منظومة الإنسان المتفلسف: الجزء الثاني… الإنسان المتفلسف

تكوين

يتوافر الطفل، كما بينَّتُ في الجزء الأول من هذه المقالة (الطفل بما هو أقل من فيلسوف)، على حاضنتين رئيسيتين من الحواضن السبع التي يتجلَّى فيها الإنسان المتفلسف بجميع مراحله المعرفية، وهي:

أولاً: حاضنة الثقة النفسية.

ثانياً: حاضنة الأُسْرَة.

فالأسرة، بقدر ما هي نافذة الطفل الأولى التي يُطلُّ منها على العالَم الخارجي، ويكتشف، تباعاً، حجم التنوُّع الهائل في الأفكار والأشخاص والأشياء. بقدر ما هي أيضاً، أي الأُسْرَة، الحاضنة التي تُعزِّز ثقته الذاتية بنفسه، أو النافذة التي يطلُّ منها على العالَم الدَّاخلي، ويعي، شيئاً فشيئاً، أي إمكان كبير تنطوي عليها ذاته، لا سيما إذا ما توافرت على بيئة تُعزِّز الإبداع وتدفع به قدما ناحية الأمام.

فالأسرة هي البوابة الأولى التي يعبر منها الإنسان من كونه طفلاً برسم التفلسف إلى إنسان مُتفلسف، إذا ما توافر على الحواضن الأخرى التي أشرتُ إليها آنفاً. وفي هذا الجزء من سلسلة مقالات منظومة الإنسان المتفلسف، سأُفصِّلُ تباعاً لهذه الحواضن، التي تنقسم إلى قسمين، حتى تكتمل الصورة وتصبح أكثر وضوحاً وفائدة:

القسم الأول: أربع حواضن على المستوى الجمعي، وهي: 1- الأُسْرَة. 2- المدرسة. 3- المجتمع. 4- القرار السياسي.

كيف تساهم الأسرة في بناء شخصية الفرد؟

  • الأُسْرَة: هي التي تُؤهله أو تنتظره بشغف لكي ينطق بسؤاله الأول، كما تنتظره ليبتسم ابتسامته الأولى أو يخطو خطوته الأولى أو ينطق لأول مرة بكلمة بابا أو ماما. فالسؤال الأول الذي ينطق به هو إشهار لتاريخ ولادته المعرفية. فكما أنَّ تاريخ ولادته البيولوجية يمكن أن يُؤرَّخ، على سبيل المثال، بتاريخ 30/ 10/ 1988، كذلك فإنَّ أول سؤال يسأله الطفل يمكن أن يُؤرِّخ لولادته معرفياً بتاريخ 25/ 4/ 1993 على سبيل المثال أيضاً. وكما يتم الاعتناء بالطفل إثر ولادته البيولوجية من اعتناء بصحته وسلامته والإشراف على نموه نمواً طبيعياً، بما يستلزم حمايته من الأمراض؛ كذلك يُفترض أن يحدث مع ولادته ولادة واعية في الزمن، إذ يُعتنى بولادته المعرفية وما يستتبعها من اعتناء بصحته العقلية. لكن في الكثير من الأحيان، من الصعب أنْ تَنْسَى الأُسْرَة الابتسامة الأولى لطفلها، أو أول خطوة يخطوها، أو أول كلمة يتفوه بها. لكن من السهل على الأُسْرَة أنْ تَنْسَى السؤال الأول لطفلها؛ فهي تحتفي احتفاءً بالغاً بامتدادته البيولوجية، لكنها تتغاضى، غالباً، عن انبثاقاته المعرفية. فالأسرة هي الحضن الأول[1] لتشكيل اتجاه جمعي، وذلك بتوفير بيئة آمنة للعناية بالطفل لكي تُشهر ولادته المعرفية ويُحتفى بعقله الذي بدأت تدبُّ فيه حياة الوعي. لكن إذا لم يتوافر الطفل على هذه الحاضنة التي تُوفِّر له الرعاية المناسبة، فإنَّ أسئلته أو اللحظة الأولى لولادته معرفياً سيتم إجهاضها، وتدميرها بشكلٍ منهجي، فالخطوة الأولى التي خطاها باتجاه وعيه، تمَّ إطفاء جذوتها منذ اللحظة الأولى لاشتعالها. فالحرج من هذه الولادة، التي تتجلَّى عبر طرح الأسئلة، وما يتبع هذا الحرج من استنكار وإسكات وتأنيب وتأثيم وضرب، سيُولِّد خوفاً كبيراً لدى الطفل، فيجعله يلجأ إلى واحد من ثلاثة خيارات في التعامل مع أسئلته:

الأول: السكوت التام عن طرح أيِّ سؤال، وهذا حال الأغلبية. فالناس يتوارثون –جيلاً إثر جيل- معلوماتهم عن سُداسية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأشخاص. 5- الأفكار. 6- الأشياء؛ ويُحافظون عليها كما هي، خشية: من حالة التخويف، في المرة الأولى، الناتجة عن تحويطها بجُملة من العقوبات القاسية والمؤذية مادياً ومعنوياً. ومن حالة الخوف، في المرة الثانية، الناتجة عن الإيمان العميق بتلك التَرِكَة التي تُشكِّل الهُويَّة الجمعية.

الثاني: كتمانها وإخفائها عن الأهل والمُحيط، وتنميتها مع الذَّات، لحين التحصُّل على بيئة أخرى تعتني بولادة الإنسان معرفياً. مع الاستفادة من الوضع السلبي للأسرة، بما هي طاردة للإبداع، وتحويل سياقاتها الضاغطة إلى جزء من سيرورة الأسئلة التي تُنمِّي ولادة الإنسان معرفياً. أي الاستفادة من خنقها، أعني الأسرة، لتلك الأسئلة، وتحويلها إلى مادة خام لإبداع قادم، وذلك بتفكيك أنساقها عبر التساؤل عن أسباب خنقها لتلك الأسئلة وعلاقة ذلك بالسيستم كاملاً الذي تخضع له هكذا أُسَر، ومُراكمة سياقات تلك الأسئلة إلى جانب أسئلة أخرى كثيرة وعديدة، إلى أن يحين وقت التعبير عنها بطريقة أو بأخرى.

ما علاقة المدرسة بالتنمية؟

  • والمدرسة تُعزِّز مسار الأسرة في تشكيل اتجاه جمعي يُعمِّق ولادة الإنسان معرفياً، إذ يتوسَّع المحيط الذي تتحرَّك فيه الأسئلة، فبعد أن يكون سؤال الطفل مقتصراً على نواته الأولى أو أسرته الصغيرة، يتلاقى سؤاله مع أسئلة أصدقاء جدد من أُسَرٍ مختلفة ومتعدِّدة. فالسؤال الواحد يصبح جُملة من الأسئلة، ما يُفضي إلى تنوّع الإجابات وإثراء عقول الأطفال بالتالي. فتلاقي الأسئلة وتفاعلها مع بعضها البعض تفاعلاً إيجابياً، وإثراء النقاشات والحوارات والجدالات حولها، للبحث عن إجابات مُتعدِّدة ومتنوعة لها، سيُفضي بلا شكٍّ إلى توسيع الدائرة التي يتحرَّك بها عقل الإنسان معرفياً، مما يُعزِّز مكانته الاعتبارية في هذا العالَم. فالإجابة على سؤال ما ليس بالضرورة أن تكون إجابة نهائية أو مُطْلَقة، بل ثمة احتمالات كبيرة لتوليد إجابات جديدة ساعة تتلاقى العقول وتتفاعل مع بعضها البعض. فالمدرسة بيئة حاضنة للإبداع المعرفي إذا توافرت على طفل أُشْهُرِت ولادته المعرفية الأولى في أسرته، ووجد أستاذاً، في المدرسة، يُثني على تلك الولادة ولا يعمل على قتل براعمها. فالتفاعل بين الطلبة بعضهم مع بعض بوساطة أسئلتهم –إذا ما أتوا من أُسَرٍ أشهرت ولادة عقولهم في العلن ولم تخجل من ذلك الإشهار- وتفعيل هذا النشاط من قبل أستاذ يعي الدور الحقيقي للمدرسة بما هي حاضنة للإبداع، سيجعل من المدرسة رحلة تكميلية لمسار ولادة الإنسان معرفياً. أما إذا توافر الطالب على أصدقاء مُجْهَضِي الولادة المعرفية وأساتذة قاتلين للإبداع، سيُفضي إلى حالةٍ من الإحباط الشديد[2] فبقدر ما يمكن أن تُعزِّز المدرسة الاتجاه الجمعي في نقل الإنسان نقلته الثانية في مسار ولادته المعرفية، وذلك لما تتوافر عليه من بيئةٍ راعية وحامية لهذه الولادة، بقدر ما يمكن أن تُساهم المدرسة في تحجيم عقل الإنسان وإعادته خطوة إلى الخلف، حتى لو توافر على بيئة حاضنة في الأسرة، فالعالَم الذي يشغله في المدرسة أوسع بكثير من العالم الذي يشغله في البيت. فوجود طلبة وأساتذة -في مدرسة- لديهم آليات التفكير ذاتها، بما يقود حتماً إلى توحيد نتائج آليات التفكير تلك وتشابهها، ستفرض على الطالب خياراً من ثلاثة خيارات.

الأول: الاندماج في مصفوفة (المقدمات/ النتائج) التي يُؤمن بها الجميع وعدم الخروج عليها، لكي لا يتعرض للنبذ الاجتماعي الذي يمكن أن يحدث له في حال خرج اشتراطات تلك المصفوفة. وهذا حال، بتقديري، الغالبية العظمى من الناس في المجتمعات التي تُعاقِب على الأسئلة. فالمدرسة، بطريقةٍ أو أخرى، انعكاس ما للأُسْرَة، فالأُسْرَ التي تقمع أسئلة أطفالها، ستُسهِّل مهمة أطفالها في المدرسة، وتُقدِّم لهم الأرضية الضرورية واللازمة ليندمجوا في بيئة المدرسة القامعة للإبداع.

والثاني: الانفصام بين الاستحقاق الأُسَرَيّ والاستحقاق المدرسي، تحديداً إذا ما كانت الأُسْرَة حاضنة للإبداع وراعية لنمو الأسئلة والاعتناء بها، في حين تكون المدرسة قاتلة للإبداع ومُجهضة له؛ ما يُؤثِّر سلباً على الطالب فيجعله رهناً لاستحقاقين متضادّين عنيفين: أحدهما يرتفع به وبإمكاناته العقلية، وثانيهما ينخفض به وبإمكاناته الإبداعية.

والثالث: التعايش مع حالة الانفصام –وهذا منوط بدعم الأهل- أو تقبّلها عبر مُعايشة الدورين، دون تأثيرات نفسية، بانتظار البحث عن أفق جديد في قادم الأيام، تحديداً خارج المدرسة، لبلورة الأسئلة وتطويرها عبر شركاء في النشاط العقلي.

  • والمجتمع، منوط به ثلاثة أمور لكي يتحوَّل هو الآخر إلى حاضنة كبيرة للإبداع على المستوى الجمعي:

الأول: احتواء جميع الروافد الإبداعية المُتدفقة من الأُسَر والمدارس، بحيث تتلاقى جميعها في بؤرةٍ واحدة كبيرة، على اعتبار أنه الحلقة الثالثة من حلقات إعلان ولادة الإنسان ولادة واعية في الزمن، بعد اكتمال حلقتي: البيت والمدرسة.

والثاني: تعزيز الحوارات والنقاشات وتمتين بنيانها في المجال العام، وتوسيع دائرتها قدر الإمكان، من خلال تهيئة عقول الناس للفكر الخُلاصاتي والابتعاد قدر الإمكان عن الفكر الخلاصي. أو السؤال المعرفي قبل النسق الهُويَّاتي.

والثالث: تحرير المجال العام من إكراهات الفكر الخلاصي. أي إثارة النقاش بشكلٍ دائم ومستمر حول سُداسية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأفكار. 5- الأشخاص. 6- الأشياء. وعدم الركون إلى ثوابت مُطْلَقة في التعامل مع هذه السداسية، حتى وإنْ تمَّ إدراج هذه الثوابت ضمن مقولات كبرى مثل ثوابت الأمة وهُويتها وما إلى ذلك. مع ما يستلزمه عدم الركون هذا من الاستعانة بالخُلاصات المعرفية الكثيرة وعدم الثبات في أيِّ خُلاصةٍ بعينها ثباتاً مُطْلَقاً، بما يُحوّيلها، أي تلك الخلاصة، إلى مسطرةٍ معيارية لقياس (نفاسة/ خساسة) الأفكار المُتداولة في المجتمع؛ بل الكُل شركاء في صياغة شهادة الميلاد المعرفية للإنسان في سياقه العمومي.

أما في حال إغلاق المجال العام واحتكاره من قبل أصحاب الإجابات الأخيرة والصوابيات المُطْلقة، سيتحوَّل المجتمع إلى مجتمعٍ طارد للإبداع، إذ يتم إقفال المجال العام إقفالاً تاماً أمام أي نقاش مُحتمل، والإبقاء على ما هو متوارث حول مفاهيميات تلك السداسية، تحت وطأة العقاب الشديد. فأي نقاش هو نقاش مُجهض سلفاً، إذ تتحوَّل السُّلطة الاجتماعية أو سلطة الناس إلى سلطة غاشمة وشرسة في محاربة الإبداع والمُبدعين، وذلك بمعاداتهم وتدمير حيواتهم بطريقةٍ فوضوية تفتقد لأيّ مسلكية عقلانية يمكن أن تتبّعها حتى أعتى السُّلط، فهي تسير، أي السُّلطة الاجتماعية، على غير هدى وهي تُعاقب كل من يُخالفها، لذا تكون نتائجها مُدمِّرة وعبثية. فسلطة الشعب أو السُّلطة الاجتماعية إذ تبطش بفكرةٍ مُخالفة لما هو قارّ وثابت، فهي تبطش بها بقسوة ورعونة. فالاندفاعات غير العقلانية للجماهير الغفيرة، لا تنطوي على حسابات مُسبقة يمكن أن تُفضي إلى نتائج بعينها، بل تنطلق بطريقة هستيرية ولا يمكن لأحدٍ أن يتنبأ بمآلاتها، فهي تنشر الخراب في كل مكان، دون حسبان لمرحلة ما بعد هذا الخراب.

  • والقرار السياسي، منوط به أمران لكي يتحوَّل هو الآخر إلى حاضنة كبيرة للإبداع:

الأول: الاستثمار في الولادة المعرفية للإنسان من خلال تبنّي الخُلاصات المعرفية والابتعاد قدر الإمكان عن الفكر الخلاصي. وهذا يتطلب توفير الكثير من الحواضن الرَّاعية للإبداع مثل: الأندية الموسيقية، والمعاهد الفنية، وشركات الإنتاج الفني، وبناء المسارح ودور السينما، ومخابر البحث، ومدارس الرَّقص، وعقد الندوات الفكرية، وتبنّى الملتقيات الثقافية وأندية القراءة، وتفعيل عمليات نشر الكتب ودعم الترجمات والاعتناء بالبعثات العلمية…إلخ.

الثاني: حماية الخيار الأول بجُملةٍ من التشريعات والقوانين التي تصون المجال العام من الإكراهات والاستلابات التي يمكن أن تطاله من أصحاب الفكر الخلاصي. أما إذا حدث العكس، أيّ في حال تحوَّل القرار السياسي إلى قرار مُهتم بولادة الإنسان البيولوجية أكثر من اهتمامه بولادته المعرفية، وذلك بإحكام السيطرة على الولادة الثانية عبر جُملة من التشريعات والقوانين التي تحمي أصحاب الفكر الخلاصي الذي يُعزّزون ما هو متوارث ومُسلَّم به؛ ساعتها تدخل الأمة في حالة من السبات الحضاري الطويل. وتتحوَّل الحاضنة السياسية إلى بيئةٍ قاتلة، بشكلٍ مُنظَّم، للإبداع وليست حامية له. فالقرار السياسي بما هو مُستثمر في ولادة الإنسان المعرفية ويعمل على تنمية الخُلاصات المعرفية من جهة، وحمايتها من جهة ثانية، فإنه لا يقع في فخِّ صَلْبِ شاعرٍ مثل الحلَّاج، أو إعدام فيلسوف مثل سقراط. أو فخّ إجبار الناس على اعتناق فكر بعينه كما أريد نشر الفكر الاعتزالي بالقوة. بل يصون المجال العام باسم القانون، حتَّى لا تستأثر أيّ جهة كانت بالسلطة المعرفية، وتحوُّلها إلى سُلطةٍ غاشمة، وباسم القانون والقوة هذه المرة.

إذاً –عقب هذا- نحن بإزاء مصفوفة جمعية مُكوَّنة من أربع حواضن:

  • الأسرة.
  • المدرسة.
  • المجتمع.
  • القرار السياسي.

وهي مصفوفة تتحرَّك في مسارين:

مسار عمودي: ابتداء من الأسرة وصولاً إلى القرار السياسي، إذ تتدرج عملية ولادة الإنسان معرفياً وصيرورته مُتفلسفاً من الحاضنة الأولى وحتى البتّ في حماية تلك الولادة باسم القانون الذي تُشرعن وجوده السُّلطة السياسية.

ومسار أفقي: إذ تسير المصفوفة السابقة إلى جانب بعضها البعض ساعة تكتمل حلقاتها. فهي وإنْ كانت تتدرج من النبع الصغير وصولاً إلى المصبِّ الكبير، فإنها تسير محاذاة بعضها البعض. فالأسرة، المُشْهِرة لولادة طفلها معرفياً من لحظاته الأولى، مُعزَّزٌ أساسي لأيِّ قرار سياسي، والمدرسة حافز كبير لتنشيط المجتمع وتفعيل مجاله العام على المستوى العقلي. والمجتمع ضامن حقيقي للقرار السياسي، وهكذا في سلسلة تتناوب فيها الأدوار بطريقة أفقية تُنتج اتجاهاً جمعياً يحترم خيارات الإنسان الإبداعية ويُعزِّز موجوديتها عبر مسيرة طويلة ومُثمرة من الإبداع المستمر.

أما ثاني أنواع الحواضن، فهي الحواضن الفردية التي تُساهم مساهمة فاعلة في بلورة سياقات الإنسان المتفلسف، وهي على التوالي:

الحاضنة الأولى: الثقة النفسية أو البناء السيكولوجي للفرد.

الحاضنة الثانية: التوافر على قوةٍ معرفية.

الحاضنة الثالثة: التوافر على إمكان إبداعي.

 

الإنسان ومفهوم الشخص البشري بين الفلسفة والدين

فالحاضنة الأولى أو الثقة النفسية تحمي الإنسان من الشعور بالصِّغَر والتقزُّم، وتفاهة ما يمكن أن يُنتجه، مقابل ما أنتجه الأسلاف يوم أن أبدعوا حضارة عظيمة، أو مقابل ما يُنتجه الآخر من حضارة عظيمة في الوقت الحالي. فإذا ما شعر الإنسان وهو يجترح نسقاً معرفياً جديداً أنه أقلّ شاناً، من أسلافه أو من الآخرين، فيقيناً ستنهار ثقته بنفسه، ويعود نِتاجه أقل جودة وشأناً، فالأيدي الصغيرة[معنوياً] لا تُنتج إبداعاً عظيماً، لأنها تُحاكي –بطريقةٍ أو بأخرى- نفوساً صغيرة، وعقولاً مكموشة. فالحالة النفسية للإنسان الذي يشعر بِصِغَرهِ وتفاهته أشبه بـ سرير بروكست[3] Procrustean Bed  إذ يجلس عليه مُسبقاً ويُشذِّب شخصيته وفقاً لما اصطلح عليه الأسلاف أو وفقاً لما اصطلح عليه الآخر بطريقة تُخرج معارفه من أيِّ حالةٍ إبداعية، فهي قاصرة ابتداءً، لأنه غير قادر، عبر طرحه المعرفي، على تفكيك معارف الأسلاف وإعادة تدويرها في الأذهان والأعيان من جديد، ولا هو قادر على منافسة معارف الآخر في المرحلة الأولى وتجاوزها في المرحلة الثانية. فالإنسان المُبدع إذا لم يكن بناءه السيكولوجي متيناً منذ اللحظة الأولى، سيُولِّد اختلالات مُتعدِّدة ستنطوي عليها العملية الإبداعية برمّتها. فهي –أعني الثقة النفسية- التي تُؤمِّن له الشعور بالتساوي الأفقي مع القرناء، تحديداً مع أولئك المُنتجين للمعرفة. فلا تجعله يقف تحت من هُم أسلافه بحُجَّة المُحافظة على هُويَّة الأمة وكينونتها الجامعة، ولا تُجعله يقف تحت مُبدعي الأمم الأخرى تحت حُجَّة أنهم أقوى معرفياً بشكلٍ حاسم ومبدئي. بل يسير إلى جنبهم جميعاً، يزاحمهم مزاحمة إيجابية، لكي يتجاوزهم بشرطه المعرفي القائم، إذ يجترح إبداعاً جديداً لم يتوافر عليه لا الأسلاف ولا الآخرين.

والحاضنة الثانية أو القوة المعرفية، شرط أساسي ومصيري لأيِّ فعلٍ تفلسفي، فالمعارف هي المواد الخام التي يبني عليها الإنسان المُبدع معماره المعرفي كاملاً. إذ تضعه بداية في حالة إلمام بالشرط المعرفي القائم وأسسه الفلسفية، بحيث يُصار إلى تبصُّر مثالب تلك الأسس وتجاوزها بطريقةٍ تُفضي إلى نسق فلسفي جديد –إنْ كان يريد ذلك وإنْ استطاع إلى ذلك سبيلا-. كما أنها تُؤمِّن له قدرة كبيرة على مقاربة سُداسية –إذا ما أراد مقاربتها أو أيّ من عناصرها- الإله/ الإنسان/ العالَم/ الأفكار/ الأشخاص/ الأشياء، فهي عناصر موادها المعرفية من القوة بمكان، ومن السهل أن تصرع من ليس مؤهلاً تأهيلاً ماكناً ومتيناً على المستوى المعرفي.

والحاضنة الثالثة أو الإمكان الإبداعي، شرط أساسي ومصيري هو الآخر لأيِّ إبداع، أي إيمان الفرد، بعد أن يتوافر على ثقة نفسية متينة وبناء معرفي قوي، بقدرته على الإبداع، أي إضافة شيء لا يستطيع أحد غيره إضافته، بحيث يترك بصمة واضحة، ويصبح وجوده وجوداً فاعلاً في العالَم، وليس محض وجود انفعالي:

ما هي الفلسفة في إدارة المشاريع؟

فالنجَّار الذي يُريد أنْ يتفلسف بالمواد الأولية التي لديه عليه أنْ يتوافر على شرطٍ إبداعي أو رؤية معرفية عميقة للمواد الأوليَّة بين يديه بحيث يكون نتاجه، سواء أكان باباً أم صندوقاً أم سريراً… إلخ، نتاجاً إبداعياً، تُبنى أساساته على رؤية معرفية عميقة. ففن الأرابيسك المصري[4] ينطوي على فلسفة عميقة في التعامل مع الخشب، فكل حركة لإزميل أو دقَّة لمسمار صغير تُفضي إلى حركةٍ تالية محسوبة بدقةٍ تقود –نهاية المطاف- إلى معمارٍ أكبر تجلَّى في الواقع، بعد أن اكتمل في الذهن أولاً. كذلك تنطوي بعض المنتجات اللطيفة التي تُنتجها شركة آيكيا[5] IKEA على لمسة فنيَّة ذات مدلول معرفي عميق. فالنجارة –وفقاً لذلك- ليست محض قصٍّ ولصق للخشب، بل إنجاز إبداعي يُضيف لمسة فارقة، ذهنياً وواقعياً، على المستويين المعرفي والجَمَالي.

والموسيقي الذي يُريد أنْ يُفلسف العالَم عبر مقطوعة موسيقية عليه أن ينطوي على إمكان إبداعي يتجاوز حدود الأداء الروتيني أو الأوتوماتيكي الذي يُمكن أن يُؤدَّى، مِنْ قِبَلِ أيِّ أحدٍ، بقليلٍ من الدربة، إلى ما هو أعمق. بالأحرى منح المقطوعة الموسيقية فلسفة تنطوي على بُعْدٍ تأمّليّ وآخر وتأويليّ: تأمّليّ بما هي –أعني المقطوعة الموسيقية- حالة جمالية تجعل المرء ينسحب من العالَم الواقعي إليها، فهو يستمعُ إليها وينصت بخشوعٍ تام. وتأويليّ بما هي حالة معرفية يُفضي الإنصات إليها –بعد الخروج من حالة الخشوع- إلى تفكيك أبنيتها المعرفية والفلسفة التي قامت عليها؛ كما يفعل الموسيقي العراقي “نصير شمّا” إذ تحوَّلت الموسيقي على يديه إلى منهج حياة. فبين يديه -وهي تُمسك الريشة وتُداعب الأوتار- تحوّلت كثير من المآسي والآلام الكبيرة[6] إلى لذاذاتٍ بالغة الأثر، تعمل على تهذيب الذائقة الإنسانية والارتقاء بها فنياً، فمقطوعاته الموسيقية مشغولة بحرفيةٍ عالية؛ بما أحال الموسيقى إلى حالة إبداعية أضافت جديداً إلى العالَم.

والمطرب الذي يُريد أن يُغنِّي بطريقةٍ مبدعة ينبغي عليه أن يتجاوز فكرة الصوت الجميل والكلام المُبتذل والحركات البهلوانية إلى تزيين هذا الصوت بكلام مُعبِّر وعميق. فأغنية مثل أغنية (قديش كان فيه ناس) لفيروز هي نصّ فلسفي يطرح وجهة نظر عميقة تجاه وجودنا في هذا العالَم وتعالقات هذا الوجود مع مقولة الزمن بما هو مبحث أساسي من المباحث الفلسفية. إنها –أعني أغنية قديش كان فيه ناس- استبصار فني عميق للاغتراب الوجودي الأصيل وهو يتسلّل إلى أرواحنا ويفتك بها مرة تلو الأخرى، فنشحات فيروز وخلجات صوتها المُرتجف وهي تُردِّد ترانيم الضياع الأبدي، تُشعِر المرء –في المرة الأولى- برغبةٍ هائلة بالعودة إلى رحم أمه، بصفته ملاذاً آمناً من شرور العالَم الذي نعيش فيه. وفي المرة الثانية، تُشعره بأنه يقفز من رحم أمه إلى صلب أبيه ويبقى دفقة ماء منسية هناك، وفي المرة الثالثة تنتابه رغبة كبيرة بأن يقفز قفزة زمنية ويعود القهقرى إلى الوراء، لكي يقتل جدّه لكي لا يُوجد والده، فلا يوجد هو بالتالي على الإطلاق، وفي المرة الرابعة يصرخ المرء أعظم صرخة في حياته: ما أسعدنا في العَدَم؛ أسعدنا على الإطلاق من بقي في العَدَم المبدئي. فهي مناقشة ثرة –صحبة موسيقى لذيذة- بأسلوب سلس وعميق لواحدة من أعقد القضايا في التاريخ الإنساني. لكن هذه المناقشة لا تسحب المُستمع سحباً عبثياً من الحياة، فتجعله يرغب بالفناء؛ بقدر ما تُبيِّن له ما يُمكن أن يفعله الفن الحقيقي من ارتقاء بالذَّائقة الإنسانية إلى ذُرى عالية، فالعمل يُخرجه مؤقتاً من العالَم القاسي، فيسحره بوقتٍ لذيذ يكتشف فيه المعنى العميق للفن الحقيقي.

والروائي الذي يُريد أن يتحوَّل إلى كاتب عظيم عليه أن يتجاوز مرحلة سرد الحكاية –كما يمكن لأي حكَّاء أن يسردها للتلسية- إلى مرحلة تضمين تلك الحكاية رؤى كبرى. فالاكتفاء بالسرد عمل يمكن أن يتأتى لغالبية الكُتَّاب، لكن خلق شخصيات تُسْرَد حيواتها المختلفة والمتعددة، وتضمين هذه الحيوات رؤى كبرى، بحيث تتحوَّل هذه السرديات إلى نماذج لا تنطبق على عدد كبير من الناس فحسب، بل تكون معيناً لهم في حياتهم أيضاً؛ عمل لن يتأتّ إلا لقلّة من الأدباء والروائيين. فـ “نجيب محفوظ” سرد حكايات –في كثير من أعماله كالحرافيش والثلاثية: بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، وأولاد حارتنا[7] – عن أُناس من لحمٍ ودمٍّ في مصر، لكنهم هجسوا برؤى كبيرة، جعلتهم يتفلسفون حول سُداسية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأفكار. 5- الأشخاص. 6- الأشياء؛ بطريقةٍ مُبدعة.

والشاعر الذي يريد أن يتخلد في التاريخ عليه أن يتجاوز مرحلة الشعرية المحضة وما يُلازمها من نَظْمٍ وصفٍّ للكلام إلى مرحلة الشعرية الفلسفية، إذ تنطوي القصيدة على تبصّر عميق بالحالة الإنسانية وتجلياتها في هذا الوجود. فشاعر مثل “أدونيس” تنطوي أشعاره على بُعدٍ فلسفي عميق، رغم سكبها بقالب جمالي. فديوان مثل ديوانه (تنبأ أيها الأعمى)[8] نصّ معرفي عميق لكنه مسكوب في قالب جمالي بديع.

والممثل الذي يُريد أن يصير إنساناً متفلسفاً عليه أن يرحل من تمثّل شخصيته إلى تمثّل الشخصيات التي يؤدي أدوارها، بحيث يحل فيه صوت هذه الشخصيات وينطق بعوالمها كما لو كانت هي التي تنطق. أي أن تحلّ فيه بالكامل لحظة التمثيل، إلى درجة الاعتقاد أن الذي يُمثل هو الشخصية الحقيقية التي مَثَّل دورها. فالممثل المُتفلسف عليه أن يؤدِّي دور الرَّاهب أو الشيخ أو الشبح أو اللص أو النصَّاب بكثير من الاحترافية، التي تبدأ بلغة الخطاب ولا تنتهي بإيماءات الجسد، أما إذا بقيت شخصيته الحقيقية طافية على السَّطح وهو يُجسِّد أدواره التمثيلية، فهذا يمكن تسميته تهريجاً لا تمثيلاً. فالمُمثل الحقيقي هو الذي يُربك المُشاهِد ويجعله يخلط بين الحقيقي والواقع، ويُبيّن له أن التمثيل العميق يرقى إلى درجة الواقع الحقيقي. وقد كان لجدتي “حمدة” أن تموت وهي تعتقد أن الممثل “أنطوني كوين” هو “عمر المختار”، الذي جسَّد دوره في الفيلم المشهور، فمن كُثر إتقان “أنطوني كوين” للدور وأدائه بحرفيةٍ عالية، التبسَ الأمر عليها –وعلى الكثيرين- فما حضرت صورة “عمر المختار” وإلا وحضرت صورته كما جسَّدها أنطوني كوين في الفيلم، لا كما هي في الحقيقة[9]

وصانع القهوة عليه أنْ يُتقن صناعته لكي تتحوّل العناصر الطبيعية بين يديه إلى عملٍ إبداعي ينطوي على امتدادت اجتماعية واقتصادية وسياسية، كما يحدث في طقس إعداد وتقديم القهوة على الطريقة الأردنية أو إعداد وتقديم الشاي على الطريقة اليابانية. فطقس إعداد القهوة العربية في الأردن وشربها عملٌ إبداعي بامتياز، إذ تبدأ العملية باختيار أجود أنواع القهوة الخضراء، ثم تحميصها على نار مُعدّة خصيصاً، ثم دقّها أو طحنها [كان يُستعمل قديمًا المهباش وهو تجويف خشبي مصنوع من شجر وحاليًا تُستخدم الماكينات الكهربائية] ثم غليها بماءٍ نقي، وخلطها بالهيل الأصلي، ثم سكبها في دِلال نُحاسية وتركها لكي تصفى وتتخمر، ثم سكبها في فناجين صغيرة. وعادة يُصبّ للضيف أربعة فناجين: الأول فنجان الهيف وهو فنجان يشربه صاحب البيت للدلالة على الأمان، وفنجان الضيف وهو فنجان ترحيبي بالضيف، وفنجان الكيف وهو فنجان لتعديل المزاج والدلالة على الانبساط، وفنجان السيف وهو دلالة على الشراكة بين صاحب البيت والضيف.

وصانعة الشموع إذا أرادت أن تفلسف الشمع وتضعه في قالب إبداعي، عليها أن تبتكر شيئاً جديداً، كما تفعل المهندسة “روان عبد” التي كُنت أتابع مشروعها منذ تأسيسه، حيث بدأت بتسويقه على مواقع التواصل الاجتماعي، ونتيجة لاقتناعي التام بما تصنع، قمت باقتناء بعض أعمالها التي تصل إلى حدِّ الإبهار، ليس من ناحية جمالية فحسب، بل ومن ناحية معرفية أيضاً. ولكي أخصِّص حديثي فإني سأتحدث عن إحدى القطع التي اشتريتها منها، وهي عبارة عن بوكيه من الشموع على هيئة ورود بيضاء. فمن شدة إتقان العمل –على المستوى الجمالي- تبدو الورود وكأنها حقيقية وعلى طبيعتها، فالتفاصيل الدقيقة تظهر براعة في نقلها من عالم الجماد ومنحها طابعاً شبه حيّ، حتى أنَّ المرء يلمس تعرجات الورود وتفاصيلها الصغيرة وكأنها حقيقية. ومن شدِّة الإتقان –هذه المرة على المستوى المعرفي- تبدو الورود الشمعية وقد تجاوزت محنة القص واللصق إلى مرحلة الإبداع، إذ ثمة رؤية تبدو ظاهرة في العمل الفني، وهذه الرؤية تجسدت في: أولاً استخدام مواد طبيعية بالكامل من شموع وزيوت وعطور. وثانياً في إنجازها يدوياً، فالتفاصيل الدقيقة لا تُظهرها القوالب التي يمكن لأي كان أن يصب فيها الشمع، بل تبدو واضحة ساعة صبّها بأيدٍ محترفة. وقبل هذا تنطوي هذه التجربة على رؤية يبدو أنها استوعبت تجارب صناعة الشموع السابقة وهضمتها، ثم خلقت نسقها الخاص، فالمرء يتشابه مع أقرانه لحظة التلقي ويختلف عنهم لحظة الإبداع.

… إلخ.

التعددية في عهدة الفلسفة

وهكذا في كل دور يمكن أن يقوم به الإنسان طالما هو دور يُعزِّز قيم الحق والخير والجمال في هذا العالَم. فالتفلسف، والحالة هذه، ليس مقتصراً –من ناحية- على الفيلسوف المُشتَغِل بالمعرفة وحده بل هو حالة عابرة للإنسان أنّى كان مواقعه أو صفته الاعتبارية. فالتفلسف حالة عابرة للإنسان، يمكنها إبراز سؤال: لماذا أنا موجود في هذا العالَم؟ أفضل إبراز، إذا ما آمن المرء بقدرته على التفلسف ومنح وجوده الزمني بصمة فريدة. أي أن وجوده في الحياة، قد يتحوَّل إلى وجود فاعل، بما يتجاوز حدود الانفعال؛ بطريقة تُفضي إلى تنافس كبير ومحمود بين المرء وأقرانه، دون ان يُزاحم بعضهم البعض مزاحمات بغيضة ومُدمِّرة؛ بل الكل شركاء في إبراز الدور الذي يضطلع به أفضل إبراز.

إذاً –بناء على ما سبق- ثمة حاضنتان مركزيتان، تُعزِّزان مشروع الإنسان المتفلسف:

  • حاضنة جمعية تضمُّ أربعة أنوية: أ- الأُسْرَة. ب- المدرسة. ج- المجتمع. د- القرار السياسي.
  • حاضنة فردية تضمُّ ثلاثة عناصر: أ- الثقة النفسية. ب- القوة المعرفية. ج- الإمكان الإبداعي.

فهذه السُباعية: 1- الأسرة. 2- المدرسة. 3- المجتمع. 4- القرار السياسي. 5- الثقة النفسية. 6- القوة المعرفية. 7- الإمكان الإبداعي.

بإزاء سُداسية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأفكار. 5- الأشخاص. 6- الأشياء.

تُحقِّق ولادة الإنسان ولادة واعية في الزمن، وتحوّله من إنسان برسم الوجود إلى إنسانٍ يُفلسف الوجود. فالإنسان إذا ما تجاوز ولادته البيولوجية، ووُلِدَ معرفياً صار مُتفلسفاً بالإمكان، وإذا ما أدَّى دوره في الحياة على أكمل وجه، شريطة انسجام هذا الدور مع قيم الحق والخير والجمال؛ فهو إنسان مُتفلسف بالفعل.

لكن، ماذا لو غابت الحواضن الجمعية، أو لو غابت الحواضن الفردية؟

بغياب إحداها يحدث تشوّه في عملية ولادة الإنسان على المستوى المعرفي، وغيابهما معاً يُميته. فغياب الحواضن الجمعية يحدث تشوّه عميق في الإمكان الفلسفي الذي ينطوي عليه الإنسان بشكلٍ مُطْلَق، أي لا تعم حالة التفلسف المجتمع برُمَّته، بل تُصبح أفعال النجارة والغناء والموسيقى والرواية والشعر والرقص والتمثيل وتصنيع القهوة أو الشاي… إلى آخر الأفعال الإنسانية –ما كان منها فكرياً أو ما كان منها مجرد تطبيقات عملية- محض اجتهادات شخصية لأناس يُكافحوا في مجتمعات ترفض الإبداع وتُعاديه بشكلٍ مبدئي ومنهجي. فالبيئة التي تفتقد إلى: 1- أُسرة تُدْهَش بأسئلة أطفالها. و2- مدرسة تُوسِّع مدارك الطالب المعرفية. و3- مجتمع يدعم الإبداع بكافة أشكاله. و4- قرار سياسي يصون العلمية الإبداعية بشكلٍ مبدئي باسم القانون؛ يُفتقد معها الإنسان المُتفلسف على المستوى الجمعي، بحيث يُصبح الإبداع ميزة فردية تُكافح لتبقى على قيد الحياة في مجتمع مليء بالقيود والموانع والمُحرَّمات والعقوبات بشكلٍ مبدئي وحاسم.

وغياب الحواضن الفردية يحدث تشوّه عميق في الإمكان الفلسفي على المستوى الفردي، فغياب: 1- الثقة النفسية أو البناء السيكولوجي المتين. و2- القوة المعرفية. و3- الإمكان الإبداعي؛ يعني غياب للمُتفلسف القادر على اجتراح جديد في هذا العالَم؛ أي البقاء في مرحلة إحضار المعرفية (إلى العقل) –هذا إن حضرت- وعدم القدرة على تحضيرها (في العقل).

أما غيابهما معا (الحواضن الجمعية والحواضن الفردية) فهو إيذان بدخول الأمة في حالةٍ من الموات، إذ يحلّ عليها سُبات حضاري طويل، إلى أن يقوم الفيلسوف من بين الركام والركود الطويلين، ويُوقظ الأمة من غيبوبتها الطويلة.

المراجع:

[1]  ضربت لنا الكاتبة الكندية “لوسي مود مونتغمري” مثالاً بديعاً في روايتها المميزة (آن الجملونات الخضراء)، عن مقدرة طفلة صغيرة، بعد أن حصلت على حاضنة مميزة، على تحويل مجالها الحيوي الذي تتحرّك فيه إلى مجال مُفعم بالروح الإنسانية المُتسائلة، والشغوفة بالحياة، والمُبشِّرة أيضاً بإنسانٍ مُتفلسف، يُمعن النَّظر في كل شأن من شؤون الحياة. وللرواية أكثر من ترجمة باللغة العربية، كما أنها تعتبر من أكثر الروايات مبيعاً في العالَم.

[2]  كان فيلم جمعية الشعراء الأموات Dead Poets Society قد رصد هكذا صراع، فالصرعة الإبداعية التي قادها أستاذ اللغة الانجليزية، الذي أدّى دوره الممثل روبرت ولياميز Robin Williams وتمثلت بتحفيز الطلاب على التفكير خارج ما هو سائد في النظام التعليمي التقليدي، قُوبلت برفضٍ شديدٍ من الأساتذة والأهالي وصل إلى حد تجريم الأستاذ والتشهير به.

[3]  سرير بروكست Procrustean Bed يُنسب إلى شخصية في الميثيولوجيا اليونانية، كان يعمل كقاطع طريق، اشتهر بتقطيع أوصال ضحاياه بحيث يُصبح مقاسها ملائمًا لمقاس سريره. وبقي يُمارس وحشيته هذه إلى جاء البطل الأغريقي ثيسيوس Theseus وقطع رقبته رقبة بروكست لكي يُصبح مقاسه مساويًأ تمامًا لمقاس سريره المشهور. وبالتقادم أصبح السرير رمزًا مُحمّلًا بالدلالات المختلفة، فكثر من عقول الناس أو المُشتغلين بالحقل المعرفي أشبه ما تكون بسرير بروكست، فهي تُعامل بوحشية كل من لا تتطابق أفكاره مع أفكار صاحب الرأس/ السرير، حتى وهو يدعّي العقلانية والتنوّر.

لمزيد من الأفكار حول سرير بروكست وربطه بهذا المجال يمكن مراجة كتاب (المغالطات المنطقية) للدكتور عادل مصطفى الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة سنة 2007، من الصفحة 249 إلى الصفحة 263.

[4]  كانت الدراما المصرية قد أنتجت مسلسل (أرابيسك) في تسعينيات القرن الماضي عن فن الأرابيسك المصري، وهو من تأليف الكاتب أسامة أنور عكاشة.

[5]  للتعرف على بعض من نماذج المنتجات التي تُنتجها شركة آيكيا يمكن مراجعة الموقع الإلكتروني للشركة.

https://www.ikea.com/

[6]  كما حدث في مقطوعته عن ملجأ العامرية الذي احترق وترمّد بداية تسعينيات القرن الماضي في العراق.

[7]  منذ لحظة صدور رواية (أولاد حارتنا) وحتَّى اللحظة، ما زالت هذه الرواية من أكثر الروايات المثيرة للجدل في العالَم العربي، بسبب موضوعاتها وشخصياتها.

[8]  يمكن الرجوع إلى الطبعة الثانية من ديوان (تنبأ أيها الأعمى) لـ “أدونيس” الصادرة عن دار الساقي في بيروت سنة 2005.

[9]  عربياً اشتهر الفيلم باسم عمر المختار نسبة إلى المقاتل الليبي عمر المختار الذي حارب الجيش الإيطالي لسنوات طويلة إبّان احتلالها لليبيا الذي ابتدأ في العام 1911م. وغربياً اشتهر الفيلم باسم Lion of The Desert. وقد أدَّى الممثل أنطوني كوين Anthony Quinn دور عمر المختار، والفيلم من العلامات البارزة في مسيرة المخرج السوري مصطفى العقاد.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete