من عصر أنوار عقلي إلى عصر أنوار أخلاقي

عن الوعي الجمعي والضمير الفردي

تكوين

كان العقل هو الأداة التي عَبَرَ الإنسان بموجبها من مرحلة الحيونة إلى مرحلة الأنسنة، لذا أتت الفلسفة وعرَّفت الإنسان بأنه “حيوان عاقل”[1]. أي أتت ورفعت من قيمته شيئاً، فجعلته قادراً ليس على الانفصال عن أسلافه الحيوانات فحسب، بل أن يُصنِّف أيضاً هذا الانفصال ويُبوّبه ويُمنهجه، مُستخدماً أداة العقل. أي أصبح قادراً على تبصِّر ذاته وفهم آليات اشتغالها في هذا العالَم. لكن المفارقة في هذا التعريف أنَّ الإنسان بقي شريكاً للحيوانات في كثير من صفاتها وأفعالها، ولربما كان أعمق تعبير عن الوفاء لهذا الإرث مُتعلق بعقلنة هذه الحيونة، أو البحث عن مُخارجات عقلانية لتصرفات الإنسان الحيوانية. فالتعريف لم يمنح الإنسان تخارجاً كلياً عن حيوانيته، بل أبقاه في دائرة الحيوانات، مع قدرة، استخدم بموجبها أداة العقل، على فهم ما الذي حدث له مع تلك الانتقالة. فالإنسان: 1- حيوان من جهة. و2- عاقل من جهة ثانية. بمعنى أنه يتشابه مع الحيوانات في الكثير من الأمور، وهذا لا يقتصر على التشابهات البيولوجية فحسب، بل تتعداها إلى التصرفات غير العقلانية أيضاً؛ مع ميزة قدرة الإنسان على فهم هذا الشيء. لكن ما حوَّل هذا الفهم إلى مأساة حقيقية، أنَّ تطوَّر هذا الفهم، بما هو إنجاز بشري كبير، أخذ بُعداً سلبياً، يوم أن صارت للإنسان مقدرة على تبرير، مُستخدماً كذلك أداة العقل، حالة التوحّش أو الأفعال الحيوانية المؤذية والمُدمرة التي يرتكبها. فالحيوان يرتكب أفعالاً وحشية لكن ليس باستطاعته تبرير تلك الأفعال ووضعها في سياق منطقي، تُبيح له تكرارها مرة أخرى، بما هي بناء عقلي أولاً. الإنسان، بما هو مُركَّب جدلي من مادتين: حيوانية وعقلية وفقاً للمقولة الفلسفية، لديه القدرة على ذلك، إلى درجة أصبح معها فعل التبرير العقلي للأعمال الوحشية، نقطة مركزية في مسيرته الحياتية. فإذا كانت الحيوانات تتذابح وتسفك دماء بعضها البعض كجزءٍ من طبيعتها وغريزتها، فإنَّ البشر يتذابحون ويسفكون دماء بعضهم البعض ليس كجزءٍ من طبيعتهم الحيوانية فحسب، بل كجزء من بنيتهم العقلية أيضاً، بما جعلهم يتفوقون على الحيوانات في ضراروتها، لا سيما في العصر الحديث، إذ غدت آلات القتل والذبح الجماعي مأثرة من مآثر الإنسانية الحديثة. “لقد صارت الحروب في استشراء على كوكب الأرض وباتت تغلب على معظمها الأسباب والدوافع العرقية والدينية. فأينما وليت وجهك رأيت النظام في تراجع والعنف يكتسح بشتى أشكاله المناطق الواقعة في ضواحي المدن. وأصبحت الجريمة المافيوزية ممارسة جارية في سائر أنحاء المعمورة. وبات قانون الانتقام بديلاً عن قانون العدالة، بزعم أنه العدالة الحقة. وغدت التصورات المانوية تستحوذ على الأذهان؛ وتصوَّر وكأنها هي العقلانية”[2]

وعليه، اقتضاء لواقع المقولة الفلسفية “الإنسان حيوان عاقل”، وما ترتَّب عليها من تطبيق عملي لمقتضياتها عبر التجربة الإنسانية على هذا الكوكب، لم يتمكن الإنسان حتى هذه اللحظة من التخلِّص من إرثه الوحشي في تعاملاته مع غيره. بل إنه أصبح أكثر بطشاً وجبروتاً، لا سيما أنه يملك الآن ترسانة هائلة من الأسلحة الفتاكة، التي ليس لها القدرة على إبادة الناس، بل شطب كل ما يتعلق بالحياة في هذا العالم. فالإنسان وفقاً لهذه المقولة، أعني مقولة الإنسان حيوان عاقل، يُراوح بين (الإنسان) و(الحيوان)، فعمليات الوعي التي جعلته قادراً على أن يعي أنه إنسان بالدرجة الأولى، مع ما يستلزمه هذا الوعي من انفصال عن السياق الحيواني، لم تصل إلى حدِّ القطيعة الكاملة مع هذا الإرث البيولوجي، بل كل ما فعلته أنها جعلته على وعي بأنه ليس بحيوان كامل وليس بإنسان كامل، بل هو أمشاج من سياقين يتناوبان عليه أثناء مَظْهَرته لأفكاره وسلوكياته في الواقع المعيش؛ مع غَلَبةٍ لإرثه التكويني، على الأقل حتى اللحظة.

إقرأ أيضأ: العقل ومطلب الأخلاق

وعليه، فمقولة الإنسان حيوان عاقل، لا تجعل من الإنسان أكثر إنسانية إطلاقاً، بقدر ما تُبقيه في دائرة (أقل إنسانية – أكثر حيوانيـة/ أكثر إنسانيـة – أقل حيوانيـة). لذا ثمة خدش دائم في بنيته الإنسانية، فالرَّحيل غير مكتمل، لأنه لم يتحرَّر –أولاً- من حمولاته المبدئية منذ اللحظة الأولى لانطلاقته، وثانياً لم يعمل على وضع حدٍّ لهذه الحمولات ساعة نظَّر لوجوده الجديد في العالَم، بحيث يتحوَّل هذا التنظير إلى مسلكية واقعية مع الزَّمن. لكن هذه المسلكية خلقت له، بلا شك بما يحمله بين جنبيه من قدرات رحمانية، صراعاً بين غرائز الإنسان الوحشية وقيمه العليا، ما خلق له نوعاً من (الحَرَج) على مستوى الضمير؛ و(مُحارجة) على المستوى المعرفي.

فالحَرَج سينبثق من إخفاق الضمير، تحديداً الضمير الجمعي، في تقمّص الآخر وتمثّل دوره، لا سيما إذا كان في حالة ضعف. فالقاعدة الأخلاقية: “عامل الناس كما تُحبّ أن يُعاملوك”، تُنْسَى عندما يكون المرء أو الأمة في حالة قوة، وتُنْشَد عندما يكون المرء أو الأمة في حالة ضعف. فالضمير، إذ يتجسد في قوة فردية أم جمعية، لم يتطوَّر تطوّراً كافياً لكي يتمثَّل حالة الضعف لدى الآخر، لذا تأتي تبريرات العقل للأعمال الوحشية التي يقترفها الإنسان، كتطمين لهذا الضمير أو إراحة له بأن الآخر يستحق ما وقع عليه من ظلم وقهر وقتل أيضاً. لكن صراعاً خفياً يبقى مُحتدماً بين هذه القوة الدَّاخلية غير المطمئنة، وبين التبريرات العقلية التي تظهر في العَلَن، ما يُبْقِي حالة الحرج قائمة وبرسم الانبثاق الدائم. فرغم كل التبريرات التي يُمكن أن يصطلح عليها عقل أمة أو شعب في تدمير شعب أضعف منه أو سلبه حقوقه، لا بُدَّ لبعض الأصوات[3] أن تخرج على إجماع ذلك الشعب أو تلك الأمة، لتؤشر على قلق الضمير الفردي، ليس من وحشية الممارسات الجماعية للشعب أو الأمة فحسب، بل من قدرة عقل ذلك الشعب على تبرير تلك الممارسات الوحشية بالأحرى. فتلك الأصوات هي بمثابة الضمير الفردي الحيّ، مقابل ضمير جمعي ميت. مع إمكانية موت هذه الأصوات الفردية، لكن وجودها دليل على إمكان تقديم بديل، وإن كان تثبيته وترسيخه وتفعيله، في الأذهان والأعيان، بحاجةٍ إلى تدريب طويل للأمة كاملة؛ من المهد إلى اللحد. وهذا بدوره يضعنا، جميعاً، أمام مسؤولية إعلاء شأن الضمير بما هو مُحفِّز للمحبة والرحمة بين بني البشر. مع ما يستلزمه هذا الإعلاء من كفاح شديد لرغباتنا وغرائزنا المُدمِّرة. فمن السهل على الإنسان، في لحظة واحدة، أن يتجسد في حيوانيته؛ ومن الصعب عليه، قد تستغرق عُمراً، أن يكون إنساناً، نظراً للتكلفة الكبيرة ليكون إنساناً صاحب قيم ومسؤوليات، والتكلفة البسيطة ليكون حيواناً صاحب نزعات تدميرية. فلكي يكون المرء إنساناً عليه أن يشقّ طريقاً صعباً ووعراً وقاسياً، لم يتم التأسيس له وتبيئته وتوطينه بشكل جيد بين بني البشر، لذا حال وجوده إلى وجود طارئ واستثنائي. وتزداد صعوبة هذا الأمر ساعة الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية التي تتمثلها الأمم والشعوب. في حين ما على المرء سوى استدعاء إرث كبير وعميق وراسخ لكي يكون حيواناً، ويتصرف بطريقة مؤذية. ويُصبح الأمر أسهل ساعة الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية التي تتمثلها الأمم والشعوب.

هذا الحَرَج على مستوى الضمير، سيلتقي أو سيتقاطع مع المُحَارجة المعرفية، التي تنشأ من عدم تطوير أنساق معرفية تتمثَّل الإنسان ككائن رحيم، بما يتجاوز حدود المقولة الفلسفية: “الإنسان حيوان عاقل”. أو الانتقال من هذه المقولة أو بالأحرى التأسيس لحدوث انتقال من هذه المقولة إلى مقولة (الإنسان كائن رحيم). على اعتبار أن مقولة: “الإنسان حيوان عاقل” تُبقي المرء ضمن دائرة (أقل حيوانية – أكثر إنسانية/ أقل إنسانية – أكثر حيوانية)، في حين أن مقولة (الإنسان كائن رحيم) تمنحه أفقاً جديداً (أقل رحمة – أكثر رحمة)، بما يُخرجه من تمثَّلاته الحيوانية، وينخرط في دورة وجودية جديدة تماماً. ومما لا شك فيه أن التأسيس لهذه المسألة المصيرية، يتجاوز حدود التنظيرات الفلسفية المحضة، إلى ما يمكن أن يشمل أي مُساهم في هذا المشروع الكبير والفريد؛ من مُصلحين اجتماعيين وسياسيين وإعلاميين وفلاسفة وعلماء نفس وناشطين وممثلين ومخرجين وفنانين وشعراء وأدباء…إلخ، بما يُوسِّع حدود الرَّحمة بين بني البشر التي تُعزِّز قيمنا العليا، ويُضيِّق حدود الأحقاد والكراهيات والعصبيات التي تُفضي إلى الحروب والنزاعات والقتال وسفك الدماء.

هل هذا منزع صعب؟

أنا أقول: إنه صعب للغاية. لسبب بسيط، وهو أنَّ الجهد المبذول للتحقّق في مقولة (الإنسان كائن رحيم) هو جهد فردي وصغير، مقابل جهد جمعي وكبير يتحقَّق في مقولة (الإنسان حيوان عاقل). لكن هذه الصعوبة لا تعني الاستحالة، فكل المشاريع التي انتهت بتحقِّقٍ في سياق جمعي بدأت فردية وعلى أيدي أشخاص بعينهم، لكن استلزم الأمر وقتاً وجهداً لكي تنتقل من الإطار الفردي إلى الإطار الجمعي. وبرأيي أن مثل هذا الجهد وجد في العالم قديماً وموجود الآن وسيُوجد لاحقاً، ويمكن لهذا الجهد أن يُعمَّم بشكلٍ أسرع بوجود تكنولوجيات حديثة اختصرت الأمكنة والأزمنة.

 

المراجع:

[1]  يعتبر هذا التعريف الذي وصف به أرسطو البشر من أشهر تعاريف الإنسان على مر التاريخ.

Human Beings as Rational Animals

اختصاراً يمكن الرجوع إلى الرابط التالي:

https://www.cambridge.org/core/books/abs/aristotles-anthropology/human-beings-as-rational-animals/6CF87EDB0B5AC3F5BD542FEFC39D8F9B

 

[2]  إدغار موران، هل نسير إلى الهاوية، ترجمة عبد الرحيم حزل، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2012، ص 12.

[3]  غالباً ما تُنبذ مثل هذه الأصوات أو تُعاقب أو تُستبعد أو تُهمَّش أو تُخوَّن أو تُشوَّه سُمعتها…إلخ. وغالباً ما يُحب الناس سماع مثل هذه الأصوات لدى الطَّرف الآخر، ولكن ليس من جهتهم. فإمعاناً في إدانة الآخر تُكمَّم الأفواه والأصوات الدَّاخلية، لكننا نُسعد ساعة نسمع صوتاً من الطَّرف الآخر يُدين جماعته ويصفهم بالوحشية والبربرية.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete