مقارنة الأديان الكتابيّة من وجهة نظر يهودية ابن كمونة ورسالة “التنقيح” (ق. 7ه/13م) أنموذجاً

تَمَخَّضَ عن النقاش الدائر بخصوص الأديان ومقارنتها بعد القرن الحادي عشر الميلادي انبعاث ثلة من المفكرين اليهود الذين حملوا على عاتقهم مهمة إخراج شريعتهم من العراقة المنغلقة وإيجاد الحجج الملائمة لاستثمارها في النقاش الدائر بين أرباب الملل والنحل الأخرى. ساهم اختلاف موازين القوى السياسية وبالتالي الثقافية في العصر الإسلامي الوسيط، في تغيير منزلة اليهود والدفع بهم للبروز كقوة ثقافية حاضرة بحججها. هذا السياق بمعطياته الأكثر غزارة، هو ما ساهم في ظهور أعمال فلسفية وكلامية تهتم أساسا بتخليص جواهر الأفكار الدينية المتعاقبة في الساحة، فرشحت عن ذلك رسالة: “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث”[1] سنة 679هـ/1280م لعزّ الدولة-سعد بن منصور هبة الله-ابن كمّونة* البغدادي (1215م/611هـ-1284م/683هـ).

شكل هذا التداخل بين اللاهوت الإسلامي واليهودي والنصراني مُزجَةً متنوعة المكونات في فهم بُنى الديانات التوحيدية الشرقية. يتزامن هذا مع أفول الحكم العباسي على يد المغول، مما فسح المجال أمام قدر من حرية التفكير لدى الأقليات الدينية، وأبرزها اليهود؛ حيث ستُستثمر كأداة ضغط سياسية وأيديولوجية على المجتمع الإسلامي، بتبويئهم مناصب عليا، وتحصين آرائهم من العامة. لكنه، ومع ذلك، سوف تثير رسالة ابن كمونة غضب الجمهور عليه، باختلاف دينهم، ولم يكن ثمة اختلافا في الرد عليه سواء من طرف النصارى أو المسلمين. ولما استفحل الأمر، كان عليه الهرب إلى الحلّة، للعيش فيها ما تبقى من عمره[2].

بداية، ينبغي أن نعلم بأن الرسالة تقع في مقدمة وأربعة أبواب. فخصص المقدمة لتبيين غاية الكتاب، ومنهج تأليفه، وجعل الباب الأول خاصا بتعريف النبوءة ودرجاتها، وضمّن الباب الثاني ملة اليهود، والمعجزات المنسوبة إلى أنبيائهم، ووصاياهم، والنقود الموجهة إلى ملتهم. أما الباب الثالث فقد تعرض فيه للديانة المسيحية ووقف عند اختلافات أصحابها، وما تعرضت له من نقود. والباب الرابع والأخير خصصه للمسلمين، وتحديدا أدلة النبوة المحمدية التي جعلها في ستة أدلة.

مع ذلك، يمكن القول إنّ ابن كمونة قد أفرد رسالتين صُنِّفتا ضمن الدراسات الدينية المقارنة، وهما: “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث”، و”مقالة في الفرق بين الربانيين والقرائيين”[3]، حسب الدراسة البيبليوغرافية التي أنجزها كل من جاوادي- Pourjavadyوشميدتكه-Schmidtk. ولعل اعتماد رسالة “التنقيح” كنموذج بارز في الدراسة المقارنة عند ابن كمونة، هو اختيار لمُنجَزٍ أخذ على عاتقه جمع ما تراكم من الحجج على مر تاريخ المِلَل، وتلخيصها بشكل دقيق، يسمح بالوقوف عند المسارات الكبرى لها، وكذا عند المواقف والقضايا الهامة التي حصل فيها الاختلاف بين أرباب هذه الملل. يهمنا في هذا السياق أن نثير الأبعاد العقدية والتشريعية التي يعتد بها كل دين انطلاقا من تتاليها الزمني، وتتابعها الموضوعاتي، والترتيب المنهجي الذي لجأ إليه ابن كمونة في تنقيح أبحاثه.

استندت هذه الدراسة في اختيارها لرسالة ابن كمونة، على فرضية تقول: إنّ بداية ما يسمى اليوم بـ “علم الأديان المقارن”، منذ ظهوره في القرن 19م، وقبله بقرن من الزمن “فلسفة الدين”، غرضهما إجراء دراسة في قضايا مشتركة بين عدة منظومات دينية، بغرض إبراز حجج ودلائل، وشعائر و”طقوس”[4] كل منهم. ولما كان الأمر كذلك، جُوِّز لنا أنْ نعتبر رسالة “التنقيح” تجربة رائدة تنتمي إلى الفكر الديني المقارن في العصر الوسيط.

تنبع أهمية استهلال الحديث بمسألة النبوة، كما تصورها أرباب الملل الثلاث، من دورها في التقعيد للمسائل الأخرى المؤسّسة لكل دين. «[…] لقد قارن ابن كمونة بين دفاعات الملل الثلاث، […]. وأفرد القسم الأول من هذا العمل لاستعراض معالم النبوة»[5].  فإذا كان النبي المرسل إلى قوم ما مختارا، لزم أن تكون علّة الاختيار هاته مبنية على ميزة إنسانية فريدة مطعمة بإرادة إلهية. ولكي يجد ابن كمونة لهذا الأمر مصوغا معقولا، ألزمه الأمر التأمل في مفهوم “الإنسان” أولا؛ بدءًا بدلالته الميتافيزيقية، ثم الأخلاقية العملية. أما الأولى فمبنية على أساس قدرة الإنسان على التماهي مع المطلق، واتصاله باللامحدود. ثم تأتي الثانية كنتيجة تبيينية تعليلية للأولى: حين تبرز معالم ذاك الاتصال في أخلاق الإنسان، وارتقائه أكمل درجات العقل. وما بين درجة النبي والعقل، جسر من المدد الإلهي، يصير بموجبه الإنسان نبيا إذا توفرت فيه أمور ثلاثة: أولها، قوة النفس وأصالتها؛ وثانيها، قدرة الذات على التماهي مع المجردات؛ وثالثها، توفر إمكانية مشاهدته للرؤى والنبوءات. ولا يشترط أن تكون هذه جميعها حاصلة في نبي بنفسه، بل قد تتحصّل لديه إحداها وتغيب عنه الأخرى. يقول ابن كمونة: «[…] إنّ النبوة طور آخر وراء العقل تنفتح فيه عين أخرى يُبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وما قد كان في الماضي وأموراً أخر، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن مدركات العقل وعزل قوى الإحساس عن مدركات التمييز»[6]. تفترض حالة النبوة منذ البدء وضعية مبدئية هي تدل على قاعدة أساسية تعكس “القصور الإنساني” الذي يستبد بقدرات المرء، ويحول دون أن تتحقق إرادته عند استنفاذ إمكانات العقل. هذه الوضعية هي في حقيقة الأمر افتراض مسبق، وضروري لتأسيس النبوة على أساس معرفي ووجودي متين، يسمح بتوفير شروط الإيمان بها.

يتصور ابن كمونة أنّ تعريف النبوة لابد له من أن يستجيب لتصورات الأديان المعنية بالدراسة والتأويل. بيد أنّ الإحاطة بهذا الأمر يعوقها اختلاف زوايا النظر بين أرباب الملل إلى شخص النبي نفسه. النبوة حالة ممكنة التفسير علميا وفلسفيا، وليس بينها وبين ذلك إلا عجز المدرك عن إدراكها. «ولهذا نجد بعض العقلاء يأبى مدركات النبوة ويستبعدها. وما ذاك إلا لأنها طور لم يبلغه ولم يوجد في حقّه فظنّ أنه غير موجود في نفس الأمر. كما أنّ الأكمه، لو لم يعلم بالتواتر وتتابع الألوان والأضواء، وحكي له ذلك ابتداءً، لما كان يقرّ يعترف فيها»[7].

رغم نزوع سعد بن منصور إلى التفسير العقلاني، إلا أنّه يفتح مجالا رحبا للتجريد العقدي، ويغلق الباب على من لم يصل مرتبة فهم النبوة في عمقها العقدي. للنبوة تصور منهجي حظيت به في رسالة “التنقيح”، أبرزه التّسآل الدّؤوب عن الغرض منها؟ إنّ الغاية من وجود النبي، وبعثه هي: «[…] أنّه المخاطَبُ من جهة الله تعالى لإصلاح نوع البشر»[8]. وقد تتخذ النبوة أشكالا قد نصفها بصفات ثلاث: “القبلي” و”البعدي” و”الطبيعي”. أما الشكل القبلي فحين يختاره الله ويصطفيه بإرادته من دون العالمين. وفي هذا الأمر ما يجعله مختارا بصورة حتمية لا خيار ولا اجتهاد فيها. وأما الصفة البعدية فحيث تكون امتدادا لاجتهاد النفس في قبول الفضائل، فتبلغ بذلك مرتبة تؤهلها لتتنبأ، فيكون مبلغ النفس من النبوة على قدر عزمها نحو الاستعداد لقبول أشكال الفضائل السامية. ثُمَّ إنَّ النبوّة الطبيعية تكون حين تتوفر في الشخص شروط النبوة ضمن طبائع خلقه. وهذا أمر مختلف عن الصفتين السابقتين؛ إذْ يكون الإنسان في هذه الحالة نبيا بطبعه، لمطابقة أفعاله وفضائله ما يوجد في النبي، فيكون تأهيله لمرتبة النبوة مباشرا.

أتاح فهم دور النبي والغرض من بعثه، إيجاد تعريف ملائم له، حسب ابن كمونة؛ فهو ينظر إلى النبي أولا كبشر، من الناحية الطبيعية، ولكنه كقيمة روحية، ومهمة تبليغية ما بين السماء والأرض، يُعدّ الحامل الرئيس لصوت السماء إلى الناس. لذلك فمما يُثبت صحة هذه الدعوى المخصصة لتبيين الغرض، هو تبيين فوائدها التي حُصرت في خمس عشرة فائدة[9]، تشمل تكميل مبلغ العقل؛ إذْ لا تكتفي النبوة بحدود العقل، بل تبتدئ حينما ينتهي دور العقل إدراكيا، ثم التوجيه والإرشاد الذي يمثل فيه النبي المرشد الأول للبشر بموجب اصطفاء الإله له، والوعي بوجود الجزاء الذي يفسح للنبي مجالا لتوعية البشر بضرورة هندسة أفعالهم، واختيارها بما يناسب حسن الثواب، أو سوء الجزاء. وعلاوة على ذلك إدراك الصفات الخفية لله، ورفع الحرج والخوف عن المؤمنين، وجعل القيم كونية: مع التنبه إلى محدودية العقل أمام الوحي وقلة حيلة البشر أمامه. كما تمتد هذه الفوائد لتستدخل مضمون المقصد الأخلاقي للرسالة الإلهية من حيث يلزم ضرورة وجود مرشد للبشر، واعتبار النبي نموذجا أول للتشريع المجتمعي الشمولي الذي يفترض توحيد الفهوم أمام الرسالة الإلهية في أفق التأسيس لمرجعية موحدة.

لكن، هل اجتماع هذه الأمور المتعلقة بالفوائد والغاية من وجود النبي، كفيلة بأنْ تكون معيارا لصدق النبوة عند كل من ادعاها؟ انتبه ابن كمونة إلى أنّ كل دين ينظر إلى معيار النبوة حسب صفات ومميزات النبي الذي صُدِّقت رسالته. فتكون بذلك خصال هذا النبي مقياسا للاعتراف بباقي الأنبياء الآخرين. ومن هنا يستنتج ابن كمونة من مجمل ما يعتقد به اليهود والنصارى والمسلمون في صدق النبوة، ويحددها في خمسة أمور[10]: أولها، أن يكون معجزا فيما أتى به المدعوين إلى ملّته: شرط التعجيز صفة منسحبة على كل نبي جاء بإحدى الرسالات الثلاث التوحيدية، وكل واحد منهم يُعجز قومه فيما يجيدونه حتى يحصل له التصديق عندهم. وثانيها، أن تكون له الفرادة في أمره، مترفعا عن عادة العامة: لا يكون النبي نبيا حتى تظهر عليه آيات التميز عن غيره في كل عاداته، وأنْ يُخالف فيها الآخرين. وثالثها، أن يختص قوله بزمان معيّن ملائم لرسالته: يُبعث النبي في زمان معين وفي مكان معين، ويأتي برسالة مناسبة لهما، تعالج القضايا المطروحة في ذلك العصر الذي اختير فيه من طرف الإله. أما رابعها وخامسها فيعكسان دلائل النبوة وأسرار المدد الإلهي.

يخص كل ما وقفنا عنده آنفا التوصيفات العامة للنبوة كما هو شائع لدى أرباب الملل. لكننا لم نشر إلى أي مرجعية دينية توحيدية لكي نوجّه بها مسألة النبوة توجيها نظريا أو منهجيا، بل تقفّينا أثر ابن كمونة في جعل معالم النبوة عامة في البداية حتى يحصل الإلمام بها، وبمعانيها وشروطها، وغايتها، وفوائدها. وبعامة، فإنّما «يُقال نبي ورسول لمن يؤدي أخباراً عن الله تعالى من غير أنْ يكون بينه وبينه واسطة آدمي»[11]، حسب تعريف ابن كمونة النهائي. لكن، أي أهمية يمكن أن يُشكلها مفهوم “النبي” على مستوى الأديان التوحيدية الثلاث؟ وكيف يمكن التعبير عن أهمية توحيد فهم دلالاته، لكشف ومقارنة باقي العناصر الأخرى المؤسسة للملل؟

كان لبني إسرائيل موقف دقيق من النبوة كمفهوم يحيل على المقدّس. ولم يكن المبعوث إليهم أمام مهمة سهلة في قومه، بل يتشددون في دلائل نبوته أيما تشدد، ويميزون في ما أشرنا إليه آنفا، بين معجزة النبي الصادقة وحيلة مدعي النبوة. لهذا الغرض سوف يلجأ ابن كمونة، منذ البداية، إلى إفراد تعريف مزدوج للمعجزة في علاقتها بالنبي، ويقول: «[…] والمعجز، على موجب اللغة، هو ما عجز البشر عنه ولم يتمكنوا منه، إما لفقد قدرة أو علم أو آلة. والمعجز في مصطلح جمهور أهل الشرائع هو الدال على صدق النبي في دعواه النبوّة»[12]. إلا أنّ ثمة فرقٌ بين المعجزة كظاهرة نبوية ملازمة، والمعجزة كمحاكاة ممكنة من طرف كل من ادعى النبوة. والفرق بينهما دقيق؛ إذْ النبي يأتي بمعجزاته بمدد الله، بينما يأتيها مدعي النبوة من فرط حيلته. وهذا أمر لا يقتصر فقط على من لم تثبت في حقهم دلائل النبوة، في نظر اليهود، كما هو موقفهم الذي عبر عنه سعد بن منصور في قوله نقلا عنهم: «[…] وأما داوود وسليمان فلم يكونا من المعصومين عن الخطأ عندهم لأنهما لم يكونا من المرسلين»[13]. في هذه الحالة، يكون اليهود قد تنبّهوا باكرا إلى فصل إجرائي هام بين النبي كمبعوث، وبين شخصية تاريخية تزعّمت ممالك بني إسرائيل في عصورها الزاخرة، كأنَّ داوود وسليمان أحد ملوكهم فقط. لكن، وبالرجوع إلى طبيعة التصور اليهودي لمفهوم النبوة، نجد أنّه يفترض صفة التلقي المباشر لخطاب السماء دون وساطة، وبوجود دليل المعجزة والكتاب. لذلك، آمنوا بموسى ومعجزاته، لأنّ «[…] أكثرها غير محتمل أن تكون وقعت بحيلة أو تواطؤ؛ لأنها عمّت صقعا كبيرا من الأرض وخلقاً كثيرا من البشر. ومنها ما استمر حدود أربعين سنة. والذي منها ليس كذا فهو قليل، مثل قلبه العصا حية تسعى، ومثل إخراج يديه بيضاء، ومثل النور على وجهه، فإنّ هذه، لو وقع الاقتصار عليها وعلى أمثالها، لجاز أن يُقال إنها بتحيّل. وأما تلك الأخرى فغير محتملة لذلك»[14]. يفتحنا ابن كمونة أمام إمكانية تداخل بين “المعجزة” و”المعجزة الشبيهة”. فالأولى صادقة لاستحالة إتيان شخص غير النبي بها. أما الثانية فممكنة بالحيل الموجودة. وقد تشابهت المعجزات الحقيقية بالشبيهة عند أقوام كثيرين عبر التاريخ، وادعى النبوة فيهم أناس كثر، ووجدوا أتباعا لهم يصدقونهم في حيلهم ظنًّا منهم بأنها المعجزات الحقة التي ينزلها الله على أنبيائه. «ثمّ الإخبار بالمغيبات إنما يكون معجزاً إذا كان خارقا للعادة، أمّا المعتاد فلا»[15]. بهذا المعنى سيكون بنو إسرائيل في علاقتهم بالنبوة أمام إشكاليتين اثنين تعوقان الاعتراف بشخص ما على أنه نبي، وهما: الاتصال المباشر بالله من دون وساطة، والإتيان بالمعجزات والرسالة.

لم يتجاوز اليهود، في نظر سعد بن منصور، مستوى النظرة البشرية إلى النبي رغم كل ما قد يصدر عنه من تعجيز لهم. لكن ظهور النصرانية مع بعثة عيسى بن مريم سيضيف إلى مفهوم النبوة عناصر جديدة سوف تفتح باب مقارنة عميقة بين ما كان يتمثله اليهود بخصوص النبوة وما أضحى النصارى يعتقدون فيه بكونه نبيا.

ستنتقل دلالة النبوة من المستوى البشري إلى المستوى الإلهي؛ حيث سيظهر تفسير إتيان مريم بنت عمران لولد من دون بعل، على شكل معجزة في حد ذاته، تعبّد الطريق لفكرة تلازم بين “الإله” و”الإبن”(أبوّة الإله). لقد افترض ابن كمونة ردا سببيا على النصارى فقال: «ويُقال لهم: إنْ اتُّخذ المسيح إلهاً لكونه، على رأيكم، من غير والد فآدم وحواء أعجب منه في ذلك. وكذا أصل كلّ دابّة خلقها الله تعالى»[16]. إنّ غياب تسلسل جينيالوجي ما كان ليُبرّر ألوهية عيسى مادامت الخلائق كلها من عدم، أو على الأقل ليس جميعها من نسل آدم. بل يفترض الأمر نظرة أكثر عمقا لدلالة حدث ولادة عيسى، لا بكونه ابن الله بالإطلاق، ولا بكون رواية إتيان مريم غلاما بلا بعل شبهة وكذب. يُنكر ابن كمونة وجود دليل يُثبت صحة دعوى النصارى بألوهية نبيهم عن عيسى نفسه؛ فقد روي عنه أنّه «قام فغسل أرجل الحواريين بالماء وقال: لم يجئ ابن البشر ليُخدَمَ ولكن جاء ليخدُم: ولم يدع نفسه إلهاً تاما قط»[17]. هذا مع التأكيد على أنّ مسألة التثليث النصرانية، إنما هي تأويل الحدث العجيب الذي ابتدأ منذ ولادته. وبالتالي، فلم يختلف النصارى في فهمهم للمعجزة، إنما اختلفوا في التفسير؛ أي في ربط الحدث بالعلة، وبناء الحجج على كل قضية يستخرجونها. كان من الضروري إيجاد رابطة بين “الله”، و”عيسى”، و”الرسالة”. أو بالأحرى بين “الأب” كذات، و”الابن” كنبي وكلمة، و”الروح القدس” كحياة دُبّت فيه. أبرز ما اختلف فيه اللاحقون من حملة الإرث النصراني هو مسألة الاتحاد بين “الأب” و”الابن”[حلول اللاهوت في الناسوت]. فاعترض الكثيرون منهم على أشكال الاتحاد هاته حتى كانت سببا في ظهور نحل كثيرة داخل ملة النصارى. لكنهم لم يختلفوا في الآن ذاته حول مسألة ألوهية عيسى، أو اتصاله بالإله بتماهٍ مطلق. وفي هذا الأمر حاجج ابن كمونة فكرتهم واستغرب قائلا: «ثم إنّ الله أكرم من أنْ يقال إنه سكن الرحم في دنس الحيضة وضيق البطن والظلمة»[18]. تمت الإشارة هنا إلى واحدة من المفارقات التي لم ينتبه إليها الكثير من علماء النصارى، والتي تثير الفضول في حقيقتها، كون مرتبة الألوهية لا تليق بالوضع الصعب الذي عاشته مريم في وضع عيسى، ناهيك عما لا يبدو لائقا بمقام الألوهية تولّده عن امرأة كما يولد البشر عادة. لكن تشبث النصارى باتحاد الابن والأب لم يجعلهم يشكون في أنّ الوضعية التفسيرية لظهور عيسى تتقاطع مع الحالة اللاهوتية في جانب، وتشابه الطبيعة الناسوتية في جانب آخر. لذلك لم يتورع أنْ يعتقد بعض النصارى بأنّ عيسى نصف بشر ونصف إله، ولهم في مثل هذا قول غزير وعجيب استفاض ابن كمونة فيه أيما إفاضة حتى ظُنّ به غرض التنقيص من معتقدهم!

أما تصور النبوة عند آخر الملل التي بُعث مع رسالتها محمد بن عبد الله العربي القرشي، فتعيد دلالة النبي إلى أصل مفترض يخالف النصارى في التأليه، ويُجانب اليهود في كثير من الأمور. ويجوز لنا أنْ نعتبر مضمون النبي عند المسلمين، وفي كتابهم ظلّ محتفظا بسمته البشرية مع وجود الدعم الإلهي. يليق باستعراض معالم النبوة في التصور الإسلامي، حسب ابن كمونة، أن نشير أولا إلى أنّ مسألة تواتر الخبر بقدوم محمد وارد عند اليهود والنصارى، وإنْ اختلفوا فيه. لذلك، لم يستبعد الكثير ممن بحثوا في تفاصيل البعثة النبوية الإسلامية أنْ تكون استمرارا لنبوة موسى وعيسى، وتصحيحا لمجمل التصورات المُشَكَّلَة حولهما. بل ولم يتورع الكثير منهم عن اعتبار الإرث اليهودي والنصراني أساس منطلق نبوة محمد في كلياتها، لولا بعض الاستثناءات الدقيقة التي تُنسّب هذا الحكم. ولعل أبرزها تلك التي «[…] أوردها ابن كمونة، في كون التنبؤ بالمستقبل من مقدرات العراف أيضا، وبأنّ آيات القرآن تحتوي على نبوءات ملتبسة، ثم بأنّ محمد قد أخذ أشياءً من تراث اليهود والنصارى الديني»[19].

في هذا التحليل لفكرة النبوة المحمدية، نكون أمام ثلاث اعتراضات، تشكل أساس النبوة، كما أشرنا إلى ذلك سابقا: أولها، التداخل بين التنبؤ بموجب وحي الإله واستشراف المستقبل كما يفعل العرافون عادة. وثانيها، التفصيل بين آيات الإعجاز وآيات شبيهة بها؛ حيث يكتنف التعجيز هنا شيء من اللبس يخص بعض ما يُحفّز به الله المسلمين إذا صدقوا في إيمانهم، ويُظنّ بها أنها من آيات الإعجاز. وثالثها، الاستفادة من الإرث اليهودي والنصراني في إعادة تشكيل البناء الحجاجي لملة الإسلام. ومع ذلك، فإنّ مجمل اعتقاد المسلمين في نبوة محمد يتفق على كونه «[…] رسول الله وخاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى كافة الخلق، وأنّه ناسخ لكل دين كان قبله، وأنّ دينه يبقى إلى يوم القيامة، وأنّه دعا الناس إلى الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه»[20]. تستمد نبوة محمد قوتها من شرطها التاريخي الذي جعل منها نموذجا فريدا في عصرها، ولا يمكن جعلها مطلقة عبر الزمان؛ ذلك أنّ قدرة الإسلام على نسخ ما سبقه من الملل لم يسمح بأن تندثر هذه الملل نهائيا. لكن استجابته لسؤال المطلب التاريخي الذي انتظر قدومه ساهم في تعجيل تصديق نبوءته، وهو ما جعل ابن كمونة يقول فيه: «لعل محمدا كان أفصح من غيره، فلهذا لم يقدروا على معارضته. فقد يوجد ذو حرفة معينة لا يوجد من يساويه في زمانه، وربما لا يساوي بعد مئين من السنين. وكذلك من أرباب العلوم، كأرسطوطاليس في المنطق، وأقليدس في الهندسة، وبطليموس في الهيئة»[21]. ومع ذلك، تبقى نبوة نسبية بالنظر إلى الزمن الذي بُعثت فيه، وتبقى صادقة قوية في زمانه دون أن يستمر بريقها في زمان آخر يأتي بعده. وحصل أنْ تمت معارضته في عصره، ومن بعده تباعا بقرون، رغم أنّ باربارا روجيما-Barbara Roggema أقرت بقوة الدلائل التي يعتد بها المسلمون إذا قورنوا بغيرهم في مسألة دلائل صدق النبوة. لذلك فإنّ: إعجاز القرآن، وإخبار الناس بالغيب، ووجود معجزات في الحديث، وبشارة قدومه في التوراة، ونجاحه في هداية نفوس الناس، ثم مجموع معجزاته وأحداثه، وشخصيته وإنجازاته[22]، كلها أمور متى اجتمعت وطّدت التصور المقدّس للنبوة عند المسلمين.

لمّا برزت توجهات كل ملة في مسألة النبوة، لزمنا أن ننتقل مباشرة إلى مقاربة مسألة “الرسالة” وما تطرحه هي الأخرى من إشكاليات تأويلية محضة. لابد من الإشارة منذ البدء إلى أنّ الأزمة التي طالت كل الرسائل السماوية لا تكاد تتجاوز إشكالية صدقية “الوثيقة المقدسة”. لم يبتعد ابن كمونة عن هذه الإشكالية هو الآخر، بل حام حولها في جل تأملاتها ومقارناته لآراء أصحاب الملل والنحل في كتب بعضهم البعض. ورغم كل ذلك، حري بنا أن نسجّل بأنّ الإطار الضامن لمثل هذه المناقشات والمقارنات الفلسفية والكلامية كان هو الفضاء الإسلامي، وداخله حصل الوعي بضرورة وضع كل ملّة قبالة الأخرى. «[…] كم كان الإسلام الناشئ مدينا للديانتين الموحدتين اللتين سبقتاه. وبالرغم من كل اختلافاتها فإنّ نماذج الإيمان التي ترتبط بأسماء موسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام) كانت متقاربة جدا لدرجة أن وجودهم معا في نفس الإطار كان عاملا “قويا” لمشاركة ثقافية»[23].

في دعوته إلى التأويل، يُنبّه ابن كمونة إلى أنّ كلام الأنبياء لا يأتي على نحو تخاطب مباشر، وأنّ التعامل مع الخطاب الديني يستدعي أنْ يُحمل على باطنه، وعلى كون تصريحه مطوي بالتلميح. يقول سعد بن منصور: «[…] وقد يأتي في كلام الأنبياء الاستعارات والمجازات وما هو على جهة المبالغة والإغياء، فمن حمل هذه الألفاظ على ما وُضعت له أولا ربّما وقع في خطأ عظيم»[24]. لكن، هل وصلنا إلى مستوى يسمح بالاعتراف أولا بالوثيقة قبل مناقشة مضمونها؟ وبأي معنى يصح ذلك؟

لم تخل تجربة أي ملّة من هذه الأزمة الهيرمينوطيقية التي تطال غياب وثيقة مرجعية موحدة، بل عندما يُتوفى النبي حامل الرسالة، سرعان ما يُخرج كل منهم ما حفظه في صدره، أو ما سجله مكتوبا. وعندما تبدأ الاختلافات تبدو في غالب الأحيان الدلائل متكافئة لدى جميعهم. بدأت الأزمة أول الأمر بعد وفاة موسى، وتوالي النكبات السياسية على بني إسرائيل، حتى حصل لديهم الوعي بضرورة تحرير كتابهم، فوجدوا فيه اختلافا كبيرا. لكن الريادة في تخريج نصوصهم وتحقيقها بقيت لهم إذا ما قورنوا بغيرهم، مثلا، كما يقول ابن كمونة: «والنُّسخ الثلاث بالتوراة ليس فيها من الألفاظ المتخالفة المعنى ما يُعتدُّ به وهو أقلّ من الاختلاف الذي يوجد في القراءات السبع للقرآن وقراءة ابن مسعود وأبيّ وغيرهما كثير»[25]. والأمر نفسه كان عند النصارى عندما شاعت في الناس النصرانية؛ إذْ أغلقوا باب أن يأتي ما ينسخ شريعتهم إلى يوم القيامة. لكن نقد المتكلمين والفلاسفة اليهود وغيرهم للنصارى، سوف يركز على الرسالة في بعدها التأويلي، انطلاقا من اعتبار الترجمات ضربا من التعبير عن الفهم، وبالتالي تأويل من نوع ما. فقال ابن كمونة في ذلك: «وكثير من كلام النبوءات قد حرّفه النصارى عندما نقلوه من العبرانية إلى اليونانية والسريانية، ثم إلى العربية، تحريفا يتفاوت فيه المعنى تفاوتا كثيراً، ولكن في ألفاظ قلائل فقط. والنصارى يعترفون بذلك التفاوت أو ببعضه. ويحتمل أنْ يكون ذلك التحريف عن قصد أو إهمال وقلّة معرفة باللغة المنقول منها»[26]. بهذا المعنى ستكون مشكلة النصارى مع الوثيقة الدينية غير مشكلة اليهود والمسلمين؛ لأن بينهم فروقا لا يمكن أن يحصل التشابه فيها لاختلاف حالاتهم أساساً. كانت مشكلة اليهود تحقيقية بحتة، غرضها توحيد المعنى المتوفر في الوثائق الموروثة ذات اللغة المعروفة لديهم. أما النصارى فإنهم لجأوا إلى الترجمة لتحرير كتابهم، فخرج بذلك من أيديهم لسانيا. إلا أنّ ما سيميز المسلمين عنهم جميعا كون نصهم مختلف من جهة الترتيب الموضوعاتي واللفظي لمتنه.

يرد بين اليهودية والإسلام، حسب ابن كمونة، ما يدعو إلى التنبّه الكثير؛ حيث يُنكر المسلمون على اليهود ملتهم، وينظرون إليها محرفة، بينما يؤمنون بِعُزير الذي جددها كنبي، «[…] ومن يُخالف في نبوّته فلا يُخالف في عظم شأنه في الدين والخير فلا يُتصوَّر في حقّه أن يستحلّ تحريف كتاب الله وتبديله»[27]. لقد مرت الأديان التوحيدية الثلاث من الأزمات نفسها على مستوى إثبات مشروعية رسالاتها عند غياب الأنبياء. فكانت سياقات كل ملة مختلفة عن الأخرى ومميزة، لكنها تشبهت في وقوعها جميعا أمام أزمة الوثيقة التي تسعى عبر تاريخها لإثبات صدقها للمعتقدين بها قبل الخصوم.

لقد تنزلت “النبوة” و”الرسالة” معا مكانة عليا في البحث الفلسفي والكلامي عند ابن كمونة، فجعلهما أساس كل نقاش مقارن للأديان التوحيدية. إنّ ما ظهر من معالم النبوة عند كل من اليهود والنصارى والمسلمين، هو التعجيز في أمر لا يأتي به غير النبي، والاتصال بالسماء من دون واسطة. إلا أنّ في المعجزات، مثلا، اختلافات فرعية عميقة تكاد توسع الهوة كثيرا؛ حيث أنّ معجزة موسى في بني إسرائيل وفي فرعون، لم تكن هي معجزة عيسى في بني إسرائيل، كما أنهما معا يختلفان عمّا أعجز به محمد العرب حينما أتاهم بالقرآن. فقد تفرّد العرب وحدهم بهذه المعجزة، ولم تكن الظاهرة اللسانية معجزة للآخرين وقومهما. كما يليق بالملاحظ في تصورات النبوة عند أرباب هذه الملل أنْ يلمح الاختلاف الكامل في لاهوتية النبي أو ناسوتيته، مع أنّ الأمر لم يُطرح بشكله الجدي والمباشر إلا في التأويل النصراني لولادة عيسى من مريم من دون زوج. كان غرض تحليل ابن كمونة ومقارنته لمفهوم “النبوة” عند كل منهم ربط خلاصاتها بما أتينا على ذكره من تبيين لأشكال تلقيهم للرسالات الدينية. فقد عانى حملة الملل الأوائل من المشكلة نفسها التي طالت الصحف المنزلة رغم وفرتها، وتجشّم من بعدهم التابعون عناء إثبات صدقيتها. لكن الملاحَظ كظاهرة عامة لديهم جميعا، أنْ تكون ثمة مسافة زمنية بين انتهاء نزول الوحي، وبداية الوعي بضرورة تحريره وتحقيقه. ولم ينج أحد من أرباب الملل من هذا، بل حتى الإسلام نفسه، الذي جاء ناسخا لما قبله، اختلف القراء والحملة في ترتيله، وتنزيله، والتفريق بين ما هو وحي ودعاء، وغير ذلك. وبالتالي، فالظاهرة الدينية كوحي، وكوثيقة، هي سيرورة تكرار لإشكاليات ملازمة لكل مناسبة ظهور، كما يحاول ابن كمونة إبرازه في مقارنته للملل على مستوى مسألتي “النبوة” و”الرسالة”.

تتميز الدراسات الدينية المقارنة بجملة من الخصائص المنهجية للتحليل والنقد. ولعل رسالة “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث”، لابن كمونة، استجابت لكثير من هذه الخصائص، وأبانت عن ريادة كبيرة في بعدها المنهجي الوظيفي، في اشتغالها على مقارنة الملة اليهودية والنصرانية والإسلامية. جدير بالذكر في هذا المقام، أنْ نُذكّر بأنّ أبرز ما عُرف من أساليب منهجية في المقارنة بين المعتقدات والأفكار الدينية، هو “الجدل” الذي يأتي بالقول والردود الموجهة عليه. وكذا “الاعتراض”، و”التشكيك”. ومادامت هذه الأساليب واردة في الأنماط التحليلية الكلامية المعروفة، في السياقات اللاهوتية والفلسفية على مرّ التاريخ، فإننا سنختار أساليب أخرى أكثر تقدما، تعبّر عن عمق منهجي هام، ونقصد بذلك ترصّد مظاهر “الحياد” وكيف يُوظف كأسلوب موعى به من طرف سعد بن منصور. وكذلك أسلوب “المقارنة” نفسه، وكذا اعتماد بعض “الأقيسة المنطقية” في تخريج بعض الاستدلالات، ناهيك عن استعانته “بالتفكيك” اللغوي للمفردات اللغوية، وتحليل معانيها.

لقد أعلن ابن كمونة منذ البدء عن المنهج الذي سيتطرق به إلى القضايا التي يتضمنها كتابه هذا قائلا: «[…] وحكيتُ عن كل واحدة من هذه الملل أصول معتقدها سوى التفاريع، لتعذّر استقصائها. وأردفت ذلك بحكاية أدلّة أربابها على صحة نبوة النبي الآتي بها. وأوردتُ ما وُجّه من المطاعن عليها وما ذكر من الأجوبة عنها، منبها على مواقع الأنظار فيها ومميزا ما يصلح لأن يعول عليه من تلك الأجوبة عما لا يصلح لذلك منها»[28]. تجدر الإشارة إلى أنّ بحثه هذا أخضعه للشرط الكرونولوجي الذي ظهر بموجب ترتيبه الملل الثلاث. ورغم أنّ الأمر يتعلق في رسالته هاته بالمقارنة، إلا أنّه لم يخرق التتالي التاريخي للأحداث والشخصيات والوثائق.

اعتمد ابن كمونة في مستهل رسالة “التنقيح” تقليدا عربيا إسلاميا في التمهيد بالدعاء، إلا أنّ العناصر الدالة على ميله إلى الإسلام، عدّلها بما يتقاطع مع اليهودية والنصرانية. «أحمد الله على ما أرشد وهدى، وأتوسل إليه بأسمائه الحسنى، وبما أظهره على لسان أنبيائه ورسله من صفاته العلى، أنْ يؤمنني في الآخرة والأولى، وأن يجعلني في دار الأبد من أهل السعادة العظمى، وأن يصلي على من بالملأ الأعلى، وعلى من اختصته بالنبوة والولاية من الورى، وخصوصا على رسوله المصطفى، وعلى آله وأصحابه أولي النهى»[29]. اختار ابن منصور هنا أن يجعل الدعاء مفتوحا على تأويلات متعددة، فلا هو مصنف ضمن أدعية النصارى ولا اليهود، ولا المسلمين كذلك. حتى إذا افترضنا جدلا أنّ مقصوده من “النبي المصطفى” هو نبي المسلمين محمد، فإنّ اليهود أنفسهم يرون في موسى مصطفى، وكذلك النصارى مع عيسى. وكان هذا بداية إعلامه المطالع لرسالته أنه في حياد تام منذ البدء. كما أكّد في معرض آخر عن تحليه بالموضوعية في مقاربة قضية الأديان بدون انحياز إلى أي منها، قائلا: «ولم أقل في شيء من ذلك مع الهوى، ولا تعرّضتُ لترجيح ملّة على أخرى، بل قررتُ مباحث كل ملة إلى غايتها القصوى»[30]. ولم يكن ذلك إعلانا مزيفا يدلس على القارئ حقيقة الخطاب، بل تجلت معالم صدقه في غير ما موضع، وأبرزها رفضه الجزم بصدق نبوة أي نبي أثناء إجراء أبحاثه في الرسالة. وفي هذا تيقّظ كبير من طرفه، يستحضره في كل مناسبة حساسة قد تورطه في تحيز معين. ففي مسألة النبوة مثلا، لا يتحدث عنها بالمطلق بل بوصفها “ادعاء”؛ أي أنّ من ادعى النبوة عند اليهود وإنْ كان موسى نفسه، فإنه في معرض البحث لا يختلف عن “ادعاء” زرادشت، ومحمد العربي، عيسى، وهرمس. ويقول مستفيضا في ذلك: «وقد ادعيت النبوة في خلق كثير، لا سبيل لنا إلى حصرهم وذكر أحوالهم ودلائلهم. ولكل أمة من الأمم المشهورة عندنا الآن شخص يدعون نبوته، […]. فالمجوس ادعت نبوة زرادشت […]. والصابية ادعوا نبوة هرمس واغاتاديمون وغيرهما. […] وللهنود والترك وغيرهم أشخاص يزعمون نبوتهم وعلوّ مرتبتهم. وآمنت اليهود بنبوة موسى، عليه السلام، وبنبوة أنبياء قبله وأنبياء كثيرين بعده كانوا متمسكين بشريعته. وكذلك النصارى، فإنهم اعترفوا بذلك وبنبوة المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، […]. وآمن المسلمون […]، مع ذلك، بنبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، وبأنّ شريعته ناسخة لكل شريعة قبله»[31].

لابد أن نشير كذلك إلى بعض الملاحظات التي وقفنا عندها أثناء تقفي أثر ضعف الحياد في رسالة “التنقيح”. ونستهل ذلك بتسجيله موقفا لصالح النصرانية أثناء حديثه عنها بداية انتشارها، مؤكدا على أنها لقيت ترحابا كبيرا ولم يُعمل السيف في اعتناق الناس لها، معتبرا أنّ «[…] الذين آمنوا بهذه الدعوة اتبعوها طوعا، عن اختيار منهم ورضى، من غير أن يلجأوا إليها بسيف ولا قهر»[32]. سينتقل ابن كمونة في موضع آخر إلى الانحياز جهة الإسلام، ناسخا قوله السابق عن النصرانية، وعن اليهودية أيضا، ودافعا باتجاه الاعتراف بالملة المحمدية كآخر ديانة جاءت لتصحح أخطاء سابقتيها. لقد كان موضوع تحيزه هذا منصبا في موضوع الإقرار بصحة الرسالة المحمدية، وصدق نبوته، وأحقية ما جاء به من وحي للعالمين كي يعودوا عن التحريف الذي طال مِلَّتيهم [اليهودية والنصرانية]. قال عز الدولة معبرا عن ذلك: «وعند مقدم محمد كان العالم مملوء من الكفر: أما اليهود فلتشبيههم الله تعالى بخلقه، وافترائهم على الأنبياء وتحريفهم التوراة؛ وأما النصارى -فلقولهم إنّ الله ثالث ثلاثة وأنّ المسيح ابن لله وأنّ الله حلّ فيه واتحد به، ولتحريفهم الإنجيل»[33]. رغم كل ذلك، فإنه غالبا ما تتم الإشادة برسالة “التنقيح” كفريدة زمانها، سواء بحسبانها أخذت على عاتقها التعامل مع دفاعات الملل التوحيدية الثلاث نسقيا، أو في مظاهر حيادها[34]. وكيفما كانت النقود الموجهة لها في هذا الاتجاه، تبقى رائدة في اعتماد الحياد الضروري أمام مثل هذه الدراسات المعقدة والحساسة في الآن ذاته.

وبانتقالنا إلى أسلوب القياس المنطقي، نجد أنّ ابن كمونة يلجأ إلى الاستدلال للتعليل على صحة أو بطلان قضية ما. ثُمَّ يوضح لنا معنى المعجزة وما ليس كذلك، في قوله: «[…] كما أنّ من قال لغيره –إنْ كنت رسولك فضع يدك على رأسك-، فإذا فعل ذلك كان جاريا مجرى قوله –صدقت في دعواك الرسالة. فإذا كانت المعجزة تصديقا لمدعي النبوة، وكان الله تعالى لا يجوز أنْ يُصدّق كاذبا، ثبت أنّه صادق»[35].

تم قياس معيار صدق نبوة النبي هنا باللجوء إلى التعجيز في فعل ما، وعالجت بذلك المفارقة التي تحدث عندما يحتمل الشخص صفتين في الآن ذاته (الصدق والكذب)، ومهما كانت نتيجة الفعل الذي اتفق أن يكون معيار التحدي. كان غرض سعد بن منصور من هذا الأسلوب، أنْ يُنبّه إلى بعض الشبه التي تطال الناس على يد مدعي النبوة، فأشار إلى أنّ تصديق المدعي لا يكون بحصول ما يقول؛ لأن صدق النبوة ودلائل صحتها أبعد كليا عن ذلك. والأمر نفسه في تبيينه: «كما أنّ قولنا “لو كان هذا سوادا لكان لونا”، لا يستلزم صدق “لو لم يكن سوادا لما كان لونا”. ولو تجاوزنا عن ذلك فلا نسلّم منعه من وقوع كل نوع من الاختلاف»[36].

أما أسلوب تحليل الدلالة اللغوية للمفردات، فقد اعتمده ابن كمونة خاصة في الباب الأول من الرسالة؛ حيث خصص الحديث عن “النبوة”، وفيه فكك المصطلح، وناقشه في بعده الفلسفي كمفهوم، ثم بحث له عن خصائصه، وأفرد له تعريفا يجمع بين كل هذه المعاني والخلاصات التي توصل إليها. وكذلك فعل مع مفهوم “المعجزة” حين قاربها على المستوى اللغوي والاصطلاحي. أما تحليله للفظ “النجاسة” فقد قاربه اصطلاحيا، وعدّد معانيه واختلافاتها في اللغة العبرية، ليؤسس من ذلك للاختلاف الحاصل في فهمه من المعترضين على أحكام الطهارة في شرع اليهود[37].

يبقى أن نشير في الأخير إلى أسلوب المقارنة الذي لجأ إليه ابن كمونة في مواضع شتى، أبرزها عندما أراد بسط الآراء في مسألة النبوة وصدق دلائلها، وجاء بالردود الموجهة إلى كل رأي فأوضحها، ونقّحها فأبرز أوجه القوة والضعف في كل منها بغية كشف كل ما قيل عن النبوة عند أرباب الملل وأصحاب النحل. وكان الغرض من هذه المقارنة، في أساسها، تعجيل القول بما قد يرد في الفصول اللاحقة للكتاب من آراء متباينة في هذه المسألة. ثم استعمل المقارنة في استثمار المصادر القديمة للملل، والتأكيد على اعتماده لوثائق دالة عند كل ملة يخوض فيها، وقال في ذلك: «وما استشهدت به: من جانبهم من كتب النبوءات فإنما ذكرته على الوجه الذي نقله النصارى، لا على ما هو عند اليهود باللغة العبرانية»[38]. لقد انتهج ابن كمونة خلال الأقسام الثلاثة للعمل، مسلكاً تلخيصياًّ، أراد من ورائه نقد أسس المذاهب ودفاعات اليهودية، والنصرانية والإسلام على التوالي[39]. وما كان بمكنته فعل ذلك لولا اتباعه خطوات قبلية مقارنة سابقة على كل نقد.

فتحت أمامنا رسالة “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث” لابن كمونة، مجالا واسعا للتأمل في إحدى المحاولات الرائدة في دراسة الأديان بمنهجية مقارنة. كان غرضنا من ذلك أن نترصد مظاهر الاختلاف والائتلاف في مسألتين اثنتين هما: “النبوة” و”الرسالة”، بوصفهما أساس كل ملة من الملل. ولما تبيّنت تلك الاختلافات والفروق، وقفنا عند لحظات تدخل ابن كمونة لتأشير هذه الأوجه المتنوعة في التصور والتلقي لدى أرباب الأديان. ملأ عز الدولة رسالته هاته بأشكال الدلائل والاستشهادات من مختلف المصادر، لكننا كنا نركز أساسا على تقفي أثر حضوره الشخصي كباحث حمل على عاتقه إجراء مقارنة بين الأديان التوحيدية.

خلصنا في هذه الدراسة إلى ثلاث نتائج أساسية، هي:

أولا، أنّ المنطلق الذي بدأ منه ابن كمونة في ترصد نشأة الأديان وتتبع أخبارها وأزماتها عبر التاريخ، واحدٌ بطبعه: وكأنّ تجاربها تتناسخ لولا بعض الاستثناءات؛

ثانيا، أنّ الدارس لمسألة “النبوة” يجد نفسه أمام تراكمات ميثولوجية خارقة في غالب الأحيان، يختلط فيها الممكن بالمستحيل، والصدق بالنحل والافتراء، مع صعوبة إتيان دليل يناقض هذا الوضع الصعب أمام الباحث، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالبحث في المعجزات، والتنبؤات وما شابهها؛

ثالثا، أنّ الدارس لمسألة “الرسالة” التوحيدية، سواء في نسختها اليهودية أو النصرانية أو الإسلامية، يجد نفسه أمام إشكالية هيرمينوطيقية محضة، تكاد تفرض عليه أن يستحضر نباهة المحقق، والمفسّر: إن البحث في قضية “الرسالة” المقدسة في الملل، هو ضرب من إعادة تأليفها، وترتيبها، وتعليلها.

المصادر والمراجع:

[1]– يقول كل من جوادي- Pourjavady وشميدتكه- Schmidtk، متحدثان عما واجهته الرسالة بعد تأليفها:

«في مقابل كتاباته الفلسفية، لم تسترع مقارنة ابن كمونة للأديان الثلاثة، في كتاب “تنقيح الأبحاث”، اهتمام العالم الإسلامي وبقي مجهولا لدى كثير من العلماء، على الرغم مما أثاره العمل من صخب في بغداد بعد انتهائه بأربع سنوات».

Reza Pourjavady & Sabine Schmidtke, A Jewish philosopher of Baghdad: IZZ AL-DAWLA IBN KAMMÙNA and his writings, (Boston: Brill, Leiden , 2006), p. 51.

*– هو سعد بن منصور بن هبة الله بن كمونة البغدادي، ولقبه عزّ الدولة. ولد عام 1215م/611هـ ببغداد، وتولى مهاما في الدولة، وعكف على التأليف والتلخيص والتعليق، حتى بلغت مجموع مصنفاته عشرة، ولم يُعرف منها سوى: “الجديد في الحكمة“، و”شرح التلويحات اللوحية والعرشية“، و”تنقيح الأبحاث للملل الثلاث“. وكانت هذه الرسالة الأخيرة سببا في أنْ يُطارد بسبب ما صرّح به فيها من آراء ونقود وطعون على الأديان، حتى حوصر بيتُه فاضطرّه ذلك للهرب إلى الحلّة، في صندوق مع قافلة، حيث كان يشغل ابنه منصب كاتب بديوانها، ولم يُعرف تاريخ وفاته بالتحديد، لكن الأشهر أنّه عام 1284م/683هـ. راجع:

حاجي خليفة مصطفى بن عبد الله القسطنطيني، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، تحقيق وتعليق: أكمل الدين حسان أوغلي وبشار عواد معروف، (بيروت: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات المخطوطات الإسلامية، 2021م)، المجلّد الأول، ص.ص. 434-435.

كمال الدين بن الفوطي، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، تحقيق: مهدي النّجم، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002م)، ص. 304.

آقا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، (بيروت: دار الأضواء، الطبعة الثالثة 1983م)، الجزء 16، ص. 405. والجزء 18، ص. 351.

[2]– أنظر:Sabine Schmidtke, «Conférences de Mme Sabine Schmidtke», (École pratique des hautes études, Section des sciences religieuses, Annuaire,Tome 114, 2005-2006), pp. 183-186.

[3]– أنظر:

Reza Pourjavady & Sabine Schmidtke, Op., Cit., pp. 106-117.

نجد إضافة مكملة لهذه الفكرة وردت عند كل من روجيما وبورتويس وفالكنبيرغ، يقولون فيها: «يكمن الاختلاف التام في مادة موضوع العملين المقارَنين ضمن مؤلفه: “مقالة في الفرق بين الربانيين والقرائيين”، مع عمل هو موضوع هذه الورقة، “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث”. […] في حالة كتاب “التنقيح”، أتى ابن كمونة بأسس الدفاعات للملل الإبراهيمية الثلاث».

Barbara Roggema & Marcel Poorthuis & Pim Valkenberg, The three rings: Textual studies in the historical trialogue of Judaism, Christianity, and Islam, (Dudley: Peeters Leuven, 2005), p. 49.

[4]– أستعمل هذا المفهوم (طقس) بصورة إجرائية آخذاً بعين الاعتبار أنّ توظيفه في سياق دراسة الملل التوحيدية ليس دقيقا كليا؛ إذْ أنّه يدل بشكل أدق على بنية العقائد الوثنية والطبيعية كما جرت عادة استعماله من لدن المشتغلين بالأنثروبولوجيا الدينية.

[5]– Barbara Roggema, «Ibn Kammūna’s and Ibn al-ʿIbrī’s Responses to Fakhr al-Dīn al-Rāzī’s Proofs of Muḥammad’s Prophethood», (London: Intellectual History of the Islamicate World 2, 2014), (pp. 193–213), pp. 199-200.

[6]– سعد بن منصور بن كمونة، تنقيح الأبحاث للملل الثلاث، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه: علي نفي منزوي، (طهران: انجمن آثار ومفاخر فرهنكي، 2004م)، ص. 90.

[7]المصدر نفسه، ص. 90.

[8]المصدر نفسه، ص. 92.

[9]– أنظر: المصدر نفسه، ص. ص. 116-119.

[10]– أنظر: المصدر نفسه، ص. ص. 97-98.

[11]المصدر نفسه، ص. 91.

[12]المصدر نفسه، ص. 97.

[13]المصدر نفسه، ص. 168.

[14]المصدر نفسه، ص. 132.

[15]المصدر نفسه، ص. 237.

[16]المصدر نفسه، ص. 188.

[17]المصدر نفسه، ص. 190.

[18]المصدر نفسه، ص. 187.

[19]– Barbara Roggema, Op., Cit., pp. 200.

[20]– ابن كمونة، مصدر سابق، ص. 203

[21]المصدر نفسه، ص. 228

[22]– أنظر: Barbara Roggema, Op., Cit., pp. 200.

[23]– علي سامي النشار وعباس أحمد الشربيني، الفكر اليهودي وتأثُّره بالفلسفة الإسلامية، (الإسكندرية: منشأة المعارف-جلال حزى وشركاؤه، 1972م، مصر)، ص. 61.

[24]– ابن كمونة، مصدر سابق، ص. 95.

[25]المصدر نفسه، ص. 142.

[26]المصدر نفسه، ص. 200.

[27]المصدر نفسه، ص. 143.

[28]المصدر نفسه، ص. 88.

[29]المصدر نفسه، ص. 87.

[30]المصدر نفسه، ص. 88.

[31]المصدر نفسه، ص. ص. 124-125.

[32]المصدر نفسه، ص. 178.

[33]المصدر نفسه، ص. 254.

[34]– أنظر: Barbara Roggema & Marcel Poorthuis & Pim Valkenberg, Op., Cit., p. 51.

[35]– ابن كمونة، مصدر سابق، ص. 99.

[36]المصدر نفسه، ص. 214.

[37]– أنظر: المصدر نفسه، ص. 167.

[38]المصدر نفسه، ص. 201.

[39]– أنظر: .Barbara Roggema, Op., Cit., pp. 200

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete