتغيب الفردانية والعقل، فيصبح الفرد جماعة، والجماعة فرد، في تماهٍ تام يصعب معه الانفصال أو التمييز، وخصوصا في الحالات التي تتعرض فيها الجماعة لما تعتبره تهديدا للحمتها. ولعل ما يولد هذا الشعور بالتماهي المطلق هو الحاجة إلى الانتماء والولاء، فمن العصبية والجماعة يستمد الفرد قوته وعزته وفخره، ومن الأفراد وذوبانهم داخل المنظومة الجماعية تتعزز قوة الجماعة وتزداد سلطتها وتسلطها. وهكذا يصبح عدم الالتزام بمقررات الجماعة، أو عدم الانضباط لتوجهاتها الكبرى نوعا من المس بهيبتها، وتهديدا مباشرا لسلطتها وقوتها، إذ لا يجب أن يمس الفرد بما يسمى ب ” النحن العصبي “، الذي يمثل العقل الجمعي، والسقف المعرفي الذي يمثل الهوية الجامعة لكل أعضاء الجماعة.

إن تفكيك البنية الداخلية للجماعات الأصولية يعطينا انطباعا كاملا لطريقة فهمهم للأشياء، وكيفية تعزيز حضورهم الجماعي، وهذا هو ما يجعل من الرغبة في التعرف عليهم رغبة ملحة، وضرورة تفرضها شروط تواجدهم وحضورهم المكثف داخل البنيات الثقافية لمجتمعاتنا. فنحن في حاجة إلى هذا التفكيك لكل الأنساق المغلقة داخل ثقافتنا وبنياتنا الاجتماعية، تلك البنيات المستعصية على التحليل والاقتراب من فمها المقموع والمسكوت عنه، وكأن هناك من يريد استدامة تخلفنا، وانحدارنا الحضاري والثقافي. وما دمنا عاجزين كأفراد وجماعات أمام هذا التعصّب الجماعي الذي يخترق لاوعينا الجمعي، فإننا بذلك نحكم على أنفسنا بالمزيد من الانغلاق، والتقهقر، والاستعصاء التاريخي، فنكرس الانغلاق بدل الانفتاح، والتّكفير بدل التّفكير، والحرب بدل السّلام، والانطواء بدل المشاركة، والكراهية بدل المحبّة. لذا، فتفكيك العقل الأصولي حاجة وضرورة، تقتضيها البنية الرجعية والمتكلسة التي نعيشها كأفراد داخل بنيات مغلقة لم تنتج سوى المزيد من التخلف والتراجع الفكري والتنموي.

وإذا فهمنا بشكل موجز أننا أمام حركات أصولية تتبنى وتتغذى على التعصب والانغلاق، يمكننا أن نطرح التساؤل التالي:

لماذا يخشى الأصوليون فكرة التنوير؟ وما هي مغالطاتهم حولها؟

  • التعصب المرضي اتجاه المخالف: هناك حساسية كبيرة يبديها الإنسان الأصولي اتجاه كل فكرة، أو توجه، أو قول أو سلوك يبدو فيه نوعا من الاختلاف والتباين، مع مقررات الجماعة الأصولية ومعتقداتها الأصلية، لأن كل اختلاف أو تنوع داخل الجماعة يعتبر تهديدا مباشرا للحمتها وقوتها، وهذه هي طبيعة المتعصب، وسيكولوجيته، ففرويد يحدد ثلاثة مؤشرات للعقل المتعصب تتمثل في النّرجسية، والكلية، والإسقاط أو الإضفاء، وهي مؤشرات دالة على صعوبة الذات المتعصبة، سواء كانت ذاتا فردية، أو تعبيرا على ما يسمى ب ” النحن العصبي “، وحينما يصبح الإنسان مشدودا إلى أفكاره، متعصبا لها، يتحول إلى آلة لتفريخ العنف المقدس، وممارسة الفعل التدميري على الذات والمحيط على حد سواء. هذا ما قاله روبسبيير في مقولته المشهورة وهو يصف الحالة التي يكون عليها المتعصبون: إنّنا كالحقيقة لا نلين صامدين متجانسين، وأقول: إننا تقريبا كالمبادئ لا نطاق “.
  • عدم التمييز بين الإلحاد ونقد الفكر الديني: إذا كان كانط قد أوضح بأن فكر الأنوار والتنوير، قد حاول إسقاط كل المؤثرات والوسائط والأغلال التي كبلت العقل الإنساني، فإن الحاجة إليه تبدو ملحة إذا امتلكنا الجرأة اللازمة لتحريك المياه الثقافية الراكدة، وامتلكنا أيضا هذه الروح الكنطية التي ترغب في تحرير الكائن الإنسان أكثر من تقييده. إننا بحاجة إلى هذه الروح والزيادة في ضياء هذا التفكير الأنواري، لأننا أمام هذا الجمود والتكلس الفكري لم تعد لنا القدرة حتى على طرح السؤال، لأن طرحه في سياق أصولي منغلق يعني التشهير والتضليل والاتهام بالباطل بالإلحاد ومعاداة الدين. هنا لا بد من التمييز بين مستويين: الإلحاد بوصفه نفيا للألوهة، وبين نقد الفكر الديني باعتباره آلية من آليات النقد والتصحيح والاستيعاب والتجاوز، وحتى أشد الملحدين العالميين وأكثرهم شهرة اليوم لم تعد فكرة نفي الإله مغرية لهم بالشكل التي كانت عليه في بدايات القرن العشرين، حينما انتشرت الإيديولوجيات الشيوعية والمادية داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وإذا أخذنا على سبيل المثال ميشال أونفراي[18] وكيف قارب فكرة الألوهة، فسنجده يتحدث على أن الإله ما زال يتنفس الصعداء، وما زال له حضور كبير بالرغم من كل الإيديولوجيات النافية له، لهذا اعتبر بأن فكرة موت الإله التي جاء بها فريديريك نيتشه هي لعبة أنطولوجية، وهي جزء لا يتجزأ من جوهر القرن العشرين، الذي كان يرى الموت في كل مكان، موت الفن، والفلسفة، الميتافزيقا، والرواية، والسياسة، وغير ذلك. كما أنه أعلن على أن فكرة موت الإله، بقدر ما كانت مرعدة ومخيفة في سياق مؤمن بوجود الله، إلا أنها كانت خاطئة، لقد كان هذا الموت الذي اقترحه نيتشه تزميرا في أبواق كما يقول أونفراي، وإعلانات مسرحية مبهرجة، فمن رأى الجثة ما عدا نيتشه؟ ولم يثبت ذلك.

أما سبونفيل[19] وهو أحد المفكرين الفرنسيين الذين لا يخفون إلحادهم فيؤكد بأن المقولة المشهورة لنيتشه والتي قال فيها: لقد مات الإله ونحن من قتلناه، تبين أن نيتشه نفسه القائل بها يدرك تماما أنها فاقدة للمعنى على المستوى الواقعي. إذ أنه حتى في الحالة التي اعتقد فيها نيتشه بأن الله غير موجود، فهو خالد بسبب عدم الوجود. فماذا يعني كل الكلام السابق حسب سبونفيل؟. إنه التمييز بين إيمان النّاس اليوم عن إيمان سابقيهم بالله، أي جعل مسألة الإيمان بالله شأناً خاصاً، وليس شأناً جماعيا. فقد يكون المدرِّس مؤمنا، لكن ما عاد بوسعه أنْ يتوسّل بهذا الإيمان كضمانة لسلطته المعرفية. وقد يكون مدير الشّركة مؤمنا، ولكن ما عاد بمقدوره التوسّل بإيمانه في بسط سلطته على مرؤوسيه. وقد يكون السياسي مؤمنا، لكنّه لا يستطيع أنْ يتوسّل بإيمانه من أجل إضفاء الشّرعية على برنامجه السّياسي والانتخابي. و حتى مارسيل سير وهو يتتبع الجذر اللغوي لكلمة دين يصل إلى نقطة مفصلية يمكنها أن تكون انطلاقة حقيقية للتمييز بين الدين وغيره، فمصدر الدين يأتي من الكلمة اللاتينية religio ومنها اشتقت كلمة religion  الذي يجد مصدره في الفعل religare  الذي يعني ربط. وبهذا المعنى يصبح الدين ذلك الرابط الذي يربط الناس بعضهم البعض بروابط الأخوة والفكر والعقيدة، وهذا أمر بديهي. ولكن المثير في هذا التتبع اللغوي هو أن الدين بهذا المعنى لا يصير عكس الإلحاد، بل هو نقيض عدم الارتباط، أي الهمل أو الإهمال.

إذا كان كبار الملحدين في العالم المعاصر لم تعد تغريهم فكرة نفي وجود الله، ولا فكرة موت الإله النتشوية، واعتبروها جزءا من لعبة أنطولوجية شغلت العالم في بدايات القرن العشرين، فكيف يوصف بها غيرهم ممن لم ولا يتبنوا هذا الطرح العقدي والفكري؟. إن الخطأ ناتج بالأساس عن عدم الإدراك والتمييز بين الإلحاد ونقد التفكير الديني، أو بين الدين والتدين، أو بين المطلق والنسبي في المنظومة الدينية. ولقد أشار عبد الجواد ياسين[20] إلى هذا المعطى وهو يدرس هذا الخيط الرفيع الذي يفصل بين مجالين متداخلين إلى الحد الذي يصعب فيه الانفصال، إذ أن تراكم منظومات من الأفكار والرؤى والأفهام حول النص الديني، وبامتداد التاريخ التوحيدي كانت مفردات من الثقافة، التي أفرزها التدين بأشكاله المتعددة، تنضم إلى منطوق الدين في ذاته، أي البنية الملزمة ذات الطبيعة المطلقة، ومن خلال هذا التداخل تسربت عقائد ومصالح سياسية وأهواء بشرية واندمجت لتصير جزءا لا يتجزأ من بنية الدين نفسه. وهكذا أدى التدين إلى تضخيم الدين، بحيث صار ما هو اجتماعي ملتبسا بطبيعة الدين، وبالتالي اصطبغ بطابع القداسة المطلقة.

إن ما أكده عبد الجواد ياسين يجد مسوغاته الفكرية والشرعية فيما أنتجته الثقافة الإسلامية منذ انبثاقها الأول، فما يطرحه الفكر الديني من قواعد وأصول وأفكار وعقائد ومعارف تجعل من عملية التمييز بين الديني والدنيوي أمرا صعبا، خاصة أن الطبيعة التي ينطلق منها الفكر الديني هي طبيعة مطلقة، متعالية على الواقع، ترى بأنّ أشكال التدين في تعبيراتها المختلفة قد استوعبت كل مناحي الحياة الإنسانية بتفاصيلها الدّقيقة، وهي رؤية منبثقة مما كان يسميه عبد الكريم سروش بالرؤية الأكثرية، أو التوقّع الأكثري من الدّين، أي الرؤية الشمولية التي تجعل من الدين المجال الوحيد للمعرفة الإنسانية. وهذا الأمر راجع بالأساس إلى شعور لاواعي بالإحساس بمجاوزة الفكر الدّيني لشروط إنتاجه. كما أنّه ينهل من الإحساس بدونية المعرفة الأخرى المغايرة لبنيته وتصوّراته. وهكذا يقع الخلط بين الدين والتدين، ليس فقط في العقل اللاهوتي الذي يصر على عدم التمييز بين الدين، وكل أشكال التدين المنبثقة عنه، بل حتى في العقل العلمي، الذي يصر هو الآخر على إلحاق الدين بالتدين. فحين نستجمع كل هذه العناصر تتكوّن لدينا رؤية مفادها بأنّ التفاعل مع النّص الديني التّأسِيسي، ولَّدَ نصوصاً موازية. وبما أنّ هذا التفاعل انطلق من قاعدة مقدّسة، صارت التفاسير، والشروح، والتأويلات، والاجتهادات، توازي النص المؤسِّس في امتلاكه للحقيقة المطلقة. ولو تأمّلنا قليلا لوجدْنا بأنّ هناك فاصلا بين النّص والقراءة، وبالتّالي صعوبة امتلاك الحقيقة المطلقة، ذلك ما عبر عنه علي حرب حينما قال:” لا تطابق ممكن في الأصل بين القارئ والمقروء، إذ النّص يحتمل بذاته أكثر من قراءة. وأنّه لا قراءة منزّهة مجرّدة. إذ كلّ قراءة في نصٍّ ما، هي حَرْفٌ لألفاظه وإزاحة لمعانيه.”[21].

  • الإقامة في الماضي وأمجاده: الإنسان المتخلف كالمجتمع المتخلف، هناك نزوع واضح نحو الماضي، نزوع نحو فترات يعتبرها العقل الأصولي مقدسة ومباركة قد استجمعت كل شروط النقاء والطهر والصفاء. هكذا هي الأصوليات، وهكذا هو الأصولي حينما يواجَه بأن المجتمع وحركته غير خاضعة للثبات. وكلما ازداد الحنين إلى التسلف، كلما ازداد مقدار التخلف داخل المجتمع، وازداد التخوف من كل تغيير. لهذا فالسلفية تترسخ من الناحية الذاتية بمقدار الشعور بالعجز، والضعف على مواجهة التغيرات والتحولات التي يعرفها المجتمع، ويواجهها العقل السلفي في كل فترة من فترات انغلاقه الوجودي. لهذا فالعديد من الباحثين الاجتماعيين يقرون بأن النزوع إلى التسلف هو إحدى تجليات التخلف الذي يعاني منه الإنسان والمجتمع على حد سواء. كما أن انتشار هذا النمط من التفكير الرجعي يشيع بمقدار درجة القهر الاجتماعي الذي يمارس على الإنسان في اللحظة المعاصرة، والواقع الآني.

وإذا كانت السلفية فكرة تعيش عليها الأصوليات الدينية، وتواجه من خلالها كل حركات التنوير الديني والسياسي، فإن هذا النمط الفكري يتغذى على مجموعة من المرجعيات الفكرية، والنصوص المؤسسة، أهمها الروايات التاريخية التي تجعل من عصر بعينه، عصرا يتجاوز شروط الإنتاج البشري، كما جاء في الحديث:” خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم “[22]. وهي رواية مؤسسة لتمجيد العصور الأولى، ومتجاوزة لحدود البشرية، كأن عالم هؤلاء عالم ملائكي طهراني مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هذا الانحسار العقلي السلفي في الزمان والمكان جمد القوة الإدراكية للعقل السلفي، وحولها إلى مقولات تتكرر عبر الزمان والمكان، وتجعل من إمكانية الخروج من التخلف أمرا مستحيلا. إنها أزمة العقل السلفي الديني الذي أصبح قرينا بالدين نفسه، أو جزءا من الدين، أو ما عبر عنه حامد أبو زيد بإشكالية التراث والدين، حين أصبحت هذه الثنائية تعني شيئا واحدا يصعب افتراقه عن الآخر، والمس بأحدهما هو مس بالآخر بالضرورات المنطقية السلفية[23]. إن نظرية الوصل هذه نظرية متهافتة والجمع بين السلفية والإسلام هو جمع بين النقيضين، لأن الإسلام أكبر من أن نحصره في فترة زمنية لها ظروف نشأتها، وبأشخاص معينين لازموا من بعيد أو من قريب هذه الفترة الزمنية. لكن الإسلام في أبعاده هو إحدى تجليات هذا الواقع. حيث حصر القرآن الكريم الإنسان بين فئتين إما مسلمين أو مجرمين حينما قال:” أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون “[24] ليجعل بذلك الحد الفاصل بين بني الإنسان، هو هذا الفارق بين الإسلام والإجرام. وما الإسلام إلا ذلك البعد الذي يعطي الانطباع بالسلام كما جاء في بعض الروايات:” المسلم من سلم الناس من لسانه ويده “[25].

  • الرضوخ والعجز المكتسب: مرحلة الرضوخ والقهر كما يسميها مصطفى حجازي[26] التي تعاني منها الأصوليات، بل تتعمد أن تديمها هذه الأشكال من الانغلاق، من المراحل المصيرية في إنتاجية التخلف واكتساب العجز، واستخدام الوسائل الدفاعية للبقاء على الوضع القائم. وحين تشتد هذه الأزمة فإن القوى التسلطية الرجعية تكون في أوجها وعلى أشدها. والأخطر في هذه المرحلة أن الجماهير تكون في حالة انهيار قيمي كامل، وحالة من العجز التام وعدم القدرة على الفعل، إلى الحد الذي تبدو فيه هذه الأصوليات عاجزة عن الانخراط والاندماج التام في المشاريع الاجتماعية، أو التحولات التي يفرضها الواقع المعاصر بكل إكراهاته. وهذا ما تحاول الأصوليات والعصبيات زرعه في الجماهير عبر الحشد والتعبئة والشحن الإيديولوجي ضد كل التيارات التي تعتقد هذه الأصوليات أنها تهدد لحمتها، أو تقف سدا منيعا أمام توغلها في المجتمع بشكل أكبر.

 

المصادر والمراجع:

[1] – الجبران، عبد الرزاق. الحل الوجودي للدين انقلاب المعبد. الانتشار العربي، ص: 4.

[2] – الجبران، عبد الرزاق. المرجع نفسه.

[3] – المسيري، عبد الوهاب. فكر حركة الاستنارة وتناقضاته. دار نهضة مصر،ط1،1998 . ص: 9.

[4] – سورة البقرة الآية 257.

[5] – سورة النور الآية 35.

[6] – فيري، لوك. تعلم الحياة. ترجمة سعيد الولي. دون دار النشر، أو طبعة أو تاريخ. ص: 204.

[7] – انظر المقالة المشهورة ما التنوير بكتاب عبد الغفار مكاوي. شعر وفكر دراسات في الأدب والفلسفة. مؤسسة هنداوي، ط1،2022. ص: 287.

[8] – سورة البقرة الآية 170.

[9] – سورة الأحزاب الآية 67.

[10] – سورة التوبة الآية 31.

[11] – سورة التوبة الآية 34.

[12] – هاشم، صالح. (2005). مدخل للتنوير الأوروبي. (ط1). بيروت. دار الطليعة. ص: 69

[13] – شايغان، داريوش. أوهام الهوية. ترجمة محمد علي مقلد. بيروت، دار الساقي، 1993، ط1. ص: 711.

[14] – مارسيل، غوشيه. نشأة الديمقراطية الثورة الحديثة. ترجمة جهيدة لاوند. دراسات عراقية،ط1،2009 . ص: 53.

[15] – هاشم، صالح. المرجع السابق.

[16] – كارين، أرمسترونغ. النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام. ترجمة محمد الجورا. دار الكلمة للنشر والتوزيع،ط1،2005. ص: 12.

[17] – حجازي، مصطفى. الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. المركز الثقافي العربي.ط1، 2005، ص: 46.

[18] – ميشال، أونفراي. نفي اللاهوت. ترجمة مبارك العروسي. منشورات الجمل. ط1،2012. ص: 27.

[19] – سبونيفيل، أندريه كونت. الرأسمالية هل هي أخلاقية؟ ترجمة بسام جرار. بيروت، دار الساقي، ط1، 2005 , ص: 34 .

[20] – ياسين، عبد الجواد. الدين والتدين التشريع والنص والاجتماع. المركز الثقافي العربي، ط2، 2014، ص: 5.

[21] – حرب، علي.(1993). النص والحقيقة II . نقد الحقيقة (ط1). بيروت. المركز الثقافي العربي. ص: 6

[22] – رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي (الفتح 7/3650)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (النووي 16/2533)

[23] – أبو زيد، نصر حامد، النص السلطة الحقيقة، المركز الثقافي العرب، بيروت، الطبعة الأولى، 1995، ص: 13

[24] –  سورة القلم الآية 35/36

[25] – في بعض الروايات في مسند أحمد. رقم الحديث: 301(حديث مرفوع) 301 قَالَ : وَأَخْبَرَنِي 301 قَالَ : وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ : إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ : أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ فَقَالَ : ” مَنْ سَلَّمَ النَّاسَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ “. انظر الرابط التالي:

http://library.islamweb.net/hadith/display_hbook.php?bk_no=39&hid=301&pid=12559

[26] – حجازي، مصطفى. التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. المركز الثقافي العربي،ط9،2005. ص: 41.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete