منظومة الإنسان المُتفلسف… الجزء الثالث: الفيلسوف

تكوين

متى يُولد الفيلسوف؟ أو ما هي الشروط الضرورية اللازمة لكي يُولد الفيلسوف في العالَم؟ وهل هو حالة استثنائية لكي يكون حدث ولادته حدثاً بارزاً، وعلى درجة عالية من الأهمية؟ وكيف يموت أو بالأحرى لماذا يموت الفيلسوف، وهل يُعتبر موته حدثاً تراجيدياً في تاريخ الأمم والشعوب، أم محض موت طبيعي، كأيِّ شخصٍ آخر؟ وبين هذا وذاك، ما هي المهمة التي يضطلع بها الفيلسوف على نحو مخصوص، لكي يصبح طرح أسئلة من نوع الأسئلة السابقة، حول الفيلسوف واشتراطاته ومواضعاته، عملاً مشروعاً ومقبولاً ويمكن تبريره؟

ما هو الشخص الفيلسوف؟

في هذا الجزء من سلسلة مقالات (منظومة الإنسان المُتفلسف)[1] والموسوم بـ (الفيلسوف)؛ سأعرِّف الفيلسوف تعريفين: أولهما مُنسجم مع كونه حلقة ضمن نسق تطوّري في المجتمع يتفلسف فيه الجميع بدرجاتٍ متفاوتة، بمن فيهم الفيلسوف المُتشغل بالمعرفة أساساً. أي تعريف بما هو امتداد للدَّرس الفلسفي في مجتمع متفلسف. وثانيهما منسجم مع كونه شخصية اعتبارية تُعيد تأويل ثلاثية: الإله والإنسان والعالَم وتمنحها مفاهيمية جديدة غير تلك القائمة، بما يمثّل حدًّا فاصلاً بين زمنيين معرفيتين: أحدهما قارٌّ في كينونة ثابتة استنفدت أغراضها، لكنها تُشكِّل هُويَّة الأمة ومعناها الرُّوحي، بعد أن تمَّ الاصطلاح في أزمان سابقة. وثانيهما في طور التشكُّل على يد الفيلسوف، بعد أن يُعيد تعريف الوحدات الأساسية التي تقوم عليها الكينونة الثابتة، وهي: 1- الإله. و2- الإنسان. و3- العالَم. وهذا بدوره ما يجعل الفيلسوف شخصاً مُقلقاً على المستوى الجمعي، وقلقاً على المستوى الفردي. مُقلقاً للأمة لأنه يُراجع مراجعة نقدية وجذرية المُكونات الأساسية التي تقوم عليها كينونتها، ما يجعل أبناءها يعيشون شعور قلق فقدان هويتهم ورموزهم الجامعة. وقلقاً لأنه يعيش قلق أبناء امته من جهة، ويعيش قلق إنجاز بديل معرفي لما هو قارّ وقائم من جهة ثانية. إذ لا معنى للفيلسوف الحق، إذا اكتفى بعملة الهدم المعرفي لما هو قائم، بل لا بُدَّ له من أن يُقدِّم نسقاً معرفياً مُتكاملاً يُعيد فيه ألق الأمة المعرفي، ما يعني بداية حضارية جديدة لها.

التعريف الأول للفيلسوف: تعريف تراكمي لمجموع الأمة التي تنشط فلسفياً؛ فالفيلسوف، بمعنى من المعاني، نتيجة ضرورية للإنسان المُتفلسف الذي بسطتُ له في المقالة السابقة[2] من سلسلة مقالات (منظومة الإنسان المتفلسف). أو هو تطوّر طبيعي لحالة التفلسف التي يعيشها المجتمع بكافة أطيافه، لكن لمن يشتغل بالمعرفة هذه المرة. وقد قدَّم “أحمد عبيدات” تعريفاً مُلائماً للفلسفة لهذا المقام، يصلح للتعبير عن فكرة الفيلسوف كما هي بما هو امتداد لمجتمع متفلسف، يُشكِّل الفيلسوف ذروة من ذرواته المعرفية. فـ “الفلسفة [بما هي عمل يُمارسه الفيلسوف] تأملٌ معمق في معانٍ جلية، متسقة، متحققة، ذات مناهج مُراجعة، تطلب جمالا، وخيرا، في سياق انفعال بثقافات محلية وعالمية، لبلوغ الثروة والعدل. وعليه فالفلسفة ليست عدواً للدين أو صنواً للعلم أو بديلاً عن الأدب، لأن الدين لا يكتفي بنفسه فيحتاج فلسفة للدين، والعلم لا يمتلك نظرية تلم أركان مباحثه الفرعية فيحتاج لفلسفة للعلم، والأدب عَمِيٌ عن رؤية نفسه فيطالب بفلسفة للأدب. حتى الفلسفة تفتقر لنفسها فتشرع في التأمل في فلسفة للفلسفة. الفلسفة على هذا التصور سماء غير متناهية تبتلع هذه المجرات جميعاً وتعلوا عليها لتولِّف بين معطيات كل طرف منها. ولا يمكن للفلسفة أن تفعل هذا ما لم تكن تحليلاً وتوليفاً لجماع العلوم العقلية والطبيعية والإنسانية والاجتماعية”[3]

أيّ أنَّ الفيلسوف إذ يضطلع بدوره المنوط به في مجتمعٍ مُتفلسف –بصفته مشتغلاً بالمعرفة- هو إتقان دوره على أكمل وجه، وذلك بأن يتحوَّط على جُملةٍ من المعارف المُتعدِّدة لكي يُقدِّمها ضمن نسق: مُتسَّق، واضح، شامل. فهو إذ يتعامل مع مسألة من المسائل الفلسفية، فعليه أن يرى أثرها وتأثيرها في جُملةٍ من المعارف الأخرى: نفسية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية…إلخ، ضمن إطار منطقي واضح وشامل، وبصياغات واضحة وغير مُلتبسة. فالفيلسوف بإزاء هذا التعريف هو إفراز حتمي لمجتمعٍ مُتفلسف ككل. فعلى المستوى الفردي عليه أن يتمثَّل قوة سُباعية: 1- الأسرة. 2- المدرسة. 3- المجتمع. 4- القرار السياسي. 5- الثقة النفسية. 6- القوة المعرفية. 7- الإمكان الإبداعي. إذ تحلّ في فردٍ واحد يُجسّده الفيلسوف في هذا المقام، الذي يُعْمِل معول معارفه في سُداسية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأفكار. 5- الأشخاص. 6- الأشياء. أيّ أنْ يُقدِّم وجهة نظر شاملة تجاه السُّداسية أو أحد عناصرها، فلو أراد أن يُقدِّم أطروحة معرفية عن المبحث الميتافيزيقي أو عن المُدونة الأخلاقيّة –وهي مباحث ترجع في نهاية المطاف إلى أحد عناصر السُّداسية السابقة- فعليه أن يُلمَّ بالمبحث المطروح من جميع جوانبه، لكي يُقدِّم نسقاً معرفياً مُتكاملاً. لكن ليس بالضرورة أن يُقدِّم إزاحة معرفية حقيقية، يحدث على إثرها –آجلاً بالأحرى- تغيراً في طبيعة أو جوهر تلك السُّداسية أو في أحد مكوناتها. فمهمته وفقاً لذلك التعريف تنحصر في إلمامه بالعلوم الأساسية لتبصُّر المبحث الذي يعمل عليه. فالفيلسوف والحالة هذه مُثقَّف موسوعي يبسط لمعارفه الواسعة في متنٍ شامل، منطقي، سلس، نسقي. فهو جامع لعديد علوم في فهم الظاهرة المبحوثة تتسّم بالشمول؛ يتم تفريغها ضمن قالب منطقي ينطلق من الخاص إلى العام أو العكس، لتلتئم المُقدِّمات والنتائج ضمن سياق متصِّل؛ وبلغةٍ واضحة وشفَّافة وسلسة ولا تنطوي على أي التباسات أو ألعاب لغوية مُربكة. بما يُفضي هذا: 1- الشمول. 2- المنطق. 3- السلاسة. إلى: 4- نسقٍ مُتكامل.

ما هي صفات الفيلسوف؟

وهذا منسجم مع الطبيعة التراكمية للإنسان المُتفلسف كما تفترضها النسقية التي تقوم عليها سلسلة مقالات (منظومة الإنسان المتفلسف). فالفيلسوف وفقاً للبسط السابق هو تطوُّر طبيعي للإنسان المُتفلسف، وتجسيد له على المستوى الفردي، أي في شخصية الفيلسوف تحديداً. فهو إذ يُحكم قبضته المعرفية القوية على القضية التي يتناولها بالبحث والمُدارسة فإنه يُطبق عليها إطباقاً كاملاً ومن جميع الجهات، بما يُجوِّد بحثه ويرفع من قيمته ويجلعه مرجعاً لغيره من البحَّاثة والدارسين. وعليه، فإنَّ الفيلسوف –في هذا المقام ووفقاً لهذا التعريف- ليس مُنفصلاً عن سياق الإنسان المُتفلسف، بقدر ما هو مُتصِّل به، لكنه مُختص بالمعرفة أكثر! ففي بيئة تُعزِّز ولادة الإنسان ولادة واعية في الزمن، عبر توفير الحواضن اللازمة للعناية بتلك الولادة أفضل عناية، من: 1- أسرة. و2- مدرسة. و3- مجتمع. و4- قرار سياسي، على المستوى الجمعي. و5- ثقة نفسية. و6- قوة معرفية. و7- إمكان إبداعي، على المستوى الفردي؛ شيء طبيعي أن يُوجد الفيلسوف وفقاً للتعريف السابق. فهو –أعني التعريف السابق- استحقاق لتلك البيئة التي مرَّت بأطوار كثيرة وكبيرة  إلى أن وصلت إلى حالة اعتناء كاملة بالإنسان بما هو إنسان معرفي بالدرجة الأولى، في هذا المقام[4] والتعريف الذي أورده “أحمد عبيدات” ينسجم في جوهره مع تعريف كل من أرسطو وابن سينا للفسلفة، بما هي مجال اشتغال الفيلسوف. “فالفلسفة، وفقاً لتعريف أرسطو، هي العلم بالأسباب القصوى. أو أنها الوقوف على حقائق الأشياء كلها على قدر ما يمكن الإنسان أن يقف عليه، وفقاً لتعريف ابن سينا”[5]

فالفلسفة إذ تتجسد في نسق: شامل، منطقي، سلس، فإنَّ ذلك لا ينفي أن يكون اشتغال صاحبها على الأسباب الأولى أو الرئيسية التي يقوم عليها النسق المبحوث أو المدروس؛ بل يُفترض به أن يكون كذلك. فالفيلسوف إذ يسعى إلى بحث قضية من القضايا فأَوْلَى به أن يسعى إلى تبصّر الأسس الأولية أو الأسباب القصوى التي تقوم عليها تلك القضية، ووضعها في نسق معرفي شامل من ثمَّ.  لكن تركيز الفيلسوف على الأسباب الأولى أو القصوى لقضية من القضايا أن صاحبها حال إلى من فيلسوف إلى مُتفلسف كما أطرحه في هذا المقام وفقاً للتعريف الثاني من تعاريف الفيلسوف؛ أي بما هو حد فاصل بين زمنين معرفين! فتبصُّر قضية من القضايا أو مسألة من المسائل والتعرُّف على أصلها المبدئي قد ينسجم مع حسٍّ بحثي يلتزم بالبروتوكولات المدرسية التي تُعلِّمها أقسام الفلسفة، بحيث يصعب التفريق بين دارس للفلسفة أو آخر. إذ تتشابه مقارباتهم وتتخذ الهيئة الأكاديمية ذاتها، فقائل يتحدث عن الأسباب القصوى التي يقوم عليها معمار هذا العالَم، دون إحداث إزاحة معرفية جديدة في مفاهيميتها، وآخر يتحدث عن الأسباب القصوى التي تجعل من المعرفة صادقة وقابلة للتحقُّق، لكن دون تغيير في طبيعة تلك المعرفة. إذ يبقى الفيلسوف وفياً لنسقٍ مفاهيمي قائم، دون اجتراح جديد على المستوى المعرفي. وهذا بطبيعة الحال لا يعني عدم الاستفادة مما يقدمه، فتبصُّر فيسلوف أو باحث موسوعي بقضيةٍ ما، كالفلسفة التي تقوم عليها اقتصادات العالَم أو أديان العالم، قد تُفيد في وضع الخطط والاسترتيجيات، وتجعل من الأمة قوية بسبب امتلاكها لتلك المعارف التي يصطلح عليها جُملة من الفلاسفة أو البحّاثة الموسوعيين. لكن ذلك لا يعني بحالٍ من الأحوال أن الفيلسوف يتفسلف انطلاقاً من كونه حداً فاصلاً بين زمنين معرفيين؛ بل ما يقوم به الفيلسوف، في هذا المقام، محض تراكم معرفي انتقل بموجبه من مرحلة الإنسان المُتفلسف كما تجلَّت بشكلٍ جمعي، إلى مرحلة الفيلسوف لكن على مستوى احترافي وفردي هذه المرة. وشيء طبيعي أن يحدث هذا في الحضارة الغربية التي تناوبت عليها أجيال كثيرة، ابتداءً من ديكارت بما هو لحظة تحوُّل كبرى في التاريخ المعرفي الغربي، وصولاً إلى التطبيقات العلمية التي يمكن أن نجد نسختها الأحدث في الولايات المتحدة الأمريكية. أي أنه شيء طبيعي أن نجد هذا التدرُّج في الحضارة الغربية لناحية الانتقال من مرحلة الفيلسوف الخالص أو المحض –كما دشنَّها ديكارت وثلَّة من أقرانه في عصر الأنوار الغربي- إلى مرحلة الباحث الموسوعي أو الفيلسوف وفقاً للصيغة التي أشار إليها أحمد عبيدات؛ إذ يضطلعُ مَنْ يُطلق عليه لقب فيلسوف -وهو شيء مدرسي ينطبق على كل مُتخرِّجٍ من أقسام الفلسفة- بمهمة إعادة إنتاج العالَم، وليس مهمة تأويل العالَم، كما يمكن أن يفعل الفيلسوف، كما أتناوله في هذا الفصل.

إقرأ أيضاًً: الفيلسوف واللاهوتي: من القلق المعرفي إلى الخوف من المعرفة

إذاً، وفقاً لاشتراطات هذه المقالة، الفيلسوف، بما هو مولود ولادة قصوى على مستوى الوعي، يضطلع بمهمة إعادة تأويل العالَم، التي تستلزم وضع الأسس المعرفية لثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ على طاولة البحث، ومنحها مفاهيمية جديدة غير تلك التي كانت عليها قبل ولادته أو قبل وجوده في العالَم. فالفيلسوف هو أكبر هادم للأبنية المعرفية في العالَم وأكبر بنَّاء للأبنية ذاتها أيضاً. لذا فإنَّهُ أكثر مذموم –على الأغلب- طالما هو على قيد الحياة، وأكثر محمود –على الأغلب أيضاً- بعد موته. مذموم لأنه يهدم معارف قارَّة وثابتة في عقول الناس ووجدانهم، ومعه يهدم المكوِّن الهُويَّاتي الذي يُشكّل المرجعية المادية والرُّوحية التي يحتكم إليها الناس في تعريف ذاتهم الكُليَّة. أو بمعنى آخر/ هو الذي يهدم المعرفة التي تُشكِّل كينونة الأمة التي تكوَّنت على مدار أزمان طويلة. فكينونة الأمة التي أقرت الصيغة النهائية غلى المستوى المعرفي، لثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ تتعرَّض لعملية هَدمٍ قاسية على يد الفيلسوف، وفي طريقه لهدمها فإنه يترك الناس حيارى وفي حالة اضطراب شديد، وفي فترة اضطرابهم هذه تحدث مُشادَّات ومشاحنات قد تؤدِّي إلى قتل الفيلسوف كما حدث مع سُقراط، أو مطاردته كما حدث مع ديكارت، أو حرق أوراقه وكتبه كما حدث مع ابن رشد…إلخ. فالفيلسوف إذ يهدم معارف قارَّة وثابتة تُشكِّل مرجعيات كبرى في العالَم، فإنَّهُ يُذَمُّ من قبل الغالبية العظمى من الناس، إلى أن تبدأ أفكاره الجديدة –أو معماره المعرفي الجديد الذي يُعيد فيه تأويل ثلاثية الإله والإنسان والعالم-، بالانتشار والتحقُّق شيئاً فشيئاً، إذ يبدأ الناس باكتشاف أهميته، فيتم إحياؤه من جديد حتى بعد مماته. فسُقراط تحوَّل بالتقادم إلى واحد من أعظم الفلاسفة في التاريخ الإنساني، وقد بدأ يظهر تأثيره الواضح عقب فترة قصيرة من موته، تحديداً عبر تلميذه الفذ أفلاطون[6] وديكارت الذي رُفضت فلسفته من غالبية جامعات أوروبا وهو على قيد الحياة، تحوَّلَ بالتقادم إلى رائد عصر التنوير بامتياز. وابن رشد الذي شهد اضطهاداً هائلاً وعاش محنة تدمير الكثير من مؤلفاته من قبل أبناء جلدته، سيتحوَّل إلى منارة ليس في طريق نهضة أوروبا الحديثة فحسب، بل يتم استعادته الآن في العالَم العربي كأحد أبرز روَّاد العقلانية الإسلامية المهدورة.

بمعنى آخر، في طريقه إلى هدم المعارف القائمة حول ثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ فإنَّ الفيلسوف:

  • يُحْدِث، بدايةً، شرخاً في بنيته الروحية، فهو إذ يأتي على المفاهيم المعرفية القائمة لثلاثية الإله والإنسان والعالَم، فإنَّهُ يأتي على جذورها وقواعدها العميقة، فتأخذ تلك المفاهيم بالتدَّاعي والتهدُّم أمام عينيه، لذا فإنه يكون أول من يذوق مرارة هذا السقوط والتدَّاعي والشعور العميق بالتيه الرُّوحي العميق، فهو بالأساس إنسان مثله مثل بقية الناس؛ إنسان كان قارَّاً ومُطمئناً في كينونةٍ جامعة تُؤَمِّنُ له وللناس أمثاله الحماية والملاذ؛ إلا أنْ انبثقت شخصية الاعتبارية، وهي في الأساس شخصية إنابية عن المجموع الكُليّ للأمة، وبدأت تُمارس دورها الحضاري على أكمل وجه، رغم الألم الجسيم.
  • يُحْدِث بلبلة وقلقاً في عقول الناس، بعد أن يهدم قواعد أو أركان معارفهم الرَّئيسية حول الثلاثية العتيدة، فتختلط عليهم الأمور في عقولهم، ما يُشعرهم بضياعٍ، مادي وروحي، كبير.
  • يمسّ مشاعر الناس ويلمس أعمق مكوناتهم، لذا تختلط عقلانيتهم بغرائزهم، فمع الزَّمن يُصبح التفريق بين المعارف اليقينية ووجدان المؤمنين بها صعباً للغاية. وفي غمرة هذا الاختلاط بين ما هو عقلاني وما هو غرائزي، يمكن أن يُقتل الفيلسوف –إذا لم يتوافر على حماية ما- أو يُنفى أو يُطارد أو يُنْبَذ، أو تُحارب كتبه أو تُتلف.
  • يجترح مفاهيمية جديدة لثلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. ويُعيد تأويل العالَم وفقاً لمفاهيميته الجديدة، أو بالأحرى يُراهِن على أنَّ العالَم سيقوم قيامته الجديدة، أو يبني معماره من جديد استناداً على الأسس والقواعد المعرفية التي يُقدِّمها لتلك الثلاثية العريقة.

شخصية الفيلسوف

بإزاء عملية الهدم والبناء وما يُرافقها من مسٍّ بثوابت قائمة راسخة ومُقدَّسة، تبرز الشخصية الاعتبارية للفيلسوف في الوجود على المستوى النصيِّ، أي على مستوى النصّ المعرفي الذي يُقدِّم فيه أطروحته الفلسفية. وشيئاً فشيئاً يتنزَّل هذا النصّ من ذهن الفيلسوف إلى أذهان الناس، إلى أن تجد القبول والانتشار؛ فتبدأ –ساعتئذ- عملية إحياء الفيلسوف عقب وفاته[7]، بعد عملية إِمَاتةٍ أو تهوين أو إهانة أو تهميش أو تسخيف أو استبعاد أو محاربة له، قد تُمارَس بحقِّه وهو على قيد الحياة. فالفيلسوف يُعيد تأويل العالَم، عبر طرح مفاهيمية جديدة لثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ ومع هذه الجِدَّة ستجد مثل هذه المفاهيم، في الغالب، عَنَتَاً ورفضاً لأنساقها في المجتمعات القديمة، ما يضع الفيلسوف أمام اعتبارات مصيرية. فهو إذ يتخلَّى عن سياقه الفردي، بما هو فرد من ضمن مجموع كُليٍّ، إلى شخص مُنيب عن المجموع كُلِّه، فإنه يضطلع بمهمة مصيرية، لا تتعلق بحياته الشخصية فحسب، بل باستبصار مآلات أمة في طريقها إلى شقِّ طريقها ناحية أفق حضاري جديد. فهو، أي الفيلسوف، يدخل في نوعٍ من التضحية الحضارية الجسيمة، ويضطلع بمهمتها، نظراً لتوافره على إمكان: 1- بناء سيكولوجي قوي ومتين، ينظر فيه بعين الإعجاب إلى إبداعات الآخرين، لكنه قادر على تجاوزها. 2- قوة معرفية هائلة تُمكّنه من الوصول إلى منابع الأفكار ومُحركاتها الأساسية. 3- إمكان إبداعي يجعله يُقدم على تقديم تأويل جديد للوجود كاملاً[8]. فذهابه إلى خيار إعادة تأويل ثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ أشبه ما يكون بالمُقامرة الهائلة التي يُقامر فيها، من ضمن ما يُقامر، بحياته الشخصية، فطالما هو يشتغل على تحريك الجواهر والأصول التي يقوم عليها معمار الوجود كاملاً، فإنَّ حياته الشخصية تبقى مُهدَّدة على الدَّوام، إذ يمكن لأيِّ أحمقٍ أن يُرديه قتيلاً، لا سيما إذا ما عجز عن فهم واستيعاب وإدراك ما يأتي به. أو يمكن للسُّلط المُختلفة: سياسية، دينية، اقتصادية، إثنية…إلخ، أن تُعاقبه، فالتأويل الجديد سيُطيح بالصيغ التقليدية القائمة بالتقادم. أو يمكن أن ينهش الجهلة لحمه إذ تفتك به سُلطة الناس، وتُمارس بحقِّهِ أقسى أنواع النبذ الاجتماعي.

في الخواف من لقب الفيلسوف

إذاً، الفيلسوف كما أطرحه في هذا المقام، ضمن سلسلة مقالات (منظومة الإنسان المتفلسف)؛ الفيلسوف الذي يُعيد تأويل ثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم، إذ يمنحها، وهو يهدم مفاهيمياتها المعرفية القديمة، مفاهيمية معرفية جديدة؛ هو أصل مُغَيِّرٌ في هذا العالَم، فهو إذ يصل إلى الحدود القصوى أو الأسباب الأصلية التي يقوم عليها معمار هذا العالَم، فإنه لا يصل إليها لكي يقول لنا ما هي تلك الأسباب القصوى، أو لكي يُقدِّم مقاربة معرفية تبحث في حيثياتها وماهوياتها من حيث هي كذلك فحسب، بل يعمل أيضاً على:

  • هدم ما هو قارٌّ وثابتٌ ومُتفَّقٌ عليه معرفياً عن الثلاثية السابقة، فالهدم يُؤشِّر على عدم صلاحية ما هو قائم لمقتضيات الشرط المعرفي الحالي. بما يجعل من حالة التفلسف –في مقام الفيلسوف- معولاً هائلاً تُضرب به، بلا هوادة، القواعد المتينة التي يقوم عليها معمار الأمة الهُويَّاتي، فيسوّيه بالأرض بعد أن يهدم أركانه.
  • بناء معمار معرفي جديد وكامل يُفترض صلاحيته للعصور الحديثة. إذ لا يكفي أن يكون الفيلسوف هادماً للمعارف فقط، وإلا لتحوَّل إلى عابثٍ بروح العالَم؛ بل ينبغي عليه أن يجترح نسقاً معرفياً متيناً يُقدِّم فيه متناً متماسكاً ومُحكماً حول الثلاثية السابقة، وأن يُعيد تعريف كل عنصر من عناصرها الثلاثة تعريفاً جذرياً، بحيث تتسِّق مع بعضها البعض لتُشكِّل كُلاً مُتكاملاً.

وعليه –كخاتمةٍ لما نحنُ بصدده في هذا الجزء من سلسلة مقالات منظومة الإنسان المتفلسف- فالفيلسوف هو حالة (اتصال/ انقطاع) في سلسلة الإنسان المُتفلسف:

حالة اتصال: لحالةٍ معرفية تراكمية تجعل منه باحثاً موسوعياً، مُلمّاً بالأسباب القصوى لأيِّ ظاهرة يتناولها بحثاً ومُدارسةً، لكن مع إمكان عدم قدرته على إحداث إزاحة معرفية في جوهر تلك الأسباب، بما يُبقي على مفاهيم الثُلاثية الناظمة لمجمل النشاط الإنساني في الزمن والمكان، ضمن القارّ والثابت والمُتفَّق عليه.

وحالة انقطاع: لحالةٍ معرفية كاملة، واجتراح كامل لمعرفة جديدة، بما يُحدث بلبلة في مفاهيم ثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ ويُعيد تأويلها من جديد، أي يمنح وجودها صبغة وراثية جديدة، تُغيِّر جوهرها تغييراً كاملاً.

أو بلغة أخرى، الفيلسوف في هذا المقام نسختان:

نسخة أصلية: لا تمسّ أو تلمس الأسباب القصوى فحسب، بل تهدم البنيان المعرفي لتلك الأسباب القصوى أيضاً، وتُعيد بناءها من جديد. والفلاسفة الذين تمثلوا هذه النسخة وجسدوها، عبر التاريخ كله، قِلَّة. فالوصول إلى المنابع الأولى التي تدفَّقَ منها كل شيء، ومحاولة تغيير مجاريها؛ عمل شاق ومُنهِك ويستهلك الحيوات، لم تقدر عليه إلا قِلَّة[9]

ونسخة تقليدية: تمسّ أو تلمس الأسباب القصوى، لكنها لا تقدر على إحداث إزاحة جوهرية فيها. والفلاسفة الذين تمثلوا هذه النسخة وجسدوها، عبر التاريخ كُله، كُثُر[10]. فهم نُتاج طبيعي لمجتمعٍ مُتفلسف في أطواره المختلفة والمتعددة.

والنسختان ضروريتان، مع منح صفة المصيرية على النسخة الأولى أو النسخة الأصلية من الفيلسوف، لاستكمال مشروع الإنسان المتفلسف، كما اطرحه في هذه السلسلة. فضرورة الفيلسوف، بما هو امتداد أفقي لمشروع الإنسان المتفلسف، غاية في الأهمية، حتَّى ينشط المجتمع ككل في عملية تفلسف دائم ومستمر. كما أنَّ وجوده، في حال بدأت الأمة تجترّ أنساقها وتقتات على عقول الآخرين، يأخذ بُعداً مصيرياً، حتَّى لا تفنى الأمة وتهلك وتخرج من سياق الحضارة الإنسانية برمّتها.

 

المصادر والمراجع

[1]  يمكن العودة إلى الجزء الأول من السلسلة على الرابط التالي، وهو بعنوان (الطفل بما هو أقل من فيلسوف):

https://taqueen.com/%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8f%d8%aa%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%84/

كما يمكن العودة إلى الجزء الثاني من هذه السلسلة على الرابط التالي، وهو بعنوان (الإنسان المُتفلسف):

https://taqueen.com/%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a7%d9%86%d9%8a/

[2]  يمكن مراجعتها على الرابط التالي:

https://taqueen.com/%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a7%d9%86%d9%8a/

[3]  أحمد زهاء الدين عبيدات، بين الفلاسفة القاريين والأنجلوفنيين: الاستطلاع الفلسفي العربي بين عبودية التقليد والعمل الاستخباري، مجلة المخاطبات، العدد 34، أبريل 2020، ص 117.

[4]  أحد الأفكار المركزية في سلسلة هذه المقالات، هي دعم التوازن بين كون الإنسان إنسان معرفي من جهة، وإنسان أخلاقي من جهة ثانية. ويمكن مراجعة مقدمة الجزء الأول من مقالات هذه السلسلة، على الرَّابط التالي:

https://taqueen.com/%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8f%d8%aa%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%84/

لكن ليس بالضرورة أن ما هو قائم في العالَم الآن، متمثل لهذا الشرط، بل العكس هو الصحيح. للمزيد حول هذه المسألة يمكن العودة إلى مقالة: (من عصر أنوار عقلي إلى عصر أنوار أخلاقي: عن الوعي الجمعي والضمير الفردي)، على الرابط التالي:

https://taqueen.com/%d9%85%d9%86-%d8%b9%d8%b5%d8%b1-%d8%a3%d9%86%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d8%b9%d9%82%d9%84%d9%8a-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%b9%d8%b5%d8%b1-%d8%a3%d9%86%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d8%a3%d8%ae%d9%84%d8%a7%d9%82%d9%8a/

[5]  المعجم الفلسفي، جميل صليبا، ج2، مادة فلسفة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1982، ص 160

[6]  إنَّ نُسخة سقراط المُتداولة بين بني البشر، في الغالب الأعم، هي نسخة أفلاطون؛ أو سُقراط الأفلاطوني، أي سُقراط الذي ابتدع أفلاطون شخصيته في محاوراته، بصرف النَّظر عن وجوده الحقيقي. أما سُقراط التاريخي فلا نعرف عنه إلا القليل. وهذا مثار ناقش أجريه عادة عندما أتحدَّث عن الحدود النصِّ والعالَم.

[7]  المفروض أن تتم عملية الإحياء وهو على قيد الحياة، وليس بعد أن يموت. وذلك، أي إحياءه، رهن بتطوُّر المجتمع الذي يتواجد فيه.

[8]  الحواضن الفردية التي أشرتُ إليها آنفاً: 1- الثقة النفسية. 2- القوة المعرفية. 3- الإمكان الإبداعي، إذ تتجلَّى ضمن حدودٍ قصوى في شخصية الفيلسوف، بصفته ذروة من ذروات الوجود الإنساني، تحديداً على مستوى الولادة المعرفية الواعية.

[9]  من الأمثلة على هذا النمط أو على هذه النسخة من الفلاسفة: أرسطو وديكارت وديفيد هيوم.

[10]  من الأمثلة على هذا النمط أو على هذه النسخة من الفلاسفة: الفلاسفة اليونانيين قبل سقراط، غالبية الفلاسفة المسلمين، غالبية فلاسفة الغرب مرحلة ما بعد نيتشه.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete