منظومة الإنسان المتفلسف… الجزء الرَّابع: الحكيم بما هو أكثر من فيلسوف

تكوين

وفقا لتراتبية هذه السلسلة من المقالات حول الإنسان المتفلسف، فإنَّ (الحكيم بما هو أكثر من فيلسوف)، يأتي في المرتبة الرابعة منها، بعد:

  • الطفل بما هو أقل من فيلسوف.
  • الإنسان المتفلسف.
  • الفيلسوف.
  • الحكيم بما هو أكثر من فيلسوف.

فهو امتداد طبيعي للنسق التفلسفي الذي بنيته تباعاً، إذ يتحقَّق كشخصية مُتفلسفة في العالَم ساعة يجتهد في:

  • تكوين رؤى كُبرى (من) تفاصيل صغرى.
  • تكوين رؤى كُبرى (عن) تفاصيل صغرى.

السؤال المطروح ها هنا:

ما معنى تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى؟ وبإزاء ذلك، ما معنى تكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى؟

قبل أن أجتهد وأقدَّم إجابتي على هذين السؤالين المركزيين في هذا المقام، أشير إلى أنَّ مشروع الإنسان المُتفلسف كما أطرحه في هذه السلسلة يتضمن أو يشمل حتى غير المُشتغِل بالمعرفة. فمقابل المُشْتَغِل بالمعرفة ثمة من هو مُنْشَغِلٌ بالوجود، أو ما أُطلِقُ عليه عادة الفرق بين الثقافة كمنزعٍ إبيستمولوجي وبين الوعي كمنزعٍ أنطولوجي. فالاستحقاق الأخير لهذه السلسلة تقتضي أن يطال فعل التفلسف الإنسان على الإطلاق، سواء أكان مُشتغلاً بالمعرفة أم لا، طالما هو داعٍ للقيم الإنسانية العليا؛ قيم الحق والخير والجمال. ويمكن للحِكمة، بما هي ذروة من ذروات النشاط الإبداعي للإنسان في الزمن والمكان، أن تتجسَّد في أيِّ إنسان يتفلسف، وتُفضي فلسفته إلى الحقِّ أو الخير أو الجَمَال. وليس شرطاً في هذا التجسُّد أن يأخذ طابعاً معرفياً يتمظهر في نصٍّ أو لوحةٍ فنية أو قطعة موسيقية أو فيلم سينمائي…إلخ، بل من الحِكمة بمكان تجلِّي هذا التجسُّد في الوجود، أي عبر مسلكيات الإنسان في الحياة الواقعية.

وعليه، فالتفلسف –كما أطرحه في سلسلة مقالات الإنسان المُتفلسف- مشروع ينسجم مع فكرتي:

  • تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى.
  • تكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى.

الفكرة الأولى (تكوين رؤى كبرى من تفاصيل صغرى) تصدر عَمَّن يبحث عن إنتاجٍ جديدٍ للعالَم انطلاقاً من بنيةٍ معرفية. والفكرة الثانية (تكوين رؤى كبرى عن تفاصيل صغرى) تصدر عَمَّن يبحث عن إنتاج للعالَم انطلاقاً من بنيةٍ وجودية. أو بلغة أخرى، إنَّ تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى تصدر عن إنسانٍ مُشتغل بالمعرفة، وتكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى تصدر عن إنسانٍ مشغولٍ بالوجود.

الحكيم والفيلسوف

الفكرة الأولى أو (تكوين رؤى كبرى من تفاصيل صغرى) يتمثّلها أناس تركوا بصمات واضحة في التاريخ الإنساني، مثل الحكيم الصيني لاو تسو Lao Tzeالذي ترك شذرات فلسفية عميقة وبليغة في كتابه المُميَّز (الطاو: إنجيل الجكمة الطاوية في الصين)[1]. أو كالشاعر الهندي “كبير”[2] الذي ترك جُملة من الأشعار التي تنطوي على حكمةٍ إنسانية بالغة الأثر. أو كالحكيم العربي “قس بن ساعدة”[3] الذي ضُرب به المثل لشدّة نباهته وحكمته. أو كالروائي الروسي “ليو تولستوي”[4] الذي انطوت قصصه ورواياته على منزع إنساني عظيم. أو كالسياسي الأفريقي “نيسلون مانديلا”[5] الذي انطوت رحلته لتحرير شعبه على بُعدٍ ملحمي مُلْهِم حتى لِمَن كانوا أعداءه. أو الزعيم الروحي للتيبت “الدلاي لاما” الذي ترك حِكمَه في كتابه الأثير (الحكمة القديمة والعالَم الحديث)[6]. فنصوصهم أو تعاليمهم وإنْ دعت إلى حياةٍ بسيطة على المستوى العملي، مع ما تستلزمه هذه الحياة البسيطة من طيبة وخيرية، إلا أنَّ كانت نِتاج جهد هائل على المستوى العقلي، وتمَّ التأريخ لها على المستوى النصي، إذ توافرت لأصحابها القدرة المعرفية على التأريخ لما وصلوا إليه من حِكمة بالغة. ولو أخذنا القصة التي وردت في كتاب (التاو تي- تشينغ: إنجيل الحكمة التاوية في الصين) عن الفلاح الصيني، لوجدناها تنقسم إلى قسمين:

“يحكى أن فلاحاً صينياً فقد حصانه الوحيد الذي يساعده في أعمال الحقل. فجاء إليه جيرانه في العشية يواسونه في مصيبته قائلين: أية مصيبة حلت بك! هز الفلاح رأسه قائلاً: ربما، من يدري! في اليوم التالي رجع الحصان إلى صاحبه ومعه ستة جياد برية أدخلها الفلاح إلى حظيرته. فجاء إليه الجيران يهنئونه قائلين: أي خيرٍ أصابك! هز الفلاح رأسه قائلاً: ربما، من يدري! في اليوم الثالث عمد الابن الوحيد للفلاح إلى أحد الجياد البرية فأسرجه عنوة واعتلى صهوته، ولكن الجواد الجموح رماه عن ظهره فوقع أرضاً وكسرت ساقه. فجاء الجيران إلى الفلاح يواسونه قائلين: أية مصيبة حلت بك! فهز الفلاح رأسه قائلاً: ربما، من يدري! في اليوم الرابع جاء ضابط التجنيد في مهمة من الحاكم لسوق شباب القرية إلى الجيش، فأخذ من وجدهم صالحين للخدمة العسكرية وعفَّ عن ابن الفلاح بسبب عجزه. فجاء الجيران إلى الفلاح يهنئونه قائلين: أي خير أصابك! فهز الفلاح رأسه قائلاً: ربما، من يدري!”[7]

القسم الأول: نصيٌّ ينطوي على حكمة معنوية بالأحرى، فالكاتب وسيط ناقل بين مَنْ مارسَ الحكمة في الواقع العملي وبين القارئ، مع الإمكان الذي ينطوي عليه القارئ لناحية الاستفادة من الحِكمة الواردة في النصِّ، حتَّى وإنْ لم يكن الكاتب صاحبها الأصلي. فالحكمة التي تمَّ تأريخها في النص، هي برسم التطبيق الثاني لتعاليمها، وهذه المرة من قبل القارئ إن أراد ذلك، وامتلك العزم على تحويل تلك الإرادة إلى تطبيق عملي.

القسم الثاني: حكمة مُطبَّقة في سياق عملي، فالفلاح الصيني هو من تمثَّلَ الحكمة في الواقع العملي كما روتها القصة. لكن تلك الحكمة لا تنفي تمثُّل الحكيم الصيني “لاو تسو” لتلك الحكمة في حياته العملية ما جعله يُؤرَّخها في كتابة، أي أنه، قد، خلط بين فعلي التطبيق والتنظير، ما يجعل الحكمة أكثر تجذُّراً وعمقاً. لكن عدم انغماسه في تطبيقها، لا يُخرجها من دائرة الحكمة، ولا يُخرج مُؤرخها من دائرة الحكماء، بل الأمر برمُّته برسم القارئ في هذه اللحظات.

السؤال: هل يستلزم، لكي يتقيد المرء بالحكمة ويأخذ بها قدر الإمكان، أنْ يكون الكاتب أو المؤلف قد تقيَّد بها وتمثَّلها في الواقع العملي؟ أعني لو قرأ شخص ما، وكان يعيش مثلاً في مدينة دلهي الهندية، حكمة ما وأرادَ  أنْ يتمثَّل تلك الحكمة في حياته العملية، هل يشترط أن يكون صاحب الحكمة الأصلي، وليكن “طاغور” أو “شونمبو ماسانو” أو “قس بن ساعدة”، قد طبَّقها في حياته العملية؟ أم يكتفي بأخذ الحكمة طالما أنها مُتاحة للفائدة على الإطلاق؟ وفي حال لم يُطبّقها، أي صاحبها الأصلي، حتَّى وهو يكتبها في كتاب أو يسرد تفتصيلها، هل يُحرَّره –أعني الشخص الموجود في مدينة دلهي- ذلك من تطبيقها، لأنَّ عيباً في تطبيقها حدث في المرة الأولى؟

منظومة الإنسان المتفلسف: الجزء الثاني… الإنسان المتفلسف

ابتداءً، الحكمة مسلك عظيم من مسالك الحُريَّة الإنسانية، لذا فإنَّ أي إكراه لتمثُّلها والإجبار على تطبيقها يُفقدها معناها العميق ويُسطِّح مسلكياتها في الحياة. بما يجعل من الاشتراط لقبولها من عدمه، بتطبيق كاتبها أو ناقلها أو مُفرّغها في نصٍّ ما، اشتراطاً يتنافى مع فكرة الحُريَّة التي يقوم عليها المنزع الإنساني ناحية الحكمة. فأنْ يكون المرء وسطياً من عدمه، فعل غير مشروط بتطبيق هذه الوسطيَّة من قبل مَنْ نادى بالوسطيَّة أول مرة على المستوى المعرفي. بإزاء ذلك أنْ نجدَ شذرةً في شرائع حمورابي تنضح بالحكمة القانونية، أو قطعة في ألواح سومر تحثّ على فعل الخير، أو سطراً في ملحمة جلجامش تُذكّر المرء بمآلات جسده الفاني، أو بيت شعر لدى طرفة بن العبد مُفعم بالجَمَال، ولا يُطبِّق كاتب: الحكمة القانونية أو الدعوة إلى فعل الخير أو التذكير بنهايات الإنسان أو الدعوة إلى الجَمَال، هذه الحكمة أو تلك، لا يقف عثرة في وجه القارئ الذي يُريد تطبيق الحكمة التي تنطوي عليها تلك النصوص في حياته العملية. فالحكمة إذ تتجلَّى في نصٍّ معرفي فإنَّ التحقُّق من تطبيق صاحبها لها من عدمه، قد لا يتأتَّ لأغلبية القرَّاء نظراً لعدم إدراكهم له زمنياً. فنحن الآن، في مطلع الألفية الثالثة والتوافر على كَمٍّ هائل من المعارف والمعلومات، لا نعرف –الغالبية العظمى مِنَّا- إنْ كان “أمية بن أبي الصلت” قد طبَّق الحكمة التي تحتوي عليها كثير من أشعاره وأخذ بها كنسقٍ فاعل في حياته. وغالبيتنا لا تعرف إنْ كان الحكيم “أيسوب” قد طبَّق الحِكَم التي انطوت عليها قصصه الخرافية أم لا، وغالبيتنا لا تعرف إنْ كان الحكيم الروماني “سينيكا” قد أخذ بتعاليمه التي تركها لنا في كتبه أم لا…إلخ. بإزاء هذا التحقُّق في معرفة: هل أخذ كاتب الحكمة بحكمته التي صاغها في نصِّهِ أو كتابه أم لم يأخذ، مسألة لا تُؤثِّر كثيراً على قارئٍ يُريد الأخذ بتلك الحكمة والاستفادة منها، إلا إذا دخل في مسار آخر وأراد مُحاكمة صاحبها محاكمة أخلاقية؛ ما يُنسيه الحِكمة، وينتبه إلى ما دونها!

من ثمَّ، كيف للحكيم أن يصوغ رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى؟

هُنا يقترب الحكيم من الفيسلوف، مع فارق وحيد أن الفيسلوف يُسْهِب ويبسط ويشرح لكي يُوضِّح فكرته، لكن الحكيم يميل للاختصار والاختزال، لذا تأتي حكمته على هيئة قصة أو شذرة أو موعظة…إلخ. واقترابه من الفيلسوف هو اقتراب في ملاحظة الأنماط البدئية أو الأسباب القصوى التي يمكن البناء عليها أشياء كثيرة، لكن ليس بغرض تأويل العالَم، بل لغاية إعادة إنتاجه. فلكي يُنتج حِكمة أو بالأحرى يصوغها في نصٍّ ما، عليه أن يُلاحظ تكرار حدثٍ ما لفترة طويلة من الزمن، أو أن يروي له أحد ما قصة ما ويُعيد صياغتها على طريقته وتحويلها إلى حكمة صغيرة، شذاراتيَّة، تنطوي على رؤية كبرى لثُلاثية الأفكار أو الأشخاص أو الأشياء؛ مجتمعة أو متفرقة. فالحكمة يُمكن أن تتحقّق في النصّ دون تجربة يخوضها الحكيم أو مُنصِّص الحكمة في شذرة أو مقطوعة أو بيت شعر أو قصة دالّة. أو يمكن للحكيم أن يصوغ رؤية كبرى تُختزل وتختصر في شذرة أو قصة، دون أن يتمثَّل تلك الحكمة في الواقع العملي؛ لكن ذلك لا ينفي أيضاً تمثّله لها.

ولو أخذنا مثالاً آخر من كتاب (الطاو) لـ “لاو تسو”:

“في السكن، ما يهم هو الحيز الذي يسد حاجتك

في صفات العقل، ما يهم هو العمق

في صلات الصداقة، ما يهم هو المودة

في الكلام، ما يهم هو الصدق

في الحكم، ما يهم هو النظام

في الشغل، ما يهم هو البراعة

في التنفيذ، ما يهم هو التوقيت”[8]

سنلاحظ، قد تكون  هذه الحِكم ناتجة عن تجربة خاصة بالكاتب نفسه، لأنَّ صياغة أمرٍ عن أواسط الأشياء والنظر إليها بعينٍ مُتعدِّدة الزوايا بحاجةٍ إلى معرفة عميقة من جهة وخبرة كبيرة من جهة ثانية، تستعصي –في كثير من الأحيان- على غالبية الناس. فالتوصُّل إلى معمار معرفي كبير بحاجةٍ إلى لبنات صغيرة تُوصَف برويةٍ وأناةٍ وإتقان عالٍ، لكي يخرج المعمار بطريقةٍ لافتةٍ ومُبدعة. فالوصول إلى نتيجة حكيمة حول:

  • السكن.
  • العقل.
  • الصداقة.
  • الكلام.
  • الحُكم.
  • الشغل.
  • التنفيذ.

مع ما يُرافق هذه النتيجة من قناعة قصوى بـ:

  • الاكتفاء بما يسدّ الحاجة فيما يتعلق بالسكن.
  • العُمق فيما يتعلق بالعقل.
  • المودة فيما يتعلق بالصداقة.
  • الصدق فيما يتعلق بالكلام.
  • النظام فيما يتعلق بالحُكم.
  • البراعة فيما يتعلق بالشغل.
  • التوقيت فيما يتعلق بالتنفيذ.

هو تمرين شخصي للذَّات في الحياة مرَّت بأطوارٍ مختلفة حتى استطاع الكاتب الوصول إلى تلك الخُلاصات، وتحويلها إلى نوعٍ من الخلاص الفردي، حتى ولو لم يأخذ بها في الواقع العملي، فطالما أنها نُسبت إليه أو جسّدت شخصيته الاعتبارية فهي بمثابة الخلاص الفردي له. فآخر تجلٍّ له -ولو في عالَم الطوبى- ينطوي على حكمة بالغة الدِّقَّة والذكاء. مع التأشير أنَّ هذا الخلاص الفردي لا يحمل في جعبته أي مسلك إكراهي أو استلابي، بحيث يتحوَّل إلى سيفٍ مُسلط على رقاب العباد. فَمَن أراد الأخذ بحِكَم “لاو تسو” السابقة –أو أي حكم لأي حكيم مرَّ على وجه الأرض- أخذ، ومن أراد تركها تركها. فهي حِكم –طالما أنها لا تنطوي على أي إكراه أو استلاب- ناعمة، حريرية، ولا تنطوي على أي إكراهات أو استلابات مؤذية وجارحة لبنية الإنسان الرُّوحية.

وعليه، فـ تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى، مرتبط بطريقة أو بأخرى بالمعرفة. فالحكيم إذ يسعى إلى تكوين رؤى كبرى فإنَّه يسعى إلى تجميع نُتفٍ صغيرة، وعلى مدى زمن طويل لكي يستطيع صياغتها في نصٍّ ينطوي على حكمة بالغة الأثر. مع التجاوز –طالما أننا بصدد حكمة ما- عن إمكان تمثّل الحكيم لتلك الحكمة في حياته العملية أم لا. فطالما أنه أرَّخَ لحكمةٍ ما فإنها -مرحلة ما بعد القراءة- بصدد القارئ إطلاقاً، فهو إما أن يُنهيها لحظة القراءة ولا يأخذ بها إلا لناحية التسلية والمتعة القرائية، أو يتمثّلها في حياته فيبقى فعل قراءتها ماثلاً في حياته بشكلٍ دائم. فإذا كان الحكيم قد نطق بحكمةٍ وسطَّرها في نصٍّ ما، مع تمثُّلٍ لتلك الحكمة عبر تجربة شخصية، فذلك يزيد من رصيده الأخلاقي. أما إذا نطق الحكيم بحكمةٍ وسطَّرها في نصٍّ ما، عبر استوحاء تلك الحكمة من تجارب الآخرين عبر مراقبتها لفترة طويلة وتبصّر مكوناتها وصولاً إلى لحظتها الأخيرة، أعني إلى لحظة صياغتها في النصِّ فذلك مما يزيد من رصيده المعرفي. أما إذا نطق بالحكمة وسطَّرها في نصٍّ ما، عبر إعادة صياغة وتكثيف مُبْدِع لقصة قُصّت عليه فذلك يزيد من رصيده الإبداعي.

مشروع الانسان المتفلسف

مرة أخرى، التفلسف –وفقاً لنسق مشروع الإنسان المُتفلسف- ينسجم مع مقولتي:

  • تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى.
  • تكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى.

الأولى تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى، تصدر عن إنسان مُشْتَغِلٍ بالمعرفة. أما تكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى، فإنها تصدر عن إنسان مشغولٍ بالوجود.

الأولى أو تكوين رؤى كبرى من تفاصيل صغرى، فَصَّلْتُ لها آنفاً، أما الثانية أو تكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى، فإنها مُرتبطة بالتحقُّق في التجربة أساساً. لذا فإنَّ أبطالها أو حكماؤها منسيون في التاريخ، على الأغلب، متوارون عن الأبصار، إلا مَنْ أُرخَّت قصته أو حكمته على يد حكيم مُشتغل بالمعرفة.

أبطال رائعون، لكن بصفاتٍ عادية، عفوية وإنسانية. فهم إذ يمارسون حكمتهم فإنهم يُمارسونها بصفتها جزءاً من سيرورة حياتهم، ويحدث أن نتعرف عنهم ساعة نقرأ عنهم أو نُشاهد عنهم أفلاماً أو وثائقيات، أو تُسعفنا بصائرنا فنلمحهم ونحن على قيد الحياة. فقصة الفلاح الصيني -المذكورة آنفاً- كان يمكن أن تبقى طيّ الكتمان لو لم نقرأها في كتاب الطاو، وكان يمكن لكثير من الحيوات التي عاشها أصحابها أو مارسوها بعفوية كاملة أن تبقى طيّ الكتمان ولا يستفيد منها أحد إلا ذويهم أو من يتواصلون معهم إن انتبهوا إليها في الوقت المناسب. وقد كان لي أن أشهد واحدة من هذه القصص البديعة، إذ كان خالي “إبراهيم الموسى” يُراقب لسنواتٍ طويلة حماره الذي يملكه، لكي يعرف أنواع الأعشاب التي يُفضّلها ذلك الحمار، فيأخذه دائماً إلى المناطق التي تنمو فيها تلك الأعشاب؛ فيُحقِّق رغبة حماره بإطعامه بالأشياء التي يُفضلها، فيجعله مسروراً على الدوام. كانت قصة خالي إبراهيم تُروى على نطاق ضيِّق داخل العائلة الصغيرة، لكنها كانت تُروَى للتسلية والضحك على سلوك خالي الغريب والعجيب، إذ كيف لإنسانٍ أن يهتم كل هذا الاهتمام بحمار؟ بطبيعة الحال لم استوعب الحكمة الهائلة في قصة خالي البسيطة إلا منذ سنوات قليلة، فخالي “إبراهيم الموسى” مثله مثل ملايين الناس البسطاء الذين لم تُؤرَّخ قصصهم وحكمهم لعدم تفهُّم حقائقها العميقة ومسلكياتها الهائلة في الوقت المناسب. فالحكمة تبدو مُتفلتة وعصيَّة على عقولنا التي تقضي جلّ حياتها مشغولة بالمعيش اليومي، وفي اللحظات الأخيرة يُمكن أن تنتبه إلى عُمق التفاصيل الصغيرة، لذا تلجأ إلى الترميم وإصلاح الأعطاب، لكن –ويا للحسرة- بعد فوات الأوان. ما يجعل من الحكمة –خارج مُمارسة صاحبها الأصلي لها- برسم المستقبل على الدوام حتى تُصاغ وتُكتب ويأتي شخص ما يقرأ هذه الصياغة ويستفيد منها إن أراد. فخالي “إبراهيم الموسى” كان قد حقَّق، دون علم منه، انتقالة هائلة من مقام البيولوجيا إلى مقام الأنطولوجيا؛ مقام البيولوجيا حيث الناس مُنشغلون بمعيشهم اليومي؛ ومقام الأنطولوجيا إذ الحكماء منشغلون بالوجود. فخالي لم يعيش هذه الحيوات العميقة مع حماره، بناءً على قصدية معرفية، إذ يتطلع إلأى كتابة قصة أو سرد حكاية عن حماره، بل كان يمارس ذلك العمل كجزءٍ أصيل من نظرته للعالَم بما هو مسرح كبير لعمل الخير، مع الكائنات كُلها. وقد حقَّق بذلك إنجازين كبيرين: الأول متعلق بانقتاله من مقام البيولوجيا إلى مقام الأنطولوجيا، والثاني متعلق بتجاوزه مرحلة الاشتغال المعرفي إلى مرحلة الانشغال بالوجود.

إنَّ إطعام قطة جائعة في الشارع، أو العطف على إنسان محتاج، أو مساعدة ضرير يحتاج إلى قطع الشارع، أو تزويد لاجئ بالأغطية؛ عمل قد يتأت لأيِّ إنسان قارّ وفاعل في مقام البيولوجيا ممارسته، لكن مراقبة حمار لسنوات طويلة، لغاية إسعادة بتقديم أفضل أنواع الأعشاب إليه، عمل لن يحتمله أو يصبر عليه حتَّى يتحقَّق إلا إنسان انتقل إلى مقام الأنطولوجيا. فانشغال الإنسان بمعيشه اليومي يحول بينه وبين تكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى؛ فهذا التكوين بما هو نشاط وجودي ضاجٌّ بالتقصيّ عن صُغريات العالَم لتحويلها إلى كُبريات في الذات، يتحوّل إلى نشاط مُضنٍ وعسير أمام تلك الانشغالات. فهي حجاب كبير، يجعل من الحكمة عزيزة ومنيعة، إلا على قلَّةٍ قليلة في العالَم، ولا ينتبه إليها الناس إلا في وقتٍ لاحق أو بعد فوات الأوان. فهي تجري بين ظهرانيهم، لكن أبصارهم مُغطَّاة بطبقة سميكة من الانشغالات والاهتمامات اليومية، التي تُنسيهم التعمُّق فيما يمكن أن تلتقطه بصائرهم من كنوز كبيرة مبثوثة في العالَم.

التفلسف في زمن التطرّف

وفي ظلِّ تراكم مثل هذه الانشغالات والاهتمامات، وتزايد سطوتها على الإنسان، تبقى الحكمة عزيزة ومنيعة، فالإنسان ميَّال بطبيعته إلى انشغالاته اليومية من مأكل ومشرب…إلخ، بما يجعل التفاصيل الصغيرة، (القطع الميكروبية) الموجودة في العالَم، واللازمة لتشكيل (لوحة ماكروبية) في الذَّات، تغيب عن الإنسان ومعها تغيب الحكمة. بل الآكد ثمة شغف إنساني بالإبقاء على الحكمة عزيزة وبعيدة المنال، لكي يبقى الإنسان يُطاول مثاليته في عالَم المعقولات وليس في عالَم الماديات. فالتحقُّق النهائي في الحكمة بما هي مطمح إنساني عظيم؛ تمرين أنطولوجي طويل لم يصمد إلى نهاية مضماره عبر التاريخ كُلّه إلا القلَّة القليلة؛ بما يجعل من الحكيم عِرقاً في منجمٍ نادر، لكنه غني بكل ما هو ثمين.

إذاً، التفلسف في مقام (الحكيم بما هو أكثر من فيلسوف) ، ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى.

القسم الثاني: تكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى.

تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى؛ معمار كبير يُبنى من حجارةٍ صغيرة. وتكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى؛ معمار كبير في الذِّهن عن حجارة صغيرة في العالَم.

تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى؛ معمارٌ كبير يبنيه إنسان مُشتَغِل بالمعرفة. وتكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى؛ معمار كبير يبنيه إنسان مُنْشِغِلٌ بالوجود.

تكوين رؤى كبرى (من) تفاصيل صغرى؛ حِكمة في عالَم المعقولات لن تُثمر إلا بنقلها إلى عالَم الماديات. وتكوين رؤى كبرى (عن) تفاصيل صغرى؛ حِكمة في عالَم الماديات لن تأتي أُكلها إلا ساعة تثبيتها في عالَم المعقولات.

مع ما تستلزمه عملية:

  • إثمار الحكمة في عالَم الماديات.
  • التثبيت في عالَم المعقولات.

من جهدٍ كبير وصبرٍ طويل، لكي تتحوَّل الحكمة إلى مسار بسيط، عفوي، وبالغ الشفافية، بحيث تستعصي رؤيته على الناس العاديين، في حياة الإنسان الحكيم.

المراجع:

[1]  لكتاب (الطاو: تي تشينغ: انجيل الحكمة الطاوية في الصين) أكثر من ترجمة للغة العربية من ضمنها ترجمة للأستاذ “هادي العلوي”، لكنني اعتمدت في الاقتباسات اللاحقة الواردة في هذا الكتاب من كتاب الطاو على الترجمة التي أنجزها الأستاذ “فراس السوّاح”، نظراً لأهمية ترجمته وتعزيزها بمقدمة بالغة الأهمية.

[2]  عندما مات الشاعر الهندي “كبير” [1440م – 1516م] حدث خلاف بين المسلمين والهندوس على جثته، فقد أدعّى المسلمون أن من واجبهم دفنه في مقابرهم، فـ “كبير” كان مُسلمًا، ولا يمكنهم بحالٍ من الأحوال التخلّي عنه في لحظة الوجود الحرجة؛ وأدعّى الهندوس أن من واجبهم حرق جثته فـ “كبير” كان هندوسيًا، ولا يمكنهم التفريط بإرثه. عندما احتدم الخلاف الهُوياتي بينهم أصاب المسلمون والهندوس سِنة من نوم، وعندما استيقظوا، وجدوا تابوت الشاعر قد امتلأ بالورود؛ فأخذ المسلمون نصف تلك الورود ودفنوها، وأخذ الهندوس النصف المتبقي من تلك الورود وأحرقوها.

يمكن الاطلاع على بعض قصائد الشاعر كبير على الموقع التالي:

https://salmaghari.blogspot.com/2013/12/blog-post_21.html

كما يمكن التعرّف عليه من خلال الفيلم الوثائقي عنه على الرابط التالي:

https://www.youtube.com/watch?v=hxsvejXYj2s&t=32s

 

[3]  للتعرّف بشكلٍ مُفصّل على قس بن ساعدة، يمكن الرجوع إلى كتاب (قس بن ساعدة الأيادي: حياته. خطبه. شعره) من تأليف الدكتور أحمد الربيعي الصادر في بغداد سنة 1974.

[4]  ولد الروائي الروسي ليو تولستوي في العام 1828 وتوفي في العام 1910، يُعتبر أحد أهم الروائيين في العالَم كله. شكلُت رواياته نقطة مفصلية في تاريخ الرواية العالمية. اشْتُهر أكثر ما اشْتُهر بروايتيه: (الحرب والسلم) و(آنا كارنينا). من أعماله بالغة الأهمية أيضًا: رواية (سوناتة لكروتزر) و(الحاج مراد) و(البعث).

للمزيد حول تولتسوي: يمكن الرجوع إلى كتاب (تولستوي: الرجل والروائي والقديس) من تأليف “هنري ترويا”.

[5]  يعتبر نيلسون مانديلا الذي ولد سنة 1918 وتوفي سنة 2013 من أشهر المناضلين في القرن العشرين ضد سياسة الفصل العنصري التي اتبعتها السلطة الاستعمارية البريطانية في جنوب أفريقيا. سُجن لفترة طويلة لكنه تمكّن فيا لنهاية من تسلم منصب الرئيس لجنوب أفريقيا. للتعرّف أكثر على مسيرة حياته يمكن الرجوع إلى مذكراته الموسومة بـ (مسيرة طويلة نحو الحرية) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 2010 من إنجاز فاطمة نصر.

[6]  ثمة صورة فوتوغرافية تتداولها وسائل الإعلام العالمية للدلاي لاما [الصورة ذاتها تظهر على غلاف الطبعة العربية من كتابه الحكمة القديمة والعالم الحديث] يظهر فيها وهو مُنحنٍ قليلاً ورافعاً يده اليسرى وباسطاً كفّها ناحية وجهه –كما لو كان رسولاً انتهى للتوّ من الإنباء برسالته الخالدة إلى أتباعه ومريديه-، فيما يظهر على مُحيّاه نوع من الامتنان لِمَن كان ينظر إليهم لحظة التقاط الصورة، كما لو أنه قد امتلأ بمحبتهم التي فاضت منهم، فحلّت فيه.

هذه الصورة هي أكبر تعبير عن كتاب (الحكمة القديمة والعالم الحديث) لـ “الدلاي لاما”، فهو شخص تبدو عليه ملامح إنسان انبثق للتوّ من نصّ ديني قديم، فوجد نفسه بين ناطحات السحاب والشوارع المضاءة وأشعة الليزر والهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي والشاشات المُسطحّة ونظرية الكوانتم، والخرائط الجينية والمركبات الفضائية. ولكي يُداري هذه الوحشة الأنطولوجية، يعمل “الدلاي لاما” على صهر خُلاصته الدينية القديمة في نوع من الخلاص المعرفي الحداثوي، لذا نراه قد تجاوز محنة اللاهوت الذي يسعى إلى تبيان حسنة دين بعينه على حساب الأديان الأخرى، وينتقل –من ثمّ- إلى الحكمة الإنسانية التي يمكن استشراف مبانيها ومعانيها من العالم القديم وأديانه المختلفة، والعالم الحديث وعلومه الحديثة، شريطة أن تنسجم هذه الحكمة مع الرؤية الأخلاقية التي لا تخضع الإنسان لإكراهات أو استلابات من شأنها الحطّ من قيمتيه: المادية والمعنوية.

للتعرّف بشكلٍ مُوسّع على الدلاي لاما يمكن الرجوع إلى كتابي:

(الحكمة القديمة والعالَم الحديث) من تأليف الدلاي لاما نفسه، الصادر عن دار دال في دمشق بإنجاز من راغدة خوري في العام 2015.

(طريق الحكمة، طريق السلام: كيف يفكّر الدلاي لاما؟) من تأليف “فييزيتاس فون شونبورن”، الصادر عن دار المدى في دمشق في العام 2018 وبإنجاز من لطفية الدليمي.

[7]  لاو تسو، كتاب التاو: انجيل الحكمة التاوية، ترجمة وشرح وتعليق فراس السواح، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، ط1، 1998، ص 9.

[8]  لاو تسو، كتاب التاو: انجيل الحكمة التاوية، ترجمة وشرح وتعليق فراس السواح، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، ط1، 1998، ص 42.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete